القديس يوحنا الذهبي الفم (الحزء الأول)

القديس يوحنا الذهبي الفم (الحزء الأول)

تأليف
هـــــنري تــــــــرديف
عربه عن الفرنسية
الأب روفائيل نخلة اليسوعي

منشورات المعهد
المعادي

لا مانع من طبعه
القاهرة في 12 مارس 1963
+
الأب يوسف لويس

نصرّح بطبعه
القاهرة في 19 مارس 1963
+ إسطفانوس الأول
بطريرك الكرسي الإسكندري
وسائر الكرازة المرقسية للأقباط الكاثوليك

تمهيد
لقد بذلت أقصى الجهد لتعريب كتاب هنري ترديف بدون أدنى تصرّف ، سوى كوني قد جمعت مراراً في جملة واحدة عربية ترجمة جملتين فرنسيتين قصيرتين جدّاً ، تجنباً للتفكك المفرط المخالف لأصول الإنشاء العربي.
في كل ما عدا ذلك قد آليت على نفسي أن أنقل أدق معاني النص الفرنسي إلى لغتنا ، بعد إفراغها في قالب عربي محض بقدر الإمكان . ومن ثم قد تركت بعض عيوب الأصل على علاتها، ومن جملتها التكرار المتواتر لأسماء الأعلام، حيث كانت لباقة التعبير تقتضي أن ينوب منابها ضمير أو اسم إشارة.
فعسى أن أكون، بعون الله تعالى وبأمانتي الكاملة في هذا التعريب، قـد كذّبت مثلاً سائراً عند الإيطاليين ، وهو القائل : ” إن المترجم لخائن ” .
الأب رفائيل نخلة اليسوعي
المعادي ، في 6 مارس 1963

الفصل الأول
الشباب والاختيار
أنطاكية
بعد رومة والإسكندرية كانت أنطاكية السورية، في أواسط القرن الرابع، المدينة الثالثة في الإمبراطورية الرومانية ، بصفة عاصمة إقليم الشرق المدني ومركز مندوب الإمبراطور، المكان الذي تُنقل منه الأوامر السياسية والعسكرية الصادرة من السلطة المركزية.
كانت المدينة ممتدة على ساحلي العاصي، محميّة بسور متين محصَن، ومحاطة بجبال شامخة. فضلاً عن تمتعها بكل ملذات موقع فتّان، كانت تفتخر ببناياتها البديعة وبرياضها وينابيعها، وهي مآثر السلطة الإمبراطورية أو فريق من الأغنياء.
أنطاكية، مع كونها مشيدة في صميم سوريا، كانت مدينة ذات ثقافة ولغة يونانيتين، شديدة الاحتقار للثقافة الساميّة القديمة، وقد ازدرتها وتركتها لفلاحي الأرياف المحدقة بها. ومن ثم لن يعرف يوحنا الذهبي الفم السريانية أبداً، فإنها لغة “البرابرة”.
عدد أهالي عاصمة سوريا كـان غير زهيـد ، نحو مئتي ألف ، وقد كثر بينهم اختلاف الجنسيات، يجاور فيها الرومان واليونانيون الفرس والأرمن والعرب واليهود، حتى الإسقيطيين (scythes) والهنود. يجوز الإيقان أن جميع أولئك الناس مفرطو الاهتمام بالمال المقتنى بالحلال أو الحرام، وأن كثيراً منهم مهتمون بأنواع الملذات… كانوا هائمين بالمسرحيات، بسباقات الخيل، بحانات دفنة (Daphné). ولا شك أيضاً، أن في هذا المركز السياسي وملتقى الشعوب، كان الغنى، بأشد الوقاحة، والفخفخة، بأقصى درجات المفاخرة، يتجليان بإزاء أسفل دركات الفقر الشرقي، المدقع والقذر؛ فلم يكن جميع ذلك مصدر تقشف في الأخلاق. ونضيف، تكملةً لوصفنا هذا، نزعة مستمرة إلى التمرد والثورة، وتهديداً دائماً من قبل إيران القريبة الجريئة بل المحراب أحياناً.
إذا كانت أنطاكية ، لكل هذه الأسباب ، ومن جملتها فساد الأخلاق ، مدينة شهيرة ، فكان لها مع ذلك ، في عيون النصارى المؤلفين نصف أهاليها ، بغضّ النظر عن حرارة تقواهم أو فتورها ، عنوان مجد نسيج وحده على وجه الإطلاق. فإنها هي، في الواقع، التي رأت نشأة أول كنيسة خارجة من الوثنية؛ في أنطاكية استُعمل اسم مسيحي المرة الأولى، ومنها انطلق بولس، برنابا، مرقس ولوقا لتبشير العالم الوثني. الشهيد الشهير أغناطيوس قد كان أسقفها، وكثيرون غيره من أهاليها الشهداء كانوا سبب فخر لتلك المدينة. أما كان الناس لا يزالون يجتمعون في كنيستها القديمة ، الكنيسة “الرسولية”، المدعوة هكذا لأن بطرس وبولس وبرنابا قد وعظوا واحتفلوا بالقربان المقدس في ذلك المكان؟ يوماً من الأيام سيعظ فيها الذهبي الفم، فيلقبها بلقب “أم كل الكنائس” الفتان . بيد أن هذا المعبد الموقَّر كان أضيق وأقل أبهةً من أن يليق بعاصمة كان أسقفها، منذ سنة 325، ذا سلطة على نحو مئة وخمسين من زملائه في مُدن أخرى من إقليم الشرق المدني ، فيتصدر اجتماعهم في منتصف أكتوبر من كل عام. ولذلك كرست سنة 341 “الكنيسة الذهبية”، “الكنيسة الكبرى”، التي باشر بناءها قسطنطين الكبير وأنجزه ابنه كونستانس. فضلاً عن ذلك كانت توجد في جميع الأنحاء المحيطة بالمدينة كنائس صغيرة ، سُميت ” Martyria ” أي مستشهدات ، لأنها قد شيدت فوق قبور الشهداء.
لقد سبق قولنا إن نصف الأهالي كانوا نصارى، وذلك لا يعني اتحاد جميعهم في الإيمان المحدد في مجمع نيقية . كثيرون كانـوا ينتمون إلى السيد المسيح، وهم في الواقع أتباع الهراطقة. لا يهمنا هنا إحصاؤهم؛ فلنكتف بقولنا إن الأريوسية، مع الحكم عليها في نيقية، كانت تواصل قسمة الكنيسة، إمّا على وجهها المطلق، المنكر في المسيح صفة الأقنوم الثاني من الثالوث الأقدس، وإما على وجه مخفَّف بقولها إن المسيح شبيه بالآب في الجوهر، أو شبيه بالآب، لا غير، مما يناقض وحدة الجوهر بينهما وفقاً للإيمان الصحيح. إيانا والانخداع ، فإن الخصام لم يكن مقصوراً على الألفاظ، بل كان محوره خلاص النصارى بأجمعه، فلو لم يكن المسيح إلهاً حقّاً من إله حق، ومشاطراً لأبيه في الجوهر، لما تم خلاصنا، لأن الله الكلمة لم يتخذ طبيعتنا البشرية.
لم يكن أن تُرضي الأريوسية المعتدلة أوسثاتيوس، أسقف أنطاكية، الشديد التمسك بوحدة الجوهر. بيد أن الأريوسية المعتدلة كانت رائجة، والأسقف أوسابيوس النيقومادي، صاحب الحظوة عند الإمبراطور قسطنطين، كان قد نجح في حث سينودس من الأساقفة على عزل أوسثاتيوس، وتحريك الإمبراطور إلى نفيه. قد حدث ذلك سنة 330، فخلف الأسقف المنفي بولينس السيري (de Cyr) الأريوسي المعتدل، ثم توفي ستة أشهر بعدئذ، وكان خلفاؤه ذوي النزعة نفسها. مع ذلك قد بقى معظم نصارى أنطاكية تحت سلطتهم، لأن أوسثاتيوس، على ما قال الذهبي الفم، كان قد أشار عليهم قبل رحيله بعدم الانفصال عن الكنيسة الرسمية. . . بين سنتي 344 و 358 كان أسقف أنطاكية لاونس الخصيّ، وقد غالى في العطف على الأريوسية المطلقة، فنتج عن ذلك التشكك والتهديد بالانشقاق من قِبل أتباع مجمع نيقية الثابتين على الإيمان الرسمي. بعد وفاة لاونس انتُخب أودُكس، ثم عُزل في العام التالي لأريوسيته المطلقة. فخلفه أنّيانوس وما لبث أن طُرد بدون أن ينوب أحد منابه . أخيراً سنة 360 انتخب ملاتيوس ، فعرف كيف يُرضي كل رعاياه ، مع أتباع مجمع نيقية قد استطاعوا اتهامه بالأريوسية المعتدلة . منذ بدء سنة 361 نُفي بسبب إبداء عطفه على الإيمان النيقاوي في مباحثة الأساقفة، وقد أحدث رحيله اضطرابات في المدينة وأُقيمت فيها مجاهرات…
أفزويوس المفرط في أريوسيته المطلقة، قد انتُخب أسقفاً لأنطاكية بدلاً منه، وفي تلك الظروف ظن النيقاويون أنه يجب عليهم الانفصال عن الكنيسة الرسمية وإنشاء فريق من المتمسكين بالإيمن القويم. بل حاولوا الاتحاد بنيقاويين آخرين من أتباع أوسثاتيوس، المنشقين عن الكنيسة الرسمية منذ سنة 330، غير مكترثين لتعنيف أوسثاتيوس المكرر، بيد أن هؤلاء أبوا كل تقارب عن عدم تساهل في العقيدة أو عن روح تعصب في شيعتهم.
عام 360 صار يوليانوس الجاحد إمبراطوراً، فأعاد منذ سنة 362 الأساقفة المنفيين على عهد العاهل السابق، بقصد إثارة اضطرابات بين النصارى. إذ ذاك شوهد مشهد مؤسف : المسيحيون المتشاقون يتقاسمون – إذا جاز ذلك التعبير – كنائس المدينة ليجتمعوا فيها ، كل فريق على حدة ؛ النيقاويون أتباع ملانيوس في الكنيسة القديمة ، الأوسثاتيوسيون في كنيسة القديس سمعان، والباقون في الكنيسة الذهبية. رجع ملاتيوس فوجد الأحوال تكاد لا تدعو إلى الطمأنينة : تجددت بهوس المجادلات اللاهوتية، وكذلك المجادلات على الأشخاص. وبينما كان أثناسيوس الإسكندري وأوسابيوس الفرسيلي (de Verceil) وإستاريوس البتراوي (de Pétra) يبذلون جهودهم لتقليل الأضرار، إذا بلوسيفوريوس الكلياري (de Cagliari) المتشدد الشرس، الصعب المراس والمُرعد، قد عقّد كل الأمور بسيامته أسقفاً من الأوسثاتيوسيين بمخالفة جميع الشرائع.
كان إذاً لأنطاكية ثلاث جماعات مسيحية وثلاثة أساقفة : أفزويوس عند الأريوسيين، ملاتيوس عند النيقاويين، بولينوس عند الأوسثاتيوسيين. وقد عانى ملاتيوس ما عاناه لحث بعض زملائه في مصر وإيطالية على قبول أرثذكسيته[1]، بحيث عدت الإسكندرية ورومة بولينوس الأسقف الشرعي الوحيد، بينما كان أهالي المدينة لا ينخدعون بذلك لأسباب واضحة. من جهة أخرى قد نفى ملاتيوس ثانيةً سنة 365 لرذله الأريوسية، لكن أتباعه قد ثبتوا في موقفهم. ثم رجع عام 367، وفي سنة 370 عده باسيليوس القيصري، على وجه رسمي، الأسقف الشرعي الوحيد في أنطاكية.
الولادة والشباب

بعد وصف المحيط، كما فعلنا، بقي علينا أن نشاهد عيشة البطل فيه. يوحنا الملقب منذ القرن السادس بالذهبي الفم، قد وُلد في أنطاكية من أبوين مسيحيين. والده سكوندُس- ولعله لاتيني الأصل- كان رئيس الجيش السوري، بين عامي 344 و 354 في تاريخ يصعب تعيينه بين ذينك الحدين، كانت بُنيَّة قد نشرت الفرح في بيت القائد.
سكوندوس مات بعيد ميلاد ابنه، فبقيت أنثوسة أرملة، في العشرين من عمرها، مع ولديها. ما لبثت البنت أن ماتت، وأبت الرملة الفتاة زواجاً ثانياً، فوقفت كل ذاتها على تهذيب ابنها. وقد فسر سلوكها هذا ليبانيوس، أستاذ الخطابة الشهير، القليل الميل إلى الإعجاب بالمسيحيين، على صيحة الغيظ هذه: “لله در النساء عند النصارى!”
يوحنا، في كتابه “على الكهنوت” ، قد جعل هذا الكلام على لسان أمه: “يا ابني، وفقاً لإرادة العناية الإلهية، لم أستطع الاستفادة الطويلة من قوة أبيك، فقد ولى موته الأوجاع التي عانيتها حين ولدتك. تلك العناية قد صيرتك قبل الأوان يتيماً، وجعلتني أرملة مع كل مشاقّ الترمل التي لا يجيد معرفتها غير اللواتي اختبرنها. إن الكلام لعاجز عن وصف العواصف والزوابع المنقضّة على صبيَّة غادرت بيت والديها من زمن قريب ، وهي عادمة الحنكة في الأشغال ، ثم يصيبها فجأةً حـداد لا يُطاق ، فترى نفسها مضطرة إلى مجابهة هموم أثقل جداً مما يستطيع حمله سنها وجنسها. يجب عليها أن تصلح كسل الخُدام وتنتبه لخباثتهم وتُبعد الفخاخ التي تنصبها العائلة ، وتحتمل بشجاعة إهانات الجباة ومطالباتهم في شأن دفع الضرائب. إذا خلّف الفقيد يتيمة، فلا شك أن الأم تُعنى بها كل العناية، غير أن النفقات والمخاوف تكون أخف وطأة. أما الابن، فهو بعكس ذلك، سبب دائم لمخاوف يومية وهموم لا تُحصى، بغض النظر عن النفقات الباهظة التي يتحتم على الأم بذلها، إذا أرادت أن تهذبه تهذيباً لائقاً بالأحرار.
مع ذلك لم يقدر شيء من كل تلك العوامل أن يحركني إلى زواج ثان، إلى إدخال زوج آخر بيت أبيك ، فبقيت في صميم الإعصـار ، في صيم العاصفة ، ولم أحـاول الخروج من حالة ترملي الهائلة . لقد ساعدني على ذلك، في المقام الأول، العون الآتي من علُ ، وقد ذقت أيضاً تعزية لا تقـل عن الأولى ، بنظري المتواتر إلى وجهك ومشاهدتي فيه صورة حية للفقيد بكل ملامحه. إذ كنت طفيلاً لا تتكلم، في السن التي يُلهى فيها أصغر الأولاد والديهم، كنت كل تعزيتي.
أضيف إلى ما سبق أنك لا تقدر أن تلومني لكوني قد احتملت ترملي بشجاعة أكيدة ، غير أني ، بسبب مصاعب تلك الحالة ، قد أنقصت ميراثك، كما يحدث لكثيرات من الأرامل لسوء حظ أولادهن. أما أنا فقد حفظت ميراثك كاملاً. بدون حذف شيء من النفقات اللازمة لتهذيبك على وجه لائق بالأحرار. قد دفعتها من مالي الخاص، من المهر الذي أعطانيه أبي عند زواجي.
ليس في كل ذلك ذرة من التوبيخ، لكني أطلب منك نعمة واحدة
تقابل بها إحساني إليك…” أي نعمة؟ ألا يترك والدته ليترهب. على كل حال لم نصل إلى تلك المرحلة من حياته…
كان يوحنا قد حظى بالتهذيب اللائق بحالة ابن عائلة وجيهة. قد تلقن، وهو طالب، تدريس أمهر الأساتذة ، وعلى الأخص ليبانيوس معلم الخطابة الشهير . وقـد زعـم البعض أن هذا قد سئل ، حول سنة 393، قبيل موته ، من يريده بصفة خلف له، فأجاب : ” يوحنا ، لو لم يكن النصارى قد خطفوه مني!”
الأمر الخطير هو أن يوحنا قد نال من أمه تثقيفاً مسيحيّاً عميقاً، مع كونه لم يقبل العماد إلا في وقت شديد التأخر، حين صار شاباً، وذلك وفقاً لعادة زمانه . فلا بدع بكونه قد عاشر ذوي الرزانة من رفقائه في الدراسة: ثاودوروس أسقف موبسوئست (Mopsueste) فيما بعد، مكسيموس الذي سوف يجلس على كرسي سلوقية في أيزورية، وعلى الأخص باسيليوس الذي سيكون هو أيضاً أسقفاً، على الأرجح لرفانية (Raphanée). فمن الواضح أن أعداءه في المستقبل البعيد، مع اعتزامهم تحريك كل ساكن لطرده من كرسي الأسقفي، لن يجدوا أدنى مادة للتشكي منه، حين إجرائهم تحقيقاً على سلوكه في الشباب.

