القديسة مادلين صوفي مؤسسة رهبانية القلب المقدس

ولدت القديسة مادلين صوفي في بلدة صغيرة في وسط فرنسا ” جوانييه Joigny” في 12 ديسمبر 1779. وفي اليوم التالي لميلادها ذهب بها والدها واخوها الأكبر إلى الكنيسة المجاورة لمنحها سر المعمودية حتى تصبح عضوه في جسد المسيح.
كانت والدتها تنعم بأيمان قوي ، فأخذت تغمر ابنتها منذ السنين الأولى بحبها المتدفق لله وتبعث فيها التقوى والفضيلة . عاشت صوفي حياتها كباقي أطفال بلدتها ، حياة هادئة وبسيطة ، حياة ريفية تبعث علي الرضي والطمأنينة . وواظبت صوفي منذ صغرها علي متابعة دروس التعليم المسيحي ، استعدادا للمناولة الأولى ، وبسبب تميزها عن الفتيات اللاتي في مثل سنها بالتقوى والرزانة ، دعاها كاهن الرعية لتناول القربان المقدس في سن مبكرة .
اتخذت صوفي يسوع رفيقا لحياتها ، مما جعلها تنمو روحيا بسرعة فائقة . أحبت مثل باقي الأطفال اللعب والحركة ، إلا إنها كانت تتميز عنهم بقوة البصيرة والحكمة في الرأي . فكان يخشي عليها أن يتملكها الغرور أو يسيطر عليها الكبرياء ، غير أن قلبها كان اكبر بكثير من أن تتكبر ، ونفسها اعظم من أن يصيبها الغرور، لحرصها الشديد علي تطبيق تعاليم السيد المسيح في حياتها اليومية ، حتى اصبح قلبها عامرا بالأيمان ، فبالقلب كانت تعمل ، وبالقلب كانت تفكر ، وبالقلب كانت تحيا وتزدهر وبالقلب تتألم .
كان أخاها لويس يكبرها بأحد عشر عاما ، وكان قد كرس حياته من خلال الكهنوت . أهتم بأخته صوفي وبتكوينها ، فأعد لها منهجا دراسيا شاملا ، وطلب منها الالتزام بجدية مع التفرغ التام للدراسة ، وزودها بالكتب التاريخية والعلمية والأدبية ، محتفظا لنفسه بحق متابعة تكوينها من الناحية الروحية ، والتزمت صوفي بالمنهج المقترح بدقة واخلاص مكرسة له معظم ساعات يومها . وبهذا تميزت صوفي بعلمها وفاقت بثقافتها جميع شابات جيلها ، حيث تعلمت اللغات الحديثة والقديمة مثل اليونانية واللاتينية ، وتعمقت في الأدب القديم والمعاصر . كما اتسمت بالبساطة والتواضع مستسلمة بين يدي الله .
مادلين صوفي في باريس
بناءا علي طلب أخوها لويس ، سافرت إلى باريس لمتابعة تكوينها ، رغم صعوبة ترك أسرتها وبلدتها ‘ فقد رأت في هذه الدعوة أمرا من الله فلبت النداء علي غرار إبراهيم ” اترك أرضك وعشيرتك إلى الأرض التي أريك ‘ وهناك أجعلك أمة عظيمة ، وتكون بركة لكثيرين “.
استغرقت الرحلة عدة أيام أمضتها صوفي في الصلاة والتأمل ‘ حريصة علي توثيق علاقتها بالمسيح ، مسلمة له قلبها ونفسها وأرادتها ‘ وكان هذا مسلكها إزاء كل صعوبة تقابلها. عند وصولها إلى باريس استضافتها سيدة وقور ، كانت قد اتخذت من منزلها مقر تتردد عليه بعض السيدات المؤمنات للصلاة الجماعية والاشتراك في الذبيحة الإلهية التي كان الأب لويس يقوم بتقديمها يوميا . وفي هذه الفترة بدأت صوفي تفكر في تكريس حياتها للرب من خلال الحياة الرهبانية .

