الصوم الكبير

الصوم الكبير

يتكون الصوم الكبير في حقيقته من ثلاثة أصوام . مجتمعة معا ، أولها : الأسبوع الأول ، وثانيها : الأربعون المقدسة ، وثالثها : أسبوع الآلام .
ونحاول الآن البحث في أصل هذه الأصوام الثلاثة ، متى وكيف نشأت وكيف أُدمجت معا ؟
1- الأسبوع الأول
اختلف العلماء والباحثون حول سبب إضافة هذا الأسبوع إلى الصوم الأربعيني . فقال البعض إنه أضيف تذكارا لخلاص مؤمني أورشليم بواسطة هرقل (1) ، وتبرئة لهذا الملك من قسمه لليهود بعدم قتلهم . وسمي “أسبوع هرقل” (2) ، وقال البعض إنه أضيف استعدادا وتأهبا للصوم الأربعيني المقدس ومقدمة له ، وسُمي “مقدمة الصوم الأربعيني” ، وقال آخرون إنه أضيف لكمال الصوم ثمانية أسابيع ، حتى تكون أيام الصوم الفعلي أربعين يوما كاملة ، باعتبار كل أسبوع خمسة أيام صوم بعد إسقاط السبت والأحد . وإليكم الآن الأدلة التي يستند عليها كل رأي من هذه الآراء المختلفة .

أ – أسبوع هرقــل
أول من قال بهذا الرأي هو ساويرس بن المقفع إذ يقول : “فالأسبوع الأول ليس من الأربعين يوم الصوم بل نحن نصومه عبادة من أجل هرقل الملك لما قتل اليهود وفسخ العهد الذي كان عاهدهم به فهو خبر مشهور معروف في أخبار هرقل لا حاجة إلى ذكره هنا” (3) .
ويقول بن العسال : “والأصوام الزائدة على ذلك المستقرة في البيعة القبطية منها ما يجري مجرى الصوم الكبير في التأكيد وهي جمعة هرقل التي صارت مقدمة الصوم الكبير” (4) . ويقول ابن كبر : “وحضر هرقل إلى بيت المقدس فوجده خراباً . . . وأما اليمين فنحن وجميع النصارى بجميع الأقاليم نصوم عنك أسبوع في كل سنة على ممر الأيام إلى انقضاء الدهر . فأمر هرقل بقتل اليهود . . . وكتب الآباء القديسين [القديسون] البطاركة والأساقفة إلى جميع البلاد بصوم أسبوع وهو هذا الأسبوع الأول من الصوم الكبير” (5) .
وينقل لنا القس كيرلس كيرلس عن المقريزي (1364 – 1441) قوله عن هذا الأسبوع : “ثم سار هرقل وأوقع اليهود وقيعة شنعاء أبادهم فيها حتى لم يبق منهم إلا من فر واختفى . فكتب البطاركة والأساقفة إلى جميع البلاد بإلزام النصارى بصوم أسبوع في السنة فالتزموا صومه إلي اليوم وعرفت عندهم بجمعة هرقل” (6) . وعن القمص عبد المسيح المسعودي قوله : “بدء صوم الروم والسريان واللاتين وغيرهم يوم الاثنين بعد الرفاع الكبير للقبط ومرفع اللحم للروم [لأن الروم يتركون فيه اللحم ولكنهم يأكلون اللبن والجبن والبيض ونحوها] بثمانية أيام ، وبعد بدء صوم القبط بسبعة أيام لأن صومهم 48يومأ فقط بدون جمعة هرقل التي عند القبط الموافق جمعة البياض عند الروم” (7) .
ويقول الأنبا يؤانس ملاك (+ 1985) عند حديثه عن صوم نينوى : “وقبل أسبوع هرقـل بأسبوعين يصوم الأقباط ثلاثة أيام” (8) .
ويضيف القمص صموئيل تاوضروس السرياني قائلا : “. . . وقد أُلحق أسبوع هرقل بالصوم الأربعيني المقدس ، وظلت الكنائس الشرقية والغربية تمارسه إلى زمن بعيد ، إلى أن أسقطته أخيرا من حسابها، ولم تحتفظ به حاليا أية كنيسة ما سوى الكنيسة القبطية” (9) .
ويعرض القمص يوحنا سلامه عدة أراء فيقول : “أما الجمعة الأولى فالبعض يقول إنها فرضت تذكارا لخلاص مؤمني أورشليم بواسطة هرقل” , ويعلق على ذلك في حاشية قائلا : « والأصوام الذين صاموها لأجل ملكهم ، لا يصومونها تماما , بل جعلوها جمعة بياض » (10) .
وجاء في قطمارس الصوم الكبير عند الحديث عن صوم نينوى ما يلي : “لما تربع على الكرسي المرقسي الأنبا ابرآم بن زرعة . . . ومن أمره أنه لم يرغب بادئ بدء أن يصوم أسبوع هرقل الجاري ممارسته عند الأقباط ، ولكنه صامه في مقابل كونه فرض عليهم أن يصوموا ثلاثة أيام على اســـم يونـــــان” (11) .

