القديس يوحنا الذهبي الفم (الجزء الثاني)

القديس يوحنا الذهبي الفم (الجزء الثاني)

على وجه جد عنيف، ويبقى أميناً ليوحنا.
ولكن من الواضح أن كثيراً من المقرّبين، أفدوكسية وأوتروبيوس، الكهنة المزعَجين، في طمأنينتهم والرهبان المستائين، الأرامل المعادات إلى الصراط المستقيم، الأغنياء والمتفنجات الموضوعين على المنصّة، ما كانوا ليرضوا بحفظ أسقف كهذا. ولنُضف إلى ذلك دسائس الأساقفة المترددين إلى البلاط، وقد طمحت أبصارهم إلى عرش العاصمة الأسقفي، ومكايد ثاوفيلوس المراقب لكل الحوادث من الإسكندرية والمنتظر الساعة الموافقة لأخذ ثأره.
بعض الأشغال الخطيرة

مع اعتزام يوحنا عدم الاهتمام بسوى شؤون أبرشيته، قد ألجأته مكانته إلى أخذ حصته من بعض الأمور الخطيرة التي تحتم عليه أن يسوّيها أو يتدخل فيها.
أول ما حدث منها مشكلة أوتروبيوس. سنة 399، بعد مكيدة عسكرية، عُزل أوتروبيوس؛ وإذ خشى أوخم العواقب، هرب إلى الكاتدرائية، مستنداً إلى حق الالتجاء ، مع أنه كان قد ألغاه ، وهو قابض زمام الحكم، مع أشد احتجاجات يوحنا؛ فلحقه الجمع فيها ، وهو عطشان إلى الانتقام. أما الجنود فحاصروا الكاتدرائية بدون التجاسر على دخولها، وطلبوا بأعلى الصريخ أن يسلّم لهم الهارب. دخل بعض ضباط البلاط المكان المقدس للقبض على التاعس، فتدخل يوحنا بسلطته وطرد الضباط، ثم ذهب إلى القصر لتعنيف أركاديوس، وبقى أتروبيوس ملتجئاً في الكاتدرائية، وظل الجنود في مراكزهم طول الليل . في الغد كان أوتروبيوس لا يزال هناك، وقد ملأ الجمهور الكنيسة ليُشبع عيونه بمنظر سقوط الوزير، لكنه لم يتجرأ على إيذائه بأدنى عمل . كان مستحيلاً أن يطول مثل ذلك الحال، وفضلاً عن ذلك، لم يسع يوحنا أن يسلّم بانتصار البطش أو البغض. فتكلم على موضوع ” باطلة الأباطيل ” ، وألقى خطاباً رائعاً ختمه بحث مؤثر على الشفقة.
تضاربت الآراء في خطابه. خصوم يوحنا رموه بكونه قد انتهز الفرصة للفت الأنظار وتصفية حسابه مع أوتروبيوس في شأن حق الالتجاء. بيد أن هؤلاء المشتكين ذواتهم هم الذين يتهمون يوحنا بكونه قد خان أوتروبيوس، بعد خروجه من الكاتدرائية بدون أن يُقبض عليه…
قد تحتم أيضاً على يوحنا أن يهتم، إجابةً لطلب أركاديوس، بالتدخل في تمرد قائد وجنوده، لحل تلك المعضلة، وأن يقاوم مطالبات بكنائس، قدّمها الأريوسيين بمعاضدة ذلك القائد نفسه.
في ربيع سنة400 نشأ نزاع بين أوسابيوس من فالنتينوبوليس ومتروبوليته أنطونيوس الأفسسي، فرأى يوحنا ذاته مضطراً لإصدار حكمه في ذلك النزاع . في يناير 401 سافر إلى أفسس وعقد فيها سينودساً وسوّى الأمر ، ثم عاد إلى القسطنطينية. من الواضح أنه قد وُبخ على التدخل فيما وراء حدود سلطته؛ في الواقع لم يكن أساس تلك الشكوى سوى فساد نية مقاوميه.
كان قد وكل، طول مدة غيابه، إدارة الأبروشية إلى أرشيدياقونه، والاهتمام بالوعظ إلى سيفريانوس أسقف جابالة، المقيم في البلاط وصاحب الحظوة الكبرى عند الإمبراطور وزوجته، فاغتنم سيفريانوس تلك الفرصة لفصل الشعب عن أسقفه. لم يلبث الإرشيدياقون سيرابيون أن فهم هذه المكيدة، فأوقف يوحنا عليها، ولم يخش أن يطلع سيفريانوس إطلاعاً واضحاً على رأيه فيها، فحدثت بينهما منازعات غير زهيدة العنف. يوحنا، فور غودته، تناول من سيفريانوس شكوى على الأرشيدياقون مرفوعة بالصيغة لشرعية. فانتظر حيناً قبل النظر فيها، واكتفى بإلقاء موعظة لمح فيها أمام المؤمنين تلميحاً جليّاً إلى عدم جهله شيئاً من موقف سيفريانوس في أثناء غيابه.
بقيت تسوية الخلاف الناشب بين سيفريانوس وسيرابيون، وقد اجتهد يوحنا لإنجازها، فصرّح ببرارة سيرابيون. إذ ذاك استشاط سيفريانوس غضباً وسلك سلوكاً مستهجناً أثار حنق يوحنا، فقطع اتحاده به، وأبلغه أنه يأمره بالرجوع إلى أبروشيته. فانطلق سيفريانوس، بيد أن الإمبراطورة ما لبثت أن أعادته، فتشكك القوم من هذه المقاومة الإمبراطورية للأسقف . فصبر يوحنا على ذلك لاتقاء شر أعظم ، واستقبل سيفريانوس، وألقى خطاباً على السلام والاتحاد لتهدئة ثوران المؤمنين . في الغد أجابه سيفريانوس بخطاب على الموضوع ذاتـه ، غير أنه بلهجة رسمية تنم عن إعجاب غير يسير بنفسه، وقد نفر منها السامعون. بعد رجوعه إلى القصر، واصل فيه عمل التدمير، لكنه لم يوفّق البتة إلى أن يصير خلَف يوحنا ، وهو موضوع توقه . كان له ، بصفة مؤازرين في ذلك السعي القائم بالتشنيع والدسائس، الكهنة الذين عزلهم يوحنا وأسقفان ورئيس دير في القسطنطينية.
بقصد إهلاك يوحنا بحث المتآمرون عن ماضيه، فذهبت أتعابهم سدى، فلم يبق لهم غير انتظار فرصة موافقة، إذا عجزوا عن إيجادها. وقد سنحت لهم في مشكلة “الإخوة الطوال”، وهم أربع رهبان سُموا كذلك لطول قامتهم. بعد منازعات محزنة مع ثاوفيلوس الإسكندري، كان أولئك الرهبان المصريون الأربعة وكثير من إخوانهم قد اضطُروا إلى مغادرة مصر والسفر إلى فلسطين. ثاوفيلوس لم تكن له البتة الحصة المشرّفة في تلك القضية، فقلق وكتب لأساقفة فلسطين مدعياً أنه ضحية ، ومتهماً الرهبان بالهرطقة وبمحاولة قتله، وقد حرّك إيرونيموس إلى المدافعة عنه وكذلك أبيفانيوس السالاميني ابن تسعين عاماً، الذي سبق لنا الكلام عن قلة حصافته. أجاب الفلسطينيون بدون تحمس، فاستاء ثاوفيلوس وعرّفهم أنه قد ضرب الرهبان بالحرم، فيجب أن يعاملوا بصفة محرومين.
الرهبان الذين ظل ثاوفيلوس يطاردهم بغيظ مفرط وظلم واضح ،
ذهبوا إلى القسطنطينية لطلب الإنصاف. وصلوا إليها في أوائل عام 402، فذهبوا لمواجهة يوحنا وأوضحوا له ضيقاتهم طالبين منه التدخل. فأضافهم لكنه أراد إجراء تحقيق قبل كل تدخل رسمي، بل أذن لهم في حضور الحفلات الكنسية دون التناول. فأوحى التحقيق أن من الفطنة عدم المضادة بلا مراعاة لثاوفيلوس المفرط بسرعة غضبه. كتب له يوحنا رسالة لطيفة ليستأذنه في قبول تناول الرهبان، وليعرف ما يجب عليه فعله إجابةً للطلب الموجَّه إليه. فأجابه ثاوفيلوس بقحة، مستشهداً بالقوانين المحددة لسلطة الأساقفة. عندئذ غض يوحنا نظره عن القضية، ورفع الرهبان شكواهم إلى البلاط الإمبراطوري، إذ لم يروا مخرجاً آخر من مأزقهم. فدُعي ثاوفيلوس إلى المثول في محكمة أساقفة يتصدرهم يوحنا، وصارت القضية على جانب عظيم من الخطورة.
حينئذ فار فائر ثاوفيلوس؛ لم يستطع التمرد على الإمبراطور، لكنه كان قادراً على مضادة التدبير المذكور، وقد فعل ذلك بإرساله أبيفانيوس إلى القسطنطينية لتحقيق سرعة انتشار الهرطقة التي بذر الرهبان بذورها، وقد شاطرهم هذا العمل، على زعمه، يوحنا مؤيدهم. منذ بدء سنة 403 وصل إلى القسطنطينية الشيخ القليل الحكمة، فأبى مواجهة يوحنا، إذ عده هرطوقياً، وسلك بخلاف أصرح جميع الأوامر القانونية الكنسية، فاتقح على جمع كل الأساقفة الحاضرين في المدينة، ما عدا يوحنا ، ليطلب منهم توقيع أحكام ثاوفيلوس على المجرمين، فلم ينجح نجاحاً يُذكر. يوحنا من جهته كان أدرى بما يجب أن يكون رأيه في أبيفانيوس، فشاهد بشفقة كل هذا الهياج. مع ذلك دعا أبيفانيوس إلى القصر الأسقفي، والتمس منه أن يشاركه في إقامة القداس. فرذل أبيفانيوس تلك الدعوة ما بقى الإخوة الطوال في القسطنطينية، ومازال يوحنا يستقبلهم. والحال أن يوحنا قد أبى طردهم، فعزم أبيفانيوس على التجريس به ليقسره على الخضوع . حين اطلع يوحنا على مقصده، نبهه للأخطار التي يقتحمها من قبل شدة غضب الشعب، إذا عمل بما توخاه. فكُبح جماح أبيفانيوس وركب السفينة ثانية بوجهة قبرس، بعد حبوط كامل، ومات إبان السفر، ومن ثم كان نصيب ثاوفيلوس الإخفاق المكرر.
فاستاء أعضاء حزبه كل الاستياء وأخذوا يكيدون المكايد لدى أفدوكسية. أوهموها أن يوحنا قد طعن فيها جهاراً في إحدى خُطبه على البذخ. جرح ذلك شعورها، فقررت أن المجمع المقصود عقده برئاسة يوحنا، لمحاكمة ثاوفيلوس، ينعقد في الواقع، لكن برئاسة ثاوفيلوس لمحاكمة يوحنا وعزله. أوقف فوراً أسقف الإسكندرية على تلك البشارة، فركب سفينته مع ثمانية وعشرين أسقفاً موالين له، مع أنه قد أمر بالحضور وحده، وكان يفتخر علانية بأن غاية سفره هي عزل يوحنا.

الفصل السابع
المجد لله في كل شيء

حين وصل ثاوفيلوس إلى القسطنطينية أبى كل مواجهة ليوحنا، مع أن هذا كان يقدّم إليه الضيافة في الدار الأسقفية . فنـزل خارج المدينة في قصر بلاسيدية الإمبراطورين وبقي فيه ثلاثة أسابيع مشغولاً بإعداد “الدعوى” وبشراء الضمائر، ثم ذهب إلى جوار خلقيدونية في أوائل سبتمبر 403، ليعقد فيها مجمعه في المكان المسمى “السنديانة”. على ذلك الوجه كان هو وأنصاره في مأمن من غضب أهالي القسطنطينية المتعلقين بأسقفهم.
لصوصية مجمع السنديانة

حول ثاوفيلوس وسيفريانوس كان خمسة وثلاثون يؤلفون “المجمع” محاطين برهط مضطرب من كاتمي الأسرار. بيان الشكاوى المحرّر ضد يوحنا كان يسرد تسعاً وعشرين شكوى، وهو من أعجب غرائب الحماقة
المبغضة، بحيث لا يسع ذا نية سليمة أن يقيم له وزناً.
كان أركاديوس يدّعي أنه يريد أن يذهب يوحنا إلى المجمع ليحاكم فيه ثاوفيلوس، وذلك مزاح مشؤوم. فأبى يوحنا الدخول في تلك المكيدة، وتحصن بالحقوق الكنسية، مستشهداً بالقوانين ذاتها التي ذكرها ثاوفيلوس في رسالة لمقاومته. من جهة أخرى كان يعلم أن أفدوكسية وزمرة المتآمرين بأمرها قد أعدوا العُدة لإسقاطه.
تصدر ثاوفيلوس السينودس؛ الأمر بالمثول فيه بلغ يوحنا، وهو في قصره الأسقفي محاطاً بأربعين أسقفاً مستقبحين ذلك الحادث المشكك. الأربعون حبراً بعثوا إلى ثاوفيلوس برسالة مشتركة شديدة العنف، يعدّونه فيها جباناً، قايين، عاصياً لقوانين الكنيسة. أما يوحنا ، فبدون مخالفة الأمر بحضوره، عرّف أنه لن يحضر ما لم يُزل من المحكمة بعض أعضاء يأبى محاكمتهم له.
من الطبيعي أن ثاوفيلوس قد ضرب بتلك البلاغات عرض الحائط. عندئذ أمر أركاديوس يوحنا بالمثول، فأبى يوحنا، فأمر بذلك ثلاث مرات، وهو ثابت على رفضه. إذ ذاك “حكم” ثاوفيلوس على يوحنا “حكماً غيابياً” وقرر عزله. ثم أطلع الإمبراطور على ” الحكم ” … ولكن مصدريه لم يتجاسروا على تعريف رومة إياه، مع أنهم يعلمون كل العلم، منذ المشاكل الأريوسية، أنه لا يسوغ بدون سلطتها الحكم الجازم في الدعاوى المرفوعة على أساقفة . الإمبراطور قد استحسن أن يضيف إلى العزل أمراً بالنفي. فوقف عليه الشعب فوراً وركض إلى الدار الأسقفية، وجاهر مجاهرة ولاء ليوحنا، وحال دون تقرب الشرطة الإمبراطورية.
النفي بسرعة البرق

