الشيزوفرينيا الروحية

الشيزوفرينيا الروحية

إعداد الأخت سامية صموئيل

من راهبات القلب المقدس – يناير 2014

 

أصل تسمية الشيزوفرينيا ( الفصام )

     كان الفصام  يسمى سابقاً بمرض العَتَه المبكر إلى أن أعطاه الدكتور بلويلر عام 1911 التسمية المتعارف عليها حالياً بالشيزوفرينيا «Schizophrenia» وهذا المصطلح مشتق من الكلمتين اللاتينيتين «Schiz» ومعناها الانقسام،  «Phrenia» ومعناها العقل.
    ويقصد بمرض الفصام “الشيزوفرينيا” ضعف الترابط الطبيعي المنطقي بالتفكير، ومن ثم السلوك والتصرفات والأحاسيس. فيمكن للشخص نفسه أن يتصرف ويتكلم ويتعامل مع الناس بطريقة تبدو طبيعية تماماً في بعض الأحيان، ولكنه قد يقوم ببعض التصرفات الغريبة وكأنه شخص آخر في أحيان أخرى. كل هذا يكون بسبب الضلالات التي تنتاب هذا المريض وما يصاحبها من تهيؤات وأوهام يتهيأ له أنها تحدثه أو تأمره بالقيام بأفعال غير منطقية.

الشيزوفرينيا الروحية

     الشيزوفرينيا الروحية (الفصام الروحي) ببساطة هى الاعتقاد بأن علاقتنا مع الله تقتصر على دور العبادة، وحضور الصلوات، والقداسات، والاجتماعات فقط، دون أن نعطي مكان للرب في تفاصيل حياتنا ،  في عملنا، أو في دراستنا. وهي أيضَا الظهور بمظهر مختلف عن داخلنا، أي إننا نقوم باظهار صفات خارجية، وطريقة حياة يرضى عنها المجتمع، لنظهر بصورة حسنة ولائقة، دون تحسين الداخل.

والفصام الروحي مرض قديم كقدم التاريخ نفسه، والعهد القديم يعطينا العديد من الأمثلة نذكر منها:

1)  في ( 1 ملوك 18 : 21 ) نجد نزاعاً شديداً حدث بين إيليا وأنبياء البعل ، فصرخ إيليا إلى بني إسرائيل وقال لهم: ” حتى متى تعرجون بين الفرقتين إن كان الرب هو الله فاتبعوه ، وإن كان البعل فاتبعوه” .

2)  في ( ملوك الثاني 17 : 33 ) نجد صورة هذا القلب المنقسم أو ما نطلق عليه الشيزوفرينيا الروحية متمثلة في هذه الكلمات ” كانوا يتقون الرب ويعبدون آلهتهم” .

كما نجد أن الكتب المقدسة استخدمت عالم الرومانسية لتوضيح صورة القلب المنقسم. فقد حاولت دليلة إغراء شمشون لكي تكشف سره الروحي ، أما هو فظل ساخراً منها لفترة طويلة . يخبرنا سفر القضاة (16 : 15)  بما قالته دليلة لشمشون في النهاية:  ” كيف تقول أحبك وقلبك ليس معي”.

وفي العهد الجديد ، وبخ الله أعضاء كنيسة لاودكية بقوله ” إنك فاتر ولست باردا ولا حارا أنا مزمع أن أتقيأك من فمي” ( رؤيا 3 : 16 ). ويسوع نفسه تطرق إلى مشكلة القلب المنقسم فقال: لا يقدر أحد أن يخدم سيدين لأنه إما أن يبغض الواحد ويلازم الآخر أو يلازم الواحد ويحتقر الآخر . لا تقدرون أن تخدموا الله والمال” (لوقا 16 : 13 ).

وكتب الرسول بولس عن هذا الانقسام الداخلي بين الانحصار في الذات والولاء للمسيح في ( 1 كورنثوس 10 : 21 ) إذ قال ” لا تقدرون أن تشربوا كأس الرب وكاس شياطين”.