ساعة الاختيار

بعد تزويده بكل العلوم القادر على تلقينها أساتذة زمانه، من فلسفة وعلم الطبيعة والطب، وتمهره في كل تمارين فن الخطابة وقواعد النحو، تحتم على يوحنا اختيار مسلك لحياته، وكان عندئذ ابن ثمانية عشر عاماً. بلاديوس، وهو من كُتّاب سيرته، يقول لنا إن يوحنا لم يعكف على دروسه إلا للتمكن من دراسة الأسفار المقدسة واللاهوت، فإنه لم يُقم وزناً لغيرها. يوحنا ذاته يُعلمنا أنه، منذ حين دروسه وبعد فراغه منها، قد قصد، مثل صديقه باسيليوس، أن يعيش عيشة ودراسة استعدادية للكهنوت. باسيليوس بادر إلى إتمام قصده؛ أما يوحنا فتردد قليلاً إلى المحكمة، ولم ير لزوماً للابتعاد عن المسرحيات، ثم اعتزم أخيراً الشروع في الدروس الكنسية. عندئذ اقترح عليه باسيليوس أن يغادرا أسرتيهما ويسكنا معاً.
في الواقع كان يقترح عليه دخول معهد فيه شيء من مميزات دير الابتداء والإكليريكية الكبرى وبيت الرهبان، وكان مؤسسه في أنطاكية، حول سنة 360 على الأرجح، ديودور، سقف طرسوس في المستقبل. بجانب ذلك العالم الناسك كان يوجد المدعو كرتريوس وفلافيانوس خلف ملاتيوس فيما بعد.
قبل يوحنا مشروع باسيليوس، لكنه لم يفكر في مقاومة أمه، فإن أنثوسة قد وجهت إلى ابنها الكلام السابق ذكره ، وطلبت منه بإلحاح ألا يتركها. لينتظر موتها قبل إخراج مقاصده إلى حيِّز العمل، فإن ذلك ما تقتضيه معرفة الجميل على حسب العدل. ومن ثم لم تُرد أن تفرض عليه الاهتمام بأشغال هذا العالم، بل تقوم هي بأعباء جميعها، لتمكّنه من أن يعيش، بدون هموم باطلة، العيشة التي يتوق إليها. فرضى يوحنا بذلكوبقى مع والدته في بيت أسرته، واكتفى بأن يكون تلميذاً خارجياً في مدرسة ديودور.
العماد

بيد أن أمراً خطيراً لم تُحلّ عقدته إلى ذلك الحين: لم يكن يوحنا معمَّداً ، بل لم يقيَّد اسمه في جدول المستعدين للعماد؛ وذلك من الغرابة بمكان في شاب شديد التقوى، قاصد أن يحيا حياة ناسك وتلميذ في اللاهوت. كان ملاتيوس أسقف أنطاكية قد انتبه لذلك، وكثيراً ما كان يستقبل يوحنا طوعاً. فسهُل على يوحنا أن يترشح “للاستنارة” كما يقال في الشرق. أخيراً نال العماد في ليلة الفصح من سنة واقعة بين 365 و 372. بلاديوس يؤكد لنا أن هذا الحادث كان ليوحنا بدء حياة جديدة كل الجدة. مع ذلك لم يمنع هذا التجدد يوحنا، بعدما صار كاهناً وكُلف تعليم المقصود عمادهم، من الاعتراف أمامهم بالذنوب وأنواع الإهمال التي اقترفها بكثرة منذ إنكاره الشخصي لإبليس.

الدروس الكنسية

بعدما قام يوحنا بواجباته العائلية وراعى الكنيسة ، وهو منذئذ مسيحي بمعنى هذه الكلمة الكامل العميق، تلقى مدة ثلاثة أعوام تعليم معهد ديودور، وكان جوهر الدروس شرحاً مواصلاً لأسفار الكتاب المقدس . كان الأستاذ يسرده ، ثم يُلقي عليه التلاميذ أسئلة في شأن النص المشروح . بعد ذلك يأتي الجدال وفي الختام يعلن المعلـم نتيجته . في تلك الآونة لم يشك أحد في أرثوذكسية ديودور، بل كان الأمر بعكس ذلك. سنة 378 غادر أنطاكية ليصير أسقف طرسوس، وبقى على كرسيها إلى عام 391. وقد حفظ له يوحنا على الدوام عاطفة الشكر لتعليمه.
حين خروجه من مدرسة ديودور سيم يوحنا قارئاً لكنيسة أنطاكية بوضع يدي ملاتيوس، سنة 369 أو 370. كانت وظيفته تفرض عليه قراءة الأسفار المقدسة للمؤمنين، بيد أن خبر ذهابه إلى الجبال القريبة ليعيش مع الرهبان، قد ذاع فجأةً… فماذا تُرى حدث له؟

الفصل الثاني
أعوم الحياة الرهبانية

قال يوحنا : ” شاع بغتةً خبر أزعجنا كلينا ، أنا وباسيليوس ؛ كان حديث القوم أن نُرقَّى إلى المقام الأسقفي . حين وقفت على ذلك النبأ، أخذ منى الخوف والقلق كل مأخذ. كنت أخشى أن أقسَر على قبول السيامة الأسقفية، وبقيت مضطرباً وسائلاً ذاتي لأي أسباب خطر مثل ذلك الخاطر في شأني”.
ربما كان هذا الحادث واقعياً ، ومن الممكن أن نرى فيه أسلوباً أدبيّاً من أساليب ذلك الزمان، غايته أن يكون تمهيداً لتأمل على واجبات الأساقفة وأعبائهم وأخطار مقامهم. على كل حال لم تكن السيامات القسرية نادرة حينئذ، فقد عُرفت منها أمثال هي من الغرابة بمكان في بعض الظروف . من جهة أخرى ، كان يوحنا ، بقبوله درجة قارئ ، قد انتظم في السلك الكنسي، وهو يعلم ذلك كل العلم. لم يكن إمكان ترقيته إلى المكانة الأسقفية ليسوءه، بل كان يعترف بطموحه في ذلك الشأن، ويقرّ بأنه يفضل الخدمة الكهنوتية على الحياة الرهبانية.
قد كتبت في مؤلفه “على الكهنوت”: “كم مرة قلت، حين عالجنا هذ1 الموضوع، إنني إذا استطعت اختيار وظيفة عالية في الكنيسة أو العيشة الرهبانية، فإني أفضل الخدمة الكنسية كل التفضيل ، وكان لساني لا يكلّ في تعظيم القادرين على حسن القيام بتلك الخدمة. فلا مندوحة للناس من التسليم بأني ما كنت ابتعدت عن حالة رفيعة المقام في نظري، لو كنت مضطلعاً بأعباء الواجبات التي تفرضها”.
الأسباب

بيد أن الوظيفة الأسقفية تكون سابقة لأوانها؛ إذ لا يوكل قطيع السيد المسيح إلى يدي طفل أو شاب إكليريكي بجهله معظم المؤمنين، وليس له أدنى خبرة فيما تعقَّد من حوادث الخدمة الكنسية.
فضلاً عن ذلك، إن الأسقفية والكهنوت منوطان بقداسة هائلة، يطيل يوحنا التروي فيها، وهو موقف أنه الآن أقل تقدماً في الفضيلة من أن يتجاسر على قبول السيامة. وأيم الحق، إنه يجتهد بالنسك لإماتة أمياله السيئة ، لكنه يخشى أن يُثير في رأسه سورة الكبرياء مثل ذلك المقام الرفيع والمركز اللافت لجميع الأنظار… لا مراء في أن العمل الراعوي برهان على حبنا للمسيح، ومن لا يعمل شيئاً لغيره، لا يسوغ له الافتخار بنيل الخلاص لنفسه. مع ذلك لابد من المقدرة على سد حاجات القطيع؛ وإلا فمن أخذ رعايته على عاتقه يهين المسيح إهانة ثقيلة. والأناني، على كل حال، يُحكم عليه- لا محالة- حكماً أقل عنفاً منه على الراعي الشرير الذي أفضى به إعجابه بذاته إلى أوخم العواقب.
كانت هناك موانع أخرى، ووصف يوحنا المكرر المتشائم للأخطار التي تهدد السفينة الأسقفية ، ليس مـن نـوع الإطناب الأدبي المحض ، بل يشعر القارئ بأن الواصف يتكلم عما يعرفه وعما رآه، بحيث يسهل عليه تحديد الأسماء والتواريخ.
كون الأسقف عرضة لشكاوى المؤمنين ونمائمهم الكاذبـة ، أمر لا مهرب منه. بيد أن ما هو أكثر تشكيكاً وجود “أمهات الكنيسة” اللواتي يكدن المكايد، بل يدعون إلى المقام الأسقفي ويعزلن عنه وفقاً لأهوائهن، ويتقحن على إرشاد الأسقف بأقوال أشد لذعاً من التي يفهن بها لتوبيخ خدامهن . هناك أيضاً من يدّعون أنهم نصـارى صالحون ، وهم يهددون الأسقف بالانتقال إلى طائفة مزاحمة له، كلما عمل ما يخالف ذوقهم. هناك أيضاً أقرب المؤازرين الكنسيين الساعين خفيةً للحصول على عزل الأسقف حتى ينوبوا منابه. أضف إلى ذلك الوكالة على صناديق المساعدات الخيرية التي يجب توزيعها بفطنة، لا على أرامل ثرثارات، مفرطات في المطالبة ومعرّضات سلام الجماعة للخطر. هناك أيضاً مشكلة الإرشاد وطهارة الحياة المتعلقة بالعذارى المكرسات لله تعالى والعائشات في وسط عائلتهن، وهُن … هناك الدائبون بلا انقطاع على الجدال، في الداخل، ولهم آراء لاهوتية على أقل المسائل سهولةً، والهراطقة في الخارج، مع ضربنا صفحاً عن المنشقين الأرثذكس مع كونهم متطرفين، الذين يقيمون وزناً للأشخاص بقدر ما يفعلون للعقائد ، بل أكثر من ذلك . ولم نذكر كل المصاعب في أقوالنا السابقة… بيد أن ما قلناه كافٍ لنفهم أن الشاب يوحنا ، القارئ التابع لكنيسة أنطاكية ، قـد شعر بعجزه عن مجابهة تلك الأحوال.
فيتضح من ثم أن يوحنا قد اعتزم بعد التروي، دون تهور ، أن يختلي في الصحراء بعيداً عن المدينة وميدانها وصخبهما. هناك يستطيع العكوف على اكتساب الفضائل التي تنقصه، ومواصلة درس العلم الديني. ومهما ساءت الظروف ، ولو تحتم عليه ذات يوم أن يكون رئيساً ، فليس ذلك الحمل شيئاً يذكر إذا قورن بعبء السقفية وبأنواع مصاعبها.
من جهة أخرى ليست ” الصحراء ” شديدة البعد عـن أنطاكية ؛ إذ يكفي الذهاب إلى خلوت الرهبان المشيدة بناياتها على الجبال المحيطة بالمدينة. إبراهيم قد هجر وطنه، مما يبرهن على قوة نفسه . ليس مثل تلك الهجرة ضربة لازب ، وقد كتب يوحنا : ” حتى الذين قـد هربوا من الضجيج واختاروا الحياة الرهبانية، قد فضلوا عدم الابتعاد عن الأمكنة المانوسة… من جهة أخرى تبقى بعض العقبات في ذلك السبيل: كيف يدبَّر أمر الطعام والشغل اليدوي؟” لن تكون أنثوسة حاضرة للسهر على كليهما، فلا اتكال إلا على نعمة الله.

