السوريون المسيحيون: اترك أرضك وعشيرتك إلى الأرض التي أريك

السوريون المسيحيون: اترك أرضك وعشيرتك إلى الأرض التي أريك

بقلم ابراهيم حسكور

روما, 4 ديسمبر 2013 (زينيت) – الأزمة السورية ككل الأزمات الكبرى تعيد إلى السطح مسألة الهويات وتطرح من جديد مسألة الوجود المسيحي في سورية على بساط البحث مع تنامي خطاب وممارسات طائفية في ظل الصراع السوري الحالي .

غالبا ما يتم الحديث حالياً عن الوجود المسيحي عبرواحدة من الزوايا  التالية :

1-  التأكيد على دور المسيحيين التاريخي في بناء أوطانهم.

2- “العتب” على المسيحيين في عدم اتخاذ موقف “واضح” من الأزمة الحالية.

3- خوف المسيحيين وهجرتهم خارج الشرق الاوسط.

1-  التأكيد على دور المسيحيين التاريخي في بناء أوطانهم.

غالبا ما يتم استحضار الأمثلة التاريخية – وهي عديدة-  لتأكيد انتماء المسيحيين لوطنهم في مواجهة خطاب مشكك يتسم على الأغلب بلغة إسلاموية يريد  دمج سورية في مشروع أكبر هومشروع الأمة وما الوطن السوري إلا مقدمة أوخطوة لا بد منها  نحوهذا المشروع .

المشكلة في هذا الخطاب السردي لمآثر المسيحيين أنه تبريري ودفاعي ويستند غالبا على الماضي ويبدو أنه يستدر عطف الآخرين في محاولة  لانتزاع مساواة ينكرها عليهم خطاب يرى في التعددية خطرا على وحدة الأمة .. هذا الخطاب لم تعد له آذان صاغية لدى عامة  قد يكون مرجعها الوحيد ثقافيا هو أمام مسجد الحي أوالدعاة على الانترنت.

2- العتب على المسيحيين في عدم اتخاذ موقف “واضح” من الأزمة الحالية  :

جاء هذا العتب من  مسيحيين وغير مسيحيين .

أنصار المعارضة كانت دعواتهم ترتكزعلى” وهم حماية النظام للأقليات لأن النظام في النهاية لا يحمي إلا نفسه” وذهب البعض إلى استعمال لغة تهديد “للحاق بركب الثورة قبل أن يصبح الوقت متأخرا” مهددا طبعا بمسلسل تصفية حسابات  لمن سيعتبرمن “شبيحة” النظام ..

البعض من المسيحيين استعمل لغة فحص الضمير (وهي ممارسة يتعلمها أطفالنا مبكرا في دروس التعليم المسيحي) كونه (من أهل البيت) لإجراء نقد ذاتي في تعامل المسيحيين مع الأزمة وخفوت صوتهم في تنديدهم  بالتجاوزات التي حصلت في الأشهر الأولى منها  والتي كان من الممكن أن تمنع تدهورها وأخذها هذا المنحى الطائفي .تأخذ هذه الأصوات على  المسيحيين “تمسكهم  بمكاسبهم والحفاظ عليها أكثر من حفاظهم على الوطن”.

3- خوف المسيحيين وهجرتهم خارج الشرق الاوسط :

البعض (وهم في غالبتهم من المسيحيين) يدقون ناقوس الخطر مع تنامي استهداف الجهاديين القرى والأحياء المسيحية وإفراغ مهد المسيحية من سكانها الاصليين .

البعض الآخر شكك أصلا في تأصل شعور المسيحيين بالانتماء مؤكداً ميلهم للهجرة مع أول صعوبة تعترض البلاد.  ..

في محاولة متواضعة لترتيب بعض من الأفكار الواردة أعلاه وإغناء النقاش الدائر حالياً حول المسيحيين في سورية  أعرض الأفكار البسيطة التالية :

أ- المسيحيون في سورية ليسوا كتلة واحدة .