الشيزوفرينيا الروحية هي انقسام القلب بين الله والذات ، فهو يخضع خضوعاً جزئياً لله. وأكثر الناس تعاسة هم الذين يتوسطون بين نقطتين، فهم أبناء الله في الأصل ولكنهم ينكرون سيادة الله الكاملة على حياتهم، وبالتالي هم يعيشون في صراع داخلي.

 الشيزوفرينيا الروحية وحياتنا

معظمنا مصاب بالشيزوفرينيا الروحية، فكثيرا من الأحيان نكون في الكنيسة علي غير ما نحن عليه خارجها، ففي الكنيسة نصلي ونتضرع ونستمع إلي الكلمات السامية والتي يفترض فينا أن نعيشها كلمة كلمة، ثم نجد أنفسنا خارج الكنيسة مختلفون تمام الاختلاف عما كنا عليه. في الكنيسة نتضرع لنستمد الصلاح، وخارجها ندعي الصلاح في كل شئ. في كل منا شخصان لا شخص واحد، الشخص كما هو داخل الكنيسة، والشخص كما هو خارج الكنيسة. نكتفي بالكلمات ولا نتجاوزها إلى الأعمال، الكثيرون يتأثرون بالعظات وبالبرامج الدينية، أو بقراءة الكتاب المقدس، ولكن كل هذا لديهم  يظل مجرد كلمات دون أن تتحول إلي برنامج حياتي، تتناثر الكلمات هنا وهناك ونبقي نحن في أعمالنا حيث كنا .

     هناك قول لغاندي موجه للمسيحيين يعبر عن هذا الإنفصام:

 

”  أنا مُغرم بمسيحكم ، ولكني كرهت مسيحيتكم،

اعطوني المسيح وخذوا مسيحيتكم،

لم أجد في مسيحيتكم، المسيح الذي تتكلمون عنه”

 

هذه الكلمات وإن كانت قاسية إلا إنها معبرة عما يعيشه الكثيرون منا، وكأن هناك فصل بين المسيحية والمسيح، لا أستطيع ان اقول أنا مسيحي طالما مسيحيتي والمسيح أمران مختلفان. لا أستطيع أن أحمل إسم “مسيحي” وأفتخر بذلك طالما مسيحيتي لا تشبه المسيح بأي شيء. لماذا نعيش هذا التناقض؟ وهناك بعض الأمثلة على ذلك:

–  أمارس الأسرار المقدسة في الكنيسة، واتناول جسد الرب ودمه،  والفرح بقلبي والدمعة بعيني وأنا متأثر جداً من لحظة اللقاء مع الرب يسوع، وعند عودتي إلى المنزل أو العمل، استخدم أسلوبَا عدائيَا مع من أتقابل معهم. ربما يصل إلى ظلم البعض، فهل لهذا من تفسير؟ ما هذا الإنفصام بين موقفي داخل الكنيسة وخارجها؟

 –   أضع سلسلة في رقبتي وبها الصليب، لأفتخر بأنني مسيحي، وفي الوقت عينه لم اخلع الشتائم القاسية من فمي. ماذا يعني هل أريد أن احمل في رقبتي الصليب والشتائم أيضَا؟. ألم يحن الوقت لنوقف هذا الإنفصام؟

 –   أضع دائماً الترانيم في بيتي أو في السيارة، وأستمع إلى القنوات الدينية،  وفي الوقت عينه لا أطيق أولادي أو شريكي ولا أستطيع التعامل معهم ، وربما أكون في مخاصمة مع أحدهم.

 وهناك الكثير من الأمثلة التي تواجه كل منا، سواء في أسرنا، أو في أماكن عملنا، لذلك لا بد ان نكون على وعي بما نقوم به من أفعال ، ومراجعتها على ضوء علاقتنا بالمسيح. حتى تكون مسيحيتنا شبه المسيح. ونبشر بإله نحمل إسمه ونشبهه.  وقتها يتقبل الناس كلامنا، ويحبون المسيح الذي فينا، وتتحول كلمات غاندي من: “لم اجد المسيح الذي تتكلمون عنه في مسيحيتكم ” إلى ” لقد وجدنا المسيا” يعيش بيننا من خلال المسيحيين.