في الغد أتى يوحنا إلى الكاتدرائية ووعظ فيها مؤكداً أنه لا يخشى شيئاً، لأن الله معه ومع الكنيسة. هو واثق بعدله وعارف أن الشهداء، مع حبوطهم الظاهر، هم المنتصرون الحقيقيين. في اليوم الثالث كان يوحنا لا يزال هناك، وشعبه يحرسه ويواصل المقاومة لمجيء الشرطة الإمبراطورية. عندئذ صرح يوحنا بأن مجاهرة الاحتجاج قد دامت مدة كافية، ثم انطلق.
إذ ذاك أسرع المتآمرون إلى القسطنطينية، فأوسعهم الشعب تعييراً، وهو يعبّر في الآن ذاته جلالة الإمبراطور وزوجته. ثم احتشد أمام البلاط فريق من المجاهرين الآخذ منهم الهياج كل مأخذ . فألغى الإمبراطـور قرار النفي ودعا يوحنا إلى الرجوع، فأبى هذا العودة إلى القسطنطينية. كُررت الدعوة وتجدد الرفض. بعد ثالث دعوة رضى يوحنا أخيراً بالإياب، فدخل الميناء دخول مظفّر واحتشد الناس لمواكبته. مع ذلك قد أبى يوحنا العودة إلى مدينته قبل أن يحكم مجمع في قضيته. أما الجمع فأصمّ آذانه وأقام مجاهرة لكي يعود المنفى إلى قصره الأسقفي، كأنه لم يحدث شيء مما حدث. فاعتزم يوحنا ذلك، وكان رجوعه مصحوباً بأسمى دلائل الانتصار. عند وصوله إلى كاتدرائيته وعظ فيها وقال “تبارك الله!”، وشكر للشعب أمانته.
لم يبق منذئذ لثاوفيلوس وسيفريانوس وغيرهما سوى الفرار بأقرب وقت، بدون أن يراهم أحد، اتقاءً لشر العواقب، لأن حديث القوم كان على إلقائهم في البحر. حين رجع ثاوفيلوس إلى الإسكندرية، استُقبل فيها بمجاهرات التهكم وبصفير الصفارات . . . يوحنا من جهته كان يلّح حتى يُعقد مجمع ينقض أحكام لصوصية السنديانة، فلم يستطع الحصول على ذلك، بيد أن ستين أسقفاً محتشدين في القسطنطينية أكدوا أنه يسوغ له استعادة وظائفه الأسقفية، ففعل ما أشاروا به.
العاصفة على أهبة الهبوب

بعد زوال الخطر عاد سيفرينوس إلى البلاط، حيث كاد المكايد ليوحنا أكثر مما فعل في الماضي، وقد حدث حادث موافق لغايته. كان قد نُصب في المدينة تمثال أفدوكسية، فأقيمت مجاهرات أفراح شعبية للاحتفال بذلك الحادث، وكانت ذات صبغة وثنية مفرطة. فاحتج عليها يوحنا في موعظة، وسُهل إقناع أفدوكسية أنه قد توخى تعييرها. وقف يوحنا على ذلك، فاستحسن الثبات على موقفه. عندئذ اعتزمت أفدوكسية أن تتخلص منه في ثناء جلسات المجمع المنوي عقده بدعوة أركاديوس.
ثاوفيلوس، بعد ما فهم، على وجه نهائي، أن الأسفار إلى القسطنطينية لا تُجديه نفعاً ، أبى تصدر ذلك المجمع، لكنه قد دل على الواسطة الناجعة لإهلاك يوحنا. كان مخالفاً لقوانين الكنيسة أن أسقفاً معزولاً يستعيد كرسيه من تلقاء ذاته ويرجع إلى وظائفه. كان ثاوفيلوس يذكر القوانين المشار إليها، بل يختلقها عند اللزوم لمصلحة القضية، ويعزوها إلى مجامع ليست كلها أرثذكسية… فكانت مكيدة مُحكمة… في أواخر403 التأم المجمع؛ مع اعتراضات كثير من الأساقفة ذوي ضمير مستقيم، اكتفى الأحبار بقولهم إن “مجمع السنديانة” حافظ كل قيمته ، فيجب التعجيل في إنفاذ قراراته. من سوء حظهم لم يكن ذلك ممكناً لأنهم يخشون الشعب.
الإمبراطور لم يحضر، خلافاً للعادة ، حفلات عيد الميلاد الكنسية في الكاتدرائية. كان الفصح قريباً، ويوحنا لا يزال في مقره قائماً بوظائفه. وجد خصومه ذلك مما لا يسلّم به، فنالوا من الإمبراطور أن يمنعه عن تتميمها. كانوا يريدون أيضاً أن ينفيه، لكن أركاديوس كان أدرى بما قد يقع من الاضطرابات، فاجتزأ بحبس يوحنا في داره الأسقفية. يوحنا، من جهته، قد أعلمه أنه لا يخضع إلا للقوة القاهرة، لأنه موقن بصحة حقه.
في أواخر لصوم الكبير أمر يوحنا بالرحيل فأبى، ولم تأت بفائدة وساطة أربعين أسقفاً من خلانه لدى الإمبراطور وزوجته. كان يوحنا، وفقاً لواجبه، على أهبة إقامة حفلات بيرمون الفصح والعماد، في 16 أبريل 404 ، وإذا الجنود قد دخلوا المكان المقدس عنوةً ، وعذبوا المؤمنين والمستعدين للعماد، ودنسوا الكنيسة فتشتت المؤمنون وذهبوا مع الإكليرس، دون يوحنا، إلى كنيسة الرسل القديسين، ليواصلوا الحفلة فيها. ففاجأهم الجنود وطردوهم طرداً مصحوباً بسفك الدماء، وقد ثار ثائر اليهود والوثنيين، ولم يكتموا استقباحهم لتلك الأساليب، وبقى يوحنا محبوساً في قصره الأسقفي.
في صباح الغد، يوم الفصح، أبى المؤمنون حضور الحفلات التي تصدرها في المدينة أعداء يوحنا، فذهبوا واجتمعوا في شبه ملعب غير مسقوف، على مسافة خمسة أميال من المدينة. اجتاز الإمبراطور هناك وسأل ماذا يعملون، فأجيب عمداً بأنه احتشاد هراطقة، فأمر بطردهم، وكان ثمَ ضحايا جديدة، وامتد الاضطراب إلى أفسس وهرقلية…
حينئذ كتب يوحنا، وهو لا يزال محبوساً في داره، لأساقفة رومة وميلانو وأكويلية ليوقفهم على ما حدث، ويطلب تدخلهم لتهدئة الاضطرابات ولطلب إنصافه. تلك الرسالة، بنص واحد للمراسلين الثلاثة، هي نموذج للوضوح والموضوعية الهادئة.

النفي النهائي

في 9 يونية 404، الخميس بعد العنصرة، كان يوحنا لا يزال في قصره. فألح سيفريانوس على أركاديوس ، وأصدر هذا الأمر بالنفي . بُلِّغ إلى يوحنا فصرّح بأنه يذعن للبطش الجائر. أراد الذهاب ليصلي في كاتدرائيته، وكان الشعب في انتظاره، لأن كل الأخبار لا تلبث أن تُعرف. ودّع أوليمبياس ومرؤوساتها الواقفات ذواتهن على خدمة الكنائس، وطلب منهن الطاعة لخلفه، أيّاً كان، لخير الكنيسة. ثم انطلق في الخفية، فوصل إلى الميناء وأركب سفينة ذاهبة على بيتينية.
إذ رأى الشعب خيبة انتظاره، فار فائره، فأحرق الكاتدرائية واتُهم بتلك الكبيرة أتباع يوحنا، فحدِّث- ولا حرج- عن أنواع التحقيق، التضييق ، الدعاوى ، بل الإعدام . بعـد ذلك بـدأ الاضطهاد الرسمي مع ألوان الإرهاق من قبل الموظفين والعزل والنفي؛ وقد حبط كل ذلك بإزاء أمانة “اليوحناويين”، وهو النعت الذي كان الخصوم يتبجحون بإطلاقه عليهم. بين ذلك صار أرساسيوس أخو نكتاريوس، وهو شيخ ابن ثمانين عاماً، أسقف القسطنطينية.
انتظر المنفي في نيقية حتى 4 يولية أن يعيّن مكان منفاه النهائي. ثم
سافر إلى كوكوزة، وهو سفر سبعين يوماً في ظروف مُرهقة لصحته الرقيقة. على الطريق كانت إهانات سافلة من قبل بعض الزملاء تتبع مظاهر انعطاف مشجعة. في قيصرية قبادوقية تفاقم حال يوحنا بحيث خُشي عليه سوء المصير، ثم حدث تحسن فعاد الموكب إلى الانطلاق، وقد لازمه اضطهاد رهبان قساة وأعداء ألدّاء للمنفى. أخيراً وصل الموكب إلى كوكوزة في أواسط سبتمبر 404، وسيبقى يوحنا فيها ثلاثة أعوام.
قد استُقبل هناك بمجالي الالتفات المقرون بالتوقير، مما ساعده على تجديد قواه وتناسى آلام السفر الجسدية والنفسية . مع ذلك قد شعر بثقل وطأة المراقبة له وبُعد أصدقائه. كن يكتب لهم فيجيبونه، بيد أن ذلك لا ينوب مناب الحضور… عندنا من ثم مئتان وخمسون رسالة خطها يوحنا إبان منفاه؛ فيها يوقف على أخباره، بفطنة في بعض الأحيان، لئلا يثير القلق. يكتب لتعزية الذين يقاسون الاضطهاد حتى يكونوا أمناء له؛ يكتب لأوليمبياس ليزيل ضيقاتهم وأساها ويحثها على الأمل والسرور . لا ينسى أشغال الكنيسة وتقدم الرسالات، بل يؤيد هذه بنصائحه وأنواع تدخله.

الغرب يتأثر

كان يوحنا ينتظر بثقة نتيجة رسائله إلى الغربيين الثلاثة. ثاوفيلوس قد وقف على ذلك، فحاول أن يتقي سوء العاقبة، وكتب لإينوشنسيوس بابا رومة في ربيع 404 . . أجاب إينوشنسيوس ثاوفيلس قائلاً إنه “ينقض الحكم” الذي “يظهر أن المدعو ثاوفيلس قد حكمه”، وفارضاً عقد مجمع آخر. بين ذلك كان باقياً على اتحاده بيوحنا وثاوفيلوس على السواء. ثم كتب إينوشنسيوس، بعد تحقيق مُحكم، رسالة ثانية إلى ثاوفيلوس، فانهال فيها عليه تعنيفاً، وسمى “مجمع” السنديانية “محاكمة جديرة بالهزء”، وأعلم مخاطبه وجوب مثوله أمام المجمع المنوي انعقاده. من جهة أخرى أبى إينوشنسيوس مباشرة الاتحاد بأرساسيوس القسطنطيني، الذي يعدّه دخيلاً ، ورفض الاتحاد ببورفيريوس الأنطاكي ، عـدو يوحنا، الذي كان قد خلف فلافيانوس في ظروف مناقضة للعقل السليم. على ذلك المنوال أظهر بوضوح تأييده ليوحنا.
ريثما يستطيع أن يفعل كثر من ذلك وخيراً منه، كتب ليوحنا رسالة تعزية، وأخرى لإكليرس القسطنطينية الأمين للمنفى، مصرحاً بأن يوحنا هو أسقف المدينة الشرعي الوحيد.
أواه! المجمع العام الذي أراده البابا لم يمكن انعقاده. هونوريوس إمبراطور الغرب كتب ثلاث مرات لأخيه أركاديوس أن ” المكيدة التي كان الأسقف يوحنا ضحيتها ” يجب إزالة عواقبها ؛ أركاديوس أصمّ أذنيه ، بل لم يُجب أخاه. حينئذ التأم مجمع غربي وأمر بأن يُجلس يوحنا ثانية على كرسيه، بحيث يتمكن من الذهاب إلى المجمع العام القريب انعقاده ، بصفة أسقف القسطنطينية. ثم اوفد سفراء إلى عاصمة الشرق، فعوملوا أقبح معاملة، وأعيدوا إلى إيطالية بعد أن أوسعوهم تعييراً. فكانت النتيجة الوحيدة لمساعيهم تفاقم اضطهاد “اليوحناويين”. استشاط إينوشنسيوس غضباً وقطع اتحاده بكل الشرقيين أعداء يوحنا وبثاوفيلوس.
نشاط يوحنا

كان يوحنا يكتب من منفاه. نضرب مثلاً على ذلك كتابته لرسالات فينيقية التي اهتم بها منذ أوائل أسقفيته، فهو يجود بالنصائح لفائدتها، ويصير برسائله مجنّد مرسلين . كان يكتب أيضاً لعلية الأعيان الثابتين على علائقهم معهن ويستقبل بعض الزوار.
الشتاء الواقع بين عامي 405 و 406 كان شاقّاً بسبب البرد القارس وكذلك بسبب غارات الأيزوريين غير المنقطعة. فاضطُر يوحنا أن يلتجئ إلى أرابيسوس لزيادة أمنه، ثم رجع إلى كوكوزة في ربيع 406.
في أثناء الصيف بلغه ما أصاب الوفد الروماني من الحوادث المؤلمة
وسوء نصيب بعض لأعضائه. وقف أيضاً على انتخاب أتيكوس خلفاً لأرساسيوس، والعودة إلى اضطهاد رعاياه… كتب لإينوشنسيوس حتى يشكره، لفينيريوس الميلاني (de Milan) وكروماسيوس الأكويلي وللسفراء، وكذلك لعدة أساقفة آخرين من الغرب كانوا قد سعوا لمصلحته. يواصل تشديد شجاعة أوليمبياس وإيمانها بإرساله إليها بالمقالة التي عنوانها “لا يمكن أن يصاب أحد بضرر ما لم ينتج عن عمله الشخصي”. يكتب أيضاً “للذين يتشككون” من رؤية انتصار الشر والظلم.
الشتاء الواقع بين سنتي 406 و 407 قد انقضى بدون مصاعب مفرطة. بيد أن أعداء يوحنا في القسطنطينية كانوا ساهرين، وصيته قد حال دون رقادهم. لم يجهلوا فحوى الرسائل التي كان يكتبها لمراسليه العديدين. أفدوكسية كانت قد ماتت في 6 أكتوبر 404، وقد حسُن لدى القوم أن يروا في تلك الوفاة عقاباً إلهياً. لم يستطع سيفريانوس منذئذ الاتكال عليها، لكنه قادر على مواصلة اعتماده على أركاديوس الضعيف العزم. فطلب منه أن ينفي يوحنا إلى مكان أقصى ، إلى بيتيونت الواقعة في سفح جبل القفقاس. كان القرار الإمبراطوري واجب الإنفاذ على الفور، وقد أمر جنود الموكب أن يقودوا المنفى إلى مقره الجديد بسير مفرط السرعة، وقد افتخروا بكونهم قد وُعدوا بترقية مرتبتهم إذا اتخذوا التدابير اللازمة ليموت يوحنا على الطريق.

