الرسالة الراعوية لبطاركة الشرق الحادية عشر

الرسالة الراعوية لبطاركة الشرق الحادية عشر

لرسالة الراعوية الحادية عشر لبطاركة الشرق
إلى الإخوة الأساقفة والكهنة والشمامسة الأعزاء، وإلى الرهبان والراهبات، وجميع المؤمنين الأحبّاء في بلداننا وبلاد الانتشار.
1. «عَلَيكُمُ النِّعمَةُ وَالسَّلاَمُ مِن لَدُنِ الله أَبِينَا، وَمِن لَدُنْ الرَبِّ يَسُوعَ المـَسِيحِ» (1 قورنتس 3:1).
نوجِّه إليكم رسالتنا هذه في عيد العنصرة الذي يختتم الزمن الفصحيّ واحتفالنا بقيامة ربِّنا يسوع المسيح المجيدة وانتصاره على الموت وعلى كلّ شرّ. إنّنا بحاجة فعلاً لأن نتأمَّل في قيامة الربّ المجيدة وبحلول الروح القدس علينا ليملأنا بقوّته، ولنجدِّد إيماننا، في هذا الزمن الذي غمرتنا فيه شرور الحرب والموت في المنطقة كلّها.
إنّنا نرى الكثير من بلداننا كلَّها تتعرَّض للدمار والموت، بسبب سياسات عالميّة، لها رؤيتها السّياسيّة والاقتصاديّة والإستراتيجيّة لخلق «شرق أوسط جديد».
كلُّنا، مسيحيّين ومسلمين، نُقتَل ونُهَجَّر، في العراق وسوريا وفلسطين وليبيا واليمن. ولم يبقَ بلد عربيّ يعرف السلام أو الاستقرار.
يراهن الكثيرون اليوم على زوالنا أو على تقلُّص أعدادنا بصورة كبيرة. ولكنّنا نؤمن أنَّ الله سيّد التاريخ، وهو يرعانا ويرعى كنيسته في الشَّرق. إنّنا نؤمن بيسوع المسيح القائم من الموت والمنتصر على كلّ شرّ. وبناء على إيماننا هذا نقول: سوف يبقى في الشّرق مسيحيّون يحملون إنجيل ربِّنا يسوع المسيح، ويشهدون لقيامته المجيدة، ولو بقينا عددًا قليلاً، أي «مِلحًا ونُورًا وخَمِيرَة» (متى 13:5 و14؛ 33:13)، كما قال لنا السيّد المسيح. وقد سبق أيضًا وأنبأنا: «ستُعَانُونَ الشِّدَّةَ فِي العَالَمِ، وَلَكِن ثِقُوا إِنِّي قَد غَلَبْتُ العَالَم»، «فلا تَضطَرِبْ قُلُوبُكُم وَلا تَفزَعْ» (يوحنا 33:16؛ 27:14).
2. أيّها الإخوة والأخوات الأعزّاء، نوجِّه إليكم رسالتنا هذه، بعد انعقاد اجتماعنا السنويّ في المقرّ البطريركيّ في الديمان (لبنان) بين 9 و11 آب 2017 في ضيافة أخينا البطريرك الكاردينال مار بشاره بطرس الرّاعي. نوجِّه كلمتنا إلى جميع مؤمنينا، وإلى بلداننا وجميع مواطنينا، مسيحيّين ومسلمين ودروزًا، وإلى حكوماتنا، وإلى أصحاب القرار السياسي في الغرب الذين يريدون أنْ يخلقوا في شرقنا شرقًا جديدًا، ويزعمون أنَّ قدراتهم المادّيّة والعسكريّة تجيز لهم التصرّف بمقدَّراتنا.
نودّ في هذه الرّسالة أنْ نوجِّه ثلاث كلمات: واحدة لمؤمني كنائسنا، وواحدة لمواطنينا وحكّام بلداننا، وواحدة لصانعي السّياسة في الغرب ولإسرائيل.
الفصل الأول: ماذا نقول لمؤمنينا؟
أيام صعبة
3. نعلم أنّه من الصعب أنْ نوجِّه كلمة إلى مؤمنينا، في الموت الذي أصابهم، وفي تشريدهم وفي كلّ الآلام التي تحمَّلوها. أمام كلّ هذا، أبلغ كلمة هي الصمت. ونصمت أيضًا أمام سرّ الله وسرّ محبّته تعالى الذي لا ندركه، مع كلّ الشرور التي تغمرنا.
كلمتنا صمت وإجلال أمام معاناة مؤمنينا، ومعهم ومع صاحب المزامير نصلّي ونقول: «إلَى مَتَى، يَا رَبّ؟» (مزمور 6:4)، «تَطَلَّعْ مِنَ السَّمَاءِ وَانظُرْ، وافتقِدْ هَذِهِ الكَرمَةَ، وَاحْمِ مَا غَرَسَتْ يَمِينُكَ» (مزمور 15:80).
وبعد الصمت والسجود والتسليم لمشيئته تعالى، نحمده على كلّ شيء، فهو الساهر بعنايته الإلهيّة على كنيسته التي في الشّرق وعلى كلّ فرد مِنَّا، وعلى العالم كلّه.
في دمائنا، وفي الدمار المحيط بنا، وفي تشرّدنا، نتأمَّل في ما سبق وأنبأنا به السيّد المسيح. أنبأنا بالشدائد والاضطهادات، قال: «سَتَأتِي سَاعَةٌ يَظُنُّ فِيهَا كُلُّ مَن يَقتُلُكُم أنَّهُ يُؤَدِّي لله عِبَادَةً» (يوحنا 2:16). وأيضًا: «سَيُسلِمُونَكُم إلَى المَجَالِسِ، وَيَجلِدُونَكُم فِي مَجَامِعِهِم، وَتُسَاقُونَ إلَى الحُكَّامِ وَالمُلُوكِ مِن أَجلِي» (متى 18:10). ولكنّه قال لنا أيضًا إنّ الروح سيكون معنا: «وَمَتَى قَدَّمُوكُمْ إِلَى الْمَجَامِعِ وَالرُّؤَسَاءِ وَالسَّلاَطِينِ فَلاَ تَهْتَمُّوا كَيْفَ أَوْ بِمَا تَحْتَجُّونَ أَوْ بِمَا تَقُولُونَ، لأَنَّ الرُّوحَ الْقُدُسَ يُعَلِّمُكُمْ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ مَا يَجِبُ أَنْ تَقُولُوهُ» (لوقا 11:12-12).
