اللـــــــه فـــــينــــا

اللـــــــه فـــــينــــا

تأليف
الأب رءول بلوس اليسوعي

نقله عن الفرنسية
الأب ج. عقيقي اليسوعي

منشورات المعهد
المعادي

نصرّح بطبعه
+ إسطفانوس الأول
بطريرك الكرسي الإسكندري
وسائر الكرازة المرقسية للأقباط الكاثوليك
في 24 يولية 1967
الكتاب الأول
مواهبنا فائقة الطبيعة
الفصل الأول
الأنس بالله
غاية التقوى، وسبب وجودها وإكليلها إنما هو الأنس بالله.
ولكن ما أقلّ من يحوز هذا الأنس من النفوس، وما أكثر من يحسبونه مستحيلاً. فممّ يتأتّى هذا؟
– يتأتى من أننا نعامل الله معاملة غائب.
فكيف نبلغ إلى الأنس بمن لا يكون حاضراً ، أبداً ؟ فالأنس يقتضي الالتقاء والمحاضرة.
وهل نستطيع أن نؤانس الله مؤانستنا لأيّ إنسان، دون استسلام إلى الخيال والأحلام؟
إن بين الأنواع المختلفة لحضور الله في العالم نوعا يهيئ لنا الوصول إلى هذه المؤانسة. وهو ما نحاول أن نعالج شرحه في هذه الصفحات الآتية: أي حضور الله فينا في حالة النعمة.
يقول لنا التعليم المسيحي: إن الله في كل مكان. فهذا الحضور الشامل الكلي، يؤثر كثيراً في بعض النفوس، ولكنها قليلة. أما أكثر النفوس، فحضور الله في كل مكان عندها، يوازي غيابه عن أي مكان. وعامة الناس لا ترى كيف أن حضوراً غير مشخّص، يمكنه أن يكون باعثاً للبارّ والأثيم على الأنس بالله؟
ثم إن لله حضوراً خاصّاً في السماء. ولكن السماء جدّ بعيدة عنا. ولابدّ من قوة عظيمة للتجديد؛ لك تخلق أنساً لا تتلفه تلك المسافة السحيقة . مثل هذا الحضور لا يصعب على شخص كالقديس توما ، من يصوّره معاصروه ماشياً ، مرفوع العينين ، وهـو مستغرق في تأمله في الله، ولا على مثل القديس أغناطيوس دي لويولا، الذي يشبهه لينيز بموسى على جبل سينا يخاطب الله وجهاً لوجه.
هذا ، وإن الله حاضر في القربان المقدس ، وإن كـان حضوراً سريّاً، فهو حيّ، إذ أننا نرى شيئاً ، ونحس بشيء يضمن لطبائعنا الضعيفة حضوراً ما. وإن لم يكن ما نرى وما نذوق سوى ظاهر تندّ حقيقته عن ذهننا. فإن هذا القليل يسعف إيماننا، فنعبد، تحت الظواهر، الحقيقة الإلهية. ثم إن الحضور القرباني في التناول يدوم قليلا، وليس بوسعنا أن نقيم دائماً أمام القربان المقدس.
وهناك حضور آخر لله غير هذه الأنواع السابقة، وهو أوفرها ثمراً. سألت يوماً طفلا: أين الله؟ فقال: في قلبي.
فقلت: من وضعه فيه؟
فقال: النعمة.
فقلت: ومن يقدر أن يطرده؟
فقال: الخطيئة.
إجابات هذا الطفل تدل على كثير من الفهم للحياة المسيحية الحقيقية، وفيها أبلغ موجز لتعليم الأنس بالله.
ولكن ما أغرب إمكانياتنا أن نمر بجانب العجائب ولا نفطن لها. فمن ينتبه للجمال الأدبي في تفاني راهبة، وفي جلال الكنيسة وعظمة الكاهن. من يرى ذلك؟
ونحن المسيحيين أنفسنا ، ما أشدّنا تجاهلاً لما نحمل في داخل نفوسنا من الحقائق الباهرة.
فسلوا إنساناً معمّداً أن يحدّد حال النعمة ، يجبكم : حال النعمة هي أن يخلو ضمير الإنسان من الخطيئة المميتة . فنقول : أهـذا كـل ما تعرف؟ فيقول: نعم، أوَليس كافياً؟ – “يظهر من كلامك أن امتلاكك حال النعمة هو أن لا يكون عندك شيء. ولكن أليس عندك أيضاً…” – ماذا؟ … – : “حضور الله حيّاً فينا”.
هذا معتقد الكنيسة وتحديد التعليم المسيحي.
فهذا الحضور الإلهي – أو سكنى الله فينا بالنعمة، كما سنرى – قد أثبته ربنا.
وفسّره القديس بطرس.
واتخذه القديس بولس موضوع رسائله المألوف.
وذكّرنا به معلمو الكنيسة.
وشرحته اللتورجيه بطرق مختلفة.
وعاشه القديسون جميعاً.
فمن أين يتأتى أن يكون هذا الاعتقاد الأساسي، عند أكثر المسيحيين، وعند كثير من النفوس الرهبانية حرفاً ميتاً، وأن يظل هذا التعليم، على ما فيه من التعزية، مجهولاً خالياً من القوة.
– إن لذلك أسباباً كثيرة، ولعل أخصها قلّة من يتكلم عن هذا التعليم. وقد ورد، في هذا الشأن، عن الكردينال مرسيه في إحدى رياضاته للكهنة:
” الحقيقة هي أن الله حيّ فينا… وكثيرون من المعمّدين يجهلون هذا السر الداخلي، ويظلون جاهلين له طوال حياتهم ، وغرباء عنه… وإن كانوا كهنة وقد تسلموا الرسالة الإلهية لينشروها في العالم، فهم يتغافلون عنها، ولا يفتكرون فيها، ومتى ذكّرهم أحد بها، انذهلوا… فسلموا، إذن، وصدِّقوا أن الله لا يفارقكم ، