العذراء النـاصـعـة، الرائـعـــة، القـانـعــــــــــــة..

العذراء النـاصـعـة، الرائـعـــة، القـانـعــــــــــــة..

  الشماس نبيل حليم يعقوب

لوس أنجلوس فى 10/5/1996

 ” مـن هـذه الـمـشرقـة كالصبح، الجـمـيلة كالقـمـر، الـمـختارة كالشمس، الـمـرهـوبة كصفوف تحت الرايـــــات” (نشيد الأنشاد 10:6)

تأمـلنا ياأحبائي بنعمة الرب وبإلهـام روحه القدوس عن مريم العذراء الناصعة ..الرائعة..والقانعـة. وفى جزء آخر سنتأمل فى مريم الخاضعـة..الدامعة..والضارعة.

1. مــريــم النــــاصـــعــــة

 الناصعة..الشريفة..العفيفة…والطاهـرة بكل مـا فى الكلمة من معنى.

فى القديم تنبأ إشعيا النبي قائلاً “فلذلك يؤتيكم السيد نفسه آية هـا أن العذراء تحبل وتلد إبنا وتدعو اسمه عمانوئيل” (أش 14:7) . إنهـا إشارة عن مـجيئ “عمانوئيل الذى تفسيره الله معنا ” من “عذراء” . ودعونا نقف لحظة عند هـذه الكلمة “عذراء” والتى استخدمها الوحي الإلهي على لسان إشعيا. إن كلمةALMA   باللغة العبرية والتى استخدمها اشعيا فى كتابة سفره تعني فتاة صغيرة =بنت= عذراء وهي لم تستخدم من قبل لوصف امرأة متزوجة وهذه أول مرة تستخدم لوصف فتاة صغيرة. فسفر التكوين يصف رفقة قبل أن تتزوج بإسحق “وكانت الفتاة حسنة الـمـنظر جدا بكراً لم يعرفها رجل” (تك 16:24) . وكان على اشعيا أن يختار ما بين كلمتان فقط الـمـتوافرتان فى ذلك الوقت، واحدة تصف امرأة صغيرة قبل زواجها ، والأخرى التى ترتبط بالزواج والتى تحمل معنى العذرية. وعند ترجمة النص العبري الى اليونانية استخدمت الكلمة اليونانية “بارثينون” والتى تعني دائما عذراء كما جاء فى انجيل متى “هوذا العذراء تحبل وتلد ابنا ويدعون اسمه عمانوئيل الذى تفسيره الله معنا” (مت 23:1) . و ايضا فى انجيل القديس لوقا نجد “ارسل الى عذراء مخطوبة الى رجل من بيت داود اسمه يوسف واسم العذراء مريم” (لو26:1).

كل الطوائف الـمسيحية تؤمن بأن مريم عذراء طاهرة. ولكن ماذا يهم ان مريم كانت عذراء قبل ولادتها بيسوع أم لا؟ ..

وماذا يهم ان مريم عند اختيار الله لها كانت عذراء..ناصعة..شريفة..طاهرة؟

لو لم تكن مريم عذراء..ناصعة..شريفة..لما أتى منها مخلص العالم.

-النبؤات تعلن عن مجيئ المخلص الموعود من امرأة..عذراء..قديسة..طاهرة..بلا عيب.

-الرموز والشخصيات فى العهد القديم تعكس كلها صورة الـمـسيا الآتي وترتبط معظم تلك الرموز بأم الـمسيا. زكريا وحزقيال وداود واشعيا وميخا النبي فى كتاباتهم ذكرُ للعديد من تلك النبؤات عن بتولية ام اللمخلص وطهارتها وبرارتها.

-لو لم تكن مريم عذراء لـمـا ذكر الوحي على لسان متى ولوقا عن هذه الصفة أي شيئ.

– لو لـم تكن مريم عذراء لـمـا وصفها الـملاك جبرائيل “يامـمـتلئة نعمة”.

– لو لـم تكن مـريم عذراء..طاهرة..شريفة..ناصعة..لـمـا قال لها ملاك الرب “انك قد وجدت نعمة عند الله” (لو30:1) والتى لم تقال لبشر من قبل.

– لو لـم تكن مـريم عذراء..شريفة..طاهرة..لـمـا استغربت وقالت مريم للـمـلاك “كيف يكون هـذا وأنا لست أعرف رجلاً” (لو24:1).

إن الحياة فى الطهـارة والقداسة هى شرط ضروري للحياة مع الرب ففي سفر الرؤيا نرى 144 ألف “افتدوا من الأرض هؤلاء الذين لم يتنجسوا مع النساء لأنهم أبكار هم اللتابعون للحمل حيثما يذهب ولم يوجد فى أفواههم غش لأنهم بلا عيب قدام عرش الله” (رؤ 4:14-5). ويعلن لنا الـمرنم ” من يصعد الى جبل الرب ومن يقوم فى موضع قدسه النقي الكفين والطاهر القلب الذى لا يحمل نفسه الى الباطل ولم يحلف بالغش” (مز 3:23-4). والقديس بولس فى رسالته الأولى الى تسالونيكي يعللن “فإن مشيئة الله انما هي تقديس أنفسكم وان يعرف كل واحد منكم كيف يصون أناءة فى القداسة والكرامة لا فى فجور الشهوة كالأمم الذين لا يعرفون الله” (1تس 3:4-5). ويوصي تيموثاوس “احفظ نفسك عفيفا” (1تيمو 22:5) وفى رسالته الى كولوسي ” اهتموا لـما هو فوق لا لـما هو على الأرض” (كولوسي 2:3).

الطهـارة بنحصل عليها فى سر الـمصالحة بالإعتراف والصلاة..

نقول اننا نحب مريم..فيلزم أن نحيا مثلها حياة طاهرة خالية من الخطيئة..

.. فيلزم أن نتعلم منها حياة القداسة..

.. فيلزم أن تكون حياتنا لائقة..

.. فيلزم أن ترى مـريم فينا صورة ابنها الحبيب..

.. فيلزم أن يرى الله فينا نفس طهارة الأم..

.. فيلزم أن نكون قديسين “كونوا قديسين كما ان أباكم هو قدوس”

فمـريم العذراء كانت بشراً مثلنا ولكنها أحبت الله وكرست ذاتها له وعاشت مع الله فى شركة روحية عميقة جعلتها لا تبتغي أي شيئ من العالم فعاشت دائما طاهرة..قديسة..ناصعــة.

2. العــذراء الرائعـــــة

الرائعة فى إيـمـانــهــا …الرائعــة فى تواضعـهـا..

أ- الرائعة فى إيـمـانـهـا

“الإيـمـان هـو الثقة بـمـا يرجى والإيقان بأمور لا ترى” (عب 1:11).

 ان موضوع الإيـمـان لهو أعمق من أن نتحدث عنه هنا ولكن دعونا نقترب للتأمل..

عندما أخبر الملاك جبرائيل العذراء مريم قائلا “لا تخافي يا مريم فإنك قد نلت نعمة عند الله وها انت تحبلين وتلدين إبنا وتسمينه يسوع” وشرح لها كيف يكون هذا الحبل الإلهي ” الروح القدس يحل عليك وقوة العلي تظللك” فالـمنطق البشري يقول كيف يحدث هذا وهذا ما أعلنته مريم “كيف يكون هذا وأنا لست أعرف رجلاً”..فمريم قد تقول فى نفسها (انا ناذرة البتولية..أنا كنت أخطط حاجة أخرى لحياتي..أنا كنت أريد ..وانا كنت أخطط….) انها كلهـا تخطيطات بشرية. ولكن عندما عرفت مريم ان هذه هي مشيئة الرب وتذكرت إيـمـان ابراهيم وكيف ترك أرضه وعشيرته وعندما قدم ابنه ذبيحة حسب إختبار الله له وتذكرت ايضا إيـمـان موسى وقبوله قيادة شعب الله من أرض العبودية الى أرض الـمـوعد، وتذكرت معنى حلول الروح القدس ومجد الرب يحل فى مكان ماوتذكرت خيمة الإجتماع “غطت السحابة خيمة الإجتماع وملأ بهاء الرب الـمـسكن فلم يقدر موسى أن يدخل خيمة الإجتماع” (خر 35:40)..أن قوة العلي ستظللهـا..إذن “انه ليس من دم ولا من مشيئة جسد ولا من مشيئة رجل بل من الله” (يو 23:2)..انه أمر سماوي..وإرادة سماوية..

لم تطلب مريم علامة لتؤمن مثل موسى لكي يصدقه فرعون والشعب العبراني” انهم لا يصدقونني ولا يسمعون لقولي بل يقولون لم يتجل لك الرب” (خر7:4)…

لـم تطلب علامة مثل جدعون كما جاء فى سفر القضاة “ان كنت قد أصبت حظوة فى عينيك فأعطيني علامة على انك انت الذى كلمني “(قضاة 17:6) وكان من جزاز الصوف فى البيدر وسقوط الندى وغيرها من العلامات. وبني اسرائيل عندما طلبوا من يسوع آية لكى يؤمنوا به.

مـريم لم تطلب.. ولكن أعطاها الـمـلاك العلامة..ان نسيبتها أليصابات العاقر حبلى فى شيخوختها.

مـريم الرائعة فى إيـمـانها لأنها لم تؤمن نتيجة علامة أو عظة او قراءة كتاب ونحن نريد أكثر من معجزة وآية كل يوم حتى نؤمن بالله.

إستجابت مـريم لدعوة الرب والذى يحترم إرادة البشر..”فقالت للـمـلاك ها أنذا آمة للرب”.

موضوع الإيـمـان والعلم..الإيـمـان أعلى من العقل، والعقل أعلى من الغريزة..

عقيدة مثل وجود الله والثالوث الأقدس . أو عقائد مثل الفداء.. والقيامة والـموت فإننا لو أدركنا إيـمـاننا بهذه الـمـعتقدات بالعقل أو الغريزة والحواس فلن نؤمن.

مـريم الرائعة فى إيـمـانها لم تفكر فى العار الذى سيلحقها بهذا الحبل الإلهي..آمنت بلا فلسفة وتعقيدات وعلامات…

إن رسالة بولس للعبرانيين تشهد لإيـمـان المؤمنين “الذين بالإيـمـان قهروا الـمـمـالك وعملوا البر ونالوا الـمـواعيد وسدوا أفواه الأسود” (عب 11).

إن الإيـمـان ليس قولا “أمـا أنا فأريك ايـمـاني بالأعمال، انت تؤمن ان الله واحد حسن والشياطين ايضا يؤمنون ويرتعدون. الإيـمـان بغير الأعمال ميت” (يعقوب 14:2-21).

مـريـم الرائعة فى إيـمـانـها..فى قبولهـا بالحبل الإلهي..فى خدمتها لأليصابات..فى خدمتها ليسوع..فى خدمتها ليوسف..فى خدمة بيتها..فى إحتمال الآلام والضيق والهروب الى أرض مصر وسماعها بقتل أطفال بيت لحم..فى غربتها وحياتها فى الناصرة التى لا يخرج منها شيئ صالح..حياة منطوية ..بلا تذمر..إيـمـانها فى عرس قانا الجليل بقدرة إبنها الإلهي..إيـمـانها تحت الصليب فلم تيأس وتلعن السماء..

أتعتقدون ان مريم فكرت فى نفسها قائلة (أحقا هذا الطفل الذى ولدته هو مخلص العالم؟..أحقا هذا الذى يعمل بيديه فى حانوت النجارة هو مخلص العالم؟..أحقا هذا الـمـعلق على الصليب هو مخلص العالم ؟..أحقا هذا الذى قُبر داخل القبر هو مخلص العالم؟..أحقا هذا القائم من الأموات هو يسوع ابنها؟..والعديد من التساؤلات)..فى الحقيقة انه منذ أن سلمت مريم نفسها لتكون آمة للرب حتى موتها وبعد موتها وإنتقال جسدها ونفسها للسماء مازالت تشهد بإيـمـانها..موجهة قلب أبنائها الـى يسوع مخلص العالم “مهما قال لكم فافعلوه”.

كلام يسوع أحيانا صعب..معتقداته أحيانا صعبة على الفهم ” ان كثيرا لـمـا سـمعوا قالوا هذا الكلام صعب من يستطيع سمـاعه” (يو 61:6) وتركوه..لأنهم لم يؤمنوا انه الحق..والطريق.. والحياة..والقيامة..لم يؤمنوا انه الراعي الصالح.. الرب القدوس..واهب الغلبة والنصرة..

والآن..لو كنا حقا أبناء مريم لكنا نعمل أعمال مريم..لكنا نؤمن مثل مريم..لكانت أعمالنا تشهد بإيـمـاننـا..

ب- الرائعة فى إتضاعـهـا

بعد أن أخبر الملاك مريم بالسر الإلهي والحبل بـمخلص العالم..يقول لنا الكتاب انها أسرعت الى بيت أليصابات وهناك سمعت مديحاً وتطويباً على لسان أليصابات بعد ان إمتلأت من الروح القدس. كان يـمـكنها أن تتفاخر..كان يـمـكنها أن تعلن هذه البشرى للعالم أجمع والذى كان فى شوق وإنتظار للـمـسيا..كان يمكنها أن تصيح (تعالوا وانظروا..هاتو تقدماتكم وبخوركم فأنا أم الـمسيا…!!).

ولكنها أعلنت إتضاعها العجيب ” تعظم نفسي الرب وتبتهج روحي بالله مخلصي لأنه نظر الى تواضع آمته” (لو 48:1). وعند زيارة الـمجوس باحثين عن الـمـولود ملك اليهود..لم تقل مريم أنا أم الـملك وقدموا لي الهدايا والإكرام والسجود..فلقد كانت السقطة الأولى للإنسان هى خطيئة الكبرياء “تصيران آلهة عارفي الخير والشر” (تك 5:3) وسقطة الشيطان كانت ايضا بسبب الكبرياء كما جاء فى سفر اشعياء (أش 13:14-14). ولهذا اعلن النبي ميخا “قد أخبرك ايها الإنسان ما هو صالح وماذا يطلبه منك الرب الا أن تصنع الحق وتحب الرحمة وتسلك متواضعاً مع إلهك” (ميخا 8:6) ، وقول يسوع نفسه “تعلموا مني لأني وديع ومتواضع القلب فتجدوا راحة لنفوسكم” .