هذه حالنا، كما قال صاحب المزامير: «مِن أَجلِهِ نُمَاتُ طَوَالَ النَّهَارِ وَنُعَدُّ غَنَمًا لِلذَّبحِ» (مزمور 23:44؛ راجع أيضًا روما 36:8). وكما قال القديس بولس: «إنِّي أُوَاجِهُ المَوتَ كُلَّ يَومٍ» (1قورنتس 31:15). ولكن قال أيضًا: «يَشتَدُّ عَلَينَا الضِّيقُ مِن كُلِّ جَانِبٍ وَلا نُسحَقُ، نَحَارُ وَلا نَيأَسُ» (1قورنتس 8:4). بناءً على هذا الكلام الإلهيّ، في الكتاب المقدَّس، نحدِّد مواقفنا البشريّة، في كنائسنا وفي بلداننا، ومع المزمور نقول: «آمَنْتُ، حَتَّى حِينَ قُلتُ: إنَّ بُؤسِي لَشَدِيدٌ» (مز 10:116).
نؤمن، ونحن نعلم أنّ الإيمان صعب، بينما تغشانا ظلمات هذا العالم ومظالمه. نرى شقاء الأرض، نرى قسوة الناس، بعضهم على بعض وعلينا. نعيش في زمن موت واستشهاد. وننظر إلى صلاح الله، ونسأله تعالى القوّة لقبول نعمته. نسأله أنْ يرافقنا، سواء حضرت ساعة شهادة الدم، أم بقينا في بيوتنا وكنائسنا المهدَّمة، أم تشتَّتْنا في أنحاء العالم. نسأله القوّة لنبقى مؤمنين به، وبصلاحه. ومع الموت الذي نتعرَّض له، نؤمن أنّ الله ما زال يرسلنا في بلداننا أو في العالم، وفينا صلاح من صلاحه، وقوّة من قوّته، ومحبَّة من محبَّته للعالم كلّه.
الهجرة
4. رأينا مؤمنينا في بعض بلداننا يُهجَّرون غصبًا عنهم، بسبب الظروف اللاإنسانيّة التي مرّوا بها. نشكر البلدان والكنائس والمنظَّمات الدوليّة التي استقبلتهم وقدَّمت لهم يد العون ووفَّرت لهم حياة إنسانيّة كريمة. ونؤكِّد للجميع، ولا سيّما للمسؤولين السياسيّين، أنّ أفضل مساعدة تُقدَّم لمؤمنينا هي أنْ يبقوا في بلدانهم، فلا تُثار فيها الفوضى والاضطرابات وأنواع العنف التي تضطرُّهم إلى الهجرة.
هاجر بعض مسيحيِّينا أيضًا من بعض البلدان الأخرى بالرغم من الاستقرار النسبيّ فيها، لتأثُّرِها بجوّ الحرب وعدم الاستقرار السياسيّ في المنطقة. لجميع أبنائنا نقول ونكرّر أهميّة الحضور المسيحيّ في الشّرق، وأهميّة بقاء كلّ واحد وواحدة منكم في بلدانكم حيث دعاكم الله وأرسلكم. في الأيّام الصعبة، بلدانكم وكنائسكم بحاجة إليكم. ولهذا نوصيكم بمقاومة تجربة الرحيل بقدر ما تستطيعون، وبالاستمرار في حمل رسالتكم في بلدانكم وكنائسكم. فإنّ مستقبل كنائسنا، والحضور المسيحيّ عامّة في المنطقة متوقِّف، ولو جزئيًّا، على قراركم: هل ترحلون أم تقبلون مشيئة الله عليكم وتبقون حيث الله دعاكم؟
شهداؤنا
5. من موتانا ومن شهدائنا، ومن قسوة الناس علينا، نتعلَّم أمرين: أوّلاً، نبقى رُسل حياة نمنحها لكلّ بلداننا ومجتمعاتنا. وثانيًا: الموت واقع، ولكن الحياة أيضًا واقع للمؤمن، وهي التي ستغلب في النهاية. الحياة الكاملة، «الحياة الوافرة» (يوحنا 10:10) التي جاء يسوع المسيح ليمنحنا إيّاها، وليجعلنا قادرين على أنْ نمنحها لغيرنا. ومن ثمَّ، بالرغم من كلّ الصعاب التي نحن فيها، تُقتَل أجسادنا وتَبقَى رسالتنا. نَبقَى حاملي رسالتنا في بلداننا وعلى طرق العالم. في بلداننا نسهم في بناء مجتمعاتنا، وعلى طرق العالم حيثما وصلنا نحمل إنجيل يسوع المسيح.
فلا نيأس ولا نهرب من عالم فيه قتلة. القتلة أنفسهم بحاجة إلى «الملح والنور» ليبصروا، ليخرجوا من عماهم إلى النور، من لاإنسانيَّتهم إلى إنسانيّتهم. لا نهرب من قتلة في مجتمعنا. ولا نهرب من قتلة في العالم. بل نعيدهم هم إلى الحياة، لأنَّهم بقتلهم لنا يقتلون أنفسهم. رسالة كنائسنا ورسالة كلّ مؤمن فيها اليوم رسالة صعبة، دامية. رسالتنا هي أن نعيد الحياة إلى أهل الموت، ونعيد صلاح الله إلى من حرم نفسه من صلاح الله، ونعيد البصر إلى من أفقد نفسه البصر فأصبح عاجزًا عن رؤية محبّة الله ومحبّة أبناء الله.
ماذا يقول لنا شهداؤنا؟
6. يقولون كلمة حقّ لنا، نحن المسيحيّين، وهي أنّ الله أراد أن نقبل في هذا القرن الحادي والعشرين معموديّة الدم.
يقول لنا شهداؤنا أن نجدِّد محبَّتنا بعضنا لبعض، ولو بقيت الهيكليّات الخارجيّة التي تكوَّنت عبر العصور فاصلة بيننا، ولو بقيت الاختلافات في مفاهيمنا وتعابيرنا عن إيماننا الواحد بربِّنا يسوع المسيح. محبّة واحدة في كنائسنا، وكلمة واحدة من أجل الفقير والمظلوم ومن أجل السلام، والتزام واحد في مجتمعاتنا التي وضعنا الله فيها، وأرسلنا إليها لنسهم في بنائها، ولنبدأ فيها مرحلة جديدة من تاريخنا. إسهامنا في بناء مجتمعاتنا يقوم بأن نزيدها وعيًا لحضور الله فيها، وبأن نجعل فيها مزيدًا من المحبّة ومزيدًا من السلام.
من أجل يسوع المسيح بذل شهداؤنا دماءهم، ومن أجل كنائسنا وبلداننا. فللمسيح الواحد تسبِّح معًا كلّ كنائسنا، لمزيد من الوحدة بيننا، ولمزيد من الوحدة في مجتمعاتنا. واجب على كنائسنا بعد أن اغتسلت بدماء شهدائها أن تجدِّد نفسها لتصير مصدر حياة للجميع.
