الرسالة البطريركية لعيد القيامة

الرسالة البطريركية لعيد القيامة

                                  + من البطريرك إبراهيم اسحق

بنعمة الله، بطريرك الإسكندرية وسائر الكرازة المرقسية للأقباط الكاثوليك، إلى إخوتنا المطارنة والأساقفة، وإلى أبنائنا الأعزاء القمامصة والقسوس، الرهبان والراهبات والشمامسة، وإلى جميع أبناء الكنيسة القبطية الكاثوليكية في مصر وبلاد المهجر..

النعمة والبركة والسلام من المسيح القائم من الأموات .

 

“أنا أعلم انكما تطلبان يسوع المصلوب، ليس هو ههنا لأنه قام كما قال”

( متى 28 : 5-6 )

مقدمة :

قيامة المسيح من الموت في اليوم الثالث بعد صلبه وموته، كما قالت الأناجيل وأثبته التاريخ وأكده ظهور المسيح للمئات من الأشخاص وحواره معهم، انتصار المحبة والتسامح على الكراهية والعداوة. فأين هيرودس الذي قتل أطفال بيت لحم ظناً منه أن الطفل يسوع من بينهم؟ وأين رئيس الكهنة قيافا الذي حاكمه؟ وأين الوالي الروماني بيلاطس الذي غسل يده ليتبرأ من تهمة قتل برئ لم ير فيه علة؟ (لوقا 23: 22). لقد هُزمت الرزيلة وانتصرت الفضيلة، وتوهج الحق والنور في قيامة المسيح، وسيظل العالم دوماً في صراع بين الخير والشر، وقد اثبت المسيح للعالم أنه مهما اشتدت الصعاب والتحديات وتوحش الشر وأتباعه فالغلبة لمن يحمل المحبة والسلام والصفح.

وكما كانت حياة المسيح الإنسانية دليلاً واضحاً على سمو إنسانيته وقداسة سيرته وتعاليمه، جاءت قيامته لتكون للتاريخ وللبشر كافة الدليل القاطع على طبيعته الإلهية، وأنه كلمة الله الذاتية الناطقة، نور من نور، وأنه كما اعترف الجندي الذي طعنه على الصليب “بالحقيقة كان هذا ابن الله” (لوقا 15: 39)، فقيامة المسيح حدث حقيقي كشفت لنا عن الملامح الإلهية لشخص المسيح وهي نقطة انطلاق الإيمان المسيحي، فلولا أنْ المسيح قام من الموت لما بزغ فجر الإيمان المسيحي، وسرى نوره يهدي كل من يؤمن به رب القيامة والحياة.

* * * * *

أولاً : المسيح هو القيامة

لقد أكد المسيح سلطانه على الموت حين أقام الكثيرين وأعادهم إلى الحياة، أقام لعازر (يوحنا 11: 1– 27) وابن الأرملة (لوقا 7: 11– 16) والصبية ابنة القائد (لوقا 8: 40– 56)، نعم أعادهم إلى الحياة ولكنهم ماتوا بعد ذلك وغلبهم الموت. أما المسيح فقد قام وصعد إلى السماء، فهو الحي الدائم، وترائى بعد قيامته وصعوده للكثيرين، وهو الذي يحفظ بنعمته الإيمان، والرجاء لكل إنسان يؤمن به، وهو الذي يصون القيم الروحية في مسيرة كل إنسان، لم يأت ليعيش سنوات قليلة ويرحل، بل هو كما وعد “أنا معكم إلى منتهى الدهر” (متى 28: 20) فقيامته هي إكليل حياته كما أن قيامة كل إنسان هي إكليل الجهاد والأمانة والنقاء كما قال سفر الرؤيا “كن أميناً (أيها الإنسان) حتى الموت فلسوف أعطيك إكليل الحياة” (رؤيا 2: 10)، فقيامة المسيح ليست حدثاً عبر ومضى وأصبح تاريخاً كتاريخ الانتصار في الحروب بل هي طاقة إلهية تسكب دوماً في قلوب المؤمنين بشخص المسيح الله – الكلمة – قوة ونعمة ونوراً لا ينطفئ، وهي منارة التاريخ المسيحي واستمرار حياة المسيح في حياة من يؤمن به، فالمسيح هو بحق “نور العالم كما قال “من يتحد بي لا يسير في الظلام (يوحنا 8: 12) قيامة المسيح امكانية تهّم كل البشر وتفتح امامهم مستقبلا جديداً، ومن قيامة المسيح نستمد القوة لتحمّل أعباء رسالة الحياة، ونواجه كل الصعاب، ونعيش الرجاء الدائم في من قال لنا: “لا تضطرب قلوبكم ولا تجزع أنتم تؤمنون بالله فآمنوا بي” (يوحنا 14: 1)، فكل من يتألم في حياته، أو يجرَّب، أو تحيط به الشدائد ينظر إلى المسيح القائم من الموت والذي داس العذابات والموت بموته وقام ليكون باكورة لكل إنسان يعيش في ثقة أن جهاده لن يضيع هباء، وقيامة المسيح أكدت للإنسان أن حياة أبدية في موكب الله تننظره، فلا فناء في الكون بل تجدد وولادة جديدة .