ب – استعدادا للصوم الأربعيني
لم ترد فكرة صوم أسبوع كاستعداد للصوم الأربعيني منذ بداية الكنيسة وحتى القرن العشرين . فلم ترد في الدسقولية أو تعاليم الرسل ، ولا في كتاب قوانين الرسل ، ولا في رسائل أحد من البطاركة ، ولا في قوانين الصوم التي وضعها البابا خرستوذولس . ولأول مرة ترد كإشارة عابرة في قوانين ابن العسال في القرن الثالث عشر، ويذكره كأسبوع هرقل ، ولكنه صار مقدمة للصوم الكبير ، إذ يقول : “جمعة هرقل التي صارت مقدمة للصوم الكبير” (12) . وبعده لم ترد عند ابن السباع ولا ابن كبر في القرن الرابع عشر ، أو غيرهم من العلماء والبطاركة ، إلى أن بدأت الإشارة إليه كأسبوع استعداد للصوم الكبير في القرن العشرين ، ولكن ليس كتأكيد بل مجرد إشارة إذ يقول القمص يوحنا سلامه : “أما الجمعة الأولى فالبعض يقول . . . والبعض الآخر يقول : إنها استعداد وتأهب للصوم المشروع من الرسل ، وحبا في الزهد والعفاف ومقدمة للصوم الكبير” (13) .
ويعرض كل من القس ميخائيل مينا وبانوب عبده عدة أراء ، من بينها الرأي القائل إن الأسبوع الأول هو استعداد وتأهب للصوم ومقدمة له لتدريب المؤمن ليستقبل الصوم بطهارة نفس ونقاوة قلب (74) .
ويكتب الأنبا غريغوريوس عن عظمة الصوم الأربعيني وأنه يجب أن يصام بنسك وزهد فإشفاقا على المؤمنين وجب أن يستعدوا له بأسبوع للتدرج في الصوم فيقول : “فإشفاقا على المؤمنين كان من اللائق أن يدخل المتعبدون إلى ذلك الصوم بأسبوع يتدرج به الصائم مكتفيا بالانقطاع عن الطعام إلى ما هو في حدود قدرته من دون إرهاق شديد بعد فترة فطر ، ولهذا التدبير حكمته لصحة الروح والنفس والبدن ، وهنا نلاحظ أن أخوتنا من الروم ومن يتبعونهم يصومون هذا الأسبوع الإضافي المسمى بمقدمة الصوم الكبير على البياض ، أي يمتنعون فقط عن اللحوم ، ولكنهم يأكلون فيه البيض واللبـــن ومستخرجاته من الزبد والجبــن” (15) .

