الحوار ينمّي التفاهم بين الثقافات والأديان

الحوار ينمّي التفاهم بين الثقافات والأديان

كلمة البابا أمام أعضاء الطبقة الحاكمة في البرازيل

ننشر في ما يلي الكلمة التي ألقاها البابا فرنسيس يوم السبت 27 تموز خلال لقائه أعضاء الطبقة الحاكمة والفعاليات السياسية في البرازيل.

أصحاب السعادة،

سيداتي سادتي، صباح الخير!

أشكر الله على هذه الفرصة التي منحني إياها لألتقي بفعاليات مؤهلة من مسؤولين سياسيين، ودبلوماسيين، ودينيين، وأكاديميين، ورجال أعمال في هذا البلد الكبير.

كنت أود أن أكلمكم بلغتكم البرتغالية الجميلة، ولكن لكي أعبر عما أحمله في قلبي بشكل أفضل أفضل أن أتكلم بالإسبانية. أرجو منكم أن تعذروني!

أحييكم جميعًا بمودة وأود أن أعبر لكم عن امتناني. أتشكر المونسنيور أوراني والسيد فالمير جونيور على كلماتهما المحبة، من ترحيب وشهادة وتقديم. أرى فيكم الذاكرة والرجاء: ذاكرة طريق وطنكم ووعيه، والرجاء الذي هو منفتح دائما على النور الذي يفيض من الإنجيل، يمكن لهذا الوطن أن يستمر بالتطور في الاحترام للمبادئ الأخلاقية المبنية على الكرامة المتعالية للشخص.

ذاكرة الماضي والصبو لمستقبل أفضل يلتقيان في الحاضر، الذي ليس حالة من دون تاريخ ووعود، بل لحظة في الزمن، تحدٍّ للإلتقاء بالحكمة ومعرفة كيفية توزيعها. إن الذين لهم دور مسؤول في أمة ما هم مدعوون لمواجهة المستقبل “مع النظرة الهادئة للذي يعلم كيف ينظر الى الحقيقة” بحسب الفيلسوف البرازيلي ألكو أموروزو ليما [‘Notre temps’, in : La vie surnaturelle et le monde moderne (Rio de Janeiro 1956), p. 106]. أود أن أتقاسم معكم ثلاثة جوانب من هذه النظرة الهادئة، والحكيمة: أولا أصالة التقليد الثقافي، ومن ثم المسؤولية المشتركة لبناء المستقبل، وأخيرًا الحوار البناء لمواجهة الحاضر.

1-    قبل كل شيء، من العدل أن نبين أهمية الأصالة الديناميكية التي تميز الثقافة البرازيلية، مع قدرتها المميزة لدمج العناصر المختلفة. الشعور المشترك لشعب ما، ركائز أفكاره وابداعه، أسس حياته، معايير النقد حول الأولويات، معايير الأفعال، كلها مبنية على رؤية لا تتجزأ من الشخص البشري.

رؤية الإنسان والحياة هذه، التي تخص الشعب البرازيلي، تتغذى من عصارة الإنجيل، والإيمان بيسوع المسيح، ومحبة الله والأخوّة مع القريب. إن غنى هذه العصارة يمكن أن يثمر عملية ثقافية أمينة للهوية البرازيلية وفي الوقت عينه عملية تبني مستقبلا أفضل لنا جميعًا.

هذه العملية تنمّي الأنسنة الكاملة وثقافة اللقاء والعلاقات. هذه هي الطريقة المسيحية لتعزيز الخير العام، وفرح الحياة. وهنا يلتقي الإيمان والعقل، والبعد الديني مع مختلف جوانب الثقافة البشرية: الفن، العلم، العمل، الأدب…توحد المسيحية بين التسامي والتجسد؛ من خلال قدرتها دائما على تنشيط الفكر والحياة بوجه تهديد الإحباط وخيبة الأمل، اللذين يمكنهما أن يغزوا القلوب وينتشرا على الطرق.

2-    النقطة الثانية التي أود أن أتطرق اليها هي المسؤولية الإجتماعية. فهي تتطلب نوعًا معينًا من النموذج الثقافي والسياسي. نحن مسؤولون عن تشكيل أجيال جديدة، وعلينا أن نساعدهم ليكونوا جديرين في الاقتصاد والسياسة، وراسخين في القيم الأخلاقية. يتطلب المستقبل اليوم أن نعمل لإعادة تأهيل السياسة، التي هي واحدة من أهم أشكال المحبة.يتطلب المستقبل أيضًا نظرة إنسانية للاقتصاد وسياسةً تحقق دائما مشاركة الناس وتستأصل الفقر.لا يجب أن يحرم أحد مما هو ضروري ويجب أن تعطى الكرامة والأخوة ويحقق التضامن بين الجميع: هذه هي الطريقة المقترحة. بالفعل، في زمن النبي عاموس كان تحذير الله شائعًا جدًّا: “.هكذا قال الرب من اجل ذنوب اسرائيل الثلاثة و الاربعة لا ارجع عنه لانهم باعوا البار بالفضة و البائس لاجل نعلين الذين يتهممون تراب الارض على رؤوس المساكين و يصدون سبيل البائسين و يذهب رجل و ابوه الى صبية واحدة حتى يدنسوا اسم قدسي.” (2، 6-7). إن الأصوات التي تطالب بالعدالة لا تزال تصدح الى اليوم.