ستة أعوام اختلاء

قد عكف يوحنا على العيشة الرهبانية من سنة 374 إلى 380، على رأي بعض الناس، ومن 370 إلى 376 على رأي غيرهم. بقى في أول مدة أربعة أعوام تحت رئاسة راهب قديم، ثم عاش سنتين عيشة حبيس مطلقة. من يفوقه إجادةً في تحديثنا عن تلك العيشة؟
“حياة الحبيس حياة جهاد وعمل… الأشغال عديدة ، مختصة في آن واحد بالنفس والجسد، بل تكوّن الممارسات الجسمية شطرها الأكبر… فإن كان الجسد غير قوي، بقيت الروح العاجزة عن العمل بواسطته وحدها وعادمة النشاط. فيصبح الصوم الدائم، النوم على مضجع خشن، الإسهار ، الامتناع عن الحمّامات ، الشغل اليدوي وكل مـا من شأنه أن يميت الجسم ، من الأمور المستحيلة، لأن هـذا الجسم المقصودة إماتته لا يقوى على احتمالها… فلابد إذاً، على الأقل، من صحة ممتازة ومكان صالح للعيشة التي اختارها الحبيس، غير مفرط البعد عن الناس ومنفرد مع ذلك، ليجد فيه الهدوء، ومن أحوال جوية موافقة؛ فإن كانت مرهقة، لم يقاس الصائم ما يكون أثقل وطأةً منها. ولا أتكلم هنا عن اللباس ولا عن القوت، فإن الرهبان يقتنونهما بعناء شديد من شغل أيديهم.
“من اختار الحياة الرهبانية، واقفاً ذاته على خدمة الله، يحكم على الغضب، الحسد، البخل، اللذة الجنسية وسائر الشهوات، وهي أمراض النفس. يسهر بلا انقطاع، في تأمله، على الوسائط اللازمة لتحرير نفسه من سيطرة الرغبات الدنسة، وعقله من استبدادها العنيف، وعلى الوسائط التي ترفع فكره إلى علو يفوق جدّاً الأمور البشرية، وتمكّنه من التسلط على شهواته بخوف الله…
“إذا أردت الإعجاب بنوع الحروب التي يحاربها الراهب، رأيته دائباً على مقاتلة الشياطين والتفوق والانتصار عليهم ونيل تاج الظافرين من السيد المسيح. إنه لمن المعقول، في الواقع، أن الذاهب إلى القتال بتأييد الله ومعونته، وهو متسلح بأسلحة سماوية، يرى الانتصار ملازماً له.
“إذا رغبتَ في معرفة أسباب ذلك القتال، فهاك إياها: الراهب يحارب الشياطين عن تقوى لله، لكي يُرضيه، أو عن توقه إلى انتشال المُدن والقُرى الكبرى من الضلال.
“الراهب تجده محادثاً للأنبياء، فيزين عقله بحكمة القديس بولس، وينتقل بلا انقطاع ، في معاشراته ، من موسى إلى أشعيا ، ومـن أشعيا إلى يوحنا، ومن يوحنا إلى غيره… والحال أننا نعرف بالاختبار أن الإنسان يتخلق بأخلاق من يعيش معهم. هكذا تتشبه نفس الراهب بكيفية الحياة والعمل المختصة بالرسل والأنبياء . . . ومن ثم يجب أن نجاهر بأن الحياة الرهبانية أسعد من غيرها…
“الراهب يُعرف من مواظبته على تسبيح الله والصلاة إليه: زمناً طويلاً قبل صياح الديك ، يترنم بفرض الكهنة في صحبة الملائكة ، يحادث الله ويتمتع بالخيرات السماوية… ثوبه بسيط، وكذلك طعامه؛ مؤاكلوه هم أقرانه بالفضيلة… فور ظهوره يأتي بعطية ما إلى الغنى وكذلك إلى الفقير، فإنه يبدي إحسانه لكل الناس. بينما يكتفي بثوب واحد يلبسه عاماً كاملاً ، ويشرب الماء الصرف بمثل اللذة التي يشـرب بها غيره الخمر الجيدة، لا يطلب شيئاً لذاته، لا قليلاً ولا كثيراً، من الأغنياء، بل يطلب منهم كثيراً ، وذلك ، على الدوام ، لفائدة الفقراء ، مما يفيد المعطين والآخذين على السواء. على هذا المنوال يجعل ذاته طبيب الموسرين والمساكين، فيخلص الفريق الأول من خطاياه بحثّه على التصدق، وينتشل الثاني من هوة الشقاء…
“يمنح كل الناس النعمة الروحية . . . يخلص النفوس التي يجور عليها طغيان الشياطين . فكل من أصيب بمحنة من ذلك النوع يسرع إلى الدير إسراع من يخشى الذئب، فيهرع إلى الصياد المتسلح بسيف. سيف الصياد هو الصلاة عند الراهب، وكما أن الذئب يرهب السيف، يرتعب الأبالسة من صلوات الصدّيقين.
” كل ذلك جميل جداً ومثير الإعجاب. مع ذلك لم تخل الأمور، في الواقع، من بعض الشوائب. فإن الحياة الرهبانية كان لها خصوم يتذرعون لمقاومتها ببعض براهين تؤيد رأيهم ، لا محالة . إخوان يوحنا، في أثناء اختلائه، قد التمسوا منها أن يؤلف كتاباً لإجابة الخصوم، ولإيضاح كون غيرة الرهبان على نفوس الشبان النصارى الموكولين إلى تثقيفهم، لم تكن عادمة الاعتدال بقدر ما قيل عنهما . . . كان أيضاً بعض رهبان قد رجعوا إلى العالم، مما ساء تأثيره؛ وبينهم من أمثال إستاجير، من خارت قواهم من فرط النسك وتوتر عقلي بدون مراقبة كافية، فتدهوروا في النورستينيا الواضحة وفي فكرة الانتحار الملازمة . فلا بدع بأن كتب يوحنا “الإرشاد لثاودوروس الساقط” و “التعزية لإستاجير”.
تأليف تلك الكتب يدل على أن يوحنا، في حياته الرهبانية، قد شُغل بغير العمل اليدوي المحض . في الحقيقة قد واصل بتقشفات أثقل من السابقة، حياة الدراسة والعمل العقلي التي بدأها حين دخوله مدرسة ديودور، ولم يسعَ إخوانه، الذين كان يحميهم أو يمدحهم في مؤلفاته ، إلا أن يفرحوا بها.
على أنها كانت، في الآن ذاته، تعرّف يوحنا . فاستحسن ، للتخلص من الشهرة، أن ينزوي وحده في مغارة. وقد عاش عيشة الحبيس هذه مدة عامين، وهو يتعدى بالسهر حدود الاعتدال، ويتعمق في دروس الكتاب المقدس، ويصوم بإفراط… وقد نتج عن ذلك زوال صحته الكامل والنهائي. فلم يبق له مناص سوى النزول إلى أنطاكية ، وقد فعل ذلك.
على كل حال، كان نزوله خيراً من عدمه، فقد أتاحت له العناية أن يعود إلى دعوته الحقيقية ، إلى الخدمة الكنسية، بدون إثارة الاستغراب. ربما قد قم منذئذ ما علّمه فيما بعد: “خير للإنسان أن يكون أقل فضيلةً ويهدي غيره من أن يسكن على الجبال ويرى إخوته يهلكون!” العيشة الرهبانية جيدة جداً، والكنيسة في حاجة إلى الرهبان، بيد أن الخدمة الكنسية أمر أكمل، لأنه يُحدث خلاص القريب.

الفصل الثالث
الشماسية الإنجيلية (376 أو 380 – 386)
حالة الجماعة

إذ كان يوحنا مقيماً بين الرهبان، مازالت حالة جماعة النصارى أنطاكية تتفاقم من حيث الانشقاق. كانت الهرطقة ظافرة، وهو أمر مؤسف؛ وما هو أشد إيسافاً- إذا شاركنا باسيليوس القيصري في قوله- هو “أن الأرثذكسية كانت منقسمة على ذاتها”. على رأي باسيليوس هذا، كان العدو يثور ثائره على أنطاكية لينتقم من أنها قد كانت منشأ اسم المسيحيين.
ملاتيوس، بعد نفيه الثاني، كان قد حصل على معاضدة باسيليوس والاتحاد الكنسي به، وهذا اجتذب أثناسيوس إلى قضيته. أثناسيوس حاول أن ينال من دماسيوس بابا رومة تحقيقاً مُتقناً وخالياً من المحاباة على حقوق ملاتيوس وبولينوس وزلاتهما. بيد أن المدافع العظيم عن إيمان نيقية قضى نحبه في مايو 373، وكان بطرس، خلفه على كرسي الإسكندرية، يعد ملاتيوس هرطوقياً، مما جر عليه هذه الملاحظة اللاذعة من قِبل باسيليوس: “دوروتاوس قد أحزنني جداً حين أخبرني أن زميلينا الفائقي التقوى ملاتيوس وأوسابيوس قد عُدا من الأريوسيين في نظر سيادتك والأسقف داماسيوس المبجّل. ولو لم يوجد برهان آخر على أرثوذكسيتهم، لكانت الحرب التي ناصبهم بها الأريوسيين دليلاً غير زهيد على إيمانهم المستقيم في عين من يحسنون تقدير الأمور. مجرد كونكما كليكما قد عانيتما المحن ذاتها في سبيل السيد المسيح ، يحتم على شفقتك الاتحـاد بهما في الحب المتبادل. يجب إيقانك، أيها الموقر، أن ملاتيوس وأوسابيوس قد وعظا على الدوام، بحرية القول التامة، وفقاً للإيمان الأرثذكسي الكامل . إن الله لشاهد على ذلك ، وأنا الذي سمعتهما . من جهة أخرى، ما كنت قبلتهما في الاتحاد الكنسي بي، لو اكتشفت نقصاً في إيمانهما . على كل حـال ، لنضـرب صفحـاً عن الماضي ، إذا شئت، ولننظر إلى المستقبل…”
ماذا كان موضوع التلاوم بين نقاويي ملاتيوس ونيقاويي بولينوس؟ أواه! إن باسيليوس قد علمه كل العلم: “مع مرور الزمان كانت الأثرة قد تأصلت في النفوس…” فلم يتسع المجال إلا “للتهمة المتبادلة والمجادلات المتضادة وتصفية الحسابات الشخصية، وجميعها شكاوى مبنية على الواقع أو على الوهم”. كل ذلك كانت تنبغي تسويته على حسب اللياقة وشرائع الكنيسة.
شتان ما بين ذلك السلوك والواقع: الاتهامات بالهرطقة التي كان يتبادلها بتواتر الملاتيوسيون والبولينوسيون، كان أساسها الأصلي اختلاف التعبير اللاهوتي في بيان الحقيقة عينها، فيما يتعلق بالثالوث الأقدس؛ ونرى أن الأصوب هو امتناعنا عن إدخال القارئ في تلك المنازعات المنقضي عهدها. كانت اليد الطولى لباسيليوس واللكبادوكيين في تحديد الاصطلاحات وإزالة أنواع سوء التفاهم.
كأن حزبين فقط غير كافيين لإحداث الشقاق بين النصارى النيقاويين ، قد استحسن أبوليناريوس أسقف اللاذقية ، الـذي كانت له، بلا مراء، آراء شخصية على شخص المسيح، لما تكلم عنها، أن يتدخل بين الملاتيوسيين ويفصل بعضهم، ويعطيهم حول سنة 375 أسقفاً يدعى فيتال؛ ومن الطبيعي أن فيتال ورعاياه ينحازون فيما بعد إلى أبوليناريوس، فيأبون تكذيب رأيهم.
إذ ذاك حدثت تعقدات أخرى: بعدما شُكى أبوليناريوس وفيتال، بصفة هرطوقيين، كلّف داماسيوس بولينس إجراء تحقيق على فيتال وتعاليمه، والاعتراف بأرثذكسية أساقفة الشرق بقبولهم في الاتحاد الكنسي به؛ فكان ذلك تصريحاً مضمراً بأن بولينوس هو أسقف أنطاكية الشرعي الوحيد. وقد أفرط البولينوسيون في الافتخار بظفرهم وجرحوا عواطف الملاتيوسيين ، وشككوا الأساقفة الخاضعين لكرسي أنطاكية ، لأنهم كانوا مُحقين بعدّهم بولينوس دخيلا . فغضب باسيليوس ؛ كان عالماً كل العلم أن الغربيين “يجهلون أحوالنا جهلاً مطلقاً، وأن البولينوسيين يخبرونهم بما يوافقهم ، بدلاً من الحقيقة ، بيد أن الكيل قـد طفح . فكتب للغربيين بقصد الاحتجاج حول أواخر عام 375، بلا جدوى على كل حال.
ولم تقف الأمور عند ذلك الحد. أبيفانوس السلاميني، الشديد المحاربة للهرطقات، وهو أوفر غيرةً منه ذكاءً، قد وصل إلى أنطاكية في نهاية سنة 376 لتحقيق تعاليم أبوليناريوس. فاتحد بالبولينوسيين اتحاداً كنسيّاً بدون استطاعته تجريم أرثذكسية ملاتيوس، وظن من واجبه اجتذاب باسيليوس إلى قضيته، وفي ذلك من فرط السذاجة ما فيه. فأتاه من باسيليوس هذا الجواب: ” إن أسقف أنطاكية المبجل هو ملاتيوس على رأيي؛ إذ أنه أول من دافعوا بجسارة عن الحقيقة، وقد أبلى بلاءً حسناً على عهد الإمبراطور كونستانس. هو متحد بكنيستي التي في قيصرية، وهي مشغوفة به لنضاله الشجاع والمظفَّر. بنعمة الله نحن متحدون حتى الآن به في الإيمان، وسنبقى على ذلك إن شاء الله. من جهة أخرى كان البابا أثناسيوس الطوباوي، الآتي من الإسكندرية، واضح الرغبة في عقد الاتحاد الكنسي به، غير أن خباثة بعض المستشارين قد جعلته يؤجل إنشاء ذلك الاتحاد؛ فليت العناية الإلهية حالت دون وقوع تلك المصيبة ! نحن لم نقبل قط في الاتحاد بنا شخصاً واحداً ممن خلفوه على كرسيه ، لا لكوننا رأيناه غير جدير ، بل لأنه لم يكن لنا أدنى داع للحكم على ملاتيوس. مع ذلك قد سمعنا من زملائنا عدة شكاوى عليه، غير أننا لم نصدقها، لأن المشتكَى عليهم لم يمثلوا بحضرة المشتكين، مما يخالف الكتاب المقدس”.
لكن الأحوال قد تحسنت، سنة 378، لمصلحة ملاتيوس: قد أفضت الأمور بداماسيوس إلى عدم عده هرطوقياً ، فأشار عليه بالاتفاق مع بولينوس، وبعد ذلك يبقى وحده أسقفاً آخرُ من يظل في قيد الحياة من القرنين ، فتسوَّى الشؤون خير تسوية . كـان هذا التدبير ماهراً ، وإن لم يمكن العمل به. منذ عام 379 اقترح ملاتيوس على بولينوس أن يتشاطرا إدارة الأبروشية، بل خطر بباله خاطر رقيق، وهو اعتبار كون الإنجيل يشغل مكان العرش الأسقفي، فلا يجلس كل أسقف إلا على أحد جانبي السيد المسيح، الممثَّل هكذا بصفة الرئيس الحقيقي لكنيسة أنطاكية. فأبى بولينوس بتعجرف، وتفاقم القتال بين الملاتيوسيين والبولينوسيين. لم يكن لهؤلاء الشأن الأسنى في عين الغرب. أما ملاتيوس فقد دخل في الاتحاد برومة، وقد نفت بولينوس من الاتحاد بها، بحيث بات الحزبان النيقاويان، من وجهة النظر المحلية ، على انشقاق وتضاد أشد منهما في الماضي.

الشمّاسية الإنجيلية

هكذا كانت الظروف غير الزهيدة الاضطراب، حين أتى يوحنا، وقد ساءت صحته بدون أمل تحسن، ليستعيد وظيفة قارئ في كنيسة ملاتيوس.
منذ عام 381، قبل السفر لأجل المجمع المنوي انعقاده في القسطنطينية، بأمر الإمبراطور ثاودوسيوس ، والذي كان يجب أن يتصدره ملاتيوس في غياب أسقف الإسكندرية، منح هذا يوحنا درجة شماس إنجيلي . يوحنا جثا أمام المذبح، وحظى بوضع يدي الأسقف، ثم أعلن اسمه في المجلس الكنسي، فنال مقامه بين زملائه في “الشماسية بيسوع المسيح”.
ملاتيوس قد مات في أوائل المجمع، وكان الشرق قد عده دائماً الراعي الشرعي الوحيد لأنطاكية. أكان المقصود بعد وفاته الرجوع إلى رأي الغربيين بعد بولينوس خلفه عن حق كامل ؟ كـان البعض يريدون ذلك، وهم يأبون أن يعتبروا كون بولينوس قد سيم أسقفاً بخلاف القوانين المقدسة ، وقد سلك سلوكاً مكروهاً مع استعداد ملاتيوس للتساهل ، فلا يقبله الملاتيوسيون أبداً بعد ذلك السلوك. أما غيرهم ممن يفوقونهم تبصراً، فكانوا قترحون اختيار الكاهن فلافيانوس لجعله أسقف أنطاكية، وهم يضربون صفحاً عن بولينوس وصعوبة مراسه.
بعد ختام المجمع عاد كلٌّ من الشرقيين إلى أبروشيته، فأقيم انتخاب وانتُخب فلافيانوس وسيم أسقفاً منذ سبتمبر أو أكتوبر عام 381. فاحتج بولينوس لدى رومة والغربيين وعُد محقّاً. بقى الشرقيون متحدين بفلافيانوس؛ أما الغرب ومصر وقبرس وبعض كنائس بلاد العرب، فأخذت تتحد ببولينوس. لم يكترث فلافيانوس لذلك، بل أبى على الدوام مجادلة بولينوس، لئلا يبدو منه أدنى تسليم بأن حقوق الأسقف الشرعي المختصة به، قابلة للجدال.
خدمة الشماس الإنجيلي