يقول لنا شهداؤنا أن نجدِّد صلاتنا، فتكون في الوقت نفسه عبادة لله ومحبّة للناس أجمعين، محبّة لأقرب الأقربين إلينا، وللبعيدين عنَّا، لكلّ جماعاتنا المؤمنة، ولكلّ مجتمعاتنا. فلا تبقى صلاتنا بين جدران كنائسنا فقط، بل تمتدّ لتشمل كامل علاقاتنا بعضنا ببعض وبكلّ مجتمعنا وبكلّ احتياجاته المادِّيّة والروحيّة. ولهذا يشمل التجدُّد أيضًا تقاليدنا وليتورجيّاتنا وممارساتنا لتصبح غذاء يوميًّا فاعلاً يبدِّل حياتنا اليوميّة ويمكِّننا من حمل رسالتنا.
يقول لنا شهداؤنا أن نحدث تجديدًا في كنائسنا، وفي مؤمنينا، وفي كهنتنا وأساقفتنا، وبطاركتنا. الطريق التي فُتِحَت بدماء شهدائنا طويلة وصعبة. ومع ذلك نسلكها ونسير فيها معهم، ناظرين إلى السماء، متذكّرين دعوتنا الحقيقيّة، كمسيحيّين وكأناس مخلوقين على صورة الله: «كُونُوا كَامِلِينَ كَمَا أَنَّ أبَاكُمُ السَّمَاوِيَّ هُوَ كَامِلٌ» (متى 48:5). وطريق الكمال أيضًا طريق صعب وطويل. لهذا، فيما نسير فيه، يقول لنا شهداؤنا أن نستعدَّ لشهادة الدم.
يقول شهداؤنا لمضطهديهم، ولكلّ قاتل قريب أو بعيد، وجهه مكشوف أو مقنَّع: من أجلكم أيضًا بذلنا حياتنا حتى تصبحوا قادرين على أن تروا الله وأبناء الله، حتى تروا الله في كلّ إنسان، سواء أكان من دينكم أم من غير دينكم. افتحوا عيونكم وقلوبكم للحياة. استعيدوا حرّيّتكم ولا تَظَلّوا قتَلة وضحايا في الوقت نفسه، مضطهِدين لإخوتكم وضحايا لشرٍّ ولعبوديّة فيكم.
دم الشهداء يبشِّر بحياة جديدة، بولادة جديدة للإنسان العربيّ المسيحيّ والمسلم والدرزيّ. لمجد الله بذلوا حياتهم، ونعمةً وبركةً لكنائسهم ومجتمعاتهم العربيّة. قد يقلَّ عدد المسيحيّين فيها، ولكنّ دم الشهداء هو بذار حياة ونعمة. يقلّ العدد وتفيض النِّعمة.
في وسط الصعاب والموت، نذكِّر أنفسنا بصلاح الله ورحمته، ونذكّر كلّ إنسان حتى قاتلينا بأنّهم، بالرغم من شرِّهم، فيهم هم أيضًا صلاح من صلاح الله، وهم أيضًا قادرون على المحبّة. لم يخلق الله الإنسان للموت يغذِّيه في نفسه ويفرضه على غيره، بل خلقه ليكون أخًا لأخيه، أيًّا كان الأخ وعلى أيِّ دين كان، لأنَّه على صورته خلقه، قادرًا، على مثال خالقه، على الحياة والمحبّة.
الفصل الثاني: ماذا نقول لمواطنينا ولحكامنا؟
واقعنا
7. واقعنا بالإيجاز هو، من جهة، ازدهار وغنى وأبنية شاهقة وشبه سلام، هو خير كثير ودِين كثير وعلم كثير ومال وفير. وهو من جهة أخرى، فقر كثير، ففي بعض بلداننا كثيرون بلا مأوى. وفي الدين، في الكثير من طُرُق تربيتنا الدينيّة تربة خصبة للتطرُّف أو الانغلاق الطائفيّ. وبعض بلداننا في حالة حرب أو فِتَن في النفوس وعلى الأرض. وفي بعض أنظمتنا الحاكمة خوف من التعامل مع حرّيّة المواطنين. أوطاننا في مسيرة لم تبلغ بعد استقرارها. وفي الوقت نفسه فُرِضَت عليها الحروب من الداخل والخارج. والمستقبل أمامنا مجهول.
القيادات السياسية
8. نشكر لقياداتنا ما تقوم به من جهود في حكم البلاد والناس. ولكنّنا نقول أيضًا، بناءً على ما ذكرناه، إنّ الطريق أمامنا ما زال طويلاً حتى نصل إلى تحقيق «المدينة الفاضلة». ما زال فينا فقر وفساد وتقييد حرّيّات وطائفيّة وحروب. كلّ ذلك، يجب أَلاّ يكون.
نعلم أنّ كلّ هذه أمور معقَّدة، ولكن مهما كان الوضع معقَّدًا، الشرّ والفساد يجب أن يزولا. وفي مقدورنا أن نزيلهما. الحكم خدمة للجماعة وتنظيم لحياتها، وتمكين كلّ مواطن من أن يعيش إنسانًا بكامل كرامته في حياته المادّيّة والروحيّة، وبكامل حرّيّته. وكلّ هذا نحن قادرون عليه، ولو كان الكثير منه غيرَ محقَّق بعد.
التجرد والخير العام
9. الحاكم الصالح هو حاكم زاهد وخادم يسعى لصالح الفرد والجماعة. قال بولس الرسول: «أنَا لا أَطلُبُ مَا لِنَفسِي بَل مَا هُوَ لِمَصلَحَةِ الكَثِيرِينَ» (راجع 1قورنتس 33:10). هذا كلام لبولس الرسول يُتلَى على المؤمنين المقتدين بالله. ولكنّه أيضًا كلام من الضروريّ أن يسمعه الحكّام ويعملوا به. من الضروريّ أن لا يطلب الحاكم ما لنفسه بل ما للناس الذين كلَّفوه بحكمهم وخدمتهم. لأنّ السلطة خدمة وبناء للجماعة.
نقول لحكّامنا: اسمعوا صوت الفقراء. لأنّ الحاكم الصالح هو الذي يسعى فيجتثُّ الفقر، وفي المجتمع مال وعلم ودراية. الفقر، في مجتمع تَوفَّر فيه المال لدى الكثيرين، هو نتيجة إهمال أو عجز في الحكم. الفقر نتيجة إنسان لا يرى أخاه الإنسان، ونتيجة لحاكم ينظر لما هو لنفسه، لا لما هو للجماعة.