المجد لله في كل شيء. آمين

انطلق الموكب فور وصول القرار، في أواسط يونية 407، وكان القيظ لا يُطاق. كان كل جنود الموكب ماعدا واحداً، وحوشاً هائلة، يُبعدون بلا رحمة كل الراغبين في إبداء شفقتهم ليوحنا. كانوا يتعمدون المشي تحت أشد الأمطار المصحوبة بالعواصف، أو في صميم شمس الظهر، وقد قوى يوحنا ثلاثة أشهر على تجشم ذلك.
في 13 سبتمبر 407 وصلوا إلى كومانة ثم تجاوزوها، وخيّم الموكب في جوار كنيسة صغيرة مكرسة للقديس باسيليسكوس، أسقف كومانة الشهيد. قضى يوحنا الليل فيها، ورأى في الحلم الشهيد يضرب له موعداً في الغد.
حين لاح الصباح، طلب يوحنا من الجنود عدم مباشرة السير إلا حول الساعة الحادية عشرة، فأذاقوه رفضاً شرساً وانطلقوا فوراً. لم يطل بهم المشين فإن حالة يوحنا قد اضطرتهم إلى الرجوع بسرعة إلى الكنيسة الصغيرة التي غادروها من زمن قصير . فطلب يوحنا أن يُلبس ثوباً أبيض، وتناول، وقبل أن يُسلم الروح ، قال كلمته المفضَّلة : ” المجد لله في كل شيء! آمين”.
“فتنة فمك، مثل مصباح ساطع، قد أنارت الكون أجمع . قـد استودعت العالم كنوز النزاهة وأرتنا سمو التواضع . يا أبانا يوحنا الذهبي الفم ، بينما تعلّمنا بأقـوالك ، اشفع عند الكلمة، المسيح إلهنا، لأجل خلاص نفوسنا”.
(الطقس البيزنطي)
“نتوسل إليك، يارب ، أن تقوّي النعمة السماوية كنيستك، التي أردت أن تُشهرها بمجيد استحقاقات وتعاليم الطوباوي يوحنا الذهبي الفم، حبرك والمعترف بك”.
(الطقس الروماني)

بلاغات لرجال أمس واليوم
معنى تفوق الله

“وكانوا يتصايحون: قدوس، قدوس، قدوس، رب الصباؤوت”. أجل، قدوس في الحقيقة من أهّل طبيعتنا لمعرفة تلك الأسرار الفائقة العظمة، وأشركنا في مثل هذه الأسرار. الارتعاب والارتعاش يتملكاني على نغمة مثل ذلك الترتيل. ولا بدع بكوني راجفاً، أنا الذي لست سوى صلصال وتراب، فإن القوات العلوية ذاتها يأخذ منها الرعب كل مأخذ بدون انقطاع. ولذلك تدير وجوهها وتبسط أجنحتها مثل حائط لاتقاء الإشعاع غير المحتمل الصادر من الله . مـع ذلك ما كان يتراءى لهم لم يكن سوى صورة مصغرة للحقيقة.
ولماذا لا تقوى على احتمال سطوعها؟ أتسألني أنا ذلك السؤال؟ اذهب وسل بالأحرى أولئك الذين ينقبّون، برغبة في المعرفة، عن طبيعة الله الفائقة الوصف والسعيدة، أولئك الذين هم ذوو أنواع الجسارة في غير محلها على وجه الإطلاق. بينما الساروفيم لا يستطيعون حتى مشاهدة الله، الذي لا يتجلى لهم إلا بالتنازل إلى ضعفهم، يوجد من الناس من يتجرأون ويتصورون في عقلهم تلك الطبيعة عينها التي يعجز الكاروبيم عن إدراكها، فيزعمون أنهم قادرون على رؤيتها بوضوح وبلا حدود! فارتعدي، أيتها السماء وكوني في الدهشة، أيتها الأرض.
(الميمر 2 على أشعيا، الرقم2)
الحياة بحضرة الله

إذا رأينا الله على الدوام بعيون نفسنا، إذا انطلق فكرنا بلا انقطاع إلى تذكره، فكل شيء يبدو لنا سهلاً خفيفاً. إذا كان من يتذكر صديقه، يُنهض شجاعته وبفـرح بتذكاره ، فكيف يمكن أن يكون حزيناً أو مرتعباً أو خائفاً من الخطر من يتذكر الإله الذي قد تنازل وأحبنا؟
الميمر 26 على الرسالة إلى العبرانيين، الرقم3)
الله لا يتكلم بحيث لا يقول شيئاً

ولكن ربما قلت لي: “الله فائق اللطف ! ” أينتج من ثم أن الغنيّ الذي احتقر لعازر، والعذارى الطائشات اللواتي رذلهن المسيح، أن كل ذلك كلام فارغ ؟ فإذاً الذين يكونون قد أعرضوا عن إطعـام المسيح ، لن يذهبوا إلى النار الأبدية المهيأة للشيطان؟… أيكون ذلك مجرد تهديد إلهي بدون مفعول؟ تقول لي: “بلا شك ” . أرجو أن تجيبني ؛ من أين لك هذه الجسارة أن تفوه علانيةً بمثل تلك الأشياء، وتُبدي باسمك الخاص مثل ذلك الرأي؟ سأبرهن لك، بالاستناد إلى أقوال الله عينها وأساليب عمله، أنك مخطئ. إن لم تؤمن بسبب المستقبل، فآمن بسبب الماضي، لأن الماضي المنصرم ليس مجرد تهديد ولا كلاماً فارغاً . من إذاً قد حول بالطوفان الأرض جمعاء إلى مستنقع؟…
(الميمر 25 على الرسالة إلى الرومانيين، الرقم 4)
لماذا نصلي؟

“ربما قال لي أحدكم: إن كنتُ بارّاً ، فما حاجتي إلى الصلاة ، لأن البرارة كافية لتجعلني أعمل باستقامة، ولأن الذي يقصد استجابتي عالم ما يلزمني كل العلم؟”
– لماذا نصلي؟ لأن الصلاة ليست أدنى رُبط المحبة التي تقيدنا بالله: تعوّدنا محادثته ، وتهدينا إلى حب الحكمة الحقيقية . من يدأب على معاشرة سريّ ممتاز بمناقبه، يجن أعظم فائدة من هذه المخالطة؛ أما الذي يلازم معاشرة الله، فيجني أعظم جدّاً منها.
(على المزمور 4، الرقم 2)

هل أنت متوسل أو مشتك؟

من يتقح بحيث يريد أن يعمل الله مـا يضاد الشريعة التي سنها ؟ من يصلي إلى الله لإيذاء أعدائه ، فـإن ذلك مناقض لشريعة الله . قد قال لنا الله: “أعفوا المديونين لكم من ديونهم”، وأنت تطلب التدخل لضرر أعدائك من الذي أمرك بالعفو عنهم ؟ هل من جنون شر من هذا؟ حين الصلاة يجب أن نقف موقف السائل ونتخذ عقليته وعواطفه؛ أما أنت فتريد القيام بعمل المشتكي…
(على المزمور 4، الرقم 2)
فوائد الصلاة

من يصلِّ ينل بصلاته خيرات عظيمة، حتى قبل نيله التي يطلبها. الصلاة تسكّن اضطرابات النفس ، تُخمد الغضب ، تطرد الحسد ، تطفئ الجشع، تُنقص وتخفف التعلق بخيرات هذه الأرض ، تجعل في النفس سلاماً شديداً، وبالإجمال ترفع إلى السماء.
(على المزمور 129، الرقم1)

الشكر على الدوام وفي كل مكان

أرجو منكم تجنب الإهمال ! ليتروّ كلٌّ منكم ، بقدر قواه ، في باطنه ، كل ساعة من النهار في الخيرات التي مُنحها ، لا مجرد التي يشاطره إياها جميع البشر ، بل أيضاً التي نالها نيلاً شخصياً ، لا مجـرد التي يعترف بها كل الناس ويعرفها كلهم، بل المختصة به ، التي يعلمها هو وحده. هكذا نحث ذواتنا على شكر الله بدون انقطاع، والشكر هو أكبر تضحية، التقدمة الكاملة، سبب ثقتنا بالله والدليل عليها.
(الميمر 9 على سفر التكوين، الرقم 5)
متى أذنبت…

متى أذنبت، فابك على ذنبك، لا لأنك سوف تُعاقَب عليه- وذلك ليس داعياً مقبولاً- بل لأنك قد أهنت مولاك الفائق اللطف والحب، الذي بلغ به الاهتمام الشديد بتخليصك حد إسلام ابنه نفسه لأجلك. فنُح لذلك الداعي ونح بلا انقطاع…
(الميمر 4 على الرسالة الثانية إلى أهل كورنتس، الرقم 6)

إن أردت أن يُغفر لك، فاغفر لغيرك

لنهتم كل الاهتمام بالابتعاد عن كل حقد وبمصالحة من لهم ما يطالبوننا به . لنوقن كل الإيقان أنه لا صـلاة ولا صـوم ولا صدقة ولا اشتراك في الأسرار المقدسة ولا شيء آخر قادر على المدافعة عنا في يوم الدينونة، إذا حفظنا تذكار الإهانات الملحقة بنا ؛ وبعكس ذلك أنـه من المحال ألا يُغفر لنا نحن، مهما كان عدد الذنوب المدنسة لنا، إذا استطعنا الانتصار على أحقادنا…
(على مثل العشرة آلاف وزنة، الرقم 7)
“هكذا سوف يعاملكم أبوكم السماوي إن لم يعفُ كلُّ منكم عن أخيه من صميم قلبه”.
ذلك المثل يفيدنا جدّاً بشرط أن نُحكم الانتباه لـه . في الواقع ، هل لنا فيما يجب أن نغفـره لغيرنا ، ما يُقاس بما يغفره الرب لنا نحن ؟ إذا أردنا العفو، فإنما نعفو لمصلحة أشخاص هم خُدام الله مثلنا؛ بينما الرب ذاته يمنحنا العفو عنا، ونحن خدامه، لا غير.
أحسن ملاحظة كل الإيضاحات: ليس مكتوباً “إن لم تغفروا للناس زلاتهم” فقط، بل “إن لم يغفر كل منكم لأخيه زلاته من صميم القلب”. لاحظ كيف يريد المسيح أن يكون قلبنا في السلام والهدوء، وأن تكون روحنا بعيدة عن كل اضطراب، محررة من كل شهوة، وأن نُظهر لقريبنا كل حبنا المضطرم.
يسوغ أن نذكّر هنا ما قاله المسيح في ظرف آخر: “إن لم تغفروا للآخرين زلاتهم، فلن يغفر لكم الآب السماوي زلاتكم”. فلا نزعمن أننا، بعفونا عن غيرنا، نُنعم عليهم أو نهدي لهم هدية عظيمة. إنما نهديها لذواتنا، نحن المستفيدين منها. وإن لم نعفُ، فليس إخوتنا البتة من نضرهم، بل نهيئ لذواتنا عذاب الجحيم الهائل.
من ثم أرجو منكم إحكام تأمل تلك الحقيقة. لنمتنع عن ذكر ما سببه لنا الناس من الظلامات والجروح والمشقة؛ لنتحاش عن الحقد. لنعتبر عظم مكسبنا بالغفرات وشدة الطمأنينة التي تمنحنا إياها ممارسته، حين نمثُل بين يدي الديان الأسمى. فلنفكر على الأخص في كوننا، إذ نصالح من أساؤوا إلينا، نمنح ذواتنا غفران خطايانا الشخصية.
في المحن…

لا نتوهم أن المحن التي تصيبنا دليل على كون الله يخذلنا أو يهملنا. بعكس ذلك هي أعظم برهان على أنواع اعتنائه بنا ، لأننا ، ولو كان ثقل خطايانا فادحاً لنا ، نستطيع تخفيفه بإبداء صبر لا ينفد وبشكر الله تعالى. وإن لم ينؤ بنا عبء خطايانا، فإننا نفوز بنعم أعظم إذا احتملنا محننا بمعرفة جميل الله.
(الميمر 32 على سفر التكوين، رقم 9).
ما أعجب اسمك!

باسمك في الواقع، قد غُلب الموت وحُطِّم، وكُسرت الشياطين، وتجدد فتح السماء ، وافتتحت أبواب الفردوس ، وأرسل روح القدس من السماء. باسمك حُرر العبيد، وصار من كانوا أعداءً بنين، والغرباء وارثين، والبشر ملائكة . ماذا أقول : ملائكة ؟ الله قد جعل نفسه إنساناً، والإنسان قد جُعل إلهاً. السماء قد أخذت الطبيعة الصادرة عن الأرض، والأرض قد حصلت على الجالس فوق الكاروبيم وكل جيش الملائكة؛ قد أسقط الحائط الفاصل إياهما، ونُزع السياج. ما كان مقسوماً ومفصولاً قد وُحّد، وانقشعت الدياجي، وسطع النور، والتُهم الموت في الانتصار . ذلك ما كان يفكر فيه النبي ، ما كان يُعلنه عن بعد، وهو يقول : ” ما أعجب اسمك في كل أنحاء الأرض ! ”
(على المزمور 8، الرقم1)

على العماد

… لماذا الماء؟ سأقوله لكم وأكشف لكم سرّاً مكنوناً؛ توجد في هذا الشأن نُقط أخرى خاضعة للسر؛ مع ذلك سأحدثكم عن نقطة موضوعها الكمية. ما هي؟ إنما يُحتفل برموز إلهية، الدفن ، الموت ، الحياة ؛ وكل ذلك يتم بفعل واحد . حين نُغطس الرأس تحت الماء ، كأنه قبر ، تُدفن وتُغطس كـل إنسانيتنا القديمة . وإذ نخرج بعدئذ ، فإنما يطفو ويخرج رجل جديد . كمـا أنه يسهل علينا أن نُغطس ذواتنا ثم نطفو ، هكذا يسهل على الله أن يدفن الإنسانية القديمة ويُلبسنا الإنسان الجديد.
الإغطاس مثلَّث لتعليمك أن كل ما ذُكر يتم بقدوة الآب والابن وروح القدس. ليس ذلك تخميناً بشريّاً ؛ جدير بك أن تسمع قول بولس: “لقد دُفنَّا معه في موته بالعماد”، وأيضاً “إنسانيتنا القديمة قد صُلبت معه”، وأيضاً “قد التقحنا عليه بشبه موته”. ليس العماد وحده المسمى صليباً، بل الصليب عمداً: “ستعمَّدون بالعماد الذي أنا معمد به”، وأيضاً “يجب عليَّ أن أعمّد بعماد لا تعرفونه”. كما يسهل علينا الغطس في الماء والخروج منه، هكذا هو أيضاً قد مات وقام مثلما شاء، بل بسهولة أعظم جدّاً، مع أنه قد بقى في الموت ثلاثة أيام بسر من أسرار التدبير الإلهي.
بما أننا قد عُدنا جدراء بتلك الأسرار الفائقة العظمة، فلنعش عيشة خليقةً بتلك العطية الفائقة العظمة ؛ فلنعش عيشة الكمال . أما أنتم الذين لم تعدوا حتى الآن جدراء، فابذلوا قصاراكم لكي تصيروا ذوي جدارة، لكي تكوّنوا معنا جسداً واحداً، حتى نصبح إخوة. ما دمنا منفصلين على ذلك المنوال ، فإنه ، ولو كان أحدنا أباً ، والآخر ابناً ، وغيره أخاً أو صاحب مزية أخرى ، فإنـه ليس ، في الحقيقة حتى الآن من العائلة ذاتها ، لأنه غريب في ميدان القرابة الروحيـة . مـا الفائدة من اتحادنا بالقرابة الناتجة عن صلصالنا المشترك، إن كنا غير متحدين روحيّاً؟ ماذا تجدينا قرابة أرضية، ونحن غرباء عن السماء؟ فإن المستعد للعماد غريب في نظر المؤمن.
(الميمر 25 على إنجيل القديس يوحنا، الرقم2)
ابن الله أم وحش ضار؟