الكبرياء والغنى البشري هى أمور تحجب عظمة الله وتتعارض مع حبه فنقرأ فى سفر الرؤيا لملاك كنيسة اللاذقية ” وبما انك تقول أنا غني وقد استغنيت ولا حاجة بي الى شيئ ولست تعلم انك شقي وبائس ومسكين وأعمى وعريان” (رؤ 17:3).

3. العذراء القــانــعـة

مريم القانعة ..السعيدة.. الـمـكتفية فى الرب. كقول الـمرنم”الرب راعي فلا يعوزني شيئ” (مز22).

نقرأ سليمان فى أمثاله ” شيئين سألتك فلا تمنعنيهما قبل أن أموت أبعد عني الباطل وكلام الكذب،لا تجعل حظي الفاقة ولا الغنى بل أرزقني من الطعام ما يكفيني لئلا أشبع فأجحد وأقول من الرب أو أفتقر فأسرق وأتخذ اسم إلهي بالباطل” (أمثال 7:30-10). وأيضا ” لقمة يابسة معها طـمـأنينة خير من بيت مـمـلوء ذبائح ومعها  خصام” (أم 1:17).

ومريم فى تسبحتها “رفع الـمـتواضعين وأشبع الجياع خيراً” (لو 51:1-53) نجدها تعلن فرحتها وإتضاعها وان الخير الذى لها هو من الله. ونجد ان التسبيح دليل  ايضا للسرور والقناعة “امسرور أحد فليرتل” (يعقوب 4).

مـريم وحياتها القانعة من الوجهة الـمـادية، فرجلها يوسف نجار مكتفي بـمـا أعطاه له الله. لم تطلب مريم من رجلها مسكن لائق بأم المسيح..لم تطلب من رجلها أشياء لا يقدر عليها.

“الـمـرأة الصالحة نصيب صالح تُمـنح حظاً لـمن يتقي الرب فيكون قلبه جذلاً ووجهه بهجاً كل حين غنيا كان أم فقيراً” (يشوع 3:26-4).

وفى صلاتنا “خبزنا كفافنا أعطنا اليوم” هـل حقا نعني ما نطلب..؟

ان الإنسان دائم التطلع للإقتتناء ..إقتناء كل الأشياء..فالفلب معلق بالأرضيات وليس بالإلهيات.

إن بركة الرب كبيرة وعظيمة..انظروا الى بركة ابراهيم وبركة نوح وبركة يعقوب وبركة يوسف وبركة شعب اسرائيل نفسه فقد دخلوا مصر 70 فرداً فخرجوا مع موسى 600 ألف.

ونحن من ندعى أبناء مريم هل نحيا حياة وبركة الرب هى كل ثروتنا فى هذه الأرض؟؟؟

هـل تحيا حياتك مثل مريم..حياة شريفة..ناصعة..طاهرة..رائعة..متواضعة..قانعة..مصلية..محبــة؟؟

فلنأت اليوم الى الرب صارخين..قائلين:

يارب السماء والأرض لقد اخترتني لأكون فى بيعتك الـمـقدسة وعرفتني وعلمتني من أكون أنا ..إبناً للسماء، لا للأرض..إبنا لـمـريم وأخاً ليسوع..

انـي أصرخ اليك اليوم ضارعــأً..أن تهبني إيـمـان مريم وطهارة العذراء القديسة..وروعة إتضاعها ..وإستسلامها لـمشيئة السماء..يارب اني لا أطلب مجداً أرضياً ولا مـجداً من البشر..بل أريد أن أشابهك لا فى صنع الـمـعجزات ..بل أن أكون جديراً بأن ألقب بإبن مـريم..لا لـمـديح الناس بل مـجداً لك انت وحدك..فيروا تجسدك فـي..ويروك فى أعمالي وسلوكي وإتضاعي وطهارتي وفى تربية أبنائي وفى أمانة عملي وفى مجتمعي وبيعتي إلـى أن تـمضي أيام غربتي فلا يذكرونني بل يـمجدوك أنت يارب..

وانتِ يا أمــاه صلي معي وتشفعي أن يحل الروح القدس علي وعلى بيتي وعائلتي وكنيستي ومجتمعي ليتمجد دائمـا الرب القدير صانع العظائــم. آمين….

                                                           الشماس نبيل حليم يعقوب

لوس أنجلوس فى 10/5/1996