ج- بدل السبوت
يقول هذا الرأي : “رأت الكنيسة مع بداية القرن السابع الميلادي أن الصوم يحمل اسم الصوم الأربعيني ، ولكن هذا الاسم لا يناسبا تماما ، حيث إن عدد أيام الصوم الفعلي لا تصل أربعين يوما . فالكنيسة الغربية تصوم ستة أسابيع [ بما فيها أسبوع الآلام ] في كل أسبوع ستة أيام [ بعد إسقاط الآحاد فقط ، لأنهم يصومون السبوت على اعتبار أن في يوم السبت كان الرب مدفونا في القبر] فيكون عدد أيام الصوم الفعلي ستة وثلاثين يوما فقط ، فأضافت الكنيسة الغربية أربعة أيام ليكمل الصوم أربعين يوما ، وتبدأ من يوم الأربعاء السابق لبدء الصوم الأربعيني ويسمى (أربعاء الرماد) (16) , وكانت الكنيسة الشرقية تصوم ستة أسابيع [ عدا أسبوع الآلام ] في كل أسبوع خمسة أيام فقط [ بعد إسقاط السبوت والآحاد ] فتكون عدد أيام الصوم الفعلي ثلاثين يوما ، وأسبوع الآلام [ ستة أيام ] فتصبح عدد أيام الصوم ستة وثلاثين يوما ، أضافت إليها الكنيسة الشرقية أسبوعا كاملا، فأصبح الصوم ثمانية أسابيع ، بما فيها أسبوع الآلام ، تصام خمسة أيام في كل أسبوع فيكمل الصوم أربعين يوما ، بالإضافة إلي يوم السبت العظيم . لا يختلف صوم هذا الأسبوع عند الأقباط عن باقي أيام الصوم الأربعيني في النظام ونوع الطعام الذي يؤكل فيه ، وأما الروم فجعلوه أسبوع بياض [ أي يمتنعون فيه عن أكل اللحم فقط ولكن يأكلون فيه البيض ومنتجات الألبان ] ، لذا أطلقوا على الأحد السابع قبل الفصح الذي يختم هذا الأسبوع ” أحد مرفع الجبن ” واستمر هذا الوضع إلى أيامنا هذه (17) .
لم يرد في الكنيسة القبطية ذكر أن هذا الأسبوع يصام لكمال الأربعين يوما ، إلا في القرن الرابع عشر إذ يقول ابن السباع : “فعلى ذلك رتبت الآباء أن يصام في كل سنة أربعون يوما ، خمسة أيام في كل أسبوع كي يصير الصوم ثمان جمع كما قالت الدسقولية . . . خمسة أيام في كل أسبوع ما عدا السبوت والآحاد ، لأن السبت لا يصام ، إلا سبت النور، الذي كان فيه رب البرية مقبورا ، ولا يصام يوم الأحد لأنه فرح روحاني منذر بالقيامة العامة في الدهر العتيد قديم التعب والشقاء والصوم تعب وشقاء على الجسم” (18) .
وبعد أن نسب ابن كبر صوم هذا الأسبوع إلى هرقل ، يضيف قائلا : ” فتمام أيام الصوم بعد ترك السبوت والحدود منها إلى يوم الأحد ، الذي هو أول يوم من الخمسين وهو يوم الفصح ، أربعون يوما ، ويوم الجمعة والسبت يومان من أيام الصلب والدفن ، ويوم الأحد يوم القيامة والبعث ، فليس تعد هذه الأيام الثلاثة في الأربعين يوما . . . وقيل أيضا يجب عليكم صوم الأربعين يوم المقدسة وجمعة البصخة المقدسة التي هي ثمان جمع ، وتتباعدوا فيها عن جميع الزهومات” (19) .
وبعد أن يعرض كل من القمص يوحنا سلامه وبانوب عبده الآراء التي ترجح سبب صوم الأسبوع الأول إلى هرقل ، أو استعدادا للصوم الكبير، يضيف قائلا : “ويقول البعض إنه أضيف لكمال الصوم ثمانية أسابيع ، حتى يكون أربعين يوما كاملة باعتبار كل أسبوع خمسة أيام بعد إسقاط السبت والأحد” (20) .

خلاصـــة
– قال البعض إن الأسبوع الأول من الصوم الكبير هو أسبوع هرقل ، وقال البعض إنه أسبوع استعداد للصوم الأربعيني ، وقال آخرون إنه أضيف بدل السبوت لكمال الصوم أربعين يوما ، إلا أننا بعد دراسة هذا الموضوع والأدلة التي قدمها كل جانب ، نرى أن هذا الأسبوع هو أسبوع هرقل ، للأسباب الآتية :
– قدًم الشهادات الدالة على ذلك وثقًل وزن القائلين بها في المجال الكنسي ، مثل ساويرس ابن المقفع والصفي ابن العسال وابن كبر والمؤرخ الشهير المقريزي .
– مما ذكرته الكتب الطقسية للكنيسة القبطية الأرثوذكسية مثل كتاب القطمارس وغيره .
– هذا الأسبوع ليس استعدادا للصوم لأن الاستعداد لا يكون بالصوم المباشر، بل يكون بتناول أطعمة دسمة فأقل دسامة ثم أقل إلى أن يصل إلى الصوم الكامل ، ومن يذكره ، يذكره أولا كأسبوع هرقل ثم يقول وقد صار مقدمة أو استعدادا للصوم .
– وأيضا ليس لاكتمال الأربعين يوما بدل السبوت ، لأنه لو كان لأجل ذلك لصامته باقي الكنائس من أرثوذكسية وكاثوليكية ، والواقع أنه لا تمارسه إلا الكنيسة القبطية الأرثوذكسية ، وتعتبره الكنيسة اليونانية الأرثوذكسية أنه انقطاع عن اللحم فقط ، وتأكل فيه السمك والبيض والألبان ، وتطلق عليه “أسبوع هرقل” . وإذا كان لكمال الأربعين يوما لماذا نسمي الجمعة التي تسبق أسبوع الآلام جمعة ختام الصوم ، فكيف نختم الصوم وهو لم يكتمل بعد ، وكيف نقول إن أسبوع الآلام ليس من الصوم الكبير ، بل هو صوم مستقل بذاته.
– إذن الأسبوع الأول هو أسبوع هرقل الذي صامه عنه المسيحيون لحنثه بوعده ، وإن كان الرأي القائل إنه بدل السبوت له من يؤيده .