” أبانا الذي في السموات ” ؛ أي لطف نحو البشر ، أي مكانة ، أي امتياز‍ أيوجد كلمات للتعبير عن شكرنا للذي منحنا مثل تلك العوارف؟… لم تعلَّم سدى لفظ تلك الألفاظ؛ حين يفوه فمك بذلك الاسم اسم الآب، يجب أن يستولى عليك الاحترام وأن تتشبه بلطفه، كما كُتب في موضع آخر: “تشبهوا بأبيكم الذي في السموات، الذي يُطلع شمسه على الأشرار والصالحين، ويُنزل المطر على الأبرار والطالحين. من كان ذا فؤاد قاس صلب ، يسوغ له أن يسمى أبـاً إله اللطف ، لأنه لا يصون في ذاته سمة الآب السماوي، بل يحوّل ذاته إلى وحش ضار، ويخسر شرف ابن الله المختص به، وفقاً لقول داود : ” الإنسان عادم الفهم في بذخه ، فيشبه الماشية العادمة العقـل ، ويصير مثلها ” . من ينقض شبه ثور شديد الهياج، ويتصلب برأيه كالبغل، ويتذكر الإهانات كالجمل ، وينهم كالـدب ، ويجشع كالذئب ، ويعض كالحية ، ويراوغ كالثعلب ، ويشبق كالحصان الثائر ، هل يسوغ لـه أن يتكلم كلام الابن وأن يدعو الله أباه؟… بعكس ذلك ، كل من يُبدي للقريب وداعته وإنسانيته ، ولا ينتقم من المسيئين إليه ، ويقابل الشر بالخير، ليس البتة عرضةً للعقاب حين يسمى الله أباً…
(على الصلاة الربية، الرقم 3)
هذا هو جسدي …

لنثق بالله ثقة مطلقة ولا نخالفه دنى مخالفة، ولو ظهر لنا ما يقوله لنا مناقضاً لتعقلاتنا ولذهننا؛ بعكس ذلك ليكن قوله أقوى من عقلنا أو تعقلاتنا. لنفعل هكذا فيما يتعلق بالأسرار القربانية؛ لا نقصر اهتمامنا على ما نراه فقط ، بل نتمسك بالأقوال . فإن كلام الله لا يخدع ، بيد أنه يمكن انقياد حواسنا بسهولة للخداع. كلامه لا يزول، لكن حواسنا تعثر بتواتر مفرط . بما أن كلامه يقول لنا ” هذا هـو جسدي ” ، فلنثق به ونصدّقه ونشاهده بعيون نفسنا. فإن ما أعطانا المسيح إياه ليس شيئاً واقعاً تحت الحواس؛ حتى ما هو حقيقة نشعر به، هو بكليته من العالم الروحي. على ذلك المنوال ، في العماد ، بواسطة الماء ، وهو حقيقة حسية، تُعطى وتخوّل النعمة، ويتم على وجه روحي الميلاد الجديد ، تجديد طبيعتنا. لو لم يكن لك جسم، لكان الله قد منحك عطايا روحية محضة. بيد أن النفس متحدة بالجسد، فالله يعطيك خيرات روحية بواسطة أشياء حسية. كثير من النصارى يقولون اليوم: “ليتني رأيت شخصه وشاهدت محياه وثيابه وحذاءه” والحال أنك تراه وتلمسه وتأكله.
فلا يتقرب أحد من هذه المائدة بدون شهوة أو بتوان، بل ينبغي للجميع أن يأتوها مضطرمين بحرارة التقوى وبالشجاعة. إن كان اليهود قد أكلوا بسرعة حمل الفصح، وهم واقفون محتذون، والعصا في يدهم، فيجب عليك أن تفوقهم جدّاً بالبسالة. كانوا على أهبة السفر إلى فلسطين، ويظهرون منذئذ بمظهر المنتصرين؛ أما أنت فإنك راحل إلى السماء‍
الميمر 82 على إنجيل القديس متى، الرقم 4)

اذهب وصالح أخاك

هاكم ما أعلنه، ما أؤكده، ما أقوله بصوت رنان: لا يتقرب من المائدة المقدسة ويتناول جسد الرب أحد الذين لهم عدو. لا يتقرب أحد، وله عدو. لك عدو؟ فلا تدنُ؛ وإذا أردت الدنو ، فاذهب أولاً للمصالحة، ثم تنول السر . لست أنا المتكلم هكذا ، هو الرب الذي يقول ذلك القول، هو الذي صُلب لأجلنا . لكي يصالحك أنت وأباه ، لم يأب القتل وسفك دمه. أما أنت فتأبى لمصالحة أخيك حتى لفظ كلمة أو الإقدام على مواجهته؟ أصغ إلى ما قاله الرب في شأن أمثالك: “إذا قدّمت عطيتك على المذبح، وتذكرت هناك أن لأخيك عليك شيئاً…”، لا يقول: انتظر أن يأتيك أو يقبل زيارة أحد مراسيلك القائم بمهمة مصالح، أو أن تبعث إليه شخصاً آخر، بل يطلب في الواقع أن تسرع أنت ذاتك إليه . فإنه يقول : ” انطلق واذهب أولاً وصالح أخـاك ” . إنه لأمر لا يصدَّق بينما الله لا يعدّ نفسه منتهك الشرف بكونه يرى ترك العطية المنوي تقديمها إليه، أنت تعد ذاتك مفضوحاً إذا خطوت الخطوة الأولى لمصالحة أخيك.
(من عظة لأهل أنطاكية في الصوم الكبير، رقم 5)

جسد واحد…

يجب أن نتعلم أي معجزة تصنعها الأسرار القربانية، ولماذا مُنحت وما هي فائدتها . يقول الكتاب المقدس : ” نحن جسد وحد ، أعضاء لحمه وعظامه”. فليُحسن الإصغاء إليّ من لُقنوا حقائق ديننا.
يسوع يريد أن نصير جسده، لا بالحب فقط، بل في الحقيقة باختلاطنا بلحمه ذاته. ذلك مفعول الطعام الذي يمنحنا إياه دليلاً على حبه لنا. يختلط بنا، يُدمج جسده فينا، لكي نصير وإياه كياناً واحداً، كاتحاد الجسم بالرأس. هكذا يفعل ذوو الحب المضطرم.
من ثم، حين نبتعد عن هذه المائدة المقدسة، فلتكن شجاعتنا شجاعة الأسد، ولنصر هول الشيطان. فلنفكر في المسيح رأسنا وفي الحب الذي أبداه لنا…
لنحذر من ذواتنا، أيها الأعزاء جداً، ونحن مغمورون بمثل تلك المنن . إذا جُربنا بلفظ أقوال شائنة ، أو بتسلط الغضب أو بتجربة أخرى، فلنعتبر العطايا التي عُددنا جدراء بها وروح القدس الذي مُنحناه، فإن ذلك التروي يسكّن شهواتنا. حتّام نظل متعلقين بأشياء هذا العالم الحاضر؟ كم من الوقت يدوم إباؤنا الاستيقاظ؟ كم يطول عدم اكتراثنا لخلاصنا. فلنتذكر الخيرات التي قد تنازل الله وأعطانا إياها؛ لنشكره ونمجده، لا بمجرد إيماننا، بل بأعمالنا، لننال الخيرات المستقبلة بنعمة ولطف سيدنا يسوع المسيح، الذي نود أن يكون به المجد للآب ولروح القدس أيضاً، الآن وعلى الدوام وإلى دهر الداهرين. آمين.
(الميمر 46 على إنجيل القديس يوحنا، الأرقام 2 و 3 و 4)
يستطيع الأزواج إرضاء الله…

“وأخنوخ أرضى الله بعدما ولد متوشالح”. ليفهم الأزواج ونساؤهم ويتعلموا فضيلة الصدّيق، ولا يزعموا أن الزواج سبب نقصان إرضاء المتزوجين لله . . . يجب ألا يظن أحد أن الزواج حائل دون الفضيلة . إذا كنا حكماء ، فلا تهذيب الأولاد ولا الزواج ولا سبب آخـر يمنعنا عن إرضاء الله. أخنوخ كان إنساناً مثلنا، وقد أعوزه حتى قبول الناموس والتعليم المحتوى في الأسفار المقدسة وأشياء أخرى من ذلك النوع، ليهتدي إلى العمل بالحكمة الحقيقية. إنما أراد أن يرضي الله من تلقاء ذاته وبإرادته، بحيث ظل حيّاً حتى اليوم بدون أن يجتاز الموت. لو كان الزواج، أيها الأصدقاء الأعزاء، أو تهذيب الأولاد عائقاً على طريق الفضيلة، لما أدمج خالق الكون الزواج بتةً في حياة الناس، لئلا يحرمنا الأمر الجوهري الضروري، وهو الفضيلة. ليس الزواج حائلاً دون عيشتنا
وفقاً للحكمة الإلهية ، إذا استعملناه باعتدال ، بل هو تعزية كبيرة .
(الميمر 22 على سفر التكوين ، الرقم 4)
ادعوا كاهناً[1] …

في وسط الاضطراب والخلل هاهو ذا الكاهن واصلاً، وهو أرهب من الحمى ذاتها وأهول في عيون أقرباء العليل من الموت نفسه. يُعدّ وصول الكاهن سبباً لليأس أكبر من تصريح الطبيب المؤكد أن الحالة موجبة القنوط . وصول الكاهن ، وهو دليل على الحياة الأبدية ، يُعد علامة للموت! ولم أبلغ حتى الآن ختام تلاك الملاحظات! في وسط هياج الأقارب المتأهبين، كثيراً ما تغادر النفس الجسد، أو إذا ظلت حاضرة، فذلك لا يجدي نفعاً. المحتضَر لا يعرف أحداً، لا يسمع حين يخاطَب، لا يستطيع الإجابة قط… هو أشبه بحطبة أو حجر، وقلما يختلف عن ميّت… فما عسى أن تكون فائدة تلقين الحقائق الدينية ، وقد أصبح الشخص فاقد الرشد على الإطلاق؟
(للمنوي تعميدهم، التعليم المسيحي الأول، الرقم 1)

حين الدفن …
ما هذا الجنون؟ ألن يضحك عليه عادمو الإيمان ضحكاً طويلاً؟ ألن يعدّوا إيماننا أسطورة محضة؟ سيقولون: “لا حقيقة للقيامة، فعقيدة النصارى ليست سوى خداع مضحك وفخ. فإنه إن لم يبق شيء بعد هذه الحياة، وإذا كانت نساؤهم يبكين بكاءهن، فسبب ذلك أنهم لا يقيمون أدنى وزن لكتبهم المقدسة ذاتها. ما كل ذلك سوى اختلاق، وقد أجادت أولئك النساء إثباته . فلو آمنّ أن الميت ليس في الحقيقـة ميتاً ، بل منتقلاً إلى حياة خير من هذه، لم يبكين كأنه غير موجود منذ الآن، لم يضطربن ويقلن أقوالاً ملأى بعدم الإيمان : ” لن أعود إلى رؤيتك ، لن أجدك ثانيةً ! ” عند ذلك القـوم ليس كل شيء سوى أسطورة ؛ إن لم يؤمنوا بما هو أظم الخيرات، فكيف يؤمنون بكل الباقي؟
ليس الوثنيون مخنثين إلى ذلك الحد، فإن الحكماء كثيرون عندهم. عرفت امرأة وثنية أن ابنها قد مات في القتال، فسألت فوراً ما حالة الوطن… إني لأخجل من رؤية الوثنيين يمارسون الحكمة، بينما نسلك نحن سلوكاً جد سيء. من يجهلون كل شيء مختص بالقيامة، يسلكون كأنهم يعرفونها، ومن يعرفونها يسلكون كأنهم يجهلونها؛ وكثيرون يفعلون عن حياء بشري ما لا يفعلونه لوجه الله. من أمثال ذلك أن النساء الوجيهات لا ينتفن شعرهن ولا يعرّين أذرعهن. والحال أن الأمر الذميم إلى الدرجة القصوى ليس أنهن لا يعرين أذرعهن، بل أنهن يمتنعن عن ذلك لمجرد بقائهن في حداد مستحسن، ولا ينقدن لداعي التقوى. سلامة الذوق تردعهن عن البكاء؛ أما خوف الله فلا يردعهن! فكيف لا تلام تلك العقلية؟ كان يليق أن ما تعمله نساء الخاصة لأنهن من الخاصة، تعمله أيضاً نساء العامة عن مخافة الله. على أن العالم في أيامنا منقلب رأساً على عقب؛ بعض النساء يسلكن بحكمة عن كبرياء، وغيرهن يسلكن بعدم لياقة لخلوهن من علوم النفس. هل من خلل شر من ذلك؟ أجل، إننا نعمل كل أعمالنا عن حياء بشري…
ربما قلتِ: “ما هذا؟ أحرام أن أبكي على موت زوجي؟ ” كلا ، لا أحرّم ذلك؛ إنما أنهي عن قرع الصدر والبكاء بلا اعتدال . لست قاسياً ولا عادم الإنسانية؛ أنا عارف أن الطبيعة ضعيفة… فلا يسعنا عدم البكاء، كما أثبت المسيح نفسه، فقد بكى على لعازر. فابكي أنت أيضاً ابكي ولكن بهدوء، بحياء، بخوف الله. إذا بكيت هكذا، فلا تبكين كأنك لا تؤمنين بالقيامة، مثل من لا يصبر على الفراق. فإننا نرافق أيضاً بدموعنا المسافرين إلى مكان بعيد، بيد أننا لا نبكي كأننا يائسون من رؤيتهم ثانيةً. فابكي أنت هكذا، كأنك ترضين برحيل شخص سوف تلاقينه…
ما يكرم الميت ليس العبرات والصيحات، بل إنشاد التراتيل والمزامير وكمال العيشة التي نعيشها. فإنه قد رحل ليحيا مع الملائكة، وإن لم يحضر أحد جنازه. بعكس ذلك، من مات في الطلاح، فمن الممكن أن تسرع المدينة جمعاء إلى جنازه، بدون أدنى فائدة له. أتبغين تبجيل زوجك المتوفي؛ فاطلبي وسائط أخرى: تصدقي، اصنعي الخير، اخدمي غيرك. ماذا تفيدك كثرة البكاء؟
لكني سمعت رواية أمر أثقل ذنباً: قيل إن بعض النساء يجتذبن بدموعهن التائقين إلى تزوجهن ، فإنهن ، بشدة حزنهن ، يفزن بصيت نساء ممتازات بحب زوجهن! يا له اختراعاً شيطانيّاً! يا لها حيلة من حيل إبليس! … فكيف نُقنع الوثنيين بعد ذلك؟ كيف نقنعهم بالقيامة والفضائل عندما نحدثهم عنها؟.
(الميمر 62 على إنجيل القديس يوحنا، الرقمان 4 و 5)
الأساقفة والكهنة