قد قام إذاً يوحنا بوظائفه، بصفة شماس إنجيلي لأنطاكية، تحت أسقفية فلافيانوس، أستاذه القديم في مدرسة ديودور، وبراحة ضمير كاملة، مدة خمسة أعوام، من 381 إلى 386. كانت في الآن ذاته وظائف مختصة بالطقوس وكذلك بالمؤازرة، إذا طلبها الأسقف.
في الشرق، حتى الوقت الحاضر ، وظيفة الشماس الإنجيلي أبرز جدّاً منها في شمامستنا الغربيين المعاصرين. فكان يوحنا، بصفة شماس، وهو لابس الحلة البيضاء وواضع البطرشيل على كتفه اليسرى، يرأس الصلاة في الاجتماعات الكنسية. قد صدرت منه التنبيهات التقليدية: اسكتوا! انتبهوا! فلنرتل كلنا معاً! اخرجوا، أيها المستعدون للعماد! أغلقوا الأبواب! لنحن رؤوسنا أمام الرب! لنتبادل القُبلة المقدسة!
قد اقترح نيات الصلاة، وقرأ جداول أسماء الأحياء والموتى، وتلا الإنجيل علانيةً، وأتى “بالعطايا المقدسة” إلى المذبح في أثناء تطواف التقدمة، ونشر الأغطية على المذبح، وهو نائب في ذلك مناب الملائكة خُدام اللاهوت، وفقاً لتعاليم ثاودوروس الموبسوئستي، رفيقه القديم في الدراسة. قدّم الإبريق للأسقف والكهنة لأجل غسل الأيدي، وحرك المراوح الطقسية فوق الأعراض القربانية المقدسة، أو بقى في المعبد مجاوراً للمذبح وممثلاً للملائكة الموجودين في قـدس الأقداس . بعدما يصير كاهناً ، سيذكّر نص بعض الصلوات التي ترنم هو ذاته بها ، بصفـة شماس إنجيلي . قدمها يجعلها خليقة بالإجلال ؛ فلنذكر شيئاً منها : فلنصلّ لأجل الأسقف ، لأجل شيخوختـه ، لكي تحمينا صلاتـه ، حتى يعظ بالتعليم القويم وعظاً لائقاً، ولأجل جميع الأساقفة الموجودين هنا وفي العالم أجمع”.
وهذه الصلاة أيضاً: “أنتم، المستعدين للعماد، صلوا إلى ملاك السلام؛ اطلبوا أن تكون جميع أشغالكم سلمية، سلمية في اليوم الحاضر وكل أيام حياتكم ؛ اطلبوا أن تكون ميتتكـم مسيحية ، فإنما الأمر الجميل المفيد هو أن تمثلوا بين يدي الإله الحي ومسيحه”.
هل أهّب يوحنا للعماد المترشحين له، كما فعل الشماس الإنجيلي الذي تكلم عنه في ميمره السادس والأربعين على أعمال الرسل؟ على كل حال قد قام بوظيفته حين الحفلات العمادية ليجرد المترشحين عن ثيابهم القديمة، وينزع منهم مناطقهم، ويدير وجوههم إلى الغرب عند إنكارهم للشيطان، ويحولها إلى الشرق حين مجاهرتهم بتعلقهم بالمسيح. قد عُني أيضاً بدهن كل جسم الرجال بالزيت قبيل عمادهم، بينما كانت الواقفات ذواتهن على خدمة الكنيسة يفعلن مثل ذلك بالنساء.
هل فُرضت عليه وظائف مساعدة الفقراء؟ لا ندري. أما إدارة المصالح المادية، فكانت من أعباء رئيس الشمامسة على الأخص، وكان يوحنا قليل الميل إلى مثل تلك الشؤون. قد كثُر دخل كنيسة أنطاكية المختص بالمعوزين ، ومع ذلك ، فإن يوحنا عادم التحمس حين يعالج هذا الموضوع ؛ إنه يوبخ عامة المؤمنين على إهمالهم في هـذا الشـأن ، مما يقسر الإكليروس على الاهتمام به، مع وجوب قيامه بأمور خير من ذلك.
الأشغال العقلية

بين الخدم الطقسية والجلسات في مكتب المساعدة للفقراء، إذا كانت له حصة فيها، كان ليوحنا بعض أوقات الفراغ، وقد عرف كيفية الاستفادة منها بالشغل ؛ إذ كان لا يعظ ، لأنـه شماس إنجيلي فقط ، كـان يكتب في مواضيع الدفاع عن الإيمان أو على الحياة المسيحية. يثبت حقيقة النصرانية للوثنيين، بواسطة براهين لاهوتية، كما فعل في “إثبات ألوهية المسيح”، أو برواية الحوادث الأليمة التي جرت ليوليانوس الجاحد سنة 362، بعد إهانته لبقايا جثة القديس الشهيد بابيلاس في دفنة، من أرباض أنطاكية، وذلك موضوع “المقالة على الطوباوي بابيلاس”.
أما المؤلفات على النسك أو الحياة المسيحية، فهي أخطر شأناً. الكتابان ” على الندامة ” المكتوبان إجابةً لإلحاح الراهب ديمتريوس ، يُقصد بهما إعادة الروح الإنجيلية إلى كل مسيحي، تلك الروح التي ينساها الناس ببعض الإفراط بدون انتباه لذلك، بل بدون التألم منه . “هـو مرض قد أصابنا جميعاً. . . فلا يوجد أحد ذو إيمان كامل السلامة. إصابة البعض أثقل، وإصابة غيرهم أخف، على أن جميعهم مصابون، وليس من يأتي بالمعونة لمعالجة ذلك الداء. فإذا جاءنا غريب وعرف وصايا المسيح واختلال حياتنا، فلا أدرى ألعله لا يظن أن ليس للمسيح أعداء ألد منا، فإن الطريق التي نسلكها، من شأنها أن تجعله يسأل ذاته ألا نريد أن نكون بعكس طريق وصاياه!
عندئذ يعيد يوحنا الواجبات المفروضة علينا في عظة المسيح على الجبل، ويتحقق بتوجع شدة احتقار المسيحيين لها. ذلك الوصف جدير بمتضلع من علم الأخلاق، ومن ثم تشوبه المبالغة في التعبير . غير أن الدواء بين يدينا؛ فلنقتد بالنصارى المثاليين ولنقتف آثار القديس بولس. لنحتقر الخيرات الأرضية ونتق إلى الخير الأسمى دون سواه. فلنعترف بذنوبنا ونبك عليه؛ فلنخف على خلاصنا ونطلب من الله حفظ وصاياه.
الكتاب “على البتولية” تابع لتقليد أدبي وتعليمي كامل الرسوخ . في أول الأمر يشجب يوحنا على وجه حازم جزم موقف بعض الهراطقة الذين يحتقرون الزواج ويحرّمونه بناءً على المبدإ المطلق المناقضة للنصرانية، وهو أن الجسد، لكونه ماديّاً، هو شيء سيء بجوهره، وبذلك الرأي “يُشرع في محاربة الله وإهانة حكمته اللامتناهية”. بما أن البتولية، في جوهرها، ” لا صالحة ولا سيئة ، بل تستمد قيمتها من نية ممارسها ” ، لا يمكن أن تكون البتولية المحفوظة عن احتقار للزواج ، الذي أنشأه الله في حكمته، إلا مرذولة عنده. هي بتولية لا تزيد قيمتها عن بتولية الخصيان!
بعد إجادة إثبات ذلك يؤكد يوحنا أن الزواج أمر صالح وحميد جداً إذا حسُن استعماله، على كونه أدنى قدراً من البتولية. فهو من ثم مُساغ لكل الناس، بينما البتولية، التي اكتفى المسيح والقديس بولس بالتوصية بها، ليست مختصة بسوى القادرين على”الخوض في معاركاتها”. تفوّق البتولية، على قول بولس، صادر عن كونها تحررنا لأجل الله، بيد أن الزواج يقيدنا بعراقيل هذه الأرض، وهنا يسهب يوحنا بشيء من الإفراط الثقيل في وصف تلك العراقيل… علاوةً على ذلك، ليبرهن أن البتولية أسمى من الزواج ، يبني حججه ، مثل عدة مفكرين في زمانه ، على كون الزواج، وفقاً لشهادة التوراة، لم يوجد إلا بعد سقوط آدم وبصفة عاقبة من عواقبه؛ وهي نظرية غير زهيدة الغرابة تقتضي من أصحابها معجزات من التفنن لتظهر مقبولة… إذاً يمارس البتولية من يقوى عليها، وعلى هذا المنوال يكون قد سبق على هذه الأرض أوان الظهور الثاني للمسيح والحياة الملاكية التي لابد أن تليه، فيصبح بتولاً “لأجل الملكوت”.
المقصود من الكُتيِّب “إلى أرملة شابة” تعزية زوجة ترازيوس. يوحنا، بعد ملازمته الصمت حيناً، عن احترام لحزن الفتاة المعقول، مزمع أن يقول لها إن الترمل حالة أجدر بالتوقير والإكرام منها بالشفقة، مهما كان رأي عامة الناس فيها. والبرهان على ذلك أوامر القديس بولس فيما يختص بالأرامل وإعجاب الوثنيين بالأرامل المجابهات بشجاعة مصاعب حالتهن.
على كل حال لماذا البكاء بإفراط؟ ترازيوس متمتع بالسعادة، ثم قدرة الحب من شأنها أن تجمع وتربط المنفصلين ، بحيث لا يستطيع الزمان ولا المسافة ولا شيء آخر في العالم، أن يكسر أو يُرخي القيد الذي يوحّد المتحابين. فلتكف إذاً الأرملة الشابة عن البكاء على زوجها، ولا تأسف على الفوائد التي كانت قد نجمت في المستقبل عن حالتها بصفة زوجة سعيدة لرجل ميمون المصير.
يعود يوحنا إلى معضلة الترمل في كتيَّب عنوانه “الزواج الوحيد”. هذا رأيه: بدون استهجان الزواج المكرر- وهو ما لم يفعله الرب يسوع ولا القديس بولس- يعدّ يوحنا ذلك الزواج أدنى مقاماً من حالة الترمل، التي هي أكمل لأنها تمكِّن الأرملة من حصر أفكارها في الله تعالى. هنا أيضاً، بعد ما أدلى ببراهين عقائدية لا مراء فيها، يشدد يوحنا لهجته في بعض التفاصيل وفقاً لمذهب الواقعية: الزواج المكرر دليل على النهم في ملاذ الحواس؛ هو في الآن ذاته عدم الأمانة للفقيد وللزوج الثاني ، ويكون صاحبه عرضة لعراقيل عائلية مع أولاد الزواج الأول وأسرتي البعلين…
المؤلَّف على “المجد الباطل وتهذيب الأطفال”- وربما وُضع في ذلك الحين- يزوّد الوالدين النصارى بنصائح رشيدة وأمثلة موافقة في شأن التهذيب.
أخيراً عندنا من تلك الآونة الكتب الستة على “الكهنوت” التي ورد كلامنا عنها في الفصل السابق. فلنلاحظ أن كلمة كهنوت هنا تعني الأسقفية لا القسوسة المحضة. يوحنا يعظّم سمو الحالة الكهنوتية- وذلك يشمل أيضاً الكهنة- والمزايا التي تقتضيها والفضائل التي تطالب بها والأخطار الملازمة لها. يتأمل في مصاعب رئاسة كنيسة أبروشية، ويبيّن ضرورة العلم اللاهوتي والخطابة الحقيقية؛ في كل الكتاب الخامس يوجد تأليف على الوعظ. هذا الكتاب الرائع قد غذّى تأملات أجيال من الكهنة، ولا يزال جديراً بتأمل الإكليروس، ولا نعني بذلك تحريم قراءته لعامة المؤمنين.

الفصل الرابع
الكهنوت (386-397)
السيامة
بعد تلك الأعوام الخمسة الملأى بالخدم الشماسية، رُقي يوحنا إلى الكهنوت بوضع يدي فلافيانوس ، سنة 386 ، قبل ابتداء الصـوم الكبير، بلا شك. أقيمت الحفلة بحضرة الجم الغفير المحتشد في الأعياد الكبرى . كان الناس يتزاحمون ليروا الكاهن الجديـد القصير القامـة ، ذا الجبين العالي المغصَّن الشديد الجله، جبين المفكر، ذا اللحية الخفيفة الموخوطة جدّاً، ذا الوجه المهزَّل من كثرة الأصوام والممارسات النسكية، ذا العينين الحادتين الغائرتين في محجريهما والمشتعلتين بالذكاء.
كان القوم يعرفون طبعه الحار، إن لم يكن سريع الغضب، وكانوا معجبين بقداسة سيرته. كانوا يعرفونه ملتهباً بالغيرة، رزيناً، قليل الاهتمام بافتتان الناس أو إرضائهم، عاجزاً عن إخفاء فكرته بتعابير فطنة أو ملطَّفة. بيد أنهم كانوا أيضاً واقفين على بساطته ولطف استقباله وبذله المطلق لذاته . وإن لم تكن هذه السيامة – والأمر شبه أكيد – سوى خطوة نحو المقام الأسقفي ، فقد كانوا موقنين أن يوحنا لن يكون البتة أبداً
أسقفاً ينزلف إلى الملوك، وتجتذبه السياسة وأنواع افتتانها ومخاطراتها.
لكل هذه الأسباب ربما قال بعضهم إنه متكبر، مما يدل على عدم معرفتهم إياه. إن نبالة الخلق، لكونها نادرة، تُحمل مراراً عديدة على الكبرياء… كل الناس في أنطاكية كانوا يعرفون يوحنا.
لقبول السيامة مثَل يوحنا بين يدي أسقفه أمام المذبح، وثنى ركبتيه ليحظى بوضع يدي الحبر، وقد أعلن اسمه للجمهور. ثم أعطى يوحنا الأسقف وإخوانه الجُدد قبلة السلام، وكان أول المرتقين معه إلى الرتبة الكهنوتية في إقامة قداس السيامة مع أسقفه. أخيراً وعظ المرة الأولى وفقاً لجميع أصول هذا النوع من المواعظ:
“ما حدث لنا من هنيهة، أهو واقعي؟ أهو حقيقة أم وهم خلاب وحُلم مولود من نومنا؟ أنحن في النهار؟ أنحن في يقظة؟ من يقدر أن يصدّق أن في رائعة النهار، إذ يكون جميع الناس معتدلين في شرب المسكرات ومتيقظين، قد رُقي شاب خامل عادم الشهرة إلى ذروة مقام عال كهذا؟ فلا يبعد أصلاً عن الحقيقة ألا يحدث مثل هذه الأمور في سوى المنام! … مع ذلك قد جرى كل هذا، قد تم كما رأيتموه”.
وقد استعان يوحنا بصلوات الجمع المحتشد، لأنه لم يترك هدوء خلوته إلا لأجل الكنيسة. ثم شكر الله ومدح الأسقف فلافيانوس، وذكّر الحاضرين ملاتيوس بدون إسهاب، وختم كلامه بطلب صلوات الكل حتى يقوم بخدمته الجديدة قياماً لائقاً.