2- الأربعون المقدسة

يطلق هذا الاسم على الصوم الأربعيني، وهو من أقدس الأصوام وأجلّها . رتبته الكنيسة المقدسة تشبها بمعلمها الإلهي الذي صام أربعين يوما وأربعين ليلة ، اشتراكا معه في خلوته في البرية بعد عماده ، ولكن كيف نشأ ، وما هي مراحل تطوره التي مر بها في الكنيسة شرقا وغربا ؟ هذا ما سنحاول التعرض له .

أ – من نشأة الكنيسة حتى أواخر القرن الثالث

1) في الغــرب

لا نجد ذكر الصوم الأربعيني مطلقا ، لكن الكلام مقصور على صوم استعدادي لعيد الفصح ، لا ينقص عن يوم ولا يزيد عن أسبوعين . وأول وأقدم نص نعرفه عن هذا الموضوع لإيريناوس أسقف ليون بفرنسا (+ 202) ، وينقله لنا يوسابيوس القيصري (+ 340) في كتابه تاريخ الكنيسة ، عندما يسير إلى النقاش الذي حول تحديد عيد الفصح ، وشمل أيضا موضوع الصوم الفصحي ، فيقول إن البعض كانوا يعتقدون بوجوب صوم يوم واحد ، والبعض يومين ، وفريق يفرض ثلاثة وفريق آخر كان يمد صومه إلى أربعين ساعة . وهنا الحديث عن صوم متواصل غير منقطع ، لا يجوز خلاله لا أكل ولا شرب . فالكنيسة الغربية حتى أواخر القرن الثالث كانت تجهل الصوم الأربعيني (1) .

2) في الشــرق

ترجع أقدم شهادة عن الصوم الفصحي في كنيسة الإسكندرية إلى منتصف القرن الثالث ، وترد في رسالة بعثها أحد بطاركتها ، وهو القديس ديونيسيوس الإسكندري (247- 264) إلى باسيليدس في سنة 264 ونعرف منها أن مدة الصوم الفصحي كانت أسبوع الآلام فقط [ المدة من يوم الاثنين إلي يوم السبت ] ، ويذكر أيضا أنه رغم أن هذه الوصية قديمة وعامة ، ولكن تتعرض لاختلافات في الممارسات العملية ، إذ لا يصوم الجميع الستة أيام دفعة واحدة ، فالبعض لا يصومون إلا يومين [ الجمعة العظيمة وسبت النور ] صياما متواصلا ، والبعض ثلاثة أيام والبعض أربعة ، ويوجد من لا يصوم حتى يوما واحدا صوما كاملا . وكان هذا النظام سائدا في أغلب الكنائس الشرقية . فالكنيسة شرقا وغربا كانت تجهل الصوم الأربعيني طيلة القرون الثلاثة الأولى (2) .

ب – من القرن الرابع حتى القرن السادس

مع بداية القرن الرابع بدأ الحديث عن “أربعينية” سابقة للفصح ، ففي مجمع نيقية (325) في قانونه الخامس يأمر الأساقفة بأن يعقدوا مجلسين كل سنة للنظر في أمر المحرومين ، ويشترط أن يكون الأول منهما قبل الأربعينية ، دون أن نجد نظام هذه المدة ، إذ كانت تعتبر استعدادا لقبول سر العماد ، وكانت تختلف من حيث المدة أو الكيفية حسب اختلاف البلاد .

1) في الغـــرب

كان الرومانيون يحددون زمنا أربعينيا يستغرق ستة أسابيع ، يصومون منها فقط الأسبوع الأول والرابع والسادس الذي هو أسبوع الآلام ، ولكن نظمت الكنيسة الرومانية في القرن الخامس في عهد البابا لاون الكبير (440- 461) صوم ستة أسابيع كاملة عدا أيام الآحاد ، وبهذا تكون مدة الصوم الفعلي ستة وثلاثين يوما . وساد هذا النظام في كل الكنيسة الغربية في تلك الفترة (3) .

