الرهبنة القبطية… عبقرية مصرية

الرهبنة القبطية… عبقرية مصرية

بقلم: كمال زاخر موسى

تحتل المنظومة الرهبانية موقعاً أثيراً في الذهنية القبطية، لأسباب عديدة يأتي على رأسها أنها تحمل صورة ايجابية على ارض الواقع لكبح جماح ” الأنا ” والتخلي عن النوازع الذاتية التي تقف وراء المنازعات والصراعات والحروب، بل وكل ما يشهده المرء من انشقاقات على أصعدة متعددة بدءً من الأسرة الصغيرة وصولاً إلى الدول والكيانات العالمية الكبرى .

وقوة الرهبنة أنها اختيار شخصي بملء الإرادة، غير ملزم للغير، ولعل من يعود للجذور الأولى يرى هذه الحقيقة في مؤسسها الشاب المصري الثرى أنطونيوس (251-356) الذي لم يتخذ قراره بالتوحد وتبنى النسك والفقر الإختياري والابتعاد عن ضوضاء العالم بناء على قرار كنسي أو تعليمات تنظيمية من أحد رجال الإكليروس، بل كان دافعه السعي للكمال بحسب تحليله لقول السيد المسيح “إن أردت أن تكون كاملا فاذهب وبع أملاكك وأعط الفقراء فيكون لك كنز في السماء وتعال اتبعني” (مت 19 : 21) في حديثه لشاب غنى سأله عن الطريق للكمال.

ولأن الرهبنة حركة شعبية مدنية فقد مرت في تطورات متلاحقة عبر روادها الأوائل للتوافق مع احتاجاهم ولتصب في الهدف الذي رسمه هؤلاء المؤسسون، ويرى فيها بعض المحللين صورة من صور المقاومة والتعبئة الشعبية في مواجهة المحتل الأجنبي، وصورة من صور الاحتجاج على بطشه وجوره، بل وكانت سنداً قوياً للكنيسة في مواجهة البدع التي كادت أن تعصف بها وكانت مدعاة لعقد مؤتمر عالمي (مجمع مسكوني) لمناقشة أخطرها فيما عرف ببدعة أريوس والتي تعرضت لماهية السيد المسيح نفسه وتصدى لها شاب مصري أخر هو الشماس اثناسيوس (البابا اثناسيوس الرسولى فيما بعد) وشهدت الكنيسة آنذاك دوراً تعليماً شديد التأثير للقديس انطونيوس الذي ترك مغارته ونزل للإسكندرية يجوب أركانها مثبتاً للإيمان في صورته الصحيحة وهو ما امتن له البابا اثناسيوس وكان محل تقديره، لكن هذا لم يغر مؤسس الرهبنة بالبقاء في المدينة فعاد أدراجه لعزلته وحياته الرهبانية، ولم يدفعه للسعي للمشاركة في إدارة الكنيسة أو حتى الجلوس في مقاعد المستشارين. ومن مصر ـ وسوريا وانطاكية ـ انطلقت الحركة الرهبانية لكل العالم، وتشهد اوروبا في القرن السادس تأسيس العديد من الأديرة على يد القديس بندكت على نسق الرهبنة المصرية بكل أطيافها، وتشهد جبال سويسرا أحد تجليات الرهبنة المصرية عبر ما عرف بـ “الكتيبة الطيبية” نسبة إلى العاصمة المصرية القديمة “طيبة ـ الأقصر” بقيادة القديسين المصريين “موريس وفيكتور (بقطر)”.

ولأن الرهبنة بنت مجتمعها وثقافته، فقد تأثرت الرهبنة الغربية بالثقافة الغربية فشهدت تطوراً في آليات عملها فبجانب الرهبنة التليدية المتمسكة بالقواعد الأساسية للرهبنة (النسك والعزلة والبتولية والفقر الإختيارى والطاعة) ظهرت دعوات رهبانية عديدة إضافة إلى نذورها خدمة المجتمع واستطاعت أن تعيد إنتاج القيم المسيحية بشكل ايجابي ولعل أكثرها شيوعاً رهبنة الآباء اليسوعيين التي تبنت التفاعل عبر وسائل الإتصالات الاجتماعية والاهتمام بالفقراء والمهمشين وتعليم وتربية النشء والشباب .