في الكنيسة، حين سيامة الأساقفة ، يوضع على رأسهم إنجيل المسيح ليعرف المسيم أنه ينال التاج الحقيقي الذي هو الإنجيل، ليعرف أنه، ولو كان رئيس كنيسته، فهو أيضاً مع ذلك خاضع لسلطة الشريعة الإنجيلية القائلة : ” إن مـن يأمر الجميـع هو تحت حكم الشريعة ، ومن يفرض أوامره على الجميع، يقبل هو أيضاً أوامر الشريعة” . من ثم قد كتب سريّ من قدمائنا، القديس أغناطيوس، الفائز بشرف الحبرية والاستشهاد المزدوج، لأسقف آخر هذه العبارات : ” لا يُعمل شيء بدون إرادتك؛ أما أنت فلا تعمل شيئاً بدون إرادة الله ” . إذا كان الإنجيل قد وُضع على هامة الحبر، فذلك للدلالة على خضوعه لسلطة…
فيجمل بالكاهن أن يكون ذا خبرة ورعة في الحكمة، وأن يقدّم سيرته إلى الشعب قدوةً يقتدي بها…
زهور الثوب الكهنوتي هي المواجهات، الأحاديث، الأخلاق الطاهرة، الكلام اللطيف ، الإيمان ، الصيت الحسن ، الحقيقة ، العدل . بين تلك الزهور توضع الجلاجل[2] . وتوافق أنغـام الأعمال الصالحة ، فإن كل فضيلة تُصدر صوتاً رخيماً، ومن ثم قول بولس : ” بواسطتكم قد رن كلام الله”. ومتى أخذ يرن؟ كان يسوع يجوب المدن، معلماً في كل مدينة وشافياً كل مرض وكل عاهة في الشعب، وقد انتشرت في العالم أجمع رنة ذلك السلوك…
(الميمر على المشترع، الرقمان 4 و 5)

ليوم الميلاد
ماذا أقول ؟ كيف أتكلم ؟ إن معجزة كهذه تجعل الدهش يأخذ مني كل مأخذ . القديم الأيام قد صار طفلاً صغيراً ؛ الجـالس على العرش الأسمى في أعلى السماء منسطح في مذود. المستحيل لمسه، البسيط، غير المركب ، عادم الجسد ، تلمسه أيـد بشرية . الفاكّ قيود الخطيئة مقيّد بقُمط لأنه قد شاء ذلك- قد اعتزم أن يحوّل الحقارة إلى شرف ، أن يُلبس العار مجداً ، وأن يُظهر أن حدود التواضع هي حدود القوة . من ثم قد احتمل ذل جسدي لأتمكن مـن الاتحاد بالكلمة الأزلي . يأخذ لحمي ويعطيني روحه، وبالعطاء والأخذ يهيئ لي كنز حياة. أخذ لحمي ليقدسني؛ يعطيني روحه ليخلصني…
في هذا اليوم القيد القديم مفكوك، الشيطان مخزيّ، الأبالسة هاربون، الموت مهدوم، الفردوس مفتوح ثانيةً، اللعنة مُلغاة، الخطيئة مدحورة، الضلال مكبّل والحقيقة عائدة. كلام التقوى منتشر في كل مكان، فهو يهرول عبر العالم؛ كيفية حياة السموات قد رُكزت على الأرض، فالملائكة في اتصال بالبشر، والناس يكلمونهم بدون أدنى خوف. لماذا؟ لأن الله قد جاء على الأرض، والإنسان قد أدخل السماء؛ ذلك هو التبادل العظيم…
ماذا أقول أيضاً؟ كيف أتكلم ؟ أرى نجاراً ، مذوداً ، طفلاً ، قُمطاً، عذراء تلد في الفقر المدقع ؛ كل شيء فقري ، كل شيء ينم فقراً. ولكن انظر، يا صاح، ما أكثر أنواع الغنى في هذا الفقر! كيف جعل ذاته فقيراً لأجلنا، وقد كان غنياً؟ . . . لله درك ، أيها الفقر ، ينبوع غنانا!
(الميمر 2 على الميلاد، الرقم 2)
في أول أسبوع الآلام

الأسبوع الحاضر هو لنا بمثابة الميناء لربابنة السفينة، المكافأة للعدّائين ، الإكليل للمصارعين . هـو مصدر كل الخيرات ، وفيه نحارب لنيل الإكليل. من ثم نسميه الأسبوع العظيم . ليس سبب ذلك أن أيامه أطول من غيرها، إذ توجد أيام أطول منها، ولا أن أيامه أكثر منها في غيره، فكل الأسابيع ذات سبعة أيام. السبب هو أن الرب قد صنع عظائم في هذا الأسبوع.
في الواقع، إبان هذا الأسبوع الذي يُسمى عظيماً، قد زال طغيان الشيطان الطويل، باد الموت، غُلب القوي وبُعثرت أملاكه، دُحرت الخطيئة ، ألغيت اللعنة ، فُتح الفردوس ثانيةً ، أسبغ دخول السماء ، شرع الناس يتصلون بالملائكة ، هُدم الحائط الفاصل ، نُزع الستار ، وأتى إله السلام السماء والأرض بالسلام. لذلك دُعي هذا الأسبوعُ الأسبوعَ العظيم، وكما أن هذا الأسبوع هو رأس الأسابيع الأخرى، هكذا رأسه هو سبت النور، وما الرأس هو بالنسبة إلى الجسد، فذلك شأن سبت النور بالنسبة إلى الأسبوع العظيم.
فمن المعقول أن جمهور النصارى، في هذا الأسبوع، يشدد جهوده: البعض يزيدون أصوامهم، وغيرهم الأسهار المقدسة، وغيرهم يكثرون صدقاتهم. كل ذلك واسطة نشهد بها هكذا، بالغيرة على الأعمال الصالحة والاهتمام بتحسين سيرتنا، على عظم الخير الذي صنعه الله إلينا. كما أن كل مدينة أورشليم، بعدما أقام الرب لعازر، قد شهدت بجمهورها الآتي لاستقباله ، على كـونه قد أقام ميتاً – فإن غيرة الآتين لملاقاته كانت دليلا على الأعجوبة المصنوعة- هكذا في أيامنا ، غيرتنا على حسن الاحتفال بالأسبوع العظيم، هي العلامة والبرهان على عظم المآثر التي أنجزت فيه قدماً. ونحن لا نخرج من مدينة واحدة ، مدينة القدس دون سواها ، نحن الذاهبين اليوم لملاقاة المسيح . في العالم أجمع تذهب من كل الأنحاء شعـوب لا تحصى من رعايا كل الكنائس ، لملاقاة يسوع. وليس ما تحمله وتهزه غصون النخل، بل الصدقة، إنسانية، الفضيلة ، الصوم ، الدموع ، الصلاة ، الأسهار وكـل أنواع الفضيلة هي ما تقدمه إلى السيد المسيح…
(على المزمور 145، الشرح الثاني، رقم 1)

لجمعة الآلام

اليوم سيدنا يسوع المسيح على الصليب، ونحتفل بعيد، فإني شديد التوق إلى القول إن الصليب عيد واحتفال روحي محض. في الماضي كان الصليب يعني الحكم على شخص؛ أما الآن فهذه الكلمة تعني الشرف؛ ما كان رمز العار هو الآن رمز الخلاص.
الصليب هو لنا ينبوع منن لا تحصى: هو الذي ينقذنا من الضلال، وينير من كانوا في الظلمات، ويقربنا من الله. قد لاشى العداوة وأزال الحرب وصالح مع الله من قد صاروا غرباء عنه، فأدخلهم في عائلته، وأتانا بالسلام وكفله لنا ؛ هو كنز جميع الخيرات . بفضله لا نظـل تائهين في الصحراء، فإنه يدلنا على الطريق الحقيقي، ولسنا خارج القصر، فقد وجدنا الباب لندخله ثانيةً؛ لا نخشى سهام إبليس الملتهبة ، فقد اهتدينا إلى الينبوع. بواسطة الصليب خرجنا من الترمل، فقد مُنحنا زوجاً، وقد زال عنّا خوف الذئب، فإن لنا راعياً قُحّاً، وقد قال: ” أنا الراعي الحقيقي ” . بواسطته لا نخشى الطاغية ، فإننا في جوار الملك . تلك هي أسباب احتفالنا بعيد، عيد تذكار الصليب.
(على الصليب واللص، الرقم 1)

في صباح الفصح

أترى انتصار القيامة الباهر؟ هي التي تمنحنا كل خير: تلاشى خداع الشيطان، تجعلنا نهزأ بالموت، نحتقر الحياة الحاضرة ونشتعل توقاً إلى الحياة المستقبلة. بواسطتها أخيراً نجد ذواتنا- على الأقل إذا أردنا- في حالة تساوي بامتيازها حالة الملائكة، ولو كنا لا نزال متشحين بجسدنا. اليوم نحتفل بظفر انتصار مبين؛ اليوم يرفع سيدنا غنيمة انتصاره على الموت، يطأ طغيان إبليس، ويفتح لنا بقيامته طريق الخلاص. فلنفرح كلنا ولنهتز سروراً ولنكن في ابتهاج شديد. مع أن السيد نفسه هو الظافر والمنتصر، نشاطره فرحه وتهلله، فإنما قد عمل كل أعماله ليخلصنا، والوسائط التي تذع بها الشيطان لمحاربتنا، هي عينها التي استعملها المسيح للغلبة عليه.
(ليوم الفصح، الرقم 2)

مغزى صعود السيد المسيح

قدّم المسيح إلى الآب باكورة طبيعتنا، وقد أجلّ الآب هذه التقدمة، لرفعة المقدّم ولطهارة التقدمة ذاتها، إلى حد كونه قد قبلها من يدي مهديها عينهما، وجعلها في أقرب جواره قائلاً له: “اجلس على يميني”.
ولكن ما هي تلك الطبيعة التي قال لها الله ” اجلسي على يميني”؟ من الواضح أن هذه الكلمات موجهة إلى التي كانت قد سمعت هذا القول: “تراب أنت وإلى التراب تعود ” . ألم يكف أن تُرفع فـوق السموات ؟ ألم يكف أن تكون بين الملائكة؟ أما كان ذلك الإكرام وحده فائقاً للتعبير؟
وأيم الحق ، كلا ! لقد ارتقت فوق الملائكة ، اجتازت مكانة رؤساء الملائكة، فاقت مقام الكاروبيم والساروفيم، صارت أعلى من القوات، ولم تقف قبل استيلائها على عرش الرب ذاته. ألا ترى كل المسافة الفاصلة السماء عـن الأرض ؟ أو لننطلق – وهو الأحرى بنا – مما هو أسفل؛ ألا ترى البون بين الجحيم والأرض، بين الأرض والسماء، بين السماء وأعلاها، بين أعلاها والملائكة ورؤسائهم والقوات السماوية وعرش الملك في النهاية؟ لقد جعل المسيح طبيعتنا تجتاز هذه المسافة كلها.

تأمل إذاً في أي هاوية كانت قد تدهورت تلك الطبيعة في دورها الأول ، وإلى أي سمو قد رُفعت . كان مـن المحال التدحرج إلى أسفل مما سقطت فيه الطبيعة البشرية، ومن المحال أن تصعد إلى أعلى مما أصعدها إليه المسيح بعد إنهاضها.
(لعيد الصعود، الرقم 3)
في يوم العنصرة

من كل النعم التي تُحدث خلاصنا، أتوجد واحدة لم يمنحنا إياها روح القدس. به قد أنقذنا من العبودية، وقد دُعينا إلى الحرية، وهُدينا إلى التبني؛ به قد خُلقنا خلقاً ثانياً، على وجه ما، وبه نحط عن ذواتنا عبء خطايانا النتن. بفضل روح القدس نرى جمهور الأساقفة، ولنا مراتب الملافنة، لأنه الينبوع الذي تسيل منه موهبة الإيحاءات ونعم الشفاء، وكل ما يجمّل الكنيسة صادر عنه…
(لعيد العنصرة، الرقم 1)

نموذج جدال لاهوتي

“سأبعث كثيراً من صيادي السمك وغيره”. ما هذا الصيد الجديد النوع؟ من أخذ أمس يصاد اليوم. الأرض ملأى بمجد المسيح؛ الإيمان يملأ الأرض كلها. من ثم، بسبب تدبير الله في شأن المتأنس، لا تفكر أفكاراً غير لائقة برفعته. قد أذاع اليهود خبر كون قيامته المزعومة لم تكن سوى مسألة دراهم، وكُرر أن التلاميذ قد سرقوا الجثة . بيد أن اليهود لم يحكموا حكمهم إلا على جسده، بينا التلاميذ يعرّفون ألوهيته بجميع قواهم. بسعي اليهود ينتشر الضلال اليوم، والكنيسة تقاومه بوعظها على الحياة الأبدية.
إيذن لي في العودة إلى مثل قديم: إخوة يوسف قد نصبوا له فخاً، فكان أبوه وعائلته يبكون عليه، وهو حي ومالك على مصر. في بيت يعقوب كانوا يبكون عليه كأنه ميت، بينما كان في مصر حيّاً ومالكاً على القُطر. هكذا في أيامنا، اليهود والهراطقة المتطرفون يعدّون المسيح ميتاً؛ ينكرون أنه إله ويلاشون الإيمان بطرحهم أسئلة. أما عندنا فهو يحيا ويملك وينال سجودنا ، كما يليق . لأن قول الله قدير ، فهو بـاق ، وتعليم الرسل لا يُغلب. صوت بولس الصادق لم يرن سدى لمعالجة هذه المسألة. تعال، يا بولس الطوباوي، وليحثك حب الحقيقة ؛ اغضب في سبيل الإيمان ، وفي غضبك قل للهراطقة: “من عرّفكم أرسطاطليس؟ من يجعل أفلاطون فوق الأناجيل ؟ من يدكّ مفعول الوعظ على الإيمان بطرحه أسئلة مـن لا إيمان له؟ أين تعلمت الكلام عن غير المولود والمولود؟ قد تركتم الآب، ونبذتم اسم الابن، وعددتم مكانة روح القدس دون غيرها. تتجه إلى تعابير بشرية؛ أجل، كما قال أرميا: “الإيمان قد زال عن كلامهم ” . ماذا قال بطرس حين أعلن طوباوياً بسبب قوله ؟ قـال ” أنت المسيح ابن الله”، ولم يقل ” أنت من نسل غير المولود ” . . . إذ كان الآب يوحي إليه حكمته ، أما كان يسع بطرس قبولها ؟ أمـا استطاع المسيح أن يقول للرسل، لما أرسلهم ليعمدوا: “اذهبوا وعمدوا الشعوب باسم المولود وغير المولود؟” التقليد المختص بالأسرار قد وجد تعابير أسدّ من ذلك؛ أما أنت فتريد وضع حـد للألوهية ونبذ الإيمان وعرض مشاكل . ألا خف، يا عدو الله. إنما القابض على المفاتيح بطرس، وقد أعطيها لأنه قد قال: “أنت المسيح ابن الله”. فمن يسمعهم يتكلمون عن الابن، سوف يفتح لهم باب الملكوت. أما جميع الذين يسمعهم يهينون المسيح بعدّه خليقة، فسوف يغلقه لهم.
(أمام الحديثي العماد، على الآية “في البدء كان الكلمة”، الرقم 2)

طريقة الجدال …

من الأكيد أن تغيير الإنسان عقلية خصومه وتحويل أذهانهم لأعظم وأعجب من قتلهم. ومما يزيد صواب ذلك المبدأ أن الرسل لم يكونوا سوى اثني عشر، بينما كان سكان العالم أجمع ذئاباً.
فلنحمرّ خجلاً، نحن العاملين بخلاف ذلك على وجه الإطلاق ، نحن المنقضّين كالذئاب على خصومنا. ما دمنا نسلك بصفة نعاج ، نكون منتصرين. ولو كان حولنا ألف ذئب ، نحن أقوى منهم جميعاً وننال الظفر. أما إذا عملنا أعمال ذئاب، فنكون مكسورين، لأن الراعي يحرمنا حينئذ معونته، هو راعي النعاج لا الذئاب.
(الميمر 33 على إنجيل القديس متى، الرقم 1)
ألا اقرأوا ما كتب القديس بولس!