فسيفساء الطوائف المسيحية في سورية تعود جذورها إلى القرن الخامس وجدالاته الكريستولوجية (المتعلقة بشخص المسيح) نتيجة تلاقي (أوتصادم) الثقافة السامية الآرامية التي نشأ في حضنها التقليد اليهودي-المسيحي  والثقافة الهلينية المهيمنة على شرق المتوسط منذ فتوحات الاسكندر في القرن الرابع قبل الميلاد . سرعان ما اكتسب الخلاف الثقافي-اللاهوتي طابعا سياسيا بين من رفض مصطلحات وتحديدات “المستعمر “اليوناني ومن أراد أن يبقى على “تراثه” الآرامي . ما زال هذا الانقسام يجد بعض أصدائه في الوقت الحالي عبر خطاب  بعض الطوائف المسيحية السريانية الذي  ينادي  تصريحا او تلميحا  ب”أسبقية” أو مشروعية أكبر في تمثيل المسيحية السورية.

البعثات التبشيرية الكاثوليكية في القرنين ال17 و18 أضافت انشقاقا آخر في صفوف المسيحية المشرقية والسورية عند دخول (والبعض قد يسميها عودة) جزء من هذه الطوائف إلى الكثلكة لتضيف إلى انقسام رومي (بمعنى يوناني) /سرياني انقساما آخر : شرقي أرثوذكسي / “غربي” كاثوليكي .   

حتى اجتماعيا وجغرافيا  السوريون المسيحيون ليسوا متجانسين . فالكاثوليك يتمركزون في غالبيتهم في المدن الكبرى كدمشق وحلب والعديد منهم ينتمي للطبقات المتوسطة والغنية لأسباب تاريخية تعود إلى احتكاكهم قبل غيرهم بالبعثات التبشيرية الكاثوليكية في القرن17 موما تبع ذلك من انفتاح ثقافي وتجاري على الغرب.      

الأرثوذكس (باستثناء الارمن في شمال سورية والجزيرة)  يتوزعون في الغالب في مدن وأرياف المنطقة الوسطى والساحلية  . انفتاحهم على الغرب تأخر بعض الشيء عن انفتاح الكاثوليك في العهد العثماني الذي لم يعترف إلا بهم “كملّة”مسيحية بإدارة بطريرك القسطنطينية (استانبول فيما بعد) . قد يفسر هذا بعض الشيء “اندماجهم” في الحياة السياسية السورية أكثر من الكاثوليك خاصة أن مؤسسي الأحزاب (باستثناء الإسلامية طبعا) ينتمي أغلبهم للروم الأرثوذكس . لقد كانوا أيضا بحكم تواجدهم في الريف أكثر قبولاً  من الكاثوليك  لطروحات البعث العربي وشعاراته في المساواة والإصلاح الزراعي  وما يعطي هذا من انطباع باهتمامهم بالشأن العام السوري ومؤسساته أكثر من الكاثوليك .

لا يشكل الإنجيليون إلا قسما بسيطا من المسيحيين ولو أنهم قدموا واحداً من أهم رجالات السياسة في تاريخ سورية المعاصر : فارس الخوري.

ب- ليس للسوريين المسيحيين  أية أجندة سياسية أو دينية :

لعلهم في هذا يطبقون قول المسيح (أعطوا لقيصر ما لقيصر ولله ما لله) المسيح الذي خيب آمال معاصريه في  القيام “بحراك سياسي” ضد الرومان .