إن الذي لديه دور توجيهيّ، يجب أن تكون له أهداف ملموسة وعليه أن يبحث عن السبل اللازمة لبلوغها، ولكن أيضًا يمكن أن يواجه خطر خيبة الأمل والمرارة، واللامبالاة، حين لا يحقق ما كان يصبو اليه. إنني أناشد ديناميكية الرجاء التي تدفعنا لنذهب دائمًا الى الأمام، لنضع كل طاقاتنا وقدراتنا بخدمة الأشخاص الذين نعمل من أجلهم، قابلين بالنتائج وخالقين شروطًا نكتشف من خلالها سبلًا جديدة، ونعطي من أنفسنا أيضًا من دون أن نضمن النتائج ولكن محافظين على الرجاء حيًّا، مع هذا الثبات والشجاعة اللذين هما وليدا قبول الدعوة الشخصية كمرشد وقائد.

هذا هو جوهر القيادة اختيار أعدل الخيارات بعد النظر بها بالإنطلاق من المسؤولية الشخصية والمصلحة العامة. بواسطة هذا الطريق، ندخل الى قلب أوجاع المجتمع لنتغلب عليها أيضًا بجرأة الإجراءات الشجاعة والحرة. إن جزءًا من مسؤوليتنا، وإن كانت لا تزال محدودة، هو هذا الفهم لكل الحقيقة، بالتأمل، والمراقبة، والتقييم، لأخذ قرارات في الوقت الحاضر، ولكن مع توسيع النظرة الى المستقبل، مع التفكير بعواقب القرارات. إن الذي يتصرف بطريقة مسؤولة يضع عمله الخاص أمام حقوق الآخرين وأمام حكم الله. إن هذا المعنى الأخلاقي يظهر الآن وكأنه تحدٍّ تاريخي لا مثيل له، علينا البحث عنه، وعلينا أن ندرجه في المجتمع. يفرض فوق العقلانية العلمية والتقنية، في الوضع الراهن، الرابط الأخلاقي مع مسؤولية اجتماعية وتضامنية عميقة.

3-    لإكمال هذه المناقشة الى أبعد من الإنسانية التي لا تتجزأ وتحترم الثقافة الأصيلة والمسؤولية التضامنية، أنا أعتبر أن الأسس لمواجهة الحاضر هي: الحوار البناء. بين الامبالاة الأنانية والاحتجاج العنيف هناك رأي ممكن دائمًا: الحوار. الحوار بين الأجيال، الحوار بين الشعوب، لأننا جميعنا شعب، القدرة على العطاء والأخذ، مع بقائنا منفتحين على الحقيقة. ينمو بلد ما حين تتحاور ثرواته الثقافية بطريقة بناءة: الثقافة الشعبية، الثقافة الجامعة، ثقافة الشباب، الثقافة الفنية والتقنية، الثقافة الاقتصادية وثقافة العائلة، وثقافة وسائل الإعلام، حين تتحاور جميعها. من المستحيل أن نتخيل مستقبلا لمجتمع من دون مساهمة قوية لطاقات أخلاقية في ديمقراطية تبقى منغلقة في المنطق الخالص وفي توازن بسيط لتمثيل المصالح المبنية. أنا أعتبر أيضًا أن مساهمة التقاليج الدينية الكبيرة هي أيضًا أساسية في هذا الحوار، فهي تمارس دورا مثمرًا لخميرة الحياة الاجتماعية وحيوية الديمقراطية. الدولة العلمانية، التي لا تنسب اليها أي موقفًا دينيًّا، ولكنها تحترم وتقدر حضور البعد الديني في المجتمع، معززة التعابير الملموسة، مما يدعم التعايش بين مختلف الديانات.

عندما يطلب مني قادة مختلف القطاعات نصيحة ما، أعطي دائما الجواب نفسه: الحوار، الحوار، الحوار! إن الطريقة الوحيدة لتحقيق نمو الشخص والعائلة والمجتمع، والطريقة الوحيدة التي تسمح بتقدم حياة الشعوب هي ثقافة اللقاء، ثقافة يقدم فيها كل طرف ما هو جيد لديه، ويأخذ ما هو جيد لدى الآخرين. يملك الآخر دائما شيئًا يقدمه، إن عرفنا كيف نتقرب منه بانفتاح ومن دون أحكام. هذا الموقف المنفتح قد أسميه “بالتواضع الاجتماعي” الذي يعزز الحوار.وهكذا فقط ينمو التفاهم بين الثقافات والأديان في جو من احترام حقوق كل شخص. ينبغي علينا اليوم أن نراهن على الحوار أو على ثقافة اللقاء وإلا سنخسر، سنخسر كلنا. فمن هنا يمر الطرق المثمر.

أصحاب السعادة،

سيداتي سادتي!

أشكركم على اهتمامكم. تقبلوا هذه الكلمات كتعبير عن قلقي كراع للكنيسة، من الاحترام والمودة التي أكنهما للشعب البرازيلي. إن الأخوة بين الناس والمساهمة في بناء مجتمع عادل أكثر ليسا بحلم خيالي، بل هما من جهود مبذول من الجميع من أجل الخير العام. أشجعكم في هذا الالتزام من أجل الخير العام الذي يتطلب الحكمة، والتأني، والكرم من الجميع. أنا أعهد بكم الى الآب الذي في السماوات طالبًا منه بشفاعة عذراء أباريسيدا أن يغدق بعطاياه على كل واحد من الحاضرين، وعائلاتكم، وجماعاتكم، ومن كل قلبي أطلب من الله أن يبارككم. شكرًا جزيلا!

***

نقلته الى العربية نانسي لحود- وكالة زينيت العالمية

جميع الحقوق محفوظة لدار النشر الفاتيكانية