2) في الشــرق

كان الصوم في كنيسة أنطاكية والقسطنطينية وكبادوكية وأسيا الصغرى ستة أسابيع ، عدا أسبوع الآلام ، وكان الصوم خمسة أيام في الأسبوع بعد إسقاط السبوت والآحاد ، عدا سبت النور ، وأسبوع الآلام ستة أيام ، فيكون مجموع صومهم ستة وثلاثين يوما ، وفي أورشليم كانوا يصومون ثمانية أسابيع ، خمسة أيام في كل أسبوع ، فبلغت أيام صومهم أربعين يوما عدا سبت النور . أما كنيسة الإسكندرية فلم تعرف الصوم الأربعيني قبل سنة 330 , ويمكننا أن نتتبع التطورات التي مر بها هذا الصوم في رسائل القديس أثناسيوس الفصحية . ففي رسالته الأولى (329) لا يتكلم إلا عن الاستعداد لعيد الفصح ، ولكنه لا يذكر الأربعينية مطلقا ، ويعلن أن الصوم يبدأ يوم الاثنين المقدس , وفي رسالته الثانية (330) يخطو الخطوة الأولى ويحدد بدء الصوم الأربعيني المقدس ، ومدته ستة أسابيع بما فيها أسبوع الآلام . تبدأ يوم الاثنين 9 مارس سنة 330 وعيد القيامة يوم 19 أبريل من نفس العام ، ويعتبر أسبوع الآلام أهم من باقي الأربعين يوما والتي لم يعتبرها إلزامآ حصريا . واستمر على هذا الوضع حتى سنة 334 التي أصدر فيها رسالته السادسة والتي قرر فيها ، نتيجة لانتقاد الغرب لكنيسة الإسكندرية لعدم التزامها بالصوم الأربعيني ، أن من لا يحافظ على الصوم الأربعيني ، لا يمكنه أن يأكل الفصح . وأن يبدأ الصوم يوم ه2 فبراير، ويمتد إلى يوم 7 أبريل عيد القيامة ، وشدد على هذا الوضع في كل رسائله الفصحية , ففي رسالته لسنة 347 ، يحدد بدء الصوم الأربعيني يوم 2 مارس ، ويكون العيد يوم 12 أبريل (4) . فتكون مدة الصوم هذه ستة أسابيع ، بما في ذلك أسبوع الآلام ، تصام كل أسبوع ستة أيام ، لأن الكنيسة الإسكندرية كانت في تلك الفترة تصوم كل أيام الأسبوع ، عدا يوم الأحد ، فتكون مدة الصوم ستة وثلاثين يوما مثل باقي الكنائس ، ولكن فيما بعد امتنعت عن صوم السبت عدا سبت النور ، فأصبحت أيام صومها إحدى وثلاثين يوما ، ولكن لم تدم هذه الحالة طويلا ، فاتخذت نظام الكنائس الشرقية الأخرى وجعلت صومها سبعة أسابيع ، تصام في كل أسبوع خمسة أيام ، بالإضافة إلى يوم السبت العظيم ، فتكون مدة الصوم ستة وثلاثين يوما .

وهكذا مع نهاية القرن السادس ، كانت الكنيسة كلها شرقا وغربا تصوم ستة وثلاثين يوما . غير أنه يوجد نظامان في عدد الأسابيع ، فالغرب يصوم ستة أسابيع بما فيها أسبوع الآلام ، في كل أسبوع ستة أيام , لأنه كان يستثني الآحاد من الصوم ، وأما الشرق يصوم ستة أسابيع في كل أسبوع خمسة أيام فقط ، لأنه كان يستثني السبوت والآحاد من الصوم ، وأسبوع الآلام ستة أيام .

وتعتبر هذه الحقبة هن أكثر الحقب التي مرت بها الكنيسة تشددا في الصوم ونظام الأكل (5) .

ج – من القرن السابع إلى القرن التاسع
كانت الكنيسة كلها حتى أواخر القرن السادس تصوم ستة وثلاثين يوما ، مقسمة على ستة أسابيع في الغرب ، وسبعة أسابيع في الشرق . فلاحظ علماء الكنيسة مع بداية القرن السابع ، أن الصوم يدوم ستة وثلاثين يوما فقط وهو يحمل اسم “الصوم الأربعيني” ، فحاول البعض تفسير معنى هذا العدد قالوا إن المؤمنين يصومون لله عشور أيام السنة كما أنهم يقدمون العشور من ممتلكاتهم المادية ، فإن ستة وثلاثين يوما هي عشر ثلاثمائة وستين يوما ، وبما أن الصوم يمتد إلى فجر الأحد تحسب هذه الزيادة نصف يوم ، فتصير عشرا للأيام الخمسة الباقية ولكن لم يقبل الجميع هذا الشرح الرمزي ، إذ إن الصوم يدعى الصوم الأربعيني ، والرب يسوع صام أربعين يوما . لذا أضافت الكنيسة الغربية أربعة أيام قبل أسابيع الصوم الستة ، فيبدأ الصوم من يوم الأربعاء السابق ، وسمي “أربعاء الرماد” فيكمل بذلك الصوم أربعين يوما . وأضافت الكنائس الشرقية أسبوعا ثامنا في بداية الصوم ، وهو ما يدعى “أسبوع هرقل” ، الذي يبدأ بأحد الرفاع وينتهي بالأحد الأول من الصوم . ولا يختلف نظام هذا الأسبوع عند الأقباط عن باقي أيام الصوم الكبير ، بينما جعله الأروام أسبوع بياض ، وبهذا اكتمل الصوم أربعين يوما (6) .
رغم إطالة مدة الصوم إلا أنه أُدخلت على نظامه تسهيلات ، ففي الغرب أصبحت بعض الأطعمة التي كانت محرمة في القرون السالفة ، مثل البياض والسمك ، مسموح بها , والممتنع عنها يُعد ذا صلاح فائق ، ورغبة منه في التقشف والعبادة . أما الشرق فقد ظل على حاله محافظا على قوانينه الصارمة بالنسبة للصوم ، ولذلك يلوم بطريرك القسطنطينية عند انفصاله عن الكنيسة الجامعة هذا التساهل المفرط والخروج عن التقاليد القديمة (7) .

