الرسالة البطريركية لعيد القيامة المجيد، ابريل 2013

الرسالة البطريركية لعيد القيامة المجيد، ابريل 2013

بسم الآب والابن والروح القدس إله واحد آمين

من البطريرك إبراهيم اسحق

 

بنعمة الله، بطريرك الإسكندرية وسائر الكرازة المرقسيّة للأقباط الكاثوليك، إلى إخوتنا المطارنة والأساقفة، إلى أبنائنا الأعزّاء القمامصة والقسوس، الرهبان والراهبات والشمامسة، وإلى جميع أبناء الكنيسة القبطيّة الكاثوليكيّة في مصر وبلاد المهجر.

النعمة والبركة والسلام في المسيح القائم

أزف إليكم التهنئة بالعيد المجيد، راجيًا أن يحمل إليكم ولعائلاتكم كلّ بركة روحية وفرحة سماوية وقيامة حقيقيّة.

قيامة المسيح وهبتنا حياة جديدة

مقدّمة

نواصل الاحتفال بفصح الرب أي عيد قيامة المسيح من بين الأموات، وإن جاء احتفالنا متأخّرًا هذا العام، نظرًا لحسابات فلكيّة مختلفة. لنصلِّ حتى يأتي اليوم الذي نحتفل فيه كلنا معًا.

كما يأتي احتفالنا بعد أحداث هامّة في الكنيسة الكاثوليكيّة في العالم وفي مصر، وهي اختيار الحبر الأعظم البابا فرنسيس، بعد مبادرة قداسة البابا بنديكتُس السادس عشر، بتخلّيه عن الكرسي انطلاقًا من فهم رائع للخدمة وإحساس أروع بالمسئوليّة. كما حدث من أبينا الكاردينال الأنبا أنطونيوس نجيب في كنيستنا القبطيّة الكاثوليكيّة. وقد كان طقس تنصيب الأب البطريرك حفلاً روحيًا وسبب بركة لكلّ المسيحيين، لا بل المصريين، وذلك بحضور رؤساء الكنائس المصريّة وعلى رأسهم قداسة البابا تواضروس الثاني وممثلي الدولة والقيادات والأحزاب والشخصيّات العامّة. صلاتنا أن يرسل الرب روحه ليعمل فينا وبنا من أجل خير شعبه ووطننا الغالي مصر.

أيّها الأحبّاء في المسيح القائم

إن عالمنا اليوم ومعه وطننا مصر، يضج بالحركة في جميع مستويات الحياة، سعيًا إلى صياغة نمط جديد للحياة، وإلى رؤية مختلفة عن الماضي في العلاقات بين الشعوب. وهذا النشاط الإنسانيّ أمر طبيعي وإيجابيّ، إن حفظت البشريّة ثوابت الإيمان والقيم الأخلاقيّة المسيحيّة. وقد أشار بولس الرسول إلى ذلك بقوله: ” إن الخليقة تئن وتتمخض…” (روم 22:8). ولكن كيف تواجه البشريّة نتائج هذا التغيير؟ تيار يدعو إلى العولمة وإلى وحدة الجنس البشريّ، وآخر لا يخلو من تعصُّب وعنصرية في كل مكان. وتمضي الإنسانيّة في درب التجديد والتطوُّر والرُقي وتحقيق العدل والحريّة والمساواة بين البشر.

ويأتي عيد قيامة المسيح أجمل ما في التاريخ من أحداث، وأعظم واقع تنقلنا إليه المسيحيّة، ونقطة انطلاق الحضارة الجديدة حضارة الإيمان والمحبة. ليضيء ظلمة الموت ويرسي لنا دستورًا لحياة جديدة.

أولاً: قيامة المسيح أضاءت ظلمة الموت

إن الإيمان المسيحي هو إيمان القيامة، فهي الجواب على تساؤلات الإنسان المصيريّة، لماذا الموت؟ وما هو مصيرنا البشري؟ ما هي قيمة العمل للبناء والسعي لمجتمع أفضل؟ علاقة الحياة بالموت؟ وتساؤلات كثيرة أخرى لا يفك طلاسمها سوى قيامة المسيح، والوحي يقول إن الله “إله أحياء لا إله أموات” (لو38:20).

فإن كان التراث الأدبي والفلسفي لكل الحضارات قد نظر إلى الموت في رعب ويأس، فإن الإيمان المسيحي يراه ربحًا، كما يؤكّد معلّمنا بولس الرسول (في21:1). وفي كل عصر شهداء يروون الحياة بدمائهم التي هي بذور الإيمان، فلا تقدُّم بدون تضحية، إنّه قانون الفداء في الكون. كل عمل صالح بنّاء يتطلّب جهدًا مخلصًا، وكل إبداع بشري هو ثمرة سهر ومعاناة. وإن كانت البشريّة قد تقدّمت بتضحيّات متصلة فلأنها اكتشفت بقيامة المسيح أن الموت ليس الكلمة الأخيرة وأن وراءه حياة ونورًا. فقد انتصر المسيح على الشر والموت ويحق له أن يقول: “أنا هو القيامة والحياة، ومَن آمن بي وإن مات فسيحيا” (يو26:11). لم يعد القبر هو نهاية المطاف بل هو جسر للعبور من الزمن إلى الأبديّة، كما نصلّي ونقول “ليس موت لعبيدك بل هو انتقال”.

بذلك نفهم لماذا كان الشهداء يواجهون الموت بشجاعة وثبات، لأن رجاءهم كان في الذي قام من الموت وداس الموت بموته ووهب الحياة للذين في القبور.

ومن قيامة المسيح، ندرك سمو الجهاد في الحياة، لأن الأجر لن يضيع حتى ولو كان تقديم كأس ماء لإنسان (متى 42:10).