لكن الأمر لم يكن بهذه الصورة الوردية، فقد شهدت الكنيسة الغربية إخفاقات وانهيارات بل ومعارك ضارية كادت تودي بها، لكنها لم تستسلم لها فقد تواجهت مع واقعها بشفافية وحزم وموضوعية، فبعد حقبة محاكم التفتيش التي واجهت بها الكنيسة هناك حركة الانشقاق الإصلاحي التي فجرها الراهب الألماني مارتن لوثر (1483، 1546)، وقد بدأت موجة هذه المحاكم في أوائل القرن الثالث عشر بقرار من البابا جرينوار التاسع عام 1233، ويستمر الانحدار وتبنى منهج القمع حتى مطلع القرن السادس عشر عندما عقد مجمع مسكوني في مدينة ترنت (تورنتو) الإيطالية استمر (1545 ـ 1563)، ليضع تصوراً للإصلاح الداخلي، ويحدد بعده البابا خليفته بولس الخامس فقد اتخذ شعاراً هو: «لا يستطيع المرء أن يدبر الآخرين إن لم يستطع تدبير نفسه»، فبدأ إصلاحه بالشخصيات الكبيرة من رجال الإكليروس، ولم يمكن أحداً من أقاربه من استغلال هذه القرابة لتغيير وضعه المادي والاجتماعي. وأكمل إصلاح دوائر المقر البابوي، واتجه نحو إصلاح أخلاق رجال الكنيسة وتطبيق النظام عليهم، فعين مفتشاً عاماً يقدم له التقارير عن رؤساء الأساقفة الذين يغادرون أبرشياتهم. ووضع للكهنة تحت نظاماً صارماً يقضى بأن لا يتركوا كنائسهم الرعائية وإلا تعرضوا لعقوبات قاسية، ونظّم العلاقات بين الرهبان والأسقف المحلي وفرض نظاماً قاسياً على الراهبات. ولما كان تدخل وجهاء الرعية، أو بلغة عصرنا رجال الأعمال، والحكام المتكرر من أسباب انحطاط الكنائس والأديرة فقد تناول الأمر من جذوره فمنع، تحت طائلة الحرمان، كل تدخل من جانبهم في شؤون الكنيسة، كما فرض على الأمراء احترام الإكليروس وأنكر عليهم حق منحهم الوظائف.

وعلى جانب أخر وقد حرص وفقاً لقرارات المجمع على وضع استراتيجية تعليمية موثقة تتولى ضبط وشرح العقائد الرئيسية التي حددها المجمع على مستوى الجميع بوساطة كتاب «التعليم المسيحي الروماني»، فأصدر كتاب التعليم وكتاب القداس وصلوات الفرض للكهنة. وحددت هذه الكتب نتائج المجمع الذي أمر بالتعليم والوعظ والاعتراف، ولم يقبل في صفوف من يتولى مهمة الرعاية والتعليم سوى رجال في مستوى رفيع من الثقافة والعلم كرسوا أنفسهم للتعليم، لتنطلق مسيرة الإصلاح والنهضة والتي لم تتوقف حتى اليوم، ولعل سبب نجاحها اقتناع القائمين عليها بأنهم لم يصلوا بعد للصورة المثلى، بل يراجعون واقعهم بشكل منتظم ولعل ابرز هذه المراجعات كان المجمع الفاتيكاني الثاني (1962 – 1965) والذي وضع الكنيسة مرة أخرى في مكانها الصحيح على خريطة العالم، وهو ذاته محل مراجعة اليوم لتصيح ما أفرزته تجربة التطبيق .

فإذا عدنا إلى واقعنا القبطي وفى وجود قيادة مستنيرة تتمثل في قداسة البابا شنودة الثالث الذي نذر حياته لقضية الإصلاح الكنسي منذ شبابه المبكر، واستثماراً لطاقات نادرة توفرها لنا منظومة الرهبنة اليوم، وهى تضم علماء تلقوا دراسات عليا في أرقى الجامعات الأرثوذكسية في العالم وخاصة جامعة جبل آثوس باليونان، نلمس حاجتنا لمراجعة واقعنا قياساً على الزخم الآبائي العريق، واسترشاداً بتجارب كنائس تقليدية شقيقة، عرضاً هنا جانباً منها، وتطلعاً لتوفير مناخ اكثر ملائمة لتفعيل رسالة الكنيسة السلامية في عالم مضطرب، هي تملكه وهو يحتاج اليها.

وقد طرحنا كتيار علماني استشعر الخطر مبكراً رؤى محددة في هذا الدرب الطويل عبر مؤتمراتنا الثلاثة، ومازلنا نعد المزيد منها لنضعه بين يدي القيادة الكنسية، لنصل معاً إلى تحقيق الصورة التي رسمها رب المجد لكنيسته “واحد مقدسة جامعة رسولية”.

يتحمل الكاتب مسئولية أفكاره والموقع غير مسئول عنها.

كمال زاخر موسى

Kamal_zakher@ hotmail.com