حين أصغي بانتباه إلى قراءة رسائل الطوباوي بولس مرتين كل أسبوع في الغالب، بل ثلاث أو أربع مرات عندما نحتفل بتذكارات الشهداء القديسين، أهتز من الفرح، وقد استولت عليّ لذة سماع ذلك البوق الروحي، وأنا مفعم حماسة ومشتعل بحب رقيق له؛ أعرف صوت صديقي، ويكاد يخيل لي أني أراه أمامي وأسمع خطابه.
بيد أني، من جهة أخرى، أتألم وأحتمل بصعوبة كون جميع الناس لا يعرفون ذلك العبقري كما يجمل بهم. بل منهم من يجهلونه إلى حد كونهم لا يعرفون حتى عدد رسائله معرفة كاملة. ليس سبب ذلك، على كل حال، خلوهم من الذكاء، بل إنهم لا يريدون أن تكون على الدوام في أيديهم كتابات هذا القديس.
أما أنا، فما أعرفه- إذا صح أني أعرف شيئاً- فليس مصدر تلك المعرفة أن لي عقلاً لا ند له. ما أعرفه ناتج عن كوني ذا محبة عظيمة لبولس ، تجعلني لا أكف أصلاً عن مطالعة كتاباته . المحب يعلـم أكثر من كل شخص سواه ، ما يتعلق بمحبوبه ، لأنه أكثر اهتماماً به . ذلك ما أوضحه القديس بولس عندما كتب لأهل فيليبي : ” إنه لمن الصواب في نظري أن تكون لي نحوكم كل تلك العواطف، لأني حامل إياكم جميعاً في قلبي، أنتم المشاطرين إياي قيودي للدفاع عن الإنجيل ولتأييده”.
فإذا أردتم طوعاً، أنتم أيضاً، أن تصغوا بانتباه إلى قراءة رسائله ، فلا يمكن أن تطالبوا بأكثر من ذلك. لأن قول المسيح هذا حقيقي: “اطلبوا تجدوا؛ اقرعوا يُفتح لكم ” . من ثم ، بما أن كثيراً من المجتمعين هنا معنا قائمون بأعباء زوجة وأولاد تجب تربيتهم وعائلة ينبغي تدبيرها، لا يستطيعون لجميع تلك الأسباب أن يقفوا ذواتهم وقفاً كاملاً على تلك المهمة. ليبذل جهده إذاً كل منكم للحصول على نتيجة شغل جميع الذين اتسع وقتهم للإكباب عليها. فاهتموا بالإصغاء إلى شروحهم بقدر ما يكون اهتمامكم بكسب كل أموال هذا العالم…
(مقدمة لرسائل القديس بولس)
هل الغنى شر؟

لا أتكلم لأجرّم الأغنياء على الإطلاق، بل الأغنياء المسيئين استعمال ثروتهم. الغنى ليس شراً إذا أردنا استعماله كما يجب؛ أما الشر فهو الكبرياء والتعجرف. لو كانت الأموال شرّاً، لما تقنا إلى الوصول إلى حضن إبراهيم الذي كان غنيّاً، بدليل عدد خدامه البالغ ثلاثمائة وثمانية عشر… تُسمى الأموال أشياء مفيدة لكي تخدمنا، لا لكي نخدمها. تسمى أملاكاً حتى نملكها نحن، فلا يحدث عكس ذلك.
(على كتابة المذبح، رقم 2)

نص من عشرة آلاف على الصدقة …

بولس يشهد على أهل فيلبي، لا على مجرد إيمانهم والأخطار التي اقتحموها في سبيله، بل على إحسانهم أيضاً. قال: “فور معرفتكم الإنجيل، بعثتم إليّ بما يلزم، وهو ما لم تفعله كنيسة أخرى”. فلنفهم نحن أيضاً تلك الأمثال ولنجتهد لنصير جدراء بها. وفي أول الأمر لنظهر متأهبين ومستعدين للتألم في سبيل المسيح.
بيد أنه، في زماننا، لا يوجد مضطهدون يسيئون معاملة النصارى. فيبقى علينا الاقتداء بإحسان أهل فيلبي الناجع النشيط، بدون أن نتوهم أننا، إذا أعطينا مرة أو مرتين، نكون قد قمنا بواجبنا ، فإن واجب العطاء يدوم طول حياتنا. أبناء عائلة شريفة لا يخلعون قط الحلية الذهبية المعلقة برقبتهم، دليلاً على شرف أصلهم. كذلك يجب علينا أن نحمل الصدقة في كل مكان وعلى الدوام، دليلاً على مزية نبالتنا بصفة أبناء الرحمن العظيم الذي يُطلع شمسه فوق الأشرار والصالحين.
ربما قلتم لي إن غير المؤمنين لا يؤمنون بالله. والحال أنهم يشرعون في الإيمان به، إذا سلكنا نحن النصارى السلوك المشار إليه. إذا رأونا مفعمين حبّاً لكل إنسان، فإنهم يفهمون أننا نفعل ذلك اقتداءً بمعلمنا.
تعلمون كل العلم أن جميع رزاياكم تأتيكم من الغنى، وأن الغنى يجلب في الغالب كل الحروب. ولذلك من تعلم احتقار الغنى، فقد استقر في ميناء هادئ ليس فيه ضرر يُخشى. هذا الإنسان إنما مثقفته الصدقة؛ لا حاجة له إلى اشتهاء مال غيره، فإنه يبذل ماله الخاص بأريحية. يجهل ماهية الحسد، لأنه يريد أن يصير فقيراً باختياره ؛ على هذا المنوال صارت عين نفسه منزهة عن كل وصمة.
وكل ذلك لا يصح إلا في خيرات الدنيا. أي خطاب يستطيع سرد جميع الخيور التي سوف يكون المتصدق مالكها في السماء؟
(مقدمة على الرسالة إلى أهل فيليبي ، الرقمان 2 و 3)
بضعة أقوال على التهذيب
يقول بولس لأهل أفسس: “أنتم، أيها الآباء، ربوا أولادكم على حفظ النظام ووفقاً لتعليم الرب”. إذا كنا قد أمرنا بالسهر على نفوسهم بصفة من يتحتم عليهم أن يناقشوا الحساب في ذلك الشأن، فكم ينبغي هذا، بإلزام أشد، للوالد الذي ولدهم، الذي هذبهم، الذي يلازمهم في البيت! فكما أنه لن يستطيع وجود عذر لخطاياه الشخصية وطلب الصفح عنها، هكذا يكون عجزه حين يخطأ أولاده…
أمن الممكن أن يأبى والد إحكام تهذيب ولده؟ لا أب جديراً بذلك الاسم يقول ذلك القول الفاحش، فإن الطبيعة ذاتها تدله على واجبه الأبوي وتحثه على القيام به…
إذا أصبح الأولاد أشراراً، فسبب ذلك أن لوالديهم آراء غير معقولة فيما يختص بخيرات الدنيا. يحصرون أفكارهم فيها، ويعطونها المقام الأول، ويهملون العناية بنفوس أولادهم بقدر ما يهملون العناية بنفسهم. مثل أولئك الآباء- ولا يزعمن أحد أني أقول ذلك عن غضب- مثل أولئك الآباء أثقل إجراماً ممن يقتلون أبناءهم!.
(ضد الخصوم، الكتاب 3 ، الرقم 4)
أتريد أن تورث ابنك الغنى؟ علّمه اللطف والحلم. إذا كان شريراً، ولو خلّفت له ثروة فاحشة، فإنك تتركها في الدنيا بلا حارس. الأولاد الذين أسيئ تهذيبهم، خير لهم جداً أن يكونوا فقراء من أن يكونوا أغنياء!
(الميمر 9 على الرسالة الأولى إلى تيموثاوس)
نهمل خلاص أولادنا وخلاصنا، ومن ثم عدم حكمة فاحش. ينتج أيضاً عن ذلك أن أولاد العائلات الوجيهة أنذل من العبيد. ولماذا أذكر العبيد؟ إذا كان لأحد بغل، فإنه يعني كل العناية بأن يعطيه أفضل بغّال، بغّالاً عادم الخباثة، صالحاً، معتدل الأكل والشرب، خبيراً في حرفته. أما إذا تحتم عليه طلب أستاذ لأبنائه، فإنه يقبل بدون اختيار أول من يمثُل بين يديه! ومع ذلك أي فن يمكنه مجاراة الفن الذي غايته تثقيف نفس شاب وهدايتها؟ المتضلع من ذلك الفن في حاجة إلى اجتهاد أشد جداً مما يحتاج إليه كل مصور أو نحات!
(الميمر 59 على إنجيل القديس متى، الرقم7)

بضعة أفكار …

إنه لمن الصعوبة بمكان أن نُعرض عن محبة ، عـن هيام متأصل ، أن ننبذ فرصاً عديدة للخطيئة ، أن نبسط جناحينا للشروع في الطيران إلى قبة السموات. إن عذاب الشهداء كان قصير المدة؛ أما في الحالة السابق ذكرها، فالعذاب طويل…
(ضد المساكنات ، الرقم 50)
قل لي، أيشق علينا ألا نبحث برغبة في المعرفة، عن حركات القريب وسكناته، وألا نحكم على ذنوبه؟ أليس بالعكس ذلك التنقيب وتلك الأحكام على غيرنا شغلاً شاغلاً؟
(على الندامة، رقم 26)
فليقل لنا أولئك المفرطون في التفخل إلى حد إبائهم لبس ثياب من صوف، فلا يرضون بغير الملابس الحريرية، وقد بلغ الجنون بهم مبلغاً يجعلهم يطلبون نسج خيوط ذهبية في ثيابهم- والنساء هن على الأخص الدائبات على ذلك الترف – فليقولوا لنا لماذا يزينون جسدهم هكـذا وأي لذة يذوقون باكتسائهم على هذا المنوال. أنسيت أن الثوب لم يرده الله إلا عقاباً لمعصية؟ ولماذا لا تصغي إلى ما يقوله لك بولس “نحن راضون بمجرد حصولنا على الطعام واللباس”؟ ترى من ثم أنه يكفينا الاهتمام بشيء واحد، وهو ألا نكون عُراة. ولكن أيلزم أيضاً لإلباس جسدنا، أن نهتم بلبس ثياب مطرزة؟
(الميمر 18 على سفر التكوين، الرقم 2)
باقتفاء بولس آثار المعلم، قد أبى في بعض الأحيان أن يبالي بالمتشككين، وقد راعاهم في أحين أخرى، وقد قال : ” أحاول أن أرضي كل الناس في كل شيء، بدون اعتبار مصلحتي الخاصة، بل مصلحة جميعهم، ليفوزوا كلهم بالخلاص”. فإذا احتقر بولس منفعته الشخصية لئلا يطلب سوى فائدة أكثر الناس، فأي عقاب نستحقه إن كنا لا نتجنب الابتعاد عن ضررنا الشخصي لطلب فائدة غيرنا ، بل نريد أن نهلك معهم على طريق التنعم، مع استطاعتنا أن نخلصهم ونخلص ذواتنا معهم؟ حين يرى بولس أن المكسب سيفوق الخسارة، لا يكترث للمتشككين أدنى اكتراث؛ وحين يرى أنه لا مكسب يعوّض عن التشكك المنفرد بتأثيره، فهو مستعد لكل عمل ولكل معاناة لتجنب التشكيك، بدون أن يجادل جدالا شائناً كما نفعل نحن. لا يقول عن سائر الناس: “لماذا ضعفهم بالغ هذا المبلغ؟ لماذا يتأثرون بلا انقطاع؟” فإن ذلك عينه هو سبب تحاشيه عن تشكيكهم، وهو أنهم ليسوا ذوي ذكاء شديد وأنهم ضعفاء…
(على المساكنات، الرقم 14)
لا نزعمن أن وجود شركاء يشاطروننا خطايانا هو عذر لنا؛ إنه، بعكس ذلك، ظرف مثقّل. الحية قد عوقبت بعنف أشد منه في المرأة، والمرأة قد فاقت الرجل بشدة قصاصها. إيزابل قد سيمت عقاباً أقسى من عقاب آحاب، سارق كرم نابوت، لأنها كانت قد كادت كل تلك المكيدة وهيأت للملك فرصة الخطيئة.
من ثم، إذا كنت أنت أيضاً للآخرين سبب هلاكهم ، فسوف تسام أعذبة أشد من التي يُسامها من أسقطتهم في الخطيئة. أن نخطئ وحدنا لا يساوي بالثقل حث غيرنا على الإخطاء.
إن اتفق إذاً أن نرى أناساً يرتكبون معاصي، فلنتجنب تشجيعهم، بل لننتشلهم انتشالاً عمليّاً من هاوية خباثتهم، لئلا نذنب بإسلام غيرنا للهلاك. لنتذكر بلا انقطاع تلك المحكمة المرعبة، ذلك النهر الناري، تلك الكبول التي لا يستطيع أحد كسرها، تلك الدياجي الحالكة، ذلك الصريف بالأسنان، تلك الديدان السامّة بلسعها.
(الميمر 25 على الرسالة إلى الرومانيين، الرقم 4)

المبدأ واضح …

الله لا يريد أن يكون المسيحي راضياً بمجرد الاهتمام بذاته دون سواه، بل يريد أن يكون قدوة لغيره بتعليمه، بحياته، بسلوكه. لا شيء يفوق مثل حياة طاهرة بحثنا على السير في طـريـق الحقيقة ، ولا يعتبر الناس ما نقول بقدر اعتبارهم ما نفعل.
(الميمر 8 على سفر التكوين، الرقم 5)