فمشيئة الله هي أن تصنعوا الخير لا الشر (1 بط 15:3).

لقد أمدّت قيامة المسيح المؤمنين بطاقة الرجاء أمام الألم والمحن والصعاب. إنّها طاقة النور الذي يتوهّج في وجدان كل مخلص مع ضميره وفيًا لأسرته، مخلصًا في عمله ورسالته وعلاقاته.

إنّ القيامة هي بذرة الحياة الجديدة التي تُزرَع في كلّ أعراض ومظاهر الشر والموت المنتشرة في كثير من مجالات الحياة في عالمنا اليوم.

إنها طاقة النعمة التي تملأ كيان الآباء والأمهات المكافحين في صبر المجتهدين في تفان لبناء مستقبل أفضل لأولادهم.

قام المسيح… ليقوّم كل إنسان من آلامه وصعابه ليحمل الرجاء والأمل.

قام المسيح… ليعطي المعنى الأصيل للحياة، والمعنى الإلهي للموت.

قام المسيح… ليتعلّم البشر أنّهم إخوة في مسيرة الحياة، وسيقفون أمام الله المصدر والهدف، البداية والنهاية.

ثانيًا: قيامة المسيح أساس حياة جديدة

بقيامة المسيح امتلك الإنسان الدليل الأسمى على أن الحياة في هذه الدنيا ليست صدفة ولا عبثًا، بل هي رسالة مقدّسة وعلى البشر أن يحقّقوا دعوة الله لهم في حياة أفضل، كقول الرب يسوع: “أتيت لكي تكون لهم الحياة وتكون لهم أفضل” (يو10:10).

لقد ضحّت البشريّة كثيرًا من أجل تقدُّم العلوم، ووصلت إلى سيادة العقل على مصادر الطاقة الطبيعيّة، ولكنّها ظلّت في يد قلّة قليلة تنعم بالثروة، بينما يموت جوعًا الملايين في كلّ عام من إخوتنا البشر. وتظل بلاد عديدة ترزح تحت أغلال الفقر والعوز، كيف تنعم البشريّة بالحريّة والأمن والسلام، وغالبية أبنائها في عوز وجهل وألم؟

من أين هذه المآسي؟ أليست من الأنانية والكبرياء واحتقار الإنسان الآخر؟ بالرغم من أن الله أحبّ كلّ إنسان، فجاء المسيح من أجل كلّ إنسان وعاش ومات وقام مستعيدًا له كرامته الإنسانيّة. هذا هو تعليم قيامة المسيح، إن رحلة الحياة ينبغي أن تتحوّل إلى رسالة مقدّسة يساعد فيها القوي أخاه الضعيف، وتتوحّد البشريّة بكلّ طاقاتها الإيجابيّة للدفاع عن الحياة ضد الأمراض والأوبئة والكوارث فيشعر كلّ إنسان بقيمته وكرامته الإنسانيّة، وإنّه ينتمي إلى أسرة بشريّة واحدة.

إن الذين يحوّلون الحياة إلى الأفضل هم الذين يسيرون على درب المسيح الذي كان يجول يصنع خيرًا والذي عاش حياته القصيرة نورًا للذين في الظلام، محرّرًا للذين في القيود وعونًا لكلّ محتاج. ما أجمل شهادته حين سُئل عن رسالته فقال “العُمي يُبصرون والعُرج يمشون والصُم يسمعون والموتى يقومون والمساكين يبشّرون، وطوبى لمن لا يشك في” (لو 22:7-23) ليس بظلم الآخر يُبنى مستقبل الشعوب، وليس بكثرة المال تسود العدالة، وليس بالخضوع لكلّ ملذاتنا ورغباتنا نمتلك الحياة. إنّما بالإخلاص والأمانة والفداء نبني الحياة ونملأها بالمعنى.

إن سرّ الفداء هو نشاط إلهي مستمر وسرّ حب دائم، ومَن كان في المسيح فهو خليقة جديدة، فقيامة المسيح تجديد وكلّ تجديد في قلب المؤمن هو قيامة.

إنّ قيامة المسيح أرست للبشر جميعًا دستورًا لحياة جديدة، حياة حقيقيّة.

 

ختامًا

إنّ قيامة المسيح تملأنا بالرجاء وتجدّد إيماننا بأن كلّ جهد وتعب مخلص لابد وأن يُكلّل بالنجاح.

لذلك نصلّي هذا المساء متحدين مع قداسة البابا فرنسيس رأس الكنيسة الكاثوليكيّة ومع جميع مَن يحتفلون بعيد القيامة المجيد اليوم، من أجل المناطق الملتهبة في العالم بصراعات وحروب، وتعاني من كوارث طبيعيّة وإنسانيّة، نصلّي خاصّةً من أجل سوريا والعراق وفلسطين ونطلب سلامًا هو ثمرة العدل واحترام حقوق كلّ إنسان.

نصلّي بالأخصّ من أجل وطننا الغالي مصر، من أجل رئيس الجمهورية والقادة وكلّ القائمين على شئون البلاد في جميع المجالات، لينيرهم الرب ويمدهم بالحكمة لحمل رسالة الوطن والمواطنين بأمانة واجتهاد.

أيّها القائم من بين الأموات…

أقِم نفوسنا من قبور الحقد والبغضاء…

حرّر ضمائرنا من طغيان الشر…ّ

انفض عنّا أكفان الطمع والشهوات…

دحرج حجارة الخطيئة عن أرواحنا وأطلقها في عليائك…

المسيح قام… حقًا قام

كوبري القبة – 5 مايو 2013

 + الأنبا إبراهيم اسحق

بطريرك الإسكندرية للأقباط الكاثوليك