نشأة الرهبنة 1800 م .
كان الأب ” دي تورنللي ” مؤسس جمعية أباء القلب المقدس ، يفكر في إنشاء جمعية راهبات يكون هدفها الرسولي تربية النشء ، ولكنه توفي قبل تحقيق ذلك ‘ وانتخب تلميذه الأب فاران رئيسا للجماعة خلفا عنه وتبني هذه الفكرة . وحدث أن انضمت جمعية أباء القلب المقدس بسبب عدد رهبانها المحدود إلى جمعية أخرى ناشئة تحت اسم ” أباء الإيمان ” حيث كان أفرادها أيضا ملتزمين بقوانين ولوائح الأباء اليسوعيين ، وقد اختير الأب فاران رئيسا عاما لها ، وانضم لويس بارا إلى هذه الجماعة . وذات يوم كان الأب فاران يتبادل الحديث مع لويس ، وافصح لويس عن تطلعات أخته ،ورغبتها في تكريس حياتها للرب من خلال الحياة الرهبانية ، مركزا علي القيم الروحية والأخلاقية التي تتحلى بها ، بجانب ما اكتسبته من علم وثقافة . فطلب الأب فاران مقابلتها ، وعرض عليها الوضع المؤسف للشبيبة الفرنسية التي حرمت ( بسبب الثورة الفرنسية ) من العنصرين الأساسيين لبناء الإنسان وهما التربية والتعليم .
وافصح لها عن أمنية الأب ” دي تورنللي ” في تأسيس راهبات مكرسات لقلب يسوع الأقدس . ولبت صوفي الدعوة إيمانا منها بأنها إرادة الله لها . ومن ثم تكونت الخلية الأولى ” لجمعية راهبات القلب المقدس ” وسرعان ما انضمت إلى صوفي ثلاث من صديقاتها . وفي 21 نوفمبر 1800 قدمن أنفسهن للرب من خلال الاحتفال بالنذور الأولى ( ويتفق هذا اليوم مع ذكري تقدمة العذراء مريم للهيكل ). والتزمن بالنذور الثلاثة الطاعة والفقر والعفة .
وفي عام 1801 انضمت هذه الجماعة إلى مجموعة أخرى في أميان ، وبدأ العمل المشترك في جو من الثقة والاحترام المتبادل في مدرسة صغيرة ، وازداد عدد التلميذات ، والتحقت بالدير بعض المبتدئات … واخذ الجميع يعملون في جو يسوده المحبة والعطاء . آنذاك كتبت إحدى الراهبات تقول : الحرمان والتقشف هما سمة حياتنا اليومية هنا ، ولكن هذا لا يضعف شيئا من عزمنا علي مواصلة عملنا بحماس وفرح ، لأننا جميعا غير مباليات بما يحمله الغد ، فقد تركناه لمن يدبره لنا .
وفي 7 يونيو 1802 قامت مادلين صوفي بعمل النذور النهائية تلبية لدعوة المسيح ” من أراد أن يتبعني فلينكر نفسه ، ويحمل صليبه ويتبعني ” لو 9: 23 . قامت صوفي بافتتاح أول مدرسة في أميان 1804 ، وسرعان ما ازدهرت الرهبنة وتشعبت فروعها في مدن وبلاد متعددة نذكر منها : الولايات المتحدة الأمريكية ، وفرنسا وإيطاليا وسويسرا وأسبانيا ، وأنشئت العديد من المدارس ذات المصروفات ، والمدارس المجانية والملاجئ ومراكز الخدمة الاجتماعية . ووصل عدد المراكز التابعة للرهبنة إلى ثمانين مركزا عام 1865 .
اتسمت حياة صوفي بالبساطة والتواضع وحبها الشديد لعبادة قلب يسوع ، كما كانت تشارك الفقراء همومهم وتصغي إلى مشاكلهم وكثيرا ما كانت تحرم نفسها من الضروريات لتخفف من أعبائهم .كان الأيمان والثقة دستور الام بارا في فكرها وعملها ومن أقوالها في هذا الشأن :
* لا اخشي شيئا ، فقد وثقت في معاونة الرب لي ، ووقوفه بجانبي حتى في اصعب الظروف ، ومن ثم لا اعتمد إلا عليه .