 فهل تساءلنا يومَا لماذا هذه الازدواجية ؟

       هذه الازدواجية هي نوع من أنواع الشيزوفرينيا. فإن كانت الشيزوفرينيا كمرض تنتج من ضعف الترابط الطبيعى المنطقى بالتفكير، فالشيزفرينيا الروحية تنتج بسبب ضعف الترابط الطبيعى بين الانسان والله. فبينما نجد أن الوحى الإلهى يكلمنا قائلاً “فى كل شئ نظهر أنفسنا كخدام الله” (2 كو 6: 4) إلا أننا نقتصر ظهورنا كخدام الله داخل الكنيسة فقط. أما خارج الكنيسة فتنتابنا صفات أخرى لا تمت بصلة للمسيحية ولا للروح القدس الذى فى داخلنا وكأننا قد حبسنا الله داخل جدران الكنائس ودور العبادة، وحينما نقابله نظهر له الوجه الذى يرضيه، بينما نحن خارج الكنيسة لا نرى الله فنظهر الوجه الآخر. نحن نعيش حالة من التناقض أحيانا، من جهة ميولنا : نتعامل بأسلوب عذب مع الأصدقاء أو زملاء العمل أو من نقابلهم على طريقنا، ولكننا مشحونين بغضب جامح تجاه أفراد عائلاتنا وتجاه من نعيش معهم في جماعاتنا المكرسة ، وكنائسنا… الخ، متأرجحون بين الحب والكراهية، العذوبة والحدة، الكرم والأنانية.

    نحن مطالبون أن نعيش بوجه واحد ، داخل الكنيسة وخارجها، مطالبون بخلع القناع الذي نختفي وراءه، حتى لا ينطبق علينا القول: “لهم صورة التقوى ولكنهم منكرون قوّتها” ( 2 تى 3 : 5 ) فلقد أصبحوا “نحاساً يطن او صنجاً يرن” (1 كو 13 : 1 ). لنسمع صوت الله فى سفر الرؤيا يخاطبنا قائلاً ” أنا عارف أعمالك إنك لست بارداً ولا حاراً . ليتك كنت بارداً أو حاراً. هكذا لأنك فاتر ولست باردا ًولا حاراً أنا مزمع أن أتقيأك من فمي” ( رؤ 3 : 15 ، 16 ). نحن نحتاج إلى موقف ثابت لا يعرج بين الفرقتين. موقف ثابت من الرب ، نتبعه في داخل الكنيسة وخارجها.  

 وهناك بعض الأسباب التى تقودنا إلى مثل هذا المرض الروحى الخطير نذكر منها:

–  الكبرياء وحب الظهور: البحث عن الظهور بمظهر القداسة الزائفة للحصول على مديح الناس لنا. وهؤلاء قال عنهم السيد المسيح: ” إنهم يشبهون القبور المبيضة من الخارج وفي داخلها عظام نتنة…”.

 

–   النسيان: فنحن ننسى أننا هيكل الله وروح الله يسكن فينا ( 1 كو 3 : 16 ) كما إننا ننسى وصايا الله وهذا ناتج من عدم محبة الله من كل القلب. فالذى يحب الله يحفظ وصاياه ( يو 14 : 15 ، 21 ). ووصايا الله ليست قاصرة فى تنفيذها داخل جدران الكنيسة. لأن الكنيسة هى جماعة المؤمنين الذين أتعامل معهم ، وهذا يتطلب مني أن أشارك معهم نفس المحبة ذاتها التي أكنها للرب. فالكنيسة فى كل مكان نتواجد فيه لأننا نحن أنفسنا : “هيكل الله الحي كما قال الله إني سأسكن فيهم وأسير بينهم وأكون لهم الهاً وهم يكونون لي شعباً”. فلو كان يسكن فينا و يسير بيننا فهذا يعنى إنه معنا داخل وخارج الكنيسة.

 –  الأنانية المفرطة: تعد من الأسباب الهامة للشيزوفرينيا الروحية، فالشخص الأناني يريد أن يستحوذ على كل شئ، ربما يكون ذلك لإحساسه بالنقص مما يجعله يحاول بكل الطرق لإثبات ذاته، والأحساس بأهميته، والبحث عن المجد الظاهر. في هذه الحالة يكون أي ظهور لشخص آخر سببَا في ازعاجه، مما يجعله يستخدم كل الوسائل في شن حربَا تجاه الآخر لابعاده عن المشهد. قد يكون هذا الشخص الأناني رب أسرة، أو من الخدام ،  أو ممن كرسوا حياتهم للرب .