الأحزاب السياسية التي قام بتشكيلها المسيحيون في سورية والشرق الأوسط عموما اتسم أغلبها بالخروج عن إطار الطائفة الضيق إلى انتماء  أشمل (قومية عربية , قومية سورية , أممية شيوعية) كبديل عن المشروع الوحيد المطروح منذ الفتح الإسلامي . قد تكون في تحركاتهم هذه رد فعل أقليات تقاوم الذوبان في محيط أكبر قد يحرمها حقوقها وذهبت أدبيات البعض إلى التشكيك حتى بالقومية العربية ووصفها كمشروع  مستورد صنعه مسيحيون تأثرا بالحركات القومية التي نشأت في أوروبا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. قد يملك هذا الطرح جانبا ًمن  الحقيقة لكنه لا يستطيع أن ينزع عن مشروع القومية العربية حداثته مقارنة مع ما كان مطروحا من مشاريع انتماء حينها .  

حتى قبل الفترة الحديثة والمعاصرة كانت “موالاة” المسيحيين “للأنظمة” التي عاشوا في ظلها تتمثل غالباً في  خدمة المؤسسات القائمة والصالح العام بما فيها مؤسسات و”دواوين” الخلافة الإسلامية .

قد يشذ عن هذا السياق الأحزاب التي شكلها المسيحيون ذوو الثقافة الآرامية من سريان وآشوريين والتي لا تنحصر في الإطار السوري وإنما في إطار جغرافي أوسع تقلص مع الزمن بفعل مأساة الحرب العالمية الأولى بعد نشاط تبشيري اتجه شرقا منطلقاً من بلاد ما بين التهرين وفارس  (بحكم وجود الامبراطورية البيزنطية في الغرب ) ليصل إلى الهند والصين. يغلب على هذه الأحزاب بتصوري طابع المنتديات الثقافية التي تتغنى بنوع من ميتولوجيا ماض مجيد ترى فيه ضرورة بقائها . 

ج-خوف المسيحيين هونتيجة قرن كامل من أزمات الهوية.

أطلقت الحرب العالمية الأولى رصاصة الرحمة على أنموذج الامبراطورية المتعددة القوميات بسقوط الامبراطوريتين العثمانية والنمساوية-الهنغارية لتفتح المجال أمام ظهور نموذج الدولة-الأمة ونشوء دول عديدة على أنقاض هاتين الامبراطوريتين بعد نضال دام عقودا من أجل “الاستقلال”(اليونان ودول البلقان) . النهضة العربية في القرن التاسع عشر لم تكن بعيدة عن تلك التيارات ولو انقسم مفكروها بين من طالب باستقلال العرب التام ومن مطالب بالحفاظ على الهوية العربية ضمن المظلة العثمانية.

لم يلتقط العرب أنفاسهم بانتهاء الحرب العالمية الأولى حتى اكتشفوا ما كان يحاك لهم من مخططات ووجد العرب أنفسهم بين ليلة وضحاها تحت “وصاية” لم يطلبوها .

المرحلة الأولى من النضال ضد الانتداب الفرنسي (العشرينات من القرن الماضي)  اتسمت بالعمل المسلح والثوري كان رواده في أغلبهم من سكان الريف السوري من حارم إلى جبل الدروز. هذه التحركات قمعها الفرنسيون بشدة . عندها دخل النضال السوري ضد الفرنسيين في الثلاثينات المرحلة السياسية واضطلع بهذا الدورالبرجوازية التقليدية في المدن من ملاك الاراضي وأصحاب الفعاليات الاقتصادية. هؤلاء هم من تم على يدهم وضع اللمسات الأخيرة لاستقلال سورية في الاربعينات.

الخمسينات كان عقد الغليان للأيديولوجيات التي كانت تختمر في العقود السابقة : البعث والقومي السوري والشيوعي مع وجود التيارات الاسلامية .

الوحدة مع مصر كانت المسمار الأول الذي دُقّ في نعش الحياة السياسية السورية دون أن نضفي على العقود السابقة أية مسحة مثالية. فالأحزاب حُلت والنظام البوليسي ضيق هامش أي تحرك سياسي. في فترة الوحدة هذه هاجر العديد من أصحاب رؤوس الأموال إلى الخارج وخاصة  لبنان نتيجة القوانين الاقتصادية الكارثية التي أصدرها عبد الناصر . العديد من هؤلاء كانوا من المسيحيين.