* * * * *

ثانياً : المسيح هو الحياة

يقول لنا المسيح “أنا هو الطريق والحق والحياة” (يوحنا 14: 6) ولا يقصد بالطبع حياة الإنسان الجسدية والمادية التي تخضع لقوانين الوجود، بل يريد بقوله الحياة الحقيقية حياة الروح والتقوى والنقاء، هذا النبض الإلهي الذي ينبض في أعماق كل إنسان، فيشعر بعطش روحي إلى الله وبالرغبة في الاتحاد به، وعندما تسير حياتنا على مثال حياة المسيح مؤمنين بالقيامة يتغير سلوكنا وتتوهج أفكارنا وهكذا علّم بولس الرسول قائلاً: “اقتدوا بي كما أني أقتدي بالمسيح” (1 كورنتوس 11: 1) الذي نادى تعلموا مني فأني وديع ومتواضع القلب. إذا دخل فكر المسيح ووصاياه أعماق الإنسان تغير هذا الإنسان إلى الأفضل كما حدث لزكا العشار وللمجدلية، ولملايين البشر الذين غير المسيح حياتهم وملأ كيانهم بسلام روحي عميق وبأمن لا يعطيه إلا المسيح. لقد كان القديس أغسطينوس غارقاً في الإثم حوّله المسيح إلى نور الإيمان فأضاء لزمانه كما يضيء لكل من يقرأ سيرته، حياة الشخص تتغير إن اتحد بالمسيح الحياة، وكذلك حياة الأسرة إذا كان المسيح دوماً في وسطها، بل والعالم أجمع في أشد الحاجة إلى نعمة المسيح الحي القائم ليكون عالماً أكثر عدلاً وحرية وأمناً وسلاماً، إن شعوب الأرض متعطشة للسلام، ولا يعطيها السلام الحقيقي إلا المسيح ملك السلام والقيامة والحياة والمحبة والنور. وما أشد حاجة العالم إلى التأمل في معنى قيامة المسيح من الموت، معناه انتصار الحياة على الموت، والحرية على عبودية الخطيئة، والرجاء الحقيقي في الإيمان ليس وهماً أو سراباً، بل هو نعمة تسكبها قيامة المسيح على البشر أجمعين، وأنه لا سلام في العالم إلا إذا تضامنت الشعوب في البناء والتقدم والتعمير، لا في الحرب والتدمير والفوضي والخراب. كل إنسان مدعو أن يقوم من جديد ليجدد إيمانه ويعمق محبته لاخوته البشر، وأن يترك أكفان العداوة والتعصب والأنانية كما ترك المسيح أكفانه وقام ممجداً، والبشرية جمعاء في حاجة إلى أن تقوم من هذه الهوة التي سقطت فيها الشعوب، هوة الحروب والعنصرية، هيا بنا نقوم معاً لنصنع عالماً أفضل.

يكمن سر الله في أنه يعمل بتواضع، في أنه لا يبني تاريخه في قلب تاريخ الانسانية الكبير إلا شيئاً فشيئاً. صار انساناً بطريقة بقى فيها مجهولاً من معاصريه ومن مسؤولي التاريخ، تألم ومات وقام ولم يشأ الوصول إلى البشرية إلا عَبْر ايمان تلاميذه الذين ظهر لهم، وكذلك هو يقرع ابواب قلوبنا باستمرار وبتواضع، واذا فتحنا له، يجعلنا على مهل قادرين على أن نرى.

هل كانت كرازة الرسل تستطيع أن تجد الايمان وتبني جماعة على مدى العالم لو لم تعمل فيها قوة الحق؟   إننا إذا أصغينا إلى الشهود بقلب متيقظ وانفتحنا على العلامات التى بها يثبت الرب صدق شهاداتهم ويثبت ذاته بطريقة دوما جديدة، نعرف حينئذ أنه حقا قام وأنه الحي، نتكل عليه وندرك أننا على الطريق الصواب.

لنضع مع توما أيدينا في جنب يسوع المطعون، ولنعترف قائلين “ربي والهي” (يو20: 28).

* * * * *

ختاماً :

نرفع صلاة هذا المساء متحدين مع قداسة البابا فرنسيس، وسائر البطاركة والأساقفة وكل المؤمنين من أجل أن يعمّ السلام عالمنا المثقّل بالآلام والأحزان، من أجل أن يغمر فرح القيامة قلب كل إنسان ومن أجل ان يتحرر كل إنسان من كل ما يقيده روحياً وانسانياً، نصلي من أجل أن نقوم ونتجدد جميعاً.

نصلي من أجل مصر وطننا الحبيب وسيادة رئيس الجهورية عبدالفتاح السيسي، الذي يسعى بكل إخلاص وجهد لبناء ونهضة هذا الوطن، نلتمس من الله عز وجلّ أن يحفظه وأن يمدّه بالنعمة والصحة، مع جميع المسؤولين وجنود الوطن، لأننا لنا رجاء في أن تنهض بلادنا بالمحبة والعدل والمساواة والإخلاص، تحية وإجلالاً للأبطال في سيناء وفي كل مكان الذين يسهرون من أجل صيانة الأرواح والحياة، تحية لكل أم تشعل في بيتها نور الحب والعطاء، تحية لكل أب يتفاني في تربية أولاده وخدمة وطنه                     تحية لكل إنسان يجتهد لإسعاد الإنسان الآخر.

صلاتنا أيضاً من أجل البلاد التي تعاني الحروب، فقد آن الأوان للتفرغ لبناء الإنسان ومستقبله، إن الأعياد فرصة روحية لكي نبادر دوماً بأعمال الخير والانفتاح على كل إنسان. نلتمس شفاعة العذراء مريم، الشاهدة الأمينة على قيامة المسيح وعلى محبة الله اللانهائية لمخلوقاته، لكي يحفظ الرب شعب مصر في وحدته المقدسة وإيمانه الثابت العميق.

المسيح قام … حقاً قام

كوبري القبة في 7  أبريل  2018                                                                                                                      + إبراهيم اسحق 

                             بطريرك الإسكندرية للأقباط الكاثوليك