نُمنح وزنات باعتبار ما يستطيع كل واحد أن يعمله: إما حماية القريب بنفوذنا، وإما مساعدته بمالنا، وإما نصحه بتعليمنا، وإما كل شيء آخر من شأنه أن يعين القريب . فلا يقل أحـد في نفسه : ” ليس لي سوى وزنة واحدة، فلا أستطيع أن أعمل شيئاً”. يمكنك كل الإمكان أن تنال استحسان الـرب لشيء واحد . لست أفقر من أرملة الإنجيل ولا أقل ثقافةً من بطرس ويوحنا. مع بساطتهم وجهلهم قد صاروا أمراء السموات إذ اهتموا كل الاهتمام بإفادة قريبهم.
لا شيء أكثر إرضاءً لله من وقف كل حياتنا على خدمة القريب. من ثم قد أعطانا الله العقل والكلام، ومنحنا روحاً وعقلاً، يدين ورجلين وقوى جسدية. كل ذلك يجب أن يفيدنا لوقاية ذاتنا والقريب. الله لم يمنحنا الكلام لنشكره فقط، بل ينبغي أن يفيدنا أيضاً لتعليم الآخرين ولنصحهم. فإذا استعملناه بفائدة في هذا الشأن، فإنما نقتدي بالله، وإلا فبالشيطان.
(الميمر 78 على إنجيل القديس متى، الرقم 3)
أترى بكم طريقة يحثنا الرب على الاعتناء بإخوتنا، حتى أحقرهم؟ فلا تقل بازدراء: “ليس هذا الشخص سوى عامل في صناعة المعادن، مرقّع أحذية بالية، فلاح، متوحش”. ستتجنب السقوط في ذلك الذنب إذا أحسنت اعتبار الطرق العديدة التي يحثك بها الرب على السلوك المعتدل والاعتناء بهم.
قد جعل طفلاً في وسط التلاميذ وقال لهم: صيروا كالأولاد الصغار؛ من قبل أحد أولئك الصغار ، فإياي يقبل ، ومن يحركهم إلى الشر يقاس التعذيب الأعظم. فإذا كان الله يفرح ذلك الفرح الشديد بخلاص ولد صغير، فلماذا تحتقر أنت من هم موضوع تلك العناية الإلهية؟ كان من الأحرى بك أن تعدّ أمراً خطيراً بذل حياتك ذاتها لأجل أحد أولئك الصغار، فإن الله قد عُني بنفسهم إلى حد كونه لم يُبق على ابنه ذاته.
من ثم أرجو منكم أننا ، حين نخرج مـن بيوتنا في أول الصباح ، لا تكون لنا غاية أو هم سوى انتشالنا من الخطر من هو عُرضة للسقوط فيه. من المفهوم أني لا أتكلم عن الأخطار المادية التي ليس فيها شيء من الخطر، بل عن التي تقف للنفس بالمرصاد، ويهيئها إبليس ضد البشر.
– ولكنه صعب احتمال الأشرار!
– من ثم، وأيم الحق، يجب أن تحب الشرير حبّاً عظيماً بحيث تنتشله من رذائله وتعيده إلى الفضيلة.
– لكنه لا يصغي ولا يقبل أدنى نصيحة!
– كيف تعلم ذلك؟ هل أرشدته واجتهدت لتحسين حالته؟
– لقد أرشدته مراراً.
– كم مرة؟
– مراراً غير قليلة، مرة أو اثنتين.
– أهذا ما تسميه مراراً غير قليلة؟ ولو قضيت كل حياتك في ذلك الإرشاد، لما ساغ لك الكف عنه ولا اليأس. ألا ترى كيف لا يزال الله يرشدنا بواسطة الأنبياء والرسل والإنجيليين؟ وما هي النتيجة؟ أنسلك كما ينبغي؟ أنطيعه طاعة كاملة؟ كلا! أيكف لذلك عن توبيخنا؟…
(الميمر 59 على إنجيل القديس متى، الرقمان 5 و 6)
أي شقاء وأي جنون أشد من اللذين نجدهما في بعض الناس المدعين أن الأمور تحدث على وجه الاتفاق، فينكرون معونة العناية الإلهية للبرية كلها؟ … بيد أنه غير مفيد أن نضيع وقتنا في إثبات ما يراه الأعمى ذاته، كما يقول المثل السائر.
مع ذلك لا نهمل أن نقدم إليهم تعليم الكتاب المقدس ، ولنبذل كل جهدنا في إخراجهم من الضلال وهدايتهم إلى الحقيقة . مـع أنهم لا يزالون تحت سطوة الضلال، إنهم بشر بقدر ما نحن ، فيليق أن نُعني بهم عناية كبيرة، ألا نستسلم للإهمال ، أن نبذل قصارانا بانتباه شديد حتى نقدم إليهم الدواء الناجع الـذي يعيدهم يوماً مـن الأيام أخيراً إلى الصحة الحقيقية.
إن الله، في الواقع، ليست له عناية أكبر من عنايته بتخليص النفوس. ذلك ما يعلنه بولس: يريد أن يخلص جميع البشر ويصلوا إلى معرفة الحقيقة . والله ذاته يتكلم هكذا : ” لا أريـد أن يموت الخاطئ ، بل أن يهتدي ويحيا”.
بما أن لنا مثل ذلك الرب المفعم جدّاً بالرحمة واللطف والحلم، فلنهتم بخلاصنا وبخلاص إخوتنا. إن الدليل على خلاصنا وسببه سيكونان عدم قصر اهتمامنا على ذواتنا، بل كوننا قد أفدنا قريبنا وهديناه إلى طريق الحقيقة.
لكي تعرف أن من الأمور الصالحة سعيك لخلاص القريب وفي الآن ذاته لخلاصك، أصغ إلى هذه الكلمة التي يلفظها النبي بالنيابة عن الله: “من يُخرج شيئاً ثميناً مما هو دون، يكن مثل فمي”. ما معنى هذا القول؟ من يُخرج القريب من الغواية ويهده إلى الحقيقة، أو ينتشله من الخطيئة ويهده إلى الفضيلة، يقتد بي بقدر قواه البشرية. وفي الواقع هو ، الذي هو الله، لم يتشح بلحمنا لغاية أخرى، ولم يتأنس إلا ليخلص البشر…
فإذا كان هو الإله ، الذي لا يعبّر عن كنهه ، قد أراد احتمال كل
شيء بسبب لطفه الفائق التعبير ، لأجلنـا ولأجـل خلاصنا ، فكيف لا يكون من مقتضى مجرد العدل أن ننقذ من الهاوية الشيطانية ونهدي إلى الحقيقة من هم أقاربنا وأعضاؤنا؟
(الميمر 3 على سفر التكوين ، الرقم 4)

يجب أن نضطرم بحرارة عظيمة وبغيرة شديدة لئلا نعاقَب بعدم تمكننا من إدراك السعادة التي وُعدنا بها. ذلك عينه ما يريد المسيح تعريفنا إياه حين يقول : ” إن لم يأخذ الإنسان صليبه ولم يشرع يتبعني ، فليس جديراً بي ” ، وأيضاً ” لقد أتيت لألقي ناراً على الأرض ، وماذا أريد سوى أن تشتعل؟” هذان القولان يرياننا أنه يجب على التلميذ أن يضطرم بنار الحرارة ويكون مستعداً لمقاساة جميع الأخطار.
هكذا كانت السامرية في الواقع. لقد ألهبتها أقوال المسيح إلى حد كونها قد تركت في مكانها جرتها والماء الذي استقته من هنيهة، هي التي لم تسلك كل الطريق غلا لتلك الغاية، فركضت إلى المدينة وأتت إلى المسيح بجميع الأهالي. قالت: “هلموا وانظروا الرجل الذي قال لي كل ما عملته”. لاحظوا غيرتها ومهارتها أيضاً. كانت قد جاءت لاستقاء الماء، فاكتشفت الينبوع الحقيقي ، ومن ثم تحتقر الينبوع الواقع تحت النظر لتعلمنا بقدوتها، ولو كانت وضيعة، أنه ينبغي لنا أن ننتبه كل الانتباه للتعليم الروحي ونزدري أشغال هذا العالم ، أنه يجب علينا ، بقدر استطاعتنا ، ألا نقيم لها أدنى وزن. ما فعله الرسل قد فعلته السامرية أيضاً، بل بمبادرة أشد، فإن الرسل لم يتركوا شباكهم في موضعها إلا عند دعوة الرب ؛ أما هي فقد تركت جرتها في مكانها من تلقاء ذاتها، بدون أمر صادر من المسيح، وها هي ذي تقوم بوظيفة الإنجيليين بفرح يعطيها جناحين. لم تأت إلى المسيح بشخص واحد أو باثنين ، مثل أنـدراوس أو فيلبس ؛ إنما هزت كل المدينة وأتت إلى المسيح بجميع الأهالي.
لاحظوا أيضاً حذاقة كلامها؛ لم تقل لهم “تعالوا وانظروا المسيح”. بعكس ذلك قد أثارت رغبتهم في المعرفة مثلما كان المسيح قد وفّق سلوكه لعقليتها حتى يجتذبها . قالت لهم : ” تعالوا وانظروا رجلاً قـال لي كل ما فعلته”. لم تخجل من قولها “قال لي كل ما فعلته”، بينما كان يمكنها الاكتفاء بقولها لهم “تعالوا وانظروا نبياً”. ولكن بما أن نفسها مشتعلة بنار إلهية، فهي لا تعبأ بالأرضيات، بصيتها الحسن أو السيئ، فإنها مدفوعة بسعير تلك النار دون سواه. “أليس هو المسيح؟” لاحظوا هنا أيضاً حكمة هذه المرأة؛ لا تؤكد تأكيداً صريحاً، ومن جهة أخرى لا تضرب صفحاً عن شيء. سبب ذلك أنها لم ترد أن تأتي إلى المسيح بالآخرين لاستنادهم إلى شهادة يقينها الشخصي؛ أرادت بالعكس أن يشاطرها الآخرون إياه بعد سماعه هو، مما يزيد يقينهم صواباً… لا تقول لهم “تعالوا وآمنوا”، بل “تعالوا وانظروا” ، وذلك أقل جزماً للأمر وأشد إثارةً لرغبتهم في المعرفة. ترون لعمري مهارة تلك المرأة. كانت تعلم علم اليقين، لأنها شربت من ذلك الينبوع، أنه سوف يحدث لمواطنيها ما قد حدث لها . أما امرأة غيرها وأقل ذكاءً منها، فكانت قد تكلمت بوضوح عن التوبيخات التي سيمتها. لكنها هي تكشف علانية حياتها الماضية لكي تجتذب كل الناس وتستولي عليهم.
(الميمر 34 على إنجيل القديس يوحنا، الرقم1)

قد أطلقوا اسم آلهة على حجارة وخشب؛ قد ألهوا ما ليس سوى مادة واقعة تحت النظر، فإن من وضع رجله خارج الطريق المستقيم، ينقضّ كالأعمى ويسقط إلى قعر حفرة الخباثة.
ليس ذلك داعياً إلى يأسنا من خلاصهم؛ فلنقدم إليهم المعونة التي تمكّننا منها قوانا، فلنقدمها بنشاط وبصبر وافر، ولنُرهم حماقة سلوكهم وجسامة الضرر الذي تجره عليهم، ولا تخمد أبداً همتنا في سبيل خلاصهم. من المرجح أننا نوفّق إلى إقناعهم بعد حين، على الأخص إذا عشنا بحيث لا تسنح لهم بسببنا أدنى فرصة لرذلنا. كثيرون بينهم من يرون أن بعض إخواننا المشرّفين باسم نصارى ، ليس لهم مـن النصرانية سوى اسمها ، أما في سائر الأمور فهم مثلهم: لصوص ، نهمون في المال ، حُساد ، ناصبو فخاخ، عادمو الاستقامة في الأشغال، إلى غير ذلك من الرذائل، سكّيرون وهائمون باللذات. فلا يقبلون في تلك الظروف تنبيهات منا؛ يعدّون تعليمنا خداعاً، ويزعمون أننا لسنا أفضل منهم. فأتوسل إليك أن تتبصر في تعذيب أولئك النصارى الذين لا يكتفون بتهيئة النار الأبدية لذواتهم، بل يحملون عبء المسؤولية عن كون الآخرين يتمادون في أضاليلهم ويُصمون عنهم آذانهم بحيث لا يستطيعون تعلم الفضيلة. علاوةً على ذلك هم مسؤولون عن كون النصارى الفضلاء ذواتهم يُرمون بالرئاء ويلامون بسببه، الشر الأعظم أنهم مدعاة إلى التجديف على الرب…
فليكن عملنا في كل ميدان بحيث يكون ضميرنا نحن نقيّاً وسلوكنا المطابق لمشيئة الله يهدي إلى الحقيقة من لا يزالون في الضلال، كأننا نمسك يدهم، وبحيث نتمتع نحن وجميع الذين في عداد أبناء الكنيسة بصيت حسن ، لكي يمجّد سيدنا قبـل كـل شيء ويزيد عنايةً بنا . حين ينظر إلينا الناس ويستفيدون من تلك النظرة، سيشكرون الله على ذلك، وننال من الله نعماً أكثر لهذا السبب. من هو أسعد من إنسان يعيش بحيث يُدهش الناظرين إليه فيصيحون: “المجد لك، يا إلهي ما أعجب هؤلاء النصارى‍ ما أكثر الحكمة في سلوكهم ما أشد احتقارهم لخيرات الدنيا‍ مـا أغـرب كونهم يعدّون كـل الأرضيات مناماً وظلاً ما أروع تجردهم عن كل ما يُرى إنهم يعملون كل أعمالهم كأنهم مارون على هذه الأرض ، لا غير ؛ كل يوم يتوقون إلى الخروج مـن هذه الحياة”
ألا تظن أن الذين يعيشون تلك العيشة، ويُنطقون عشراءهم تلك الأقوال الفائقة الجمال ، لن ينالوا مكافأة من الله ، وهم في قيد الحياة؟ ألا تظن – وهذا أمر عجيب مدهش – أن الذين يرون ذلك الرأي فينا لن يتركوا أضاليلهم ويهتدوا إلى الحقيقة؟ لا يستطيع أحد أن يشك في أن سلوكنا كان يُثير فيهم الثقة.
من ثم، إذ نعلم أننا سوف نؤدي حساباً على كسبنا للقريب أو خسارتنا إياه، فلنسلك بحيث لا تكون حياتنا صالحة في نظرنا فقط، بل تكون فرصة تعليم للآخرين. على هذا المنوال نكفل لذواتنا على الأرض نعماً أكبر من عند الله، وفي الأبدية نتمتع تمتعاً كاملاً بجودته، بواسطة نعم ومراحم ابنه الوحيد الذي نتمنى أن يكون له وللآب وروح القدس المجد والسلطان والإكرام الآن وعلى الدوام وإلى دهر الداهرين. آمين.
(الميمر 7 على سفر التكوين، الرقمان 6 و 7)

أما نحن الذين نفتخر بتصديقنا حقائق الإيمان الصحيح ، فلنحذر أن نهتك شرف الله بكوننا سبب تجاديف عليه، إن لم نعش عيشة مطابقة لذلك الإيمان. إن الله يريد أن يكون المسيح معلم العالم، خميره، نوره، ملحه. ما هو النور؟ حياة نيرة بدون شيء مظلم. النور لا يسطع لذاته؛ الملح والخمير لا يفيدان إلا أشياء غيرهما. كذلك يقتضي الله ألا نفيد ذواتنا فقط ، بل غيرنا . إن لم يملّح الملح ، فليس ملحاً ، بل تحول إلى شيء آخر. إذا عشنا عيشة لائقة، أحسن الآخرون سلوكهم؛ ما لم نعش كذلك، فلن نُجدي غيرنا أقل نفع.
(الميمر 52 على إنجيل القديس يوحنا، الرقم 4)