د- في القرون الوسطى
1) في الغــرب
عُرفت القرون الوسطى بأنها عصر التسامح بالنسبة لموضوع الصوم ، من حيث نوعية الأطعمة ومواعيد الأكل ، فقد ظل الإكليروس ملتزما بالصوم الأربعيني ليكون قدوة للآخرين ، وعمل العلمانيون بهذا النظام في بعض الأماكن ، ولكن هذه العادة بطلت تماما في القرن الرابع عشر بالرغم من السماح بتناول بعض الأطعمة ، كالبيض والألبان منذ أواخر القرن التاسع ، إلا أنه ظل الجميع ، الإكليروس والملك والشعب ، الغني والفقير حتى القرن الثاني عشر ، يحافظون على وصية الصوم إلى الغروب أو المساء ، ومن أفطر قبل هذا الميعاد يُعد كأنه لم يصم . ولكن نادى البعض منذ القرن الثاني عشر ، بأنه يليق فسخ الصوم عند الساعة الثالثة بعد الظهر، فإن الآم المسيح انتهت في هذا الميعاد فيجوز إنهاء تقشف المؤمنين به في الوقت نفسه ونادى البعض في أواخر القرن الثالث عشر بأنه يجوز الأكل ساعة الظهر دون مخالفة الوصية ، لأن جوهر الصوم قائم خاصة في الأكلة الواحدة ، ومنذ ذلك الوقت أصبح الظهر موعد نهاية الصوم إلى وقتنا هذا . واقتضى هذا التساهل في ميعاد الأكل تفسيحات أخرى بالنسبة لعدد الأكلات ، إذ يصعب البقاء من ساعة الظهر إلى مثلها في الغد دون أكل أو شرب ، مع متابعة الأشغال اليومية . فإزاء هذه الحالة صرحت الكنيسة منذ القرن الثالث عشر بشرب السوائل في المساء ، ثم أباحت أكل الثمار والحلويات مع النبيذ والسوائل ، ولكن مع التوصية بعدم الإفراط . ثم سمحت بأكل البقول الناشفة مع قليل من الخبز في المساء ، وسميــت “أُكيلة المساء” وظل اللحم مُحرما طوال أيام الصوم الأربعينــي حتى أيام الآحــاد (8) .
2) في الشــرق
ظلت الكنائس الشرقية متمسكة بقانون الصوم حتى الغروب أو المساء مثل الكنيسة الغربية ، فيقول ابن العسال : “وفي الأربعين المقدسة في الأسبوع الأول فليُصَم إلى أن تغيب الشمس ، فإذا جاز فإلى الساعة الحادية عشر” (9) . إلا أنه سرى التساهل أيضا في الكنائس الشرقية ، فجعلوا يقدمون ميعاد الإفطار من ساعة إلى ساعة ، فيصوم البعض إلى الساعة الثالثة بعد الظهر، وآخرون إلى الظهر فقط . ويقول القمص ميخائيل مينا : “الصوم هو امتناع الإنسان عن الغذاء وقتا معينا من النهار ، ويحسن أن يكون إلى الساعة السادسة أو التاسعة ، كما فعل بطرس وكرنيليوس إذ صام أحدهما إلى الساعة السادسة والآخر إلى الساعة التاسعة ( أع .1/3- 9) ” (10) . ومع هذا التساهل في ميعاد الأكل صار الأكل مباحا في الكنائس الشرقية ، من ساعة الإفطار إلى منتصف الليل ، مع التوصية بضرورة التقشف , وظل الامتناع عن اللحوم والبيض والألبان في أيام الصوم ساريا في الشرق .
ﻫـ – في العصر الحديــث
ظلت الكنائس الشرقية الأرثوذكسية متمسكة بالصوم الأربعيني من حيث نظامه ونوع الطعام الذي يُؤكل فيه ، بالرغم من مطالبة كثير من أبنائها بإعادة النظر في نظم الصوم .
أما في الكنائس الكاثوليكية الغربية ، فمر الصوم بمراحل تطور سريعة ومتلاحقة من حيث نظامه ونوع الطعام الذي يُؤكل فيه ، فأصبح عدد الأكلات في الكنيسة اللاتينية ثلاثا ، والبيض أصبح مباحا كل الأيام ، ويُمتنَع عن اللحم فقط يوم أربعاء الرماد وأيام الجمع من الزمن الأربعيني . ويقوم الصوم عندهم في وجبة واحدة ، وأُكيلتين خفيفتين ، الأولى في الصباح ، والأخرى في المساء ، وتظل السوائل مباحة في أي وقت من النهار ، ولكن مع التوصية بضرورة الحفاظ على الطابع التقشفي في الزمن الأربعيني .
أما الكنائس الكاثوليكية الشرقية ، فتُرك لها حق تحديد أيام الصوم ونظامه حسبما يوافق عاداتها وتقاليدها وظروف مجتمعها . ولكن يظل أول يوم في الصوم الأربعيني ، وأيام الجمع من الزمن الأربعيني صوما إجباريا في جميع الكنائس الكاثوليكية شرقا وغربا .
حفظت الكنيسة القبطية الكاثوليكية الصوم طوال الأربعين يوما , ويُصام إلى الظهر ما عدا أيام السبوت والآحاد التي لا يجوز فيها الصوم إلا سبت النور .
ولكن في الواقع العملي لا زال الشعب القبطي الكاثوليكي – ولا سيما أهل الصعيد – يلتزم بالصوم الانقطاعي طوال الأربعين يوما ، ويمارسونه بنسك شديد .