المال متوفِّر والعلم متوفِّر، فما الذي يُبقِي الفقر بيننا؟ لعلَّ «الإنسان» فينا هو الغائب، أم الأنانيّة هي الغالبة، وهي التي تمنع أصحاب المال أو القادة السياسيّين من الخروج من ذاتهم والاهتمام بالآخر؟
أم لعلّ الدين على كثرته هو الغائب؟ في الشّرق الجميع، المسيحيّون والمسلمون والدروز، مؤمنون، أو متمسِّكون بانتمائهم إلى جماعاتهم المؤمنة. الدين كثير، ولكن قد يكون الله غائبًا. في الواقع يمكن أن يكون المؤمن ممارسًا لكلّ الشعائر الدينيّة، ومع ذلك يمكن أن يكون الله غائبًا. الناس تؤمن وتذهب إلى الكنيسة أو إلى المسجد، ولكن الفقير يبقى منسِيًّا، وهو خليقة الله وابن الله. نعم، الحسنات أيضًا كثيرة، وقد يبني البعض كنيسة أو مسجدًا، ويُكثِر من الحسنة للفقراء. ولكنّ بلداننا ومجتمعاتنا، حيث يكثر المال والفقر معًا، بحاجة إلى أكثر من هذا. بحاجة إلى أكثر من الحسنة، بحاجة إلى عدالة اجتماعيّة، وإلى اقتصاد عادل يضمن حياة كريمة لكلّ إنسان. الفقراء في بلداننا يذكِّرون أصحاب الأموال، والحكّام، والمسؤولين في مجال الاقتصاد، بأنّ بلداننا بحاجة إلى نظام يتجاوز نظام «الحسنة». بحاجة إلى أنظمة ومخطَّطات اقتصاديّة قادرة على توزيع أموال البلاد والأفراد وتنظيمها، كي لا يبقى في البلد إنسان محتاج. الدين كثير، ولكن يجب أن نجعل حضور الله بيننا كثيرًا، الله الرحيم، والذي يقول لنا إنّه منح كلّ الناس الكرامة نفسها. هذا يقتضي فهمًا أفضل للدين. هذا يقتضي قيادات خادمة تعمل لغيرها وتوفِّر الاكتفاء الذاتي لكلّ مواطن تحكمه. لا يقولنّ أحد: الأمور معقَّدة. بل ليَرَ وليعترف أنّ الإرادات غير صالحة، ولا تتوفّر الإرادة الصادقة التي تعمل من أجل عدالة اجتماعيّة صحيحة.
وقضية الفقر هذه تهمّ كنائسنا أيضًا، أي نحن جميعًا، وفي الدرجة الأولى، الرعاة، الأساقفة والكهنة والرهبان والراهبات. فنحن نستطيع أن نطالب وأن نعمل في سبيل إقرار عدالة اجتماعيّة أفضل. ونقدر أن نقدِّم مثالاً، في طريقة حيازتنا أو استخدامنا لثروات هذا العالم. الفقراء في مجتمعاتنا يدعون كلّ المسؤولين الدينيّين والسياسيّين إلى إجراء فحص ضمير وإعادة نظر في مواقفهم من المال، وفي استجابتهم أو عدم اهتمامهم لصوت الفقراء.
الحرية
10. ونقول لحكّامنا أيضًا: اسمعوا صوت المظلومين الذين سُلِبَتْ حرّيّتهم. «أيُّهَا الَّذِينَ يَحكُمُونَ الأرضَ أحِبُّوا البِرَّ» (حكمة 1:1-2). من واجب الحاكم أن يثبّت الحكم ويوفّر الأمن والاطمئنان للجميع. ولكن لا يجوز له، أيًّا كان نوع الحكم، أن يستبدّ، فيُذِلّ إنسانًا أو يقتله بسبب حرّيّته. للحرّيّة طبعًا حدود، وحدودها خير الفرد نفسه وخير الجماعة.
السلطة الصالحة لا تخاف الحرّيّة ولا المعارضة بل تستند عليها وتجد فيها هاديًا إلى مصلحة الشعب.
التعامل مع الحرّيّة أمر صعب. ولكن من طلب الحكم وجب أن يكون أهلاً للقيام بالأمر الصعب، وجب عليه أن يعرف كيف يتعامل مع حرّيّة الناس، من دون أن يظلم الناس. صلاح الحكم من كفاءة الحاكم في التعامل مع حرّيّة الأفراد والجماعات، ومنها الأحزاب السياسيّة وكلّ من عارضه في آرائه. الحاكم العادل لا يملأ السجون بمفكِّري الشعب وأحراره، أو فقط لأنّهم معارضون له. حتى في السجون تُحترَم كرامة الإنسان، ولا يُصحَّح أي اختلاف في الرأي بمذلّة الإنسان. الإنسان يخضع لربِّه ولا يخضع لحاكم ظالم.
أمام السياسة العالمية
11. نريد قيادات سياسيّة مستقلّة عن الضغوطات والتخطيطات الخارجيّة، وكلّنا نعلم أنّها كثيرة، وهي أثقال وقيود تُفرَض على حكّامنا تحدّ من حرّيّاتهم وتناقض مصالح شعوبهم.
نريد قيادات سياسيّة قويّة تستمدّ قوَّتها من شعبها، لأنّها تحترم حرّيّته وكرامته، فتكون به قويّة أمام القوى الخارجيّة، وفي وجه الضغوط العالميّة، والدول الكبرى التي تدَّعي تغيير وجه الشّرق الأوسط كما تشاء.
نريد حكّامًا يقفون في وجه أقوى الأقوياء في العالم، قادرين على ذلك لأنّ كلّ شعبهم معهم. فيتعاملون مع كلّ دول العالم معاملة الندّ للندّ، مهما كان تهديد الأقوياء بقوّة السلاح أو المال.
الشعب، إذا احترمته قياداته السياسيّة، يمنح الحكومات القوّة وحرّيّة القرار أمام كلّ غزو من الخارج، وأمام كلّ محاولة للتخريب وإثارة الفتن والمصادمات الأهليّة، كما شهدنا وما زلنا نشهد في مختلف بلداننا.
المنطقة بحاجة إلى قيادات تبني السلام لنفسها وللبلدان المجاورة. تقف في وجه كلّ تحريض على الحرب يأتيها من الخارج، وترفض الأحلاف ضدّ مصلحة شعوبها أو البلدان المجاورة. نحن نريد حكّامًا أحرارًا نزيهين يُخرِجون المنطقة من الحروب الدائرة فيها، ويحقّقون فيها السلام الداائم والنهائيّ.
الدولة المدنيّة
12. نريد من حكّامنا أخيرًا أن يبنوا لنا الدولة المدنيّة التي تساوي بين جميع مواطنيها، لا يفرّق شيء بين مواطن ومواطن، لا الديانة ولا أيّ سبب آخر. دولة يشعر فيها كلّ مواطن أنّه في وطنه وأنّه مساوٍ لجميع مواطنيه، وكلُّ فرص الحياة والحكم والعمل متاحة له، مهما كان دينه. فهو أخ لكلّ أخ له في الوطن الواحد، وله وعليه الحقوق والواجبات نفسها.