علاج مرض الشيزوفرينيا

ينحصر علاج هذا المرض فى ثلاث نقاط هي:  

1- الاحساس بأننى مريض ومحتاج للعلاج

أول خطوة في الشفاء من أي مرض هي الاعتراف بالمرض نفسه،  فإن لم تشعر أو لم تعترف بأنك مريض فسوف لا تقتنع بجدوى العلاج. وهذه الخطوة لا تأتى إلا بمحاسبة النفس. يجب أن أجلس مع نفسى كما فعل الابن الضال وأراجع  نفسى. هل أنا أظهر نفسى كأبن الله فى كل شئ ؟! أنظر إلى ذاتي في واقعها اليومي، ابحث عن جوانب الانفصام الروحي في حياتي، أحدد مواقفي وأعطيها أسمَا،  لا التمس الأعذار، بل أضع كل شئ في مكانه.

2- الذهاب إلى الطبيب

 أي بالبحث عن الإنسان المناسب الذي يمكن أن يساعدني في العلاج ، قد يكون المرشد الروحي الذي أتحدث معه بصراحة عن حياتي ومشاكلي، وأكشف له عن مرضى حتى يصف لى العلاج المناسب، وقد يكون شخص ذو خبرة ارتاح للحديث معه يمكنه أن يساعدني. وأهم من ذلك كله يجب الذهاب للطبيب الأعظم والشافي لكل أمراضنا، وهو السيد المسيح، أدخل معه في علاقة عميقة: بتخصيص جزء من وقتي يوميَا ، أستمع إليه وأحدثه عن مرضي، اطلب منه أن يشفيني ويحررني من كل قيودي التي هي سببَا في الشيزوفرينيا في حياتي.  

3- المواظبة على العلاج

 لا يتوقف العلاج على الذهاب إلى الطبيب ، بل يتطلب استمرارية ومواظبة. هذا يتطلب منا أن نكون منتبهين لمشاعرنا الداخلية التي تترجم في مواقفنا اليومية ، نرى هل هي فعلا مشاعر ومواقف وفق روح المسيح ، أم هي بحث عن ذواتنا بعيدَا عن حضور الرب في حياتنا. نذهب للطبيب بصفة دورية ، ونتابع معه حتي يعطينا العلاج المناسب لكل مرحلة.

عزيزي القارئ: اليوم عليك تحديد موقفك من المسيح: ” كن حاراً أو بارداً إما إذا كنت فاتراً فإنني أتقيأك” لا أحد يجبرك أن تختار المسيح، إختار أمر واحد وعشه!!! كن حاراً أي مع المسيح في كل شيء. أو بارداً أي إنزع المسيح من حياتك. إختار طريق واحد وسر عليها. فإذا كنت حاراً، هو يعرف كيف يبقيك هكذا. وإذا كنت بارداً يعرف كيف يتدخل ليجذبك نحوه. ولكن لا تكن ذو وجهين. هذا لا يعني أن الإنسان معصوم عن الخطأ،  فقد يخطأ مرات كثيرة ويجاهد ان يكون مع الله. ويقوم من جديد لينطلق نحو الله ويجاهد أكثر لكي يتخطى ضعفه، ويعيش بإخلاص ما يقوله الرب لنا في كتبه المقدسة، هذا هو الإنسان الحار. فلا نستطيع أن نعيش منطق العالم ومنطق الله في الوقت عينه.

 والآن حان الوقت لتنهض من الوهم الذي تعيشه، وتبدأ بمسيرة حقيقية مع الرب. حان الوقت لكي تصبح مسيحيتك والمسيح أمر واحد. حان الوقت لكي يرى الناس المسيح الرائع الذي تتكلم عنه في مسيحيتك، حان الوقت لكي تقول مع القديس بولس “لست انا أحيا بل المسيح يحيا فيً” تذكر نعمته وحدها تكفيك. لا تنسى قول القديس بولس” أنا قوي بالذي يقويني”