الخدمة الكهنوتية

يجب ألا نتصور حياة يوحنا الكهنوتية شبيهة بحياة خوارنتنا ونوابهم والكهنة القائمين بخدمة دير أو نحوه، حتى بحياة الرهبان الكهنة أعضاء رهبانياتنا الكبرى والصغرى. يوحنا من جملة جماعة الكهنة المؤازرين للأسقف في مهام وظيفته الشتى. يقيم القداس معه، وحين غياب الحبر، يقيم القداس مع زملائه في نوبته. له حصة الكاهن في الوظائف الطقسية المختلفة. بصفة عضو في جماعة الكهنة، هو من أعضاء المجلس الأسقفي، فيُطلب رأيه في الظروف التي لها بعض الخطورة، وإلا ففي إنجاز الأشغال المألوفة. يمكن أن تفوّض إليه النيابة عن الأسقف في إدارة رعية من رعايا الأرباض أو الأرياف، لكن هذه الوظيفة تكون مقصورة على منح بعض الأسرار وإلقاء المواعظ. لم توكل تلك المهمة إلى يوحنا، لأن صفوة الكهنة لم تكلَّف مثل تلك الوظائف، بل كان الأسقف يحفظ في جواره من تجعلهم مواهبهم الممتازة أوفر فائدةً له. سنة 392 سيتحقق يوحنا، بكل السذاجة، أن أقصر أعضاء جماعة الكهنة باعاً يخوَّلون وظيفة منح العماد، بينما الوعظ المؤهب للعماد مختص بأسمى الكهنة في المناقب. من زمن بعيد قد عرف فلافيانوس أن الله قد جاد على يوحنا بعطايا كثيرة، فلابد أن يعظ، وذلك أخص مهامّه. الخدمة بالكلام، العمل بواسطة الكلام؛ ذلك يكون شغله الشاغل.
أوائل الخطيب

منذ الاثنين 16 فبراير 386ن الأول من الصوم الكبير، افتتح يوحنا خدمته بشرح سفر التكوين الذي كان يُقرأ في تلك الحقبة الطقسية من السنة. لم يكن السامعون نصارى مستقيمي الإيمان دون سواهم، فإن الواعظ الجديد كان ، مهما قال عن نفسه ، رجلاً ذائع الصيت ، فاجتذبت الرغبة في المعرفة إلى سماعه مسيحيين هراطقة. هؤلاء طلبوا من يوحنا سلسلة بيانات على أنواع التباين بين الإيمان النيقاوي وإيمان الأريوسيين المتطرفين. من ثم، بعد ثماني عظات على سفر التكوين، سيلقى يوحنا تسع محاضرات على “استحالة إدراك الطبيعة الإلهية”، متتابعة طول سنة كاملة، وقد وعظ في الفترات الفاصلة إياها ثلاث “مواعظ مضادة لليهود” وغيرها لتعظيم أولياء الله، وبعض الميامر لعيدي الميلاد والغطاس. بما أن الجمهور كان يتوقع منه المعجزات، قيد مختزلو ذلك الزمان جميع تلك المواعظ. فنُشرت بعد انقضاء عام، وعرف كل إقليم الشرق أن واعظاً مصقعاً كان سبب افتخار لكنيسة أنطاكية.

مشكلة التماثيل

الإمبراطور ثاودوسيوس، في التذكار السنوي العاشر لجلوسه على العرش- وكان أيضاً تذكار العام الخامس من مُلك أركاديوس ابنه الشاب- قد رأى من واجبه أن يأمر بإقامة أعياد كبيرة ، مما كان يقتضي، على حسب العادة، إهداء خمسة دنانير لكل جندي بصفة حُلوان. خزينة الدولة التي قل جدّاً محتواها بسبب النفقات العسكرية اللازمة لحماية البلاد، كانت عاجزة عن مجابهة نفقات خارقة العادة وبالغة ذلك المبلغ الفاحش؛ فحتم اللجوء إلى الواسطة المألوفة، وهي فرض ضريبة إضافية.
فاستاءت الإسكندرية من ذلك استياءً غير يسير ؛ أما أنطاكيـة فقد استاءت كل الاستياء، وقد زادت شدته لكون ثاودوسيوس لم يجد قط الوقت اللازم للإتيان إليها، مما جرح شعور الأهالي. فكانوا يستهجنون أنه لم يتذكر هذه المدينة إلا في ظروف خالية من أدنى مجاملة. فضلاً عن ذلك لم ير من ليسوا جنوداً لماذا يتحتم عليهم القيام بنفقات هدايا للجنود. في 26 فبراير 387 قابل السكان المحتشدون جمّاً غفيراً، بصمت كامل مشؤوم جدّاً، قراءة القرار الإمبراطوري على الميدان. ثم عبّر بعض الحاضرين عن استيائهم، فاشتد قلق الحاكم، لكنه أبى أن يأمر الجنود بالهجوم على ذلك الجمهور الأعزل.
بيد أن فريقاً من المتهوسين انتهزوا الفرصة لإنعاش أحقاد دينية قديمة، فأخذوا يصرخون صرخات يتضح منها أن فلافيانوس، الأسقف الذي يؤيده أرباب السلطة، يجب عليه الدفاع عن قضية المدينة وطلب رفع الضريبة الإضافية عنها من الإمبراطور. يُظن أن أولئك المشاغبين كانوا بولينوسيين مبتهجين بإيذاء الجماعة المسيحية المزاحمة لهم، على أن فلافيانوس ظل في حرز حريز، إمّا عن فطنة وإما عن وجه الاتفاق. حينئذ استثمر المجاهرون سرعة تهيج الجماهير الشرقية، فاعتزموا أن يحصلوا بقوتهم على حقوقهم المهضومة، فشرعوا بنهب الحمامات العامة، بل اقترفوا ما هو أثقل من ذلك بهجومهم على المحكمة، فحطّموا ودنسوا تماثيل الإمبراطور وعائلته التي تعلو المحكمة، فجنوا جناية احتقاره. ومن الظروف المثقّلة أنهم كسّروا حتى تمثال الإمبراطورة المتوفاة، مع كونها موضوع تبجيل كل الناس في حياتها، وتمثال المرحوم والد الإمبراطور. مثل ذلك التعدي على الموتى كان من الآثام التي لا يمكن التكفير عنها.
لم يسعَ الحاكم أن يترك المجاهرين يواصلون معاصيهم، فأمر فرقة من الجيش بمقاومتهم، فتشتتوا فور رؤيتهم الجنود. كانت المجاهرة قد دامت ثلاث ساعات، وبعد خمود الهيجان، ما لبث الأنطاكيون أن فهموا ثقل إثمهم. أما أرباب السلطة المحلية، فكان همهم أن يكونوا في مأمن من توبيخات ثاودوسيوس التي تصيبهم إن لم يُبدوا العنف بدون أدنى تأجيل، فأمروا بأن تُجرى بسرعة مفرطة عمليات قبض وإعدام كان مـن ضحاياها في آن واحد مسؤولون حقيقيون وأبرياء محاض.
من الطبيعي أن ذوي السلطة المحلية لم يستطيعوا كتم تلك الشؤون، فبعثوا على الفور ببيان رسمي عليها إلى القسطنطينية حيث يقيم ثاودوسيوس. ولكن ربما أمكن، قبل فوات الفرصة ، استغفار العاهل ، وذلك أمر عسير على من يقبل القيام به، ففضل أعيان المدينة المشهورون الامتناع عنه. فألَّح على فلافيانوس ليأخذه على عاتقه ، وهذه المرة لم يكن الإلحاح مزحاً مشؤوماً. قبل فلافيانوس، بصفة أسقف قُح، توكيل مواطنيه الدال على ثقتهم به، مع طعنه في السن وسوء أحوال الشتاء الجوية ومرض أخته الوحيدة، فسافر إلى العاصمة أول يوم أحد من الصوم الكبير ، 7 مارس 387 ، وكان آملاً أن يلحق المراسيل في الطريـق ، فلم يوفَّق إلى ذلك.
حين وقف ثاودوسيوس فجأةً، بواسطة البيان الرسمي، على الفتنة والجناية على جلالته، أخذ منه الغضب كل مأخذ. وقد زاد سخطه احتداماً لكون موتى عائلته لم يحظوا بأدنى احترام. فأرسل إلى أنطاكية قائدين وفرقاً من الجنود. فلقيهم فلافيانوس، وما عرفه من التعليمات التي زُودوا بها، لم يكن داعياً إلى طمأنينته. فواصل سيره لمحاولة تسكين غضب الإمبراطور العادل ، وظل القائدان سائرين فوصلا إلى أنطاكية في أول
الأسبوع الثالث من الصوم الكبير.
ماذا كان موقف يوحنا في كل هذه القضية المحزنة؟ في آخر فبراير كان قد افتتح عظاته الصومية بعظة يقاوم فيها العادة المتأصلة في أهل أنطاكية أن يحلفوا بدون انقطاع. أما الفتنة فقد جعلته يتكلم عن الاهتداء الواجب على وجه مختلف جداً. سيكون في غياب فلافيانوس هادي المدينة ومعزيها في تلك الأيام العصيبة.
في أول الأمر، مدة أسبوع كامل بعد الحوادث، قد أبى يوحنا الوعظ. فتحتم إلحاح فلافيانوس، الذي مازال في المدينة، ليواصل يوحنا، في 3 أو5 مارس، سلسلة مواعظه. وقد كرز ليصور حالة المدينة العاصمة المرتعبة، المتوقعة أسوأ العواقب، تصويراً مثيراً أشد الحزن، ثم عاد إلى موضوع وعظه الديني المحض، فتكلم لمقاومة البخل وكبرياء الغنى.
بين ذلك توسط بعض الناس لدى فلافيانوس ، ومن الأكيد أنـه لم يعتزم شيئاً إلا في اجتماع مجلسه الكهنوتي. جزم فلافيانوس على قبول السفارة العسيرة المقترحة عليه والمطلوبة منه، وقد حدد أعضاء المجلس معاً خلاصة البراهين الدفاعية الواجب سردها أمام الإمبراطور. ويتضح من ذلك كيف استطاع يوحنا، حين رجوع فلافيانوس، أن يجيد بكل مواهب فصاحته، بيان الحجج التي سردها الأسقف بين يدي ثاودوسيوس.
بعد سفر فلافيانوس مدح يوحنا أمام الشعب هذا الأسقف الراضي بالسفر لإنقاذ مدينته، مع وجود عدة أسباب راهنة كان ممكناً أن تردعه عن الانطلاق. فأنعش يوحنا ثقة السامعين، وتحقق أن الثورة كان لها، على الأقل، عاقبة ملموسة، وهي أن الخوف قد هدى الأنطاكيين، فسلكوا سلوكاً مثالياً، بيد أن الثبات واجب.
في 8 و9و10 مارس غصت الكنيسة بالقوم، ولا مراء في أن يوحنا قد وعظ على الصوم الكبير، مع دس بعض تلميحات إلى هموم تلك الآونة. يُظن أن فلافيانوس قد وُفق إلى اللحاق بالمراسيل الرسميين. في الواقع كان قد لقي القائدين… بعد ما صدّق يوحنا تلك البشارة الكاذبة، أنعش آمال نيل الغفران ، وألح ثانيةً في ضرورة الاهتداء والثبات.
في 15 مارس كان القوم عادمي الأخبار عما قرره الإمبراطور. فهاجت أعصاب المدينة، ومن جهة أخرى ثقلت عليها وطأة السلوك الصالح. في 16 مارس عم الرعب فجأةً وعلت الصيحات: “ها هم الجنود ! ” فتراكض الناس ليطلبوا ملجأ في الكنيسة – أمـا الحاكم ، فلما سمع ضجة النوحات، بادر إلى طمأنة الجمهور. وقد اكتأب يوحنا إذ رأى أن إشاعة كاذبة قد كفت لملاشاة كل سعيه، واستشاط غضباً لكون الظروف قد أفضت بالنصارى إلى طلب التعزية عند موظف وثني. فاشتد نفوره وأبى أن يُضيع وقته بعدئذ في مواعظ باطلة، وقد ألح عليه زملاؤه ليواصل عمله في التهدئة والتعليم.
إذ ذاك وصل القائدان فضرب الارتعاب أطنابـه ثانيةً ، وهـرب
الأهالي فاقدي الرشد إلى خارج المدينة، فقطع يوحنا فوراً حلقات عظاته. أما القائدان فقد أنفذا الأوامر، وهي- بإيجاز القول- على جانب غير يسير من الحلم: القبض على المجرمين والمسؤولين، انحطاط المدينة بفقدها مقامها ولقب عاصمة ، إغلاق كل معاهد الملاهي إلى أجـل غير معيّن.
بدأت عمليات القبض وبوشرت إقامة الدعوى، فكان يوحنا بين الحاضرين ، يتبع الإجراءات القضائية والمجادلات. أما الرهبان فقد انحدروا من جبالهم لمجاهرة لائقة سلمية وللشفاعة في المذنبين. ولم يذهب سعيهم سدى، فإن القائدين قد تأثرا منه، فواصلا رفع الدعوى، لكنهما قررا عدم إنفاذ الأحكام قبل مراجعة ثاودوسيوس. في المستقبل سوف ينتهز يوحنا فرصة تذكيره تلك الأيام العصيبة، ليذكّر الناس أنه ستوجد محكمة أخرى وقاض آخر أهول من غيرهما. سيشكر الله على كونه قد حرك القضاة والإمبراطور إلى الاعتدال، ويعلن بصوت جهوري أن الكنيسة هي التي دافعت عن قضية أنطاكية، بينما كان جميع الأعيان والمحامين الوثنيين قد اختفوا كل الاختفاء خوفاً من خسارة حظوتهم لدى العاهل.
أما فلافيانوس فكان قد وصل إلى القسطنطينية وحظي بمواجهة للإمبراطور سوف يروي يوحنا تفاصيلها حين عودة الأسقف. ثاودسيوس كان قد بيّن للحبر فرط استغرابه الأليم للإهانات الموجهة إليه وإلى أهله. فأقر فلافيانوس بتلك الجرائم، لكنه قد أجاد التكلم، مع ذلك، بصفة أسقف مسيحي يخاطب عاهلاً كان هو أيضاً صادق المسيحية. فغفر الإمبراطور وأعفى الجناة من العقاب إعفاءً تاماً.
في أنطاكية قد تجدد الرجاء بعد انطلاق القائدين، ثم شاعت ثانيةً الأراجيف المرعبة، فحاول يوحنا أن يعيد الهدوء إلى النفوس ، وقد نجح في ذلك فوق ما تمناه. بقيت الملاعب والحمامات موصَدة، ولكن نُظمت سياحات للهو على سواحل نهر العاصي، مع كل ما تشتمل عليه من المنكرات . بين ذلك كان المتهمون المحكوم عليهم والمنتظرون العفو ، وهم لا يزالون مسجونين، يتقحون بالاحتجاج على نظام السجن الخالي كل الخلو من الرفاهية… فاحتدم غضب يوحنا مرة ثانية واشمأز كل الاشمئزاز، ولم يتمالك عن التعبير عن ذلك بكلام قارص.
ثاودسيوس، في جوابه لحاكم أنطاكية، بشر أهلها بغفرانه وإعفائه من القصاص ، بأقوال معتدلة وآخذة بمجامع القلوب . وصلت رسالته إلى أنطاكية في الأسبوع الخامس من الصوم، فاشتد الابتهاج بها.
في سبت النور دخل فلافيانوس المدينة النشوى بالفرح دخول الظافر. يوم الفصح، 25 أبريل، استطاع يوحنا أن يشكر الله تعالى، وينوّه بسلوك فلافيانوس ، ويروي تفاصيل سفارته ، ويمدح الإمبراطور على علو نفسه المسيحي. كان ذلك الخطاب ممتازاً وجديراً بالتذكار، وقد خُتم بإرشاد إلى القيامة مع المسيح ومع المدينة المجدّد تأسيسها بيد ثاودسيوس.
إذا كـان فلافيانوس قد استحق شكر الأنطاكيين ، فإن يـوحنا،
من جهته، قد أظهر مقدرته لتشجيع مواطنيه وهدايتهم إبان المحنة. بدون تجاوز حدود وظيفته الكهنوتية ، كان قد قام بكل واجبـه ولم يتملص من مصاعب مهمته.
يوماً فيوماً