خلاصـــة
– صوم الأربعين المقدسة من أهم الأصوام وأجلها ، لأن الرب يسوع قد صامه وتصومه الكنيسة تشبها بمؤسسها .
– لم يستمر صوم أربعين يوما في الغرب أو الشرق بتواصل قبل القرن الرابع ، بل تراوح في القرون الثلاثة الأولى بين يوم واحد وأسبوع قبل الفصح .
– حُدد في الغرب في القرن الرابع بستة أسابيع ، كان في البداية يُصام الأسبوع الأول والرابع والسادس ، في القرن الخامس مع البابا لاون الكبير صارت الستة أسابيع تصام صوما كاملا ، عــدا أيام الآحاد .
– حفظته بعض الكنائس الشرقية في القرن الرابع ستة أسابيع شاملة أسبوع الآلام ، وبعضها ستة أسابيع عدا أسبوع الآلام .
– ساد في القرن الخامس في كل الكنائس الشرقية نظام الصوم الأربعيني ستة أسابيع عدا أسبوع الآلام .
– أضافت الكنيسة الغربية في القرن السابع إلى الصوم الأربعيني أربعة أيام أخرى ، فصار ستة أسابيع وأربعة أيام بما في ذلك أسبوع الآلام .
– أُضيف في الشرق أسبوع ثامن وسُمي “أسبوع هرقل” ، فصار الصوم ثمانية أسابيع شاملة أسبوع الآلام . وكان الصوم ينحصر في وجبة واحدة عند الغروب أو المساء في الشرق والغرب .
– سرى في القرون الوسطى التساهل في موعد الوجبة ، فأصبحت في الظهر أو في الثالثة بعد الظهر ، واقتضى ذلك زيادة عدد الأكلات . فسُمح في الشرق بتناول الطعام بعد انقضاء ساعات الصوم دون النظر إلى عدد الأكلات أو إلى كمية الطعام الذي يُؤكل . وصار في الغرب وجبة واحدة أساسية في الظهر ، مع السماح بأُكيلتين خفيفتين في الصبار والمساء .
– ظلت الكنائس الشرقية الأرثوذكسية في العصر الحديث متمسكة بالصوم الأربعيني من حيث نظامه ونوع الطعام الذي يُؤكل فيه ، بينما مر الصوم في الكنائس الكاثوليكية بمراحل تطور سريعة ومتلاحقة من حيث نظامه ونوع الطعام الذي يُؤكل فيه .