الدولة المدنيّة تفصل بين الدين والدولة، ولكنّها تحترم كلّ الأديان والحرّيّات. ولهذا تسعى إلى مزيد من التفهُّم للواقع الدينيّ في بلداننا، المكوَّن من الإسلام والمسيحيّة والدروز، وتسهر على عدم تحوّل الدين إلى طائفيّات دينيّة أو سياسيّة. هذا يقتضي أمرين: أوّلاً، أن نتعلَّم، نحن المسيحيّين والمسلمين والدروز، كيف نعيش معًا، وكيف ننظّم الدولة الحديثة معًا. وثانيًا، كيف نربّي أجيالَنا تربية جديدة مبنيّة على المبادئ نفسها: احترام متبادل وتعاون وإيمان بمصير واحد في بلداننا التي أرسلنا الله إليها.
ولهذا، نريد قيادات سياسيّة تجرؤ فتبدأ تربية جديدة على الحياة السياسيّة، لتكوين إنسان ومواطن جديد. تربّي إنسانًا يسعى لتحقيق نفسه وإخوته وكلّ وطنه؛ وتربّي مواطنين ومؤمنين غير منغلقين على ذاتهم، بل منفتحين وقادرين على معانقة إخوتهم وأخواتهم جميعًا، والعالمِ كلّه.
القيادات الدينيّة
13. نتطلّع إلى قيادات دينيّة ذات رؤى جديدة، قيادات دينيّة مسيحيّة وإسلاميّة ودرزيّة، يجمعها الإيمان بإله واحد، رحيم ومحِبٍّ للبشر. تعمل في جهد واحد على تكوين إنسان محِبٍّ للآخر، أيًّا كان دينه.
الحروب الدينيّة الماضية، ندينها ونتركها للتاريخ، ونستغفر الله عنها، ونسأله أن ينيرنا لنصنع تاريخًا جديدًا، وأن يمنحنا القوّة لأن نسير في نوره ورحمته، فيبقى الدين مثل الله سبحانه دينَ محبّة ورحمة لجميع خلائقه.
في واقعنا الدينيّ اليوم حوار وقبول متبادل، وفيه أيضًا عكس ذلك. ما زالت هناك تيّارات دينيّة مناقضة لا تقبل التعاون أو المساواة بين المؤمنين في الديانات المختلفة، وما زالت غير مستعدّة لبناء الدولة المدنيّة ورافضة لمفهوم المواطنة المتساوية. وما زال التطرُّف الدينيّ والميل إلى الإقصاء في قلوب الكثيرين. جراحنا في العراق وسوريا ما زالت دامية. والاعتداءات على الكنائس في مصر ما زالت قريبة منّا. ما زال في واقعنا اليوم عصبيّات طائفيّة تقسم بين المؤمنين باسم الله الواحد والمحِبّ لجميع خلائقه على أيّ دين كانوا. وما زلنا نرى في واقعنا القتل باسم الله.
وقد تكونّت لدى بعض المسيحيّين ردّة فعل طائفيّة أكثر منها مسيحيّة، فيها نبرة من اليأس والرّفض للآخر المختلف.
أمام هذا الواقع، نتوقّف ونتأمّل ونحاسب أنفسنا ونحدّد مواقفنا معًا، ونجدّد إيماننا بالله سبحانه الذي هو محبّة ورحمة، ونجدّد محبَّتنا لله ولجميع النّاس، ونبدِّل مواقف تفرقة قديمة لدى بعضنا بمواقف تأليف بين القلوب، ومواقف مودّة واحترام متبادل.
القيادات الدينيّة هي أيضًا خادمة للناس لا لنفسها. وهي المسؤولة لهَديِ المؤمنين في طُرُق الله، أي طُرُق الرحمة والمحبّة، ولتكوين إنسان جديد قويّ رحيم ومحِبّ لكلّ إنسان في كلّ الديانات. رجل الدين، في الواقع، قادر على أن يُعِدّ جيلاً من المؤمنين يمنح الحياة، لا جيلاً يمنح الموت، وقادرًا على أن يربِّيَ مؤمنين صادقين رحماء لا قتلة.
محبّة رجل الدين تشمل أبناء رعيّته طبعًا، ولكنّها تتجاوز حدودها. لأنّ المحبّة لا حدود لها. المحبّة شاملة مثل محبّة الله لكلّ خلقه. ارتوى شرقنا الأوسط بالدماء والموت، فهو بحاجة إلى قيادات دينيّة ترشده إلى طُرُق الحياة. نحن بحاجة إلى قيادات دينيّة قادرة على مقاومة كلّ قوى التفرقة والموت الّتي ما زالت فاعلة في مجتمعاتنا، سواء أتت ممَّا في أنفسنا أم من قوى خارجيّة وتيّارات ذات قدرة مدمّرة.
نحن بحاجة إلى قيادات دينيّة لها القدرة على الإحساس بكلّ آلام الناس، لتحملها معهم وتعلِّمهم أنّ الآلام ليست للموت، بل هي طريق إلى تجديد الحياة، مثل صليب ربِّنا يسوع المسيح الذي كان طريقًا من الموت إلى القيامة. إنّ حياة كلّ إنسان موسومة بالطابع الفصحيّ، أي إنّها عبور من كلِّ أشكال الموت إلى الحياة، وهي انتصار على الخطيئة والشّر، إلى أن نبلغ حياة جديدة.
القيادات الدينيّة في علاقتها مع الدولة، تترك للدولة سلطتها واستقلالها في شؤونها، تهديها وترشدها بمبادئ الأخلاق العامّة. تساعد الدولة للهداية ولتأييد كلّ عمل عادل ومؤسِّسٍ لحياة سالمة مطمئنّة في الجماعة. وترفع صوتها، لتدافع عن الفقراء والمظلومين، بل تبحث عن كلّ مظلوم ومحتاج لتنصفه وتوفِّر له الحياة الكريمة المكتفية. وتدافع عن الحرّيّات، وتعلِّم المؤمن كيف يستعمل حرّيّته، تعلِّمه أنّ الحرّيّة ليست للتفريق بين مؤمن ومؤمن، ولا لهدم الجماعة ولا لظلمها، بل لبنائها.
تربية جديدة
14. ولهذا نحن بحاجة إلى تربية جديدة، لتكوين إنسان جديد. الدولة مسؤولة، والكنيسة مسؤولة، والمسجد مسؤول. كلّ رجل دين في كلّ دين مسؤول. نحن بحاجة إلى تربية جديدة مرسَّخة على قواعد الرحمة والمحبّة، وعلى قواعد المساواة والكرامة الواحدة التي منحها الله كلّ إنسان.
بتربية إنسان جديد يولد مؤمنون يرون الله سبحانه خالقًا رحيمًا ومحِبًّا للبشر. ويولد مجتمع جديد فيه عدل وحرّيّة وتعاون. وبتربية إنسان جديد، تولد دولة جديدة لكلّ مواطنيها، أيًّا كان دينهم.