ألم يكن مُحرجاً لموقف فلافيانوس مؤازره الفائق الامتياز، بل أعظم مؤازريه العبقري؟ النفوذ الذي اكتسبه يوحنا بمناقبه ووظائفه وبمساعدة الظروف، وشهرته المتزايدة، كان من شأنها أن تُقلق حتى من يفوق الحبر الشيخ بالفضيلة. لم يحدث ذلك؛ قد كان فلافيانوس أستاذ يوحنا، فتعارفا من زمن بعيد، وارتبطا بقيود الصداقة.
لم يهمل يوحنا قط فرصة مدح خليفة بطرس وأغناطيوس وفيلوجون وملاتيوس على كرسي أنطاكية،ونستشف من وراء التعابير الأدبية التي يفرضها ذلك النوع من الكلام ، إعجاب الخطيب الصادق واحترامه الودود لمعلمه القديم ورئيسه وخليله. أما فلافيانوس فقد وكل في الواقع وظيفة الوعظ إلى عناية يوحنا. إذ كان خطيباً بين بين، لم يستصعب أصلاً تقريظ بلاغة تلميذه القديم، واكتفى بمواعظ قصيرة كلما تكلم في نوبته بعد غيره، وفقاً للعبادة الطقسية المحلية. أما القرارات الواجب اتخاذها،
فكان على الدوام يستشير فيها يوحنا على الأخص، إذ لا غنى له عن آرائه.
إن رحابة الصدر هذه لم تكن عامة. نعلم أن بعض إخوان يوحنا كانوا يحسدونه على أنواع نجاحه، ويحاولون إزالة حظوته عند المؤمنين. إن ذلك من مظاهر الضعف البشري، بيد أنه يفضي، كما يقول يوحنا، إلى تضرر الكنيسة والمسيح.
حين نتكلم عن نجاح يوحنا، يجب الاعتراف بأن نجاحه بصفة خطيب، أكثر منه في الهداية الروحية للشعب المسيحي… كان أهل أنطاكية مولعين بالخطابة الجميلة إلى حد التشكي كلما حرموها. فهم يصفقون للخطيب الفتّان، ويستسلمون لسحر خُطبه؛ لعمري إن هذه الخطب تأتي بثمار . . . ببعض الثمار ، طول مدة ما . لكن ” الريح تذهب بها” أكثر الأحيان ، على الأخص في الجمهور ، لسوء الحظ ؛ وقد لفت يوحنا الأنظار إلى ذلك. إذ يسوء مجرى الأمور، يهتدي الناس بكلام الواعظ ، ومتى زال الخطر ، نُبذت التقوى وطهـارة الأخلاق . لقد شوهد ذلك في مشكلة التماثيل وفي عدة ظروف أخرى.
المؤلفات الخطابية في تلك الحقبة من حياة يوحنا هي عديدة. سنة 387، فضلاً عن الخطب السابق تعدادها، قد ألقى يوحنا ميامره “على التوبة” و “على حنّة”، وفي عام 388 ميامره “على سِفر التكوين” ، “على خيانة يوضاس” وألقى “التعليم المسيحي” التمهيدي للعماد. على توالي السنين سنرى ظهور الميامر “على القديس يوحنا” ، “على القديس متى ” ؛ سنة 391 ” على الرسالة إلى أهل رومة ” ، ثم ” على الرسالة الأولى إلى أهل كورنتوس ” .
عام 392 لفت إيرونيموس علانيةً نظر العالم المسيحي إلى “المقالة على الكهنوت”، مع أنه لم يغفر ليوحنا انحيازه إلى حزب ملاتيوس. هكذا عرف الغرب أن في أنطاكية كاهناً خطيباً من الدرجة الأولى.
بين سنتي 393 و 397 شرح يوحنا في ميامره الرسائل “إلى أهل غلاطية ” ، ” إلى أهل أفسس ” ، ” إلى أهل فيليبي ” و ” الرسالة الثانية إلى تيموتاوس”. يتكلم أيضاً عن نصوص منفردة من الكتاب المقدس؛ فمن الواضح أن الواعظ لا يكفّ قط عن الكرز.
نهاية الانشقاق

عام 393 قد أتى بختام ميمون للانشقاق الأنطاكي. كان يوحنا يتألم من رؤيته انقسام نصارى أنطاكية، كتألمه من مشاهدة زوال الاتحاد بين كنيسته والغربيين. في نظره كما في نظر فلافيانوس والشرق أجمع ، لم يكن أدنى مجال للشك في كون جماعة فلافيانوس هي الكنيسة الحقيقية، وجماعة بولينوس شيعة منشقة، لا غير. ولو كان البولينوسيون أرثذكسيين، فإنهم كانوا منشقين، وهو شر يساوي الهرطقة فداحةً، على رأي يوحنا، لأنه بمثابة “ذبح المسيح وتقطيع جسده”.
من جهة أخرى كان بولينوس قد توفي عام 388، وهو متحد بالغربيين. قبل موته قد ارتكب خطأ فاحشاً بسيامته إيفجريوس خلفاً له، بدون استعانته بأساقفة آخرين يشاطرونه السيامة، ولا طلب رضى غيره من أساقفة إقليمه. فكان ذلك خللاً محققاً حين حدوثه، ويستحيل أن تسلّم به رومة والإسكندرية. من ثم انقطع الاتحاد بين البولينوسيين والغربيين بدون أن يؤول ذلك إلى عقد اتحاد الغرب بفلافيانوس.
حاول الإمبراطور ثاودوسيوس تسوية الأمور انقياداً لمشورة أمبروسيوس أسقف ميلانو، العاطف على البولينوسيين. كان ثاودوسيوس يجل فلافيانوس، وقد أعظم بسالته ونبالة خُلقه، وقد بذل خير المساعي مدة ثمانية عشر شهراً؛ استقدم فلافيانوس إلى قصره، وأشار عليه بالسفر إلى رومة لإيضاح حقوقه . فاعتذر فلافيانوس وطلب مهلة ، ثم أبى السفر إلى رومة، لأنه يأبى، مهما كانت الدواعي المزيفة، أن تبدو منه أدنى علامة على تسليمه بتمكن أي شخص كان من المجادلة في شأن حقوقه.
حينئذ خطر ببال أمبروسيوس خاطر يدل على قلة وقوفه على الشؤون الشرقية، وهو أن يعقد الإمبراطور مجمعاً من الغربيين يحكم في هذه القضية! فعقد ثاودوسيوس المنقاد في كل شيء لنصائح أمبروسيوس، مجمعاً في كابوة، عام 391، دُعي إليه فلافيانوس وإيفجريوس، فقبل إيفجريوس وحضر. أما فلافيانوس فأجاب أنه يأبى أن يرى حقوقه مخضّعة لحكم زملائه، وأن الإمبراطور ما عليه إلا أن يطرده من كرسيه، إذا راقه الأمر. في أنطاكية كان يوحنا، في ميامره، لا يتردد في التصريح الجهاري بأن إيفجريوس لم يكن سوى دخيل طماع يؤيده حزب أكثر أعضائه نساء.
أما الغربيون فسلكوا طريق الفطنة ؛ بما أن الشخصين المدعـوين لم يحضرا، أوفدوا ثاوفيلوس الإسكندري، بصفة خلف أثناسيوس، لإجراء تحقيق في أنطاكية واتخاذ القرار اللازم.
حين وقف ثاودوسيوس على ما اعتزمه المجمع، كتب لفلافيانوس طالباً منه قبول ذلك ، فرفض . كاد أمبروسيوس ، مـن جهته ، يتميز من الغيظ، مدعياً أن فلافيانوس يخشى التحقيق ، لأنه يخسر به كل شيء. سنة 393 عُقد سينودس في قيصرية فلسطين، فاعترف بشرعية فلافيانوس وحده، لأن سيامة إيفجريوس كانت فاسدة كل الفساد على حسب القوانين المسنونة في نيقية عام 325. بُعيد ذلك مات إيفجريوس، ولم يكن له متسع من الوقت لسيامة خلفه. فأصبح البولينوسيون منذئذ بلا أسقف، ولم يعطهم أحد أسقفاً، ولم يحلُ ذلك دون دوام حزبهم ورفضه الانضواء إلى الكنيسة. لن يحدث هذا الانضواء إلى سنة 413، ولن يزول آخر المقاومين له إلا عام 482، حين عودة الرماد الباقي من جثة القديس أوسثاتيوس إلى أنطاكية.
منذ سنة 394 تجدد الاتحاد بين أنطاكية والإسكندرية، وما لبث أن تجدد بين أنطاكية ورومة. فساغ ليوحنا الفرح برؤية انتهاء الانشقاق، ولم يبق إلا الصلاة حتى يصير الاتحاد الشرعي عمليّاً بوجهة النظر المحلية.

الفصل الخامس
رجل الكلام
ما الداعي إلى الوعظ؟
منذ الشماسية كان يوحنا، وهو يتأمل في الكهنوت، قد أطال التروي في واجبات الواعظ. أتُراك تجهل أن جسد المسيح أكثر تعرضاً من الجسم البشري للأمراض الخائنة؟… فليس سوى واسطة واحدة للشفاء، بغضّ النظر عن قدوة سلوك لائق، وهي التعليم بالوعظ… فإذا كانت هذه الآلة عاجزة، بات كل شيء غيرها بلا جدوى.
هذه الأقوال جلية؛ على رأي يوحنا يجب أن تكون الغاية الأولى للوعظ إصلاح أخلاق السامعين، بل أخلاق الواعظ نفسه، إذا كان محتاجاً إلى ذلك. سيعظ يوحنا على علم الأخلاق وإصلاحها بدون كلل، سواء أكانت الظروف موافقة أم معاكسة. فإنه يعرف أن القدوة الصالحة ، بل موهبة صنع المعجزات غير كافيتين في هذا الشأن؛ والبرهان على ذلك مثل بولس ذاته.
فضلاً عن هذا، ينبغي الوعظ لإيضاح الإيمان الحقيقي وإلقام جميع أعدائه الحجر : الوثنيين ، اليهود ، المانويين ، القائلين بالقدر الأعمى ، الغنوسيين (algnostiques) على اختلاف أصلهم، السابليين، الساموزاتيين، الأريوسيين… وهواة اللاهوت من غير رجاله مع مشاغبتهم على الجماعة.
مثل ذلك الوعظ يقتضي علم ذي الجدارة مستقى من درس الكتاب المقدس والتقليد. يقتضي أيضاً إعداد الواعظ لعظاته واستعماله، كما يطلب بولس، كلاماً دائم اللطف، متبّلاً بملح الموافقة للظروف، وتدربه في فن الكلام البليغ، بدون الاقتداء بالكتّاب الأدباء في حُلي الإنشاء الباطلة، ولا التكلم لإرضاء المولعين بالعبارات الجميلة. أخيراً يقتضي ذلك الوعظ أن يتكلم صاحبه لمجرد مجد الله تعالى بدون اكتراثه للانتقادات ولا للتقريظات.
بعد تلك التأملات، لا بدع بأن نسمع يوحنا مصرحاً يوم سيامته الأسقفية، في أول عظاته، بأن الكرز “أعظم وأسمى وأفضل كل التضحيات” المقدمة لله.
كيف يجب الوعظ؟

من المسلَّم به منذ عهد يوحنا، أن الذهبي الفم، بعبقريته الخطابية المحضة، هو شيشرون النصارى وديموستانهم، ولم يجرؤ البتة ألد أعدائه على إنكار ذلك. قد مدح المادحون وضوحه ولباقته وصحة لغته، وهي أمور كان معاصروه خير الناقدين لها. في الواقع لا يسوغ لنا أن نطلب في فصاحة يوحنا الأساليب والنزعات الموجودة عند وُعاظ باريس المعاصرين في القرن العشرين. كل من يشرع في قراءة “المؤلفات الكاملة” ليوحنا، ويطالعها من أولها إلى آخرها، يجب عليه أن يجعل في نفسه أميال أهل أنطاكية في القرن الرابع ، فيمتنع ، لئلا يصير ضُحكة ، عـن الصياح بملء فيه استهجاناً لعدم الترتيب الدقيق لمواد العظات، لطلاقة اللسان المفرطة المتواصلة، للاستطرادات الدائمة، لفساد الذوق، لقساوة الألفاظ و عدم لياقتها، للواقعية المتطرفة في بعض القطع الوصفية.
يوحنا يعظ بيقين الأنبياء والرسل وباندفاعهم، وذلك من طبعه. يريد على وجه الإطلاق أن يعيش النصارى كما يجب أن يعيش أمثالهم، و “يضرب ضرب الأطرش” ليحصل على ذلك. في هذا الشرق ذي الحضارة الشفهية يلجأ إلى أنواع الإعادة والتكرار، إلى الكلام الشرس، ثوران العاطفة القلبية، التهكم، الهزل، أشد التشابيه سطوعاً، الأمثال المؤثرة المقتبسة على السواء من الحياة اليومية والحِرف، بل من المسرحيات والتوراة. في وسعه أن يتكلم خمس دقائق، لكنه يستطيع أيضاً أن يتكلم ساعة ونصفاً، فلا يسكت إلا عند خفوت صوته.
كل ذلك مصحوب حتماً بتصفيقات يكبحها يوحنا أو بأضرار، على حسب اختلاف الظروف. إذا أفرط في شدة الضرب، فإنه يوضح سبب ذلك ويعتذر؛ يسلم بأنه قد أحزن سامعيه، لكنه توخى بذلك هدايتهم. تشبّه بعنف الطبيب أو الجراح لأجل خير المريض. قد هدد كأب صالح عارف واجب تهديد أولاده . بعكس ذلك ، إذا كـانت سيرة المؤمنين حميدة ، فلا يستصعب أصلاً أن يهنئهم بها تهنئة حارة ، برقة عليها، في الغالب، مسحة من المزح. كل ذلك، الغيرة المضطرمة، حرية القول، أنواع التوبيخ أو الاستحسان، علم الكتاب المقدس وفن الخطابة، كل ذلك ما له سوى غاية واحدة، خلاص المؤمنين، وسبب واحد، الحب للمسيح الذي ندل عليه بإبداء حبنا لخاصته؛ وأي حب أعظم من مساعدتهم على تخليص نفوسهم . يسهل علينا الإكثار من ذكر الأقوال في هذا الشأن؛ على كل حال كل ما قلناه من هنيهة ما هو إلا استشهادنا بعبارات يوحنا نفسه.
فلنضف إلى ذلك أن يوحنا ، حين يعلّم الأخلاق الصالحة ، هو أول من يعمل في حياته بوصايا الاهتداء والقداسة التي يعطي غيره إياها. يعلم كل العلم أن من يعظ الآخرين بدون نسك شخصي، يقتحم خطر أن يكون مرذولاً، كما قال بولس . يعرف أيضاً أن التجاسر على التكلم عن إصلاح الأخلاق بدون إصلاح الواعظ ذاته ، يجعل السامع يـزعم أن ذلك الإصلاح يفوق استطاعة البشر، وأن ملاحظات الواعظ أقوال فارغة.