الميمر الحادي عشر على إنجيل القديس يوحنا

أطلب منكم إنعاماً قبل معالجة نص الإنجيل، فأرجو ألا تردوا طلبي. من جهة أخرى لا شيء شاق ولا ثقيل في ما ألتمسه منكم. إذا منحتموني إياه، فلا يفيدني أنا وحدي الذي أناله، بل إياكم أيضاً الذين تعطونه ، بل من المرجح جدّاً أن تكون فائدته لكم أكثر جداً منها لي.
فماذا أطلب منكم؟ أن يأخذ كل منكم في يده، أول يوم من الأسبوع أو السبت، فقرة الأناجيل المنوية قراءتها في الاجتماع، أن تجلسوا في بيوتكم لمطالعتها ولإعادتها، أن تنقبوا وتبحثوا مراراً عما قيل فيها، أن تقيدوا منها الواضح والغامض وما يوبد لكم أنه تناقض بين تعابيره، مع كونه غير موجود أصلاً. وبعد ترويكم غير مرة في كل شيء على ذلك المنوال، تعالوا إلى الاجتماع، فتجنوا أنتم ونحن أيضاً نفعاً جزيلاً من ذلك البحث.
من جهتنا لن نحتاج، في الواقع، إلى عناء شديد لنبيّن لكم معنى الجُمل، فإن ذهنكم يكون قد ألف النص ؛ أما أنتم فيكون هذا البحث قد جعلكم أسرع فهماً وأشد ذكاءً، لا لتفهموا وتتعلموا أنتم وحدكم، بل لتعلموا الآخرين.
بسبب سلوكم الحاضر، كثير من الموجودين هنا يرون ذواتهم مضطرين إلى حفظ أقوال الكتاب المقدس وشروحنا في الآن ذاته، فمن الممكن أن نقف على ذلك العمل سنة كاملة بدون أن يجنوا منه جدوى. وكيف يستطيعون الاستفادة، وهم لا ينتبهون للأقوال إلا بدون تريث ومدة هنيهات قصيرة؟
إنهم يعتذرون لي بأشغالهم ومشاغلهم وأعمالهم في الخارج وفي بيوتهم. فأجيب تنصلهم هذا أولاً بقولي إن تحميل الإنسان ذاته مثل ذلك العبء الفادح من الأشغال هو ذنب غير خفيف ، وكذلك أن ينهمك على الدوام في أشغال هذه الدنيا بحيث لا يواظب أدنى مواظبة على الأمر الضروري الوحيد. ثم أقول إن كل ذلك ليس سوى عذر خادع لأصحابه، والبرهان على ذلك ثرثرتهم مع أصدقائهم وترددهم إلى المسارح وحضورهم سباقات الخيل، وجميعها أمور أكثر ما يقضون فيها سحابة نهارهم بدون أن يعتذروا قط لكثرة مشاغلهم حين تُقصد تلك الشؤون السافلة، لا تعتذرون بكون أشغالكم تمنعكم، أما إذا كان المطلوب الاهتمام بالديانة، فيظهر لكم ذلك عادم الفائدة والخطورة بحيث ترون أنه غير جدير بأدنى اهتمام. أفيستحق ذوو تلك النزعات أن يتنفسوا ويشاهدوا النور؟
لأولئك الكسالى ، فضلاً عن ذلك ، عذر آخر فيه مـن الحماقة ما فيه، وهو أنهم لا كتب لهم. أن يفوه أناس رافهون بمثل هذا الكلام، أمر يُضحك الثكلى، لا غير. أما إذا كانوا فقراء ، كما أعلم أنه يحدث في الغالب، فإني أسألهم بدون لهجة لاذعة هذا السؤال: ولو كنتم في أشد الفقر المدقع، أليس لكل منكم ما يلزمه من عُدة الآلات الكاملة والحسنة الحالة لممارسة حرفته ؟ أفليس من البلاهة ألا يُحسب حساب للفقر ، فلا يُعد مانعاً في ظرف ما، وأن يأخذ الإنسان، في ظرف آخر، حيث المطلوب أمر جزيل الفائدة، يتشكى من أشغاله وقلة ماله؟
فلنسلم بأن بعض الناس بالغون هذا المبلغ من رقة الحال؛ يسعهم مع ذلك ألا يجهلوا شيئاًَ من محتوى الكتاب المقدس بالإصغاء إلى قراءته المتواصلة عليهم، المألوفة في هذا المكان. ربما ظهر لكم ذلك مستحيلاً، وأنتم مصيبون وأيم الحق، فإن كثيرين لا ينتبهون للقراءات انتباهاً يُذكر، فيصغون إليها بإهمال، ثم يعودون فوراً إلى بيوتهم بدوي انتظار الموعظة. أما الذين لا ينصرفون فوراً بعد القراءات، فيكادون لا يفوقون المبادرين إلى الانطلاق بحسن نصيبهم، فإنما هم حاضرون بأجسادهم!
بيد أني لا أريد أن أضايقكم مدة أطول بتوبيخاتي، ولا أقضي كل الوقت في تبكيتكم. فلننتقل إلى نص الإنجيل ونهتم الآن بالمواضيع التي يقدمها إلينا. فانتبهوا كل الانتباه لئلا تضيعوا شيئاً مما أنا على وشك قوله.
“والكلمة صار جسداً وحل فينا”. الإنجيلي بعد ما قال إن الذين قبلوه مولودون من الله وصاروا أبناءه، يوضح لنا سبب ذلك الشرف الفائق الوصف، وهو أن الكلمة قد صار جسداً، وأن الرب قد اتخذ حالة عبد. في الواقع قد جعل ذاته ابن الإنسان، بينما كان بكل الحقيقة ابن الله، ليصبّر الناس أبناء الله. حين يلتفت العالي المقام إلى السافل الحال، فذلك لا يمس مجده بأدنى ضرر ، وغايته أن يرفع السافل مـن سفالته ؛ هـذا ما حدث في المسيح. بنزوله من السماء لم يُنقص شيئاً من طبيعته الإلهية، غير أنه رقّانا إلى مجد لا يوصف، نحن الذين كنا على الدوام في العار والظلمات. تجري الأمور على هذا المنوال حين يخاطب ملك متسولاً فقيراً بعطف واهتمام، فهو لا ينتهك شرفه البتة، بل يجعل المتسول وجيهاً ممتازاً في عين كل الناس.
فإذا كانت، في شأن مجرد أنواع الرفعة الأرضية، التي كلها خارجية، مخالطة رجل من عامة الناس لا تشين شرف الرجل عالي المقام، فهي أقل من ذلك مساساً لحرمة القيّوم السعيد الخالد الذي لا يمكن قبوله شيئاً من الخارج ولا مفاجأة حادث له، بل هو صاحب كل الخيرات الأزلية التي لا يمكن تغيرها. من ثم، إذا سمعتَ من القارئ “الكلمة صار جسداً”، فلا تضطرب لذلك ولا تقع في حيص بيص، فليس الجوهر الإلهي ساقطاً في الجسد؛ إن ذلك التصور يكون كفراً. لكنه، وهو باق ما كان، قد اتخذ حالة عبد.
لماذا استعمل الإنجيل كلمة “صار”؟ ليلقم الهراطقة الحجر، فمنهم من قالوا إن التأنس ليس سوى وهم ومظهر. قال الإنجيلي “صار” ليزيل ذلك التجديف قبل حدوثه. على هذا المنوال كان يعلن لا تغير الجوهر الإلهي ، بل اتخاذ جسد محض . الكتاب المقدس يقول على الوجه عينه “إن المسيح قد حررنا من لعنة الناموس بجعله ذاته موضوع لعنة لأجلنا”. ذلك لا يعني أن القيّوم، حين غادر المجد، قد تحول إلى موضوع لعنة. حتى أحمق الشياطين وأجنّهم لم يكن ذلك الخاطر ليخطر ببالهم، لفرط البلاهة المقرونة بالكفر التي تفوح منه. الكتاب المقدس لا يقول ذلك، بل يقول إن المسيح قد أخذ على عاتقه اللعنة المحكوم بها علينا، فلم يتركنا ملعونين مدة أطول. من ثم يقول في تلك الفقرة إنه قد صار جسداً ، وذلك لا يعني أن القيّوم قد تحول إلى جسد، بل أنه قد صار جسداً بدون تغير جوهره.
فإن قال الهراطقة إن الله، بصفة الكلي القدرة، قد استطاع الانحطاط إلى دركة الجسد، أجبناهم أن الله، في الواقع، قادر على كل شيء ، ولكن بشرط أن يبقى إلهاً. فإذا تحول- وما هو شر من ذلك- إذا تحول إلى جوهر أسوأ، فلا نرى كيف يكون إلهاً. فإن التغير بعيد عن الطبيعة المستحيل تغيرها، وذلك ما جعل النبي يقول: “كل الناس يبلون مثل ثوب، تغيرهم كثوب يغيّر؛ أما أنت فإنك على الدوام ما أنت هو، وأعوامك لا نهاية لها”. القيوم فوق كل تغير؛ لا شيء يفوقه ولا يستطيع الترقي إلى حـد بلوغ سموه . كيف ذكرت التفوق ؟ لا شيء يساويه ، لا شيء يقدر أن يساويه حتى أدنى مساواة. فينتج عن ذلك أنه، إذا تحول، فلا يمكن تحوله إلا إلى شيء أسوأ ؛ أو أقول من ثم إن من المحال أن يكون إلهاً.
قد قيل إذاً ” صار ” لئلا يخطر ببالك مجرد المظهر . ولكـن لاحظ
ما يلي “وحل فينا”. كأنه قد قيل: الكلمة ” صار ” لا يسوغ أن تذهب بنا إلى تفكير مناقض للصواب. لم أتكلم عن تغير الطبيعة المستحيل تغيرها، بل أتكلم عن حادث سكناها. السكنى والمسكن أمران مختلفان؛ الشيء يسكن في غيره، وإلا فلا يمكن التكلم عن السكنى؛ لا شيء يسكن في ذاته. حين أقول ” الشيء ” ، فإني أعني الجوهر . الكلمة والجسد هما شيء واحد في اتحادهما واقترانهما بدون أدنى اختلاط الجوهريين ولا زوالهما، بل بواسطة اتحاد فائق الوصف والشرح . كيف يحدث ذلك ؟ لا تبحث عنه، فإنه يحدث على وجه قد انفرد الكلمة بمعرفته.
وما هو إذاً المسكن الذي سكن فيه؟ أصغ إلى قول النبي: “سأرفع خيمة داود الساقطة”. أجل، وأيم الحق، كانت قد سقطت؛ كانت طبيعتنا قد انحطت بوقعة لا علاج لها، وكانت يده القديرة وحدها تستطيع إقالة عثرتها. كانت لا تقوى على النهوض بطريقة غير مد من خلقها في البدء يده إليها وتجديده خلقها من عل بماء الميلاد الجديد وبروح القدس.
نظر إلى هذا السر المكنون الهائل: هو ساكن على الدوام في تلك الخيمة، لأنه قد اتشح بجسدنا، لا ليغادره بعد ذلك، بل ليحفظه على الدوام. لولا هذا لما كان مستطيعاً أن يؤهلّه لعرشه الملكي، ولما نال، وهو متشح به، سجود كل العسكر السماوي: الملائكة، ورؤساء الملائكة، العروش، السلاطين، الرئاسات، القوات . أي قول ، أي عقل يتمكن من شرح ذلك الإكرام المتاح لجنسنا البشري، ذلك الإكرام الفائق الطبيعة والهائل؟ أي ملاك؟ أي رئيس ملائكة؟ ما من أحد، لا في السماء ولا على الأرض. إن أعمال الله وعظمة عوارفه لسامية بحيث تفوق الطبيعة كل التفوق إلى حد كون وصفها اللائق لا يتجاوز مدى كلام البشر فقط، بل قدرة الملائكة أنفسهم.
من ثم نختم خطابنا بصمت التبجيل بعد تذكيركم واجب مقابلتكم اللائقة لإحسان ذلك المحسن الفائق العظمة، مما يكون لنا فيما بعد مصدراً جديداً للجدوى. ولا نستطيع مقابلة إحسانه إلا إذا عُنينا بنفسنا عناية شديدة. إنه لمن شأن لطفه ، هو الذي لا يحتاج إلى أحد منا ، أن يقول لنا إننا نقوم بتلك المقابلة حتى لا نهمل الاهتمام بنفسنا. ولذلك يكون جنوناً محضاً جديراً بتعذيبات لا تحصى، ألا نثمر في الأعمال الصالحة بقدر وسعنا، بعد نيلنا أنواع التشريف المذكورة، ولا سيما أن كل النفع. ينتج لنا عن ذلك، وأن خيرات لا يفي بها حصر معدَّة لنا مكافأة لهذا العمل.
فلنمجد على كل ذلك الإله الجزيل اللطف ، لا بالأقوال فقط ، بل بأعمالنا، لنيل الخيرات المستقبلة التي أتمنى أن أراكم جميعاً حاصلين عليها، بنعمة سيدنا يسوع المسيح ولطفه، الذي نشتهي به وله أن يكون المجد للآب كما لروح القدس إلى دهر الداهرين. آمين.

الفهرس
الصفحة
تمهيد
الفصل الأول:
الشباب والاختيار
الولادة والشباب
ساعة الاختيار
العماد
الدروس الكنسية
الفصل الثاني:
أعوام الحياة الرهبانية
الأسباب
ستة أعوام اختلاء
الفصل الثالث :
حالة الجماعة
الشماسية الإنجيلية
خدمة الشماس الإنجيلي
الأشغال العقلية
الفصل الرابع :
السيامة
الخدمة الكهنوتية
أوائل الخطيب
مشكلة التماثيل
يوماً فيوماً
نهاية الانشقاق
الفصل الخامس:
رجل الكلام
كيف يجب الوعظ
علام يجب الوعظ
جعل النصارى مسيحيين محاضاً
النتيجة
محاربة الضلال
الفصل السادس:
أسقف يعرف ما يريده
الأسقف الجديد
البلاط
حالة الأبروشية
أنواع رد الفعل
بعض الأشغال الخطيرة
الفصل السابع:
لصوصية مجمع السنديانة
النفي بسرعة البرق
العاصفة على أهبة الهبوب
النفي النهائي
الغرب يتأثر
نشاط يوحنا
المجد لله في كل شيء. آمين
مختارات:
بلاغات لرجال أمس واليوم
الحياة بحضرة الله
الله لا يتكلم بحيث لا يقول شيئاً
لماذا نصلي
هل أنت متوسل أو مشتك؟
فوائد الصلاة
الشكر على الدوام وفي كل مكان
متى أذنبت
إن أردت أن يغفر الله لك فاغفر لغيرك
في المحن
ما أعجب اسمك!
على العماد
ابن الله أم وحش ضار؟
هذا هو جسدي
اذهب وصالح أخاك
جسد واحد
يستطيع الأزواج إرضاء الله
ادعوا كاهناً
حين الدفن
الأساقفة والكهنة
ليوم الميلاد
في أول أسبوع الآلام
لجمعة الآلام
في صباح الفصح
مغزى صعود السيد المسيح
في يوم العنصرة
نموذج جدال لاهوتي
طريقة الجدال
ألا اقرأوا ما كتب القديس بولس!
هل الغنى شر؟
نص من عشرة ألاف على الصدقة
بضعة أقوال على التهذيب
بضعة أفكار
المبدأ واضح
الميمر الحادي عشر على إنجيل القديس يوحنا

تم طبع هذا الكتاب بالقاهرة
على مطابع دار المعرف سنة 1963

[1] في هذه الفقرة يتكلم يوحنا عن العماد الممنوح للمحتضرين على حسب عادات زمانه الجارية والموجبة الأسف. يسهُل علينا تطبيق كلامه على أحوالنا الحاضرة.
[2] هنا يقارن يوحنا رموز ثوب الكاهن الأعظم عند اليهود برمـوز الثـوب الـروحـي المختص بالكهنوت المسيحي؛ ولذلك قد ذكر التاج والزهور والجلاجل ( راجع سفر الخروج، 28).