التربية الدينيّة السليمة، للمسيحيّ والمسلم والدرزيّ، لكلّ واحد في دينه، تمكّن من بناء مشروع وطنيّ جديد حيث الكلّ إنسان والكلّ مواطن، والكلّ مؤمن في دينه مخلِصٌ له. المشروع الوطنيّ يبني وطنًا للجميع وفوق الجميع. هذا شعار معروف نادَيْنا به وننادي به. ولكنّه حتى الآن لم يتحقّق بعد. لأنّ الوحدة والمساواة ما زالتا غير مكتملتَين بعد. ما زال هناك تفرقة وتفضيل مواطن على مواطن بسبب دينه أو بسبب حرّيّته. بل ما زال هناك اعتداءات ودماء، وما زال هناك تعذيب في السجون بسبب الحرّيّات. يجب أن نتذكَّر الشّرور التي فينا حتّى لا ننسى أنّنا لم نبلغ الكمال بعد، بل علينا حتى الآن واجب تربية وتنقية يجب أن نقوم به.
من يربّي؟ من يلد الإنسان الجديد؟
15. نحن بلدان مؤمنة. والدين فرَّقنا في الماضي وما زال اليوم يفرِّقنا في بعض الظروف والأحوال. ولهذا، كما قلنا سابقًا، إنّ رجال الدين مسؤولون عن التربية الجديدة. في الواقع إمّا نربّي تربية صريحة تقول لكلّ مؤمن إنّ المؤمن المختلف عنك هو أخوك، وكلّ أبناء وطنك هم إخوة، وإمّا نقول له «ليس الجميع متساوين، وأنت أفضل من غيرك». هكذا قلنا وهكذا كانت التربية حتى الآن، وهي تُربَةٌ خصبة للمخاصمات والحروب الأهليّة أو لظلم الأخ المختلف لأيّ سبب من الأسباب.
نحن بحاجة إلى تربية دينيّة ومدنيّة جديدة تربّي المؤمن فتقول له إنّك أوّلاً إنسان وخليقة ربّك، وكلّ إنسان آخر هو مثلك خليقة الله. كلُّنا بالخلق إخوة، وكلُّنا في الوطن سواء.
تربية دينيّة تذكّر دائمًا بوصيّة السيّد المسيح: «أحِبُّوا بَعضُكُم بَعضًا» (راجع يوحنا 34:13) من غير حدود. لم يقل أحِبّوا المؤمنين، بل قال «أحِبُّوا بَعضُكُم بَعضًا. وأَحبِبْ قَرِيبَكَ حُبَّك لِنَفسِكَ» (يو 15:12؛ غل 14:5). والقريب من غير حدود ولا تصنيف، هو كلّ إنسان.
دور رجال الدين، دور حاسم في التربية، في البيت والمدرسة أيضًا وفي كلّ المجتمع. لأنّ البيت أيضًا في حاجة اليوم إلى تنقية من كلّ المواقف الرافضة للآخر المختلف في دينه، ومن الأحكام المُسبقة المتناقَلة. يجب أن تمرّ العائلة بمرحلة تنقية وتبديل في الذهنيّات والمواقف من الآخر.
يجب أن يحدث تبديل في الذهنيّات والمواقف في المجتمع كلّه. المجازر والحروب الأهليّة ووحشيّة الأخ تجاه أخيه في هذه السّنوات الماضية، التي لم تنتهِ بعد، تقتضي تنقية وتبديلاً وانتقالاً من الموت إلى الحياة.
القاتلون باسم الله الباقون حتى الآن، أو الذين يربُّون قاتلين افتراضيّين بطُرُق التربية القديمة، يجب أن يبدّلوا هم أيضًا ممَّا في أنفسهم، ليكتسبوا روحًا جديدة، ويربُّوا رجالاً ونساءً قادرين على المحبّة واحترام الآخر المختلف في دينه.
المربّي هو أيضًا مدارسنا وجامعاتنا ووسائل الإعلام. تربية تقول إنّنا كلُّنا متساوون في الإنسانيّة والكرامة التي منحنا إيّاها الله. يجب على المسؤولين في المدارس الخاصّة والرّسميّة أن يطرحوا على أنفسهم السؤال: أيَّ نوع من المؤمن، المسيحيّ أو المسلم أو الدرزيّ، نُعِدّ؟ وأيَّ نوع من المواطن نُعِدّ؟ وأيَّ مستقبل نُعِدّ للوطن؟ كيف نربّي؟ هل نربّي لبناء وطن متماسك متراصّ بجميع الاختلافات في الدّيانات أو الأحزاب السياسيّة، أم نربّي على روح طائفيّة وحزبيّة، ونُعِدّ لحروب أهليّة باسم الدين أو الحزب؟
وأيَّ نوع من المؤمنين نريد؟ نريد مؤمنين ومواطنين، محبِّين وأقوياء، لا يستقوون على أحد بأحد، ولا يسمحون أن يستضعفهم أحد، قوّتهم في مقدرتهم على المحبّة، وعلى إيقاف كلّ اعتداء عليهم أو على غيرهم.
الفصل الثالث: ماذا نقول لصانعي السياسة في الغرب؟
الغرب ودمار الشّرق الأوسط
16. حينما نتكلَّم على الغرب أصبح من اللازم التمييز بين الأوجه المختلفة للغرب. ففي الغرب شعوب صديقة وطيّبة، وحضارات عريقة، وإنجازات إنسانيّة عالميّة كثيرة، ومنظَّمات خير وتطوير لا تُعَدّ ولا تُحصى. وكذلك في الغرب كنائس صديقة ومحبّتها تصل إلينا بتضامنها الروحيّ والمادّيّ.
ولكن في الغرب نفسه (في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكيّة) أهل سياسة، وصانعو القرار السياسيّ للشّرق الأوسط ولكلّ بلداننا. والموجِّه لهذه السياسة الغربيّة هي مصالحهم الاقتصاديّة والإستراتيجيّة في المنطقة، على حساب مصالح بلادنا. صحيح أنّ شعوبنا تطالب بإصلاحات وبحياة أفضل، ولكنّها لم تتوقَّع قطّ الدمار الذي حصل بسبب التدخُّلات الأجنبيّة. لقد تمّت التضحية بالإنسان وبشعوب المنطقة في سبيل مصالح أجنبيّة. ومرَّت معظم بلداننا بمرحلة دمار أحدثتها قوى داخليّة، تسندها أو خطَّطت لها قوى خارجيّة. بدأ الدمار بالعراق، ثم سوريا، وبتفكُّك الأوضاع في مصر. أمّا الأردن ولبنان فيعيشان تحت تهديد دائم. وتكوّنت صراعات أو أحلاف في اليمن والبحرين والعربيّة السعوديّة ودول الخليج. وتُعَدّ العُدّة اليوم للحرب مع إيران. هذا هو الوضع الذي نعيشه حاليًّا.