علام يجب الوعظ؟

ليعيش الإنسان بصفة مسيحي، ينبغي أولاً أن يكون له رأي مسيحي في شأن العالم، فإن الأمرين مرتبطان. بيد أن الرأي المسيحي في العالم ليس رأي الفلاسفة اليونانيين؛ شتان ما بينهما.
وأيم الحق لقد تفهّم يوحنا، في أثناء دروسه، نظريات الفلاسفة الوثنيين ، فهو يعرفهم ويذكر مؤلفاتهم حين يرى ذلك موافقاً . فقد تحقق أن بعض مبادئهم وأساليبهم حسنة ومضبوطة ، لكـون الله تعالى قد أراد، قبل مجيء المسيح، أن يرتقي الوثنيون إليه بالتعقل على “سفر الكون”، بينما كان اليهود، بصفة شعب الله المصطفى، مميزين بمعرفة الناموس. لكن هذا البحث عن الله قد حبط في الواقع بسبب ضعف الناس العقلي، فلم يتجنب الغموض وعدم الضبط وتناقض المذاهب وفساد الأخلاق الناتج حتماً عن ذلك. الفلسفة الوثنية فلسفة قيمتها شروى نقير، وقد ماتت ودُفنت أمام انتصار النصرانية؛ فليس العقل البشري ما يجب إعماله.
العقل البشري، في الواقع، ضعيف وعاجز عن الارتفاع إلى معرفة أمور الله، بل عن حل بعض ألغاز مما يُلغز العالم المادي. التعقل المنطقي والبرهنة لا يتواصلان إلى اكتشاف الله، فلابد من الإيمان القادر وحده على منح الإنسان معرفة ما أوحاه الله إليه. فالإنسان، إذ يؤمن بما عرّفه الله إياه، يتعلم ما تعجز البرهنة وفنها والنظريات المحضة عن إعطائه إياه. فمن أراد الاتكال على العقل ورفع النقاب عـن السر ، يضادّ الإيمان في الواقع، ويخسر الخلاص. لا نزعمن مع ذلك أن يوحنا يطلب من النصارى إيمان العادم الثقافة، فإنه لا يفوقه أحد في معرفة كون الإيمان ليس أعمى ولا مضاداً للعقل. قد تكلم الله؛ فكيف يأبى الإنسان الثقة به؟ بيد أن الإنسان يجب عليه أيضاً الإيقان أن الله نفسه هو الذي يكلمه. من ثم قد سوغ الله ذاته الثقة الواجبة نحوه، بواسطة الأعجوبة وتحقق النبوءات وانتصار النصرانية . الإرادة الصالحة في الإنسان تلبي إرادة الله الصالحة ، لكنها – أواه ! – قادرة على رفض تلك التلبية .
قد تكلم الله إذاً في الكتاب المقدس كما في التقليد غير المقيّد بالكتابة . الكُتاب الذين ألهمهم قد بلّغوا بأمـانـة البلاغ الإلهي . يوحنا مـوقن أن الوحي لا يشمل التعليم الديني المحض فقط ، بل الفيزياء ، التاريخ ، الكلمات ذاتها ، حتى المقاطع وعلامات الوقـف أيضاً. سيقول مثلاً : “ماذا تعني هذه اللفظة الصغيرة ” لكن ” ؟ لماذا أُضيف حرف العطف هذا؟ ألا يكفي أن يقال بدونه ” لأجل آدم ” ؟ ليس سؤالنا هذا باطلاً ولا ناجماً عن الرغبة الصرفة في المعرفة. إنما غايتنا أن نعلّمكم، بواسطة شرحنا الكامل الدقيق، أنه يجب عدم غض النظر عن كلمة صغيرة، ولو كانت من مقطع واحد، إذا وجدناها في الكتب المقدسة. لذلك لا يستحسن الأسئلة عما لم يُقل فيها وليس في نصها. ينبغي الاكتفاء بما كُتب ، ولو كان معناه أبعد منالاً ، لأن له دائماً شرحاً صحيحاً.
يوحنا يقرأ الكتاب المقدس في المتن العبري وفقاً للنص الذي وضعه لوسيانوس الأنطاكي، وقد أطال درسه وتأمله وتمثيله، فاستظهره. وهو الذي يُمده بمادة تعليمه، فيؤوله على حسب معناه النحوي والتاريخي، ويكاد لا يستحسن أوهام استعارية (allégorisme) الإسكندريين، مما لا يعني أنه يرذل الرمزية التي ترى في واقعيات العهد القديم بشارة وصورة لواقعيات العهد الجديد والكنيسة . إذا فرضت عليه الطقوس شرح بعض الأسفار في أوقات معيّنة من السنة، كسفر التكوين في الصوم الكبير وأعمال الرسل في الزمن الفصحي، فإنه يفضل في غيرها استعمال رسائل القديس بولس، الذي قد هام به كل الهيام، فشعر باتحاد كامل به في التفكير والشعور . ولذلك قد ساغ القول إن بولس ، لو أراد شـرح رسائله ، لما فعل ذلك على غير طريقة يوحنا.

جعل النصارى مسيحيين محاضاً

بناءً على ما سبق بيانه، سيجعل يوحنا النصارى مسيحيين محاضاً على أساس الكتاب المقدس وبواسطة شرحه.
في أول الأمر يجعل لهم رأياً مسيحيّاً في شأن العالم، فيكون ذلك، إذا راقنا التعبير، وعظاً عقائديّاً لا يُقدم عليه يوحنا ، من جهة أخرى ، إلا ليعطي سامعيه أخلاقاً مطابقة لما يسميه “الفلسفة الحقيقية”، الحكمة الحقيقية، وبتعبير آخر، الآداب المسيحية. لا تتوقعوا منه بياناً مفصلاً للمجادلات العقائدية الكبرى؛ أنه يرى أن مثل تلك المواضيع تفوق مقدرة إدراك أكثر السامعين، فهي من ثم بلا جدوى. بيد أنه يوقف على نتيجة تلك المجادلات، كما يتضح من تحديدات الكنيسة أو من تعليمها العام. أما المشاكل العظمى ذات الصبغة الميتافيزيقية، فهو يجهلها لعدم ميله الشخصي إلى النظريات المحضة. إنما الأمر الخطير معرفة التدبير الإلهي المختص بالخلاص والانضواء إليه. وبما أن كل ضلال في شأن هذا التدبير الإلهي ينتج عنه حتماً ضلال في السلوك العملي، في ميدان الأخلاق، فلنتجنب الضلال ونعـرف موقنا الحقيقي ، ثم لنعش عيشة مسيحية ، على الأخص.
قلنا إن نصارى أنطاكية لم يكونوا كلهم مثاليين… لم يُسغ يوحنا لنفسه، بدون دواع معقولة، بعض التعنيفات، كالتي يختم بها ميمره الثاني والثمانين على القديس يوحنا، أو التي يواصلها في كل “المقالة على الندامة”. إنه يلوم النصارى الذين يستغنون عن الفضيلة المميزة للنصرانية، وهي حبّ القريب. يلوم النصارى الأتقياء في بعض الأحيان، الذين يهملون حضور الحفلات الكنسية، فلا يأتون إليها في سوى الأعياد الكبرى، بل أقل من ذلك، لأنهم يخرجون قبل ختام الطقوس… ويسلكون فيها سلوكهم في الميدان العام. ينوح على شقاء الذين لا يقرأون قط الكتاب المقدس، لأن وقتهم، على قولهم، لا يتسع لذلك بسبب أشغالهم، و “لأنهم ليسوا رهباناً” ، مع أن وقتهم لا يضيق البتة عن التريث في الميادين والذهاب إلى أقل المسرحيات لياقةً أو إلى المضمار، مهما كانت الأحوال الجوية . إنه يفضح السكِّيرين ، المجدفين ، الفنجات، الأغنياء الأشرار، الخلاعة والتهتك، بما يدهش من قوارص الكلام وبحيوية غير منقطعة. يحتج على الخرافات المضحكة ، على الخلاعة الجامحة في أيام الأعراس ، على تظاهر بعض الأرامل الفتيات بالالتيـاع في جنـازات أزواجهـن . لا نقص أصـلاً في تيقظـه ؛ إذا بدا منه اللوم الدائم، فإن من واجبه الحراسة؛ إن لم يقم به، استحق هو ذاته غضب الله ، وصـار مسؤولاً عن موت نفس الموكولين إليه ، بل قاتلاً لنفسه الخاصة.
لاندفاعه سبب عميق، وكثيراً ما يلفت نظرنا إليه: يوحنا يهوى إخوته ويريد تخليصهم. بكشف الرذائل وشناعتها يتوخى إنالة الاهتداء. إذا ذكّر مراراً نار الجحيم، وهي نار جد حقيقية وليست مجازية البتة، فإنما قصده إثارة الارتعاب، لكنه ارتعاب يؤول إلى خلاص النفوس. يقصد على الأخص إثارة الحب لله، فإن شر جحيم هو عدم المحبة، والحياة الصالحة بدون حب الله والقريب لا تكون سوى كبرياء جديرة بالعقاب في عين الله.
فلنغير سلوكنا ونعترف بذنوبنا. إذ يفوه يوحنا بهذا الكلام، يفعل كما كان يسوغ في مكان وعلى حسب عادات مغايرة لبلادنا وعاداتنا. من بحثهم الخطيب على الإقرار بخطاياهم، يدعوهم إلى مجرد الاعتراف بذنوبهم، إلى عد ذواتهم خطأة أمام الله في سر ضميرهم أو في الاجتماع الكنسي، بيد أن ذلك يحدث في تلك الظروف بعمل يشبه عملنا حين نتلو ” أنـا أعترف ” في القـداس ، أو نـرتل ” ارحمني ، يـا الله ” في أحوال أخرى، أو نقبل الرماد في بدء الصوم الكبير. الاعتراف والاستغفار وإصلاح السيرة ذلك ما ينتظره الله ليعيد إلى الخاطئ صفة البار. بيد أنه يجب حتماً لنيل هذا الغفران، أن نغفر نحن لغيرنا؛ وإلى ذلك العمل الجوهري ينبغي أن نضيف الصلاة، الصدقة ، التيقظ والصوم. إن الله يسبغ نعمته على من يفعل ذلك، فلا يبقى عليه سوى تلبيتها.

النتيجة

أواه! إن نتيجة جهود يوحنا لم تكد تظهر للعيان. المعاتبات، التهديد بجهنم ، التوسلات المؤثرة ، كل ذلك كان كالضرب في حديد بارد . من الأكيد أنه قد حدثت ارتدادات فردية ، لكن يوحنا كان يريد إصلاح كل المدينة. كان يود أن يكون “ذلك الرجل الوحيد، رجل الإيمان المضطرم بالغيرة والمصلح للشعب أجمع”، الذي يتكلم عنه في ميمره الأول على التماثيل. كان كامل الوقوف على تلون مواطنيه، ومع ذلك كان ذلك العيب يخمد همته بعض الأحيان : ” حين يـرى أستاذ أن تلميذه لا يجني أدنى فائدة مما يعاني في سبيله ، يصعب تصـور ألمه وأنّاته إذ يتأكد له أنه يضيع وقته ومشقاته…” كان يسأل ذاته أليس الأفضل ، على كل حال ، أن يسكت ويتـرك الخاطئين في جهلهم ، لئلا يثقل ذنوبهم بإرشادات مكررة بدون انقطاع وبلا جدوى على الدوام.
لكنه كان لا يلبث أن يغلب تلك التجربة. في نظر المتروي ذي الإيمان، لا يمكن أصلاً أن يكون كلام الله عادم التأثير . الطبيب الحابط في استعمال علاج، يرجع في الغد ويستعمل غيره. الحطاب يضرب مرة، مرتين، أربعة، خمساً، بل عشر مرات ليُسقط سنديانه، إن لم تسقط الشجرة من أول ضربة. يوحنا أيضاً يعيد الكرّة ثلاث مرات، مئة مرة، بل أكثر. ولو لم يستفد من إلحاحه سوى واحد من سامعيه، لما كان وقته مضاعاً.