* أن الله لا يعمل إلا في القلوب المستسلمة له ، الواثقة به .

* آمنوا وثقوا بالله . لا يسعني إلا أن اكرر هذا الدعاء ليساندنا الرب في حياة الجهاد والشقاء . وعندما لاحقتها الأحزان أخذت تردد :
الرب معي ، فأنا لا افقد أملي في رعايته لنا ومهما تخلت عني المخلوقات فلن ينقذني إلا هو .وبهذا الإيمان والثقة في الله عاشت مادلين صوفي كل حياتها ، بالرغم من الصعوبات التي اعترضتها ، واثقة بان الله هو الذي يقود السفينة رغم العواصف والأمواج .

وفي يوم الخميس الموافق 25 مايو 1865 أسلمت الام بارا روحها إلى خالقها بسلام ، بعد حياة دامت أربعة وثمانون عاما من الحب والتضحية والعطاء .
أن الرب الذي دعي القديسة مادلين صوفي ، ما زال يدعو كل منا ، فكيف ترد علي دعوة الله لك ؟ وما رأيك في الحياة الرهبانية ؟
وللموضوع بقية ……

من أقوال القديسة مادلين صوفي

في محبة الله
– لنكن لله ولله وحده . لنحبه دون سواه .

– كل ود في هذا العالم ينقلب سريعا ويزول . أما ود يسوع فثابت لا يتغير .

– لنحفظ قلبنا ليسوع وحده . ولتكن محبتنا له فوق كل محبة . فلا نحب شيئا إلا به ومن أجله .

– لنتعلق بالله وحده ، ولا نوجه أنظارنا إلا إليه ، وإذا شاء الرب أن يضمحل العالم كله ويتلاشي ، فلنمكث في هدوء وسلام ، ولنا ملء الثقة في الجود الإلهي .

في إنكار الذات
– ليكن شعاركم دائما التضحية في كل مضادة ، واغتنموا الفرص لقبولها بغيرة ونشاط وتقديمها بشوق وحرارة إلى قلب يسوع .

– اقتلوا الأنانية التي دأبها السعي وراء مصلحتها ، والعجب بذاتها ، لان الله لا يملأ إلا الإناء الخالي من حب الذات .
– لا يحيا المرء لله إلا إذا مات عن ذاته موتا متواصلا .
– أن روح الله لا يعمل إلا في الأنفس المتواضعة الوديعة ، وأن سلام المسيح لا يحل إلا في القلوب المجرة من كل شئ .

في الاتكال علي الله وتسليم الذات له :

– تدعي انك ضعيف ، فهل استعنت بالله .

– عندما يتركنا كل شئ فلنترك كل شي لله .

– لنحفظ قلبنا في هدوء وسكينة ، فما من شئ يستطيع أن يعكر صفاءه ، لو عرفنا قلب يسوع حق المعرفة . إننا نري أن خطايانا ذاتها تقربنا إليه إذ تهيئ أنفسنا للتذلل والتواضع ، تلك الفضيلة العزيزة لدي معلمنا المحبوب .

في العبادة الروحية
أن القلب المتحد بيسوع ، هو الحبة المغروسة في الأرض التي تأتي بمائة ضعف . وقليلون من يدركون هذا السر لان قليلون هم الذين يتركون كل شئ حتى أنفسهم . ومن أجل ذلك قل الذين يهيمون بالحياة الروحية السامية ويبلغون إلى حياة المشاهدة .