سياسة الدمار الغربيّة هذه في الشّرق هي نفسها التي تسبَّبت بقتل وتهجير الملايين من بلداننا، بمَنْ فيهم المسيحيّون.
وبهذه السياسة نفسها ظهر الإرهاب واستقرّ في بلداننا وارتدّ على الغرب نفسه الذي ولَّده.
وُلِد الإرهاب إذ لجأ صانعو السياسة أنفسهم في الغرب إلى أداة تنفيذ فعّالة لتغيير وجه الشّرق. فأوجدوا مع أحلافهم في المنطقة الدولة الإسلاميّة، داعش، بمواد بشريّة محلّيّة من عندنا، بما في النفوس من تطرّف وسوء فهم لدينهم. بعبارة أخرى ضربوا الناس بتديُّنهم. وفي داعش بلغ التطرّف الديني أقصى حدود القسوة واللاإنسانيّة.
وفي هذا الدمار، قال الكثيرون ومنهم صانعو القرار في الغرب: المسلمون المتطرّفون قتلوا المسيحيّين وقضوا على المسيحيّة في الشّرق. نعم، الظاهر هو هذا. هم متطرِّفون مسلمون الذين قتلوا مسيحيّين ومسلمين أيضًا (سنّة وشيعة)، ويزيديّين، وعلويّين، ودروزًا، وكلَّ من عارضهم. أمّا القاتل الحقيقيّ فهو أصحاب القرار في الغرب وحلفاؤهم في المنطقة الذين يريدون خلق شرق أوسط جديد، بحسب رؤاهم ومصالحهم.
صحيح أنّ شعوبًا مسيحيّة صديقة رفعت صوتها وأبدت تضامنها معنا. وصحيح أنّ الكنائس أَعربت عن تضامنها ومحبّتها. أمّا صانعو السياسة العالميّة، وأصحاب القرار لمصير المنطقة، فيجهلون وجودنا. سواء متنا أم حيينا فذاك بالنسبة إليهم سواء. فالخطر الذي يهدِّدنا ليس أنّ الله شاء لنا أنْ نعيش، مسلمين ومسيحيّين معًا، في هذه البلاد. بل الخطر هو الغرب السياسيّ الذي يحسب أنّه يجوز له، لضمان مصالحه، أنْ يدمّر شعوبنا ويُعيد تنظيمها كما يشاء.
نداء: إسرائيل والسلام في المنطقة
17. نناشد الشّعوب والكنائس وأصحاب النوايا الصّالحة في الغرب أنْ يتنبّهوا لحقيقة المأساة التي خلقها لنا قادته، وما زالت حتّى اليوم تزرع بيننا الموت. ليعرفوا ويصحِّحوا ما يمكن تصحيحه.
نناشد أصحاب القرار السياسيّ أنفسهم أنْ يبدِّلوا رؤيتهم وطُرُق عملهم: بدل تدمير المنطقة وإضعافها، تعاملوا معها باحترام حرّيّة الشعوب وكرامتها. وسيروا في طُرُق الحياة لا الموت.
أمّا إسرائيل التي تريد وتريدون أنْ تبقى، فبقاؤها مشروط بشرط واحد بسيط، وهو أَلاّ يكون بقاؤها على حساب بقاء الشعب الفلسطينيّ. ونؤكّد أنّ صداقة الشعب الفلسطينيّ هي باب الخلاص والبقاء لإسرائيل، وشرط ضروري لسلام حقيقيّ في المنطقة كلّها. وصداقة الشعب الفلسطينيّ ليست بالأمر الصعب. إنّها تعني التعامل معه على أساس العدل والمساواة والقرارات الدوليّة، والأخذ بالثوابت الفلسطينيّة، التي أصبحت أقلّ ما يمكن أنْ يطلبه شعب في وطنه: فقد اعترف الفلسطينيّون بدولة إسرائيل حيث هي، فلتعترف إسرائيل بدولة فلسطين على الـ 22 بالمئة الباقية من أرضها، بما فيها القدس الشرقيّة.
والقدس أبقوها في قدسيّتها، لا تجعلوها مدينة حرب. فهي مدينة مقدّسة للديانات الثلاث وعاصمة للشعبَين. من أحبّ المدينة المقدّسة جعلها مدينة سلام. أَعيدو السلام إلى القدس وإلى فلسطين وإسرائيل والمنطقة كلّها.
أمّا نحن المسيحيّين، فمستقبلنا مرتبط بما تقرِّرون لبلداننا. مصيرنا واحد. فإنْ قرَّرتم لها سلامًا وحياة، كان لنا سلام وحياة. وإنْ قرَّرتم لها الموت والدمار كان لنا أيضًا موت ودمار، كما تبيَّن ذلك في هذه السّنوات الأخيرة.
أنْ نعيش معًا مسيحييّن ومسلمين، فهذا شأننا. أمّا أنتم، صنّاع القرار في الغرب، فلا توظّفوا التطرُّف الدينيّ في سبيل إثارة الفتن بين شعوب المنطقة، ولا تقيموا بلدًا على بلد كما هي الحال اليوم.
الخاتمة: كيف نرى أنفسنا وواقعنا؟
18. المسيحيّون في الشّرق هم مكوِّن أصيل وجزء لا يتجزّأ من الشّرق مع كلّ مكوّنات الشّرق. لسنا شعوبًا أو بقايا شعوب يُفَرَّق بيننا في بلداننا. نحن اليوم كما صاغنا التاريخ، مدّة 15 قرنًا، منذ القرن الثامن وحتّى اليوم. هُوّيّتنا اليوم هي هُوّيّة بلداننا. نحن عرب وحضارات متعدِّدة عريقة، أشوريّة وكلدانيّة وسريانيّة وقبطيّة وأرمنيّة وبيزنطيّة. عشنا وما زلنا نعيش في أوطان عربيّة. ومع المسلمين والدروز نحن وطن واحد ومجتمع واحد.
وكما قلنا أكثر من مرّة، إنَّ التواجد المسيحيّ الإسلاميّ في الشّرق هو إرادة الله علينا، ومن ثمَّ جزء جوهريّ من كيان المنطقة ومصيرها.
القضيّة المسيحيّة، أو مستقبل المسيحيّين، ليست فقط قضيّة مسيحيّة، بل هي قضيّة المنطقة كلِّها بما فيها من مسيحيِّين ومسلمين ودروز.
داعش التي ساندها الغرب بيننا قلبت الأوضاع والرؤى. يبدو أنَّ «داعش» أنهت مهمَّتها المكلَّفة بها من قِبَل أصحاب القرار في الغرب، فهي على وشك المغيب، لأنّ الدمار العامّ المطلوب قد تمَّ. ولكنَّها تركت آثارًا عميقة في النفوس، تركت نزعة شبه صوفيّة لمقاتلة الكافر بأيّة طريقة كانت، وأيًّا كان، وأينما كان، عندنا وفي الغرب الذي ولّدها لدمار الشّرق فقط. أصبح الغرب نفسه ضحيّة نفسه وسياسته.