محاربة الضلال

تثقيف الجماعة المسيحي ذو مظهرين: إعطاء المؤمنين الرأي المسيحي المحض في شأن العالم، الذي يوجد- أو ينبغي أن يوجد- السيرة المسيحية الحقيقية ، ومحاربة الأخطار التي تعرّض لها دعايات الضلال ذلك الرأي في العالم.
لم يتحتم قط على يوحنا أن يحارب الدهرية، وذلك لسبب معقول، وهو أنه لم يلق البتة في محيطه أناساً دهريين. كان لقومه موقف واحد تجاه وجود الله وخلود النفس والجزاء في الآخرة. كل هذه كانت حقائق واضحة، بحيث كان جميع الناس، اليهود والوثنيين والهراطقة، وبالإجمال كل البشر يسلمون بها، كما تحقق خطيبنا بإيجاز في أحد ميامره على لعازر.
مع عدم وجود دهريين، كان هناك الوثنيون واليهود الآبون الإيمان بالمسيح، وكان الهراطقة.
وأيم الحق، منذ 28 فبراير 380 كانت النصرانية الأرثذكسية تتمتع بحماية شرائع الدولة، وقد حُرمت الهرطقة والوثنية؛ مع ذلك لم تزل الوثنية حية. أولاً ظل التعليم مدرسياً، ومن ثم كامل التشرب بالفلسفة والميثولوجية الوثنيتين. كان يوحنا يرى أن الخطر المهدد للإيمان في أثناء تلك الدروس ليس وهمياً، وأن من الواجب مقاومة تأثيره بمواصلة درس الكتاب المقدس. أما عامة الشعب فكانت تجهل ذلك الخطر، لكنها تعرف من الوثنية الممارسات لخرافية، الطلاسم، التنجيم، العرافة ، وكلها خطايا مضادة لله، وخدمة للشيطان الذي يوعز بها، وطريق مؤدّ إلى الفساد، لأن من يعمل بها يستسلم للقدرية (fatalism) التنجيمية أو لممارسات فيها من البلاهة ما يساوي عدم فائدتها، بدلاً من سعيه للاهتداء.
وما هو أشد خطراً من ذلك أن الوثنيين يهاجمون الإيمان المسيحي بأسئلتهم الخافية الفخاخ، والنصارى، في الغالب، عاجزون عن إجابتهم. سيجد القارئ في القسم الثاني من هذا الكتاب فقرة شهيرة من ميمر على القديس يوحنا في ذلك الشأن. من كان متأهباً يستطيع الجواب، وإلا فالسكوت أولى. على كل حال يجب منع خلاعة النصارى أو قلة مبادرة الموعوظين لأجل العماد إلى تلقن التعليم، عن إثارة اعتراضات الوثنيين. أخيراً، كلما سوغت الأمر قداسة السيرة والعلم الكافي، يجب العمل الإيجابي ، بالإقناع دون القسـر ، لهداية الوثنيين الحسن استعدادهم ؛ أما الباقون فيكون هذا السعي لخدمتهم إضاعة وقت وعدم فطنة.
لم تكن الوثنية الخطر الوحيد؛ كان ينبغي الحذر من الدعاية اليهودية، فإنها ليست بدون تأثير. كان بعض النصارى أو المستعدين للعماد يترددون هم أيضاً إلى كنائس اليهود، إذ يزعمونها قد تقدست بالكتب المقدسة المحفوظة فيها ضمن الخزانة المقدسة . كانوا يشتركون في أعمال عبادة الناموس القديم، مع كونه مُلغى منذ قدوم المسيح، وعلى هذا المنوال يتحدون بقتلة المسيح. أما يوحنا فكان يتوسل إلى المؤمنين، بل يأمرهم بالتدخل لمقاومة أولئك الضالين الأشقياء.
من البديهي أنه يعرف ويعلّم الوظيفة التي قام بها الشعب المصطفى في تدبير الله لخلاص البشر . ومن ثم لا يطيق أصلاً الاستخفاف بديانـة العهد القديم، الذي كان يرتكبه بعض الهراطقة. بيد أن الناموس كان يهدي إلى المسيح، والدين اليهودي قد زال بمجيئه، ومذئذ قد فاقه دين آخر. كل خطإ اليهود وشقائهم قائم بكونهم أبوا التسليم بتلك الحقيقة الأكيدة، واحتقروا الناموس بعد تسليمهم بقدوم المسيح وبألوهيته. جريمتهم هي أنهم رذلوا المسيح وقتلوه، ولم يفعلوا بذلك سوى إطفاح الكيل الذي ملأه جدودهم، وقد سهل كل السهولة على يوحنا أن يُثبت ذلك بعنف أقوال الأنبياء وبتاريخ عاقبة القدس ، وهي عقـاب عادل لعدم أمانة دائم . يجد بدون عناء ، في العهد القديم ، جدولاً طويلاً من اللعنات والاستنطاقات الشديدة اللهجة، بل يضيف إليها مما ابتكره، ويجعل صوته صدى لأنواع الثرثرة المتداولة في العالم القديم، مع أننا في أيامنا نؤثر أن نراه جاهلاً إياها. إن انفجارات العواطف من أمثال المذكورة كانت مألوفة في ذلك الزمان، فيجب أن نراعي الأحوال التاريخية عند إبداء رأينا فيها . على كل حـال نفضّل نحن إقلال الخشونة.
اليهود والوثنيون قوم من الخارج؛ أما الهراطقة فكانت راسخة في داخل النصرانية. يوحنا، عند شرحه مثل الزؤان والبذر الجيّد، يفهم من كلمة زؤان الهرطقة عمل الشيطان. يقول إن يسوع قد تكلم عن الزؤان، لأن بذره شبيه جداً ببذر الحنطة. بما أن الشيطان عاجز عن استئصال الحنطة، فهو يمزج بها الزؤان ليزيل خصب الحقل . هكذا يفعل الهراطقة عن صلف شخصي محض، ولابد من الانتظار حيناً قبل الانتباه لأضرارهم، كما حدث في شأن الزؤان. لكن أبا العائلة لا يريد أن يُقلع الزؤان قبل الحصاد، والله لا يريد أن يُقتل الهراطقة ؛ إن ذلك عمل غيرة أسئ فهمها. الأمر المستعجل ليس عقاب الهرطوقي ولا إثارة منازعات لاهوتية لا سبيل إلى تهدئتها ، بل صيانة الحنطة ، الكنيسة الأمينة . بإعدام الهراطقة وقتلهم نزيل إمكان الاهتداء إزالة كلية. فلنحرّم اجتماعاتهم ولنمنع دعايتهم؛ ذلك معقول، بشرط ألا نتجاوز حدوده.
يوحنا يصرح في خُطبه المضادة للأريوسية المطلقة ، بأنه لا يحاول أن يجندل الضالين، بل أن يُقبل عثرتهم. يوضح فكره بقوله إن الجدال يجب أن يكون بدون شراسة ولا غضب، بل بسكينة واعتدال، وإن علائق الصداقة والألفة بين الأرثذكس والهراطقة، ينبغي قطعها بلا تردد إذا كانت مضرة بالإيمان القويم؛ أما إذا نتج عنها اهتداء الغواة، فيجب أن تواصل بدون ذبذبة. تلك مواقف كان يوحنا يهواها، وهي مجلبة التوقير لنفسه المتساهلة. بيد أنها لا تحول دون استعماله، في شأن المذاهب الهرطوقية الشتى، نعوتاً ذات قرص غير زهيد… لكن ذلك كان عادة جارية قد خففت جداً في الواقع معنى الكلمات المستعملة في اندفاع الخطاب.
أول طريق للاحتراس من الهرطقة هي إجادة معرفة التعليم الصحيح، فتدرك فوراً نقط الشقاق والأضاليل. الطريقة الثانية- وهي قريبة المنال لكل الناس- هي إصمام الآذان عن أقوال الهراطقة المجاهرين بعقائدهم، والتقيد بالتعليم الصادر من الإكليرس الأرثذكسي . أمـا المجادلات فلابد من العلم الكافي للاشتراك فيها، وهي بلا جدوى مع ذوي النية الفاسدة.
من المستحيل أن نُفسح هنا المجال لنرى بالتفصيل كيف كان يوحنا يجابه مواقف عدة هرطقات كانت تنشر الدمار في مدينة أنطاكية. يقاوم الهرطقة ببيان الإيمان التقليدي الذي أساسه الكتاب المقدس، على حسب شرح الكنيسة. يحدث أحياناً ليوحنا أن يتجاوز قليلاً، في بعض النقط، عن رد فعل، حدود الصواب، في موقفه التعليمي ، الذي يدّعي أنه موقف الكنيسة. من أمثال ذلك ما جرى له في نظريته على عدم إمكاننا فهم الله، الذي أكده ضد العقلية المفرطة للأريوسيين المطلقين؛ وكذلك أيضاً نسبته حصة أكبر مما هي في الواقع، إلى قدرة الإرادة البشرية ووظيفتها، مع تصغير مفعول النعمة، في مقاومته حتمية (déterminism) المانويين والغنوسيين أو قدريتهم.

الفصل السادس
أسقف يعرف ما يريده
سيامة غريبة

في القسطنطينية يوم 26 سبتمبر 397 مات الأسقف الشيخ نكتاريوس بعد ستة عشر عاماً من أسقفية عادمة الإشعاع، قضاها في جمود رزين لبق، جمود سَريّ عظيم من علية موظفي البلاط سابقاً، شديد الرغبة في تجنب جميع المشاكل.
منذ مجمع سنة 381 كان كرسي القسطنطينية قد صار، على الأقل في الواقع، الثاني من كراسي النصرانية، مع احتدام غضب الإسكندريين الآبين التسليم بذلك. ثاوفيلوس أسقف الإسكندرية لم يحرك ساكناً لمقاومة نكتاريوس الذي لم يزعجه أدنى إزعاج، بيد أنه عارف أن أسقفاً للقسطنطينية ذا طبع أقل هلعاً غير معقول، يحرص على المطالبة بحقوق كرسيه، مما يصعب التسليم به. فكان ثاوفيلوس قد عقد نيته على السعي لينتخب بصفة خلف لنكتاريوس أسقفاً هادئ السليقة، وإن لم يكن موالياً له. من ثم أسرع إلى العاصمة حتى يقدّم مرشحه ويكيد مكايده في البلاط.
والحل أن أوتروبيوس، حاجب الإمبراطور أركاديوس الذي كان قد خلف أباه ثاودوسيوس، أراد مقاومة ثاوفيلوس، فطلب أن يُختار يوحنا، ذلك الكاهن الأنطاكي المشهور بقداسة حياته وفصاحته وأرثذكسيته. فما كان شرط النجاح سوى العمل السريع الخفي، لكي يتجنب أوتروبيوس في الآن ذاته محاولات ثاوفيلوس المضادة له ورفض يوحنا.
في أواخر نوفمبر 397 استقدم كونت الشرق المقيم في أنطاكية يوحنا على وجه سري، ولم يعرف سبب ذلك الكونت ولا الكاهن. فذهب يوحنا إلى حيث دُعي، فخُطف خطفاً بمعنى الكلمة الحرفي، وذهب به إلى القسطنطينية بدون توقف بين المراحل، فلم يتمكن من الرجوع إلى داره لأخذ أمتعته. حين وصل إلى القسطنطينية كان بعض الأساقفة مجتمعين لانتخاب الخلف وسيامته. فأطلعوا على قدوم يوحنا وإرادة أركاديوس، فخضع جميعهم لها وانتُخب يوحنا.
ثار ثائر ثاوفيلوس إذ رأى حبوط دسيسته، ولم يكن أقل حنقاً لاضطراره ، بصفة ثالث أسقف في النصرانية ، هو العادّ نفسه الثاني ، إلى أن يهمّ بسيامة ذلك “الحديث النعمة” . من ثم رفض ليدافع، على قوله، عن حقوق الإسكندرية وامتيازاتها. بيد أنه كان قد أذنب مراراً بسوء استعمال السلطة، وقد رُفعت إلى الأساقفة شكاوى عليه. كان أوتروبيوس يعرف ذلك، فطلب أن تسلّم له إضبارة الشكاوى، وساوم ثاوفيلوس على هذا المنوال: إما أن يسيم يوحنا، وإما تُرفع الشكوات إلى الإمبراطور.
فسيم يوحنا بوضع يدي ثاوفيلوس، ثم أجلس على العرش الأسقفي في 26 فبراير 398، وبعث فوراً إلى سيريسيوس بابا رومة برسالة تشهد على سيامته. أما ثاوفيلوس فقد سافر عائداً إلى الإسكندرية، وهو عازم كل العزم على الانتقام من كل تلك الإهانات.
الأسقف الجديد

منذئذ زالت عن يوحنا عيشة الدرس والوعظ البعيدة عن مشاق الإدارة الأبروشية، فيظل دائم الأسف على ذلك. في الحقيقة ما زال من زمن بعيد يعد ذاته جديراً بالأسقفية، فإنه عادم البلاهة . غير أنه لم يتوقع أصلاً الأسقفية في العاصمة؛ كان يظن مثل كل أهالي أنطاكية ، أنه يخلُف فلافيانوس.
يسوغ أن نسأل ذاتنا هل كان اختيار أوتروبيوس وأركاديوس جد حسن. لم يكن في يوحنا ذرة من نقائص المتساهل في قبول المخاطرات أو المقرّب إلى العاهل أو المتملق؛ فكان يجب على ذوي السلطة العليا أن يعرفوا ذلك ويترووا فيه، فإن يوحنا، وهو أسقف ، سيقوم بواجبه ، بكل واجبه ، بواجبه فقط . إذ أنـه يعرف سلطته الروحية الأسقفية وصفة سفير الله التي له ، سيعظ على الحقيقة ، والحقيقة جارحة . لن يقبل أبداً أن تهزأ السلطة الزمنية بحقوق الكهنوت، لن يقبل أبداً ترك حقوق كرسيه عرضةً للاحتقار. في الآن ذاته يريد أن يكون أبا جميع النصارى؛ فلماذا تحتم عليه أن يُبدي قدرته أكثر من إظهاره حنوه الأبوي؟

البلاط

كان القصر الإمبراطوري منتصباً بإزاء الكاتدرائية، وكان يملك فيه، بصفة إمبراطور الشرق أركاديوس نجل ثاودوسيوس، ابن عشرين عاماً. كان شاباً يُرثى له، زهيد الماوهب، مخدوعاً بحيل زوجته أفدوكسية التي قارن فيها الذكاء الجمال، فكانت تسخرهما كليهما للتسلط على بعلها ولإدارة الأشغال، وكانت سرعة غضبها المفرطة تجرها أحياناً إلى غوايات مستهجنة. بجانب الإمبراطور وزوجته، كان أوتروبيوس رئيس الحجاب، الحديث النعمة، الجشع، الجاهل أصول اللياقة، لا يقيم أدنى وزن لأركاديوس، ويسيّر أفدوكسية على هواه، بما أنه دبّر زواجها بأركاديوس.
بهؤلاء الأشخاص العظام الثلاثة كان يحيط جم غفير من ذوي المكانة العليا، من موظفين رؤساء ومرؤوسين، من مقربين، من أعضاء صفوة المجتمع، مع عدة أساقفة مترددين إلى البلاط وغافلين عن أبروشياتهم. جميع أولئك القوم الممتازين كانوا يعيشون في بذخ يثير بعض الحنق، وأخلاقهم غير زهيدة الارتخاء، وهم يتنافسون في كيد المكايد.
حالة الأبروشية

كان القصر الأسقفي مباشر الاتصال بالكاتدرائية، فابتدأ الإصلاح فيه. كان نكتاريوس قد بناه بعد حريق، على وجه فاخر بإفراط في نظر يوحنا. فبادر هذا إلى بيع قطع المرمر الباقية بدون استعمالها، ليوزع ثمنها على الفقراء. ثم فاوض وكيل صندوق الدار الأسقفية، فألغى النفقات الباطلة والاستقبالات الكبرى، وجلوس أي شخص كان على مائدته، وقاوم التبذير . منذئذ صار يأكل وحده كـل أكلة بتقشف الناسك ، ما لم يجب عليه استقبال زملاء مارين به.
كانت مبالغ المال الموفرة على ذلك المنوال مختصة بصندوق المستشفى الموجود وقتئذ، ريثما توقف أيضاً على الذي قصد يوحنا تشييده.
بعد ما صار يوحنا قدوة الفضيلة على الوجه المذكور، أقدم على إصلاح إكليرسيه الذي كان قد أرخى اللجام ببعض الإفراط لارتخاء أخلاقه. فعزل كاهنين وشماسين إنجيليين قد افتضح تشكيكهم، وبذل الجهد لإزالة العهارة والبخل وعدم الاعتدال في الأكل والشرب المنتشرة انتشاراً مفرطاً في عدد فاحش من مؤازريه. ثم ذكّرت رسالة راعوية له أن مساكنة كاهن لعذراء مكرسة أمر فيه خطر ، إن لم يكن حراماً ، وهو مشكك على كل حال، وأن تلك العادة الجديرة بالاستقباح، بل المستقبحة، يجب أن تزول. في وعظه فضح البخل والجشع في الكهنة وتشبههم برفاهية الطبقة الوسطى، ودعاهم إلى الفطنة والقناعة في الطعام والشراب، إذا سنحت الفرصة لقبولهم دعوة عائلات غنية إلى تناول الغداء عندها.
أما الأرامل والواقفات نفوسهن على خدمة الكنائس ومن هن أعضاء جمعية الأرامل، لا غير، فقد أمرهن بأن يعشن وفقاً لحالتهن أو يتزوجن زواجاً جديداً. البتولات المكرسات قد وفّاهن حقهن برسالة راعوية على مساكنة الكهنة المريبة.
الرهبان الكسالى أو الدائبون على الخروج من أديارهم للاستعطاء، قد سمعوه يذكّرهم أنه ينبغي لهم أن يعيشوا في الاختلاء عيشة تأملية، أو، إذا فضلوا العمل، أن يجعلوا ذواتهم في خدمة الأسقف بانتظامهم في سلك الإكليرس.
أما عامة المؤمنين فكانوا لا يكادون يفوقون نصارى أنطاكية بحرارة التقوى وطهارة الأخلاق. فيوحنا يُبرق ويُرعد في مقاومة المسرحيات وسباقات الخيل، ويهدد بالحرم المغالين في الهيام بتلك الملاهي الفاسدة. يستقبح بأعلى صوته بذخ الأغنياء الوقح وصلابة قلوبهم ونفقاتهم العادمة الفطنة، بينما المساكين- وهم المسيح نفسه! – يموتون من الجوع والبرد. كلامه لاذع على الدوام بقدر ما كان في أنطاكية. يوصي الجميع بالصدقة، ويتوق إلى أن يجعلوا كل تلك الأموال العادمة الفائدة أو المُساء استعمالها، تحت تصرف جميع النصارى المشترك، على وجه الإنصاف. وهو يستهجن التفنج البالغ أقصى حدود الإفراط والملتهم ثروات كاملة…
لتعجيل اهتداء شعبه قد نظّم الطقوس، وأمر بالعودة إلى ترتيل فروض الكهنة الليلية المهملة منذ حين، وأنشأ التطوافات بالمشاعل لمقاومة التي يقيمها الأريوسيون.
أنواع رد الفعل

كان يمكن يوحنا، ليُحسن إنجاز عمله الإصلاحي، أن يتكل أولاً على بعض كهنته، ولا سيما رئيس الشمامسة سيرابيون، على فريق من المكرسات لخدمة الكنائس ورئيستهن أوليمبياس، على بعض علية الموظفين وعلى الشعب الذي كان معجباً به ومبجلاً إياه إلى حد التصفيق له في داخل الكنيسة . . . حين تهب العاصفة ، سوف يجاهر الشعب بعواطفه

[1] الكلمة “أرثذكسية” في هذا الكتاب تعني دائماً صفة الكاثوليك الخاضعين لبابا رومة، خليفة القديس بطرس.
القديس يوحنا الذهبي الفم