الستينات كان عقد “البلاغ رقم واحد” الذي عاد فيه السوريون إلى “النشاط” الانقلابي الذي عرفوه 3 مرات سنة 1949 وما صاحب ذلك من فشل سياسات التصنيع و”الإصلاح الزراعي” وما رافقها من هجرة إضافية للعقول ورؤوس الأموال .

وضمن هذا المد الموصوف بالقومي والاشتراكي من قبل المدافعين عنه تم تأميم المدارس “الأجنبية” عام 1967 . هذه المدارس التي كان  يديرها رهبان كاثوليك في أغلبهم والعديد  منهم من المرسلين الأجانب والتي  تخرّج منها نخبة المجتمع السوري الذي قاد البلاد إلى الاستقلال لم يعد وجودها مقبولا ضمن أيديولوجيات اللون الواحد التي تحملها أحزاب ذات خطاب متخشب وصلت إلى الحكم بدبابة العسكر .

الرخاء الاقتصادي الذي أصاب البلد في السبعينات وأزمة البترول الاولىبعد حرب تشرين وتضامن العرب مع دول المواجهة كان قصير الأمد مع انفجار الصراع بين السلطة والإسلاميين في نهاية السبعينات.

وسط كل هذا الغليان السياسي وإفلاس المشاريع الإيديولوجية غير الإسلامية  حاول المسيحيون كالعادة الحفاظ على ولائهم للدولة-المؤسسة كضامن وحيد للسلم الاجتماعي لكن نجاح النظام الحاكم في تماهي  الدولة- النظام بالدولة – المؤسسة وجعلهما واحدا أظهر  المسيحيين بمظهر الموالين “على الغميضي” لكل ما تقوم به  السلطة .

الفراغ السياسي والسلطوي هوما يخشاه المسيحيون إذ ليس في جعبتهم مشروع بديل جاهز مع بناء أيديولوجي متين بعكس المشروع الإسلامي .

الأزمة التي اندلعت في سورية عام 2011 ما هي الإ حلقة من سلسلة طويلة من أزمات نتجت عن عدم تحديد الهوية التي تربط المواطنين بعضهم ببعض .

وسط كل هذا التخبط وأمام ثقافة بعيدة عن عقلية المليشيات و”وحدات الحماية الشعبية” كان أمام المسيحيين خيار من اثنين : البقاء وتحمل ما يتحمله الباقون وقد ساهم العديدون منهم في إنشاء  مراكز إغاثة  في زمن قياسي مع توافد النازحين  مستعينين بسابق خبراتهم في مؤسسات الكنيسة الاجتماعية , أو الرحيل أسوة بكثيرين غيرهم .

في هذا السياق يبدو استجواب المسيحيين عن أسباب رحيلهم واتهامهم الظاهر أو المبطن بعدم الانتماء لا يكشف إلا نصف الحقيقة . النصف الآخر تتم معرفته باستجواب وإعادة قراءة تاريخ المنطقة منذ الفتح الإسلامي . هجرة المسيحيين لا يتحمل مسؤوليتها المسيحيون وحدهم ,هذا إن لم يتحمل الآخرون المسؤولية الأكبر بحكم أغلبيتهم العددية وسيطرتهم على مفاصل  الحكم, على الأقل الاجتماعية منها والاقتصادية.

إن اتخاذ سلوك المسيحيين في الأزمة الحالية (والذي هو عرض أو نتيجة وليس سببا) منظاراً أوحد لقراءة  ألفي سنة من التاريخ هو خطأ منهجي لا بد أن يقود إلى  خطابات طائفية الطابع الجميع في غنى عنها .

إن موضوع الوجود المسيحي في سورية متشابك ويحتاج إضاءات متعددة من شتى العلوم الإنسانية من التاريخ إلى الأنثروبولوجيا إلى علم الاجتماع الديني وكاتب الأسطر السابقة لا يدّعي أي اختصاص فيها.