وبقيت عندنا تعكّر صفو عيشنا معًا، بالرغم من الاستقرار النسبيّ والتوازن الذي وصلنا إليه عبر الأجيال. قد أصبحنا بعد «داعش» نعيش تحدِّيًا، نواجهه معًا. معًا نرى ضرورة تربية إنسانيّة ووطنيّة ودينيّة مبنيّة على الإيمان بالله وبكلّ إنسان على أنّه خليقة الله الواحد الأحد.
لمن نوجّه رسالتنا؟
19. نوجّه هذه الرسالة إلى مؤمنينا، وإلى أنفسنا مسيحيّين ومسلمين ودروزًا. ونوجّهها إلى الغرب السياسيّ وإسرائيل.
لمؤمنينا نقول: اثبتوا في إيمانكم وفي أوطانكم وساهموا في بنائها، سواء بقِيتُم فيها أم أُجبِرتم على هجرها. نحن عدد قليل، ولكنَّنا «ملح ونور وخميرة»، ونحن كنيسة شهداء. كونوا مؤمنين محِبِّين بمثل محبّة الله لكلّ خلقه. وكونوا مؤمنين، وكونوا أقوياء بالمحبّة. وكونوا بناة لأوطانكم مع كلّ مواطنيكم، مشاركين في كلّ الآلام والتضحيات، من أجل ترقّيها وازدهارها. كونوا في قلب بلادكم صُنَّاعًا لتاريخها مهما كانت قسوة الناس أو الأحوال.
أمام الموت كيف نتصرّف؟ شهداؤنا بذلوا حياتهم لمجد الله، ولمزيد من المحبّة والإنسانيّة في هذه الأرض التي تحوَّلت إلى أرض قتلة. بذلوا دماءهم ليعود القتلة، القريبون أو البعيدون والمقنَّعون، بقوّة دم الشهداء إلى إنسانيّتهم، كما خلقهم الله، قادرين على الحبّ، لا على القتل.
شهداؤنا يُسمِعوننا كلمة المسيح الفادي تهدينا وتثبِّتنا في إيماننا: «ستُعَانُونَ الشِّدَّةَ فِي العَالَمِ، وَلَكِن ثِقُوا إِنِّي غَلَبْتُ العَالَم» (يوحنا 33:16). فلا تَضطَرِبْ قُلُوبُكُم وَلا تَفزَعْ (يوحنا 27:14).
ولأنفسنا، مسيحيّين ومسلمين ودروزًا، نكرِّر ونؤكّد أنّ مشيئة الله علينا هي أنْ نعيش معًا وأنْ نبقى جادِّين في البحث عن أفضل الطُرُق للعيش معًا، عالمين أنَّنا ما زلنا نبحث، وما زلنا على الطريق، والطريق أمامنا طويل.
ندعو المسيحيّين والمسلمين والدروز معًا إلى أنْ يتحمَّل كلّ واحد مسؤوليّته في تنظيم شؤون بلداننا، وفي التعامل مع الغرب، ومواجهة الدمار والانقسامات التي يريد أن يفرضها علينا.
نكرِّر ونؤكِّد ضرورة تجديد تربيتنا الدينيّة، في العائلة والمدرسة والرّعيّة، من أجل تأمين تربية منفتحة، قادرة على أنْ تخلق إنسانًا جديدًا وشرقًا جديدًا.
وللمرجعيّات الدينيّة الإسلاميّة والدرزيّة أيضًا دور رئيس. لها أنْ تعمل على معالجة أسباب الفكر الدينيّ المتطرّف، وعلى تجديد الخطاب الدينيّ لتكوين الفرد والإنسان الجديد، وتعزيز روح المشاركة وإشاعة روحيّة المودّة واحترام التعدُّديّة الدينيّة والفكريّة.
كما يهمُّنا، في هذه المرحلة الجديدة من تاريخنا، أن تسود الأُخُوّة الإسلاميّة في دار الإسلام، فتوجّه رسالة مشتركة إلى عالمنا العربي، الإسلاميّ والمسيحيّ، وإلى الغرب نفسه، رسالة تحمل رؤية جديدة، وحياة جديدة، تقتضيها المرحلة التاريخيّة التي نمرّ بها.
للغرب السياسيّ ولإسرائيل نقول: من الممكن أن نعيش معًا. إنْ ثبَتُّم في طُرُق الموت سيبتلعنا الموت يومًا جميعًا، نحن وأنتم. تنبّهوا، بدّلوا سياستكم المدمِّرة لبلداننا، ولنا نحن المسيحيّين في الشّرق. سيروا في رؤى جديدة، رؤى حياة واحترام لشعوب المنطقة. الحياة أمر ممكن. والسلام أمر ممكن. اخرجوا أنتم أيضًا من مصالحكم لتروا الله الذي خلقكم، وأمركم باحترام جميع الشعوب.
إنّ السّلام في القدس وفي فلسطين وإسرائيل هو مفتاح السّلام في المنطقة وفي الغرب نفسه. وهو أمر ممكن إنْ توفّرت النيّة الصّادقة والإرادة لصنع السّلام.
نحن بحاجة إلى شرق أوسط جديد لا يصنعه غيرنا، بل نصنعه نحن أهله، ولا يكون بتبديل حدوده وجغرافيّته وشعوبه، بل بتبديل القلوب. الشّرق بكلّ أهله هو الذي يصنع الشّرق، ولا يمليه عليهم الغرب. شرق يصنعه أبناؤه أسيادًا في بلدانهم، مسلمين ومسيحيّين ودروزًا. كلّ إنسان مساوٍ لكلّ إنسان، ولا أحد يفرض سيطرته على أحد، لا من حيث الدّين ولا من حيث السياسة ولا من حيث القوّة العسكريّة. والمسيحيّون في هذا المشروع، مسهمون في الخلق الجديد، خلق عالم يفيض بالخير والتعقّل والمحبّة والتعاون في ما بين جميع أبنائه، ومع العالم كلّه.
لهذا نصلّي، ونقول: «أرسِلْ رُوحَكَ، يَا رَبّ، ليُجَدِّدَ وَجهَ الأَرضِ» ووجه بلداننا (راجع مزمور 30:104)، ويبدّل قلوب الناس فيها.
نسأل الله أنْ يملأنا جميعًا بروحه، ويلهم الجميع، المسيحيّين والمسلمين والدروز في كلّ بلداننا، والغرب السياسيّ وإسرائيل، فيصبح الجميع صانعي سلام وبناة للإنسانيّة والمحبّة في الشّرق الأوسط وفي العالم كلّه.
«أرسِلْ رُوحَكَ، يَا رَبّ، ليُجَدِّدَ وَجهَ الأَرضِ» (راجع مزمور 30:104).