3 – أسبـــوع الآلام
وهو الأسبوع الأخير من الصوم الكبير، ويسمى أسبوع الآلام أو الأسبوع المقدس أو أسبوع الفصح . وكان صوم هذا الأسبوع يسمى بــ “أسبوع الفصح” .
ومنذ القرون الأولى للمسيحية كان هناك ربط لهذا الصوم بالرسل أنفسهم . فكان البعض يصومه يوما واحدا ، وهو يوم الجمعة العظيمة ، والبعض يومين ، والبعض ثلاثة ، وآخرون الأسبوع كله ، ابتداء من يوم الاثنين إلى الليلة اللاحقة ليوم السبت وهذا ما نستدل عله من الشهادات التالة :
أشرنا في حديثنا عن الأربعين المقدسة إلى أن أول وأقدم شهادة في الغرب هي لايريناوس أسقف ليون , والتي نقلها لنا يوسابيوس القيصري في كتابه تاريخ الكنيسة (11) . وفي الشرق رسالة من القديس ديونيسيوس البطريرك الإسكندري إلى باسيليدس (12) .
توصي الدسقولية : ” وصوموا في أيام الفصح وابتدءوا من يوم الاثنين إلى يوم الجمعة والسبت وهي ستة أيام تتناولون فيها الخبز والملح والماء ، أما الخمر واللحم فانتهوا عنهما في هذه الأيام . لأنها أيام حزن وليست أعيادا . وأما يوم الجمعة والسبت فصوموهما معا لمن يقدر أن لا يذوق شيئا إلى وقت صياح الديك بالليل وإذا لم يقدر الإنسان أن يصوم اليومين معا ، فليحفظ يوم السبت . . . فلأجل ذلك نعلمكم أنتم أن تصوموا فيها إلى الليل . . . ” (13) .
بينما تحدده الدسقولية بأنه ستة أيام يقدمه ساويرس ابن المقفع على أنه يبدأ من يوم سبت لعازر إلى يوم سبت النور (14) .
ويقول ابن العسال : “ثم جمعة الصلب وذلك يُصام إلى أخر النهار ولا يُؤكل فيه حيوان ولا ما هو من حيوان دموي” (15) .
ويقول القمص ميخائيل مينا : “الأسبوع الأخير من الصوم ويُعرف بأسبوع الفصح ، فلكي يتذكر الصائم ويشترك في الآم ربنا التي قاساها في هذا الأسبوع نيابة عنه وحبا في خلاصه” (16) .
ويقول الأنبا غريغوريوس : “أسبوع الآلام هو صوم مستقل بذاته لا علاقة له في الأصل بالصوم الأربعيني . ذلك أن الآلام لم تعقب صوم مخلصنا . ودليلك على أن أسبوع الآلام ملحق بالصوم الأربعيني وليس جزء منه أن الصوم الأربعيني ينتهي بما يعرف بجمعة ختام الصوم (17) .

خلاصـــة
– أسبوع الآلام من أقدم الأصوام المسيحية ، عرفته الكنيسة شرقا وغربا منذ القرون الأولى للمسيحية .
– رتبته الكنيسة تذكارا لآلام الرب يسوع المسيح المخلصة .
– يشهد بضرورة هذا الصوم كل علماء الكنيسة منذ القدم ، وتتفق على أهميته الكنائس التقليديـة شرقا وغربا .

المراجع
1- صموئيل تاوضروس السرياني (القمص) ، الصوم في الكنيسة القبطية , مجلة رسالة المحبة , السنة الثامنة والأربعون ، (1982) , ص 280 .
2- راجع كيرلس كيرلس ، أصوامنا بين الماضي والحاضر ، ص 167 .
2-راجع يوحنا سلامة ، اللآلئ النفيسة ، الجزء الثاني ، ص 446 – 447 .
3- راجع يوحنــــا سلامـــة ، المرجع الســابق ، ص 458 ، 459 ؛ راجــع يوحنـا كابــس ، الصــوم ، ص 56 , 81 .
4- ابن العسال ، كتاب القوانين ، الباب الخامس عشر ، ص 137 .
5- ابن السباع ، الجوهرة النفيسة ، الباب المائة ، ص 152 ، 157 .
6- يوحنا سلامة ، اللآلئ النفيسة ، الجزء الثاني , ص 458 .
7- راجع ميخائيل مينا ، علم اللاهوت ، المجلد الثالث ، ص 429 .
8- راجع بانوب عبده ، كنوز النعمة ، الجزء الثاني ، ص 359.
9- السنكسار ، طبعة القمص عبد المسيح ميخائيل ، القاهرة ، (1935) ، ص 280 .
10- غريغوريوس ، أصوامنا العامة السبعة ، الجزء الأول ، ص 67.
11- غريغوريوس ، المرجع السابق ، ص 69.
12- كيرلس كيرلس ، أصوامنا بين الماضي والحاضر، ص 168 .
13- ابن العسال ، كتاب القوانين ، الباب الخامس عشر، ص 137 .
14- ابن السباع ، الجوهرة النفيسة ، الباب الثاني والثلاثون ، ص 56 .
15- ابن كبر ، مصباح الظلمة ، الجزء الثاني ، الباب الثامن عشر ، ص 192 .
16- راجع يوحنا سلامة ، اللآلئ النفيسة ، الجزء الثاني ، ص 455 .
الأب/ يوحنا زكريا نصرالله
راعي كنيسة السيدة العذراء
جزيرة الخزندارية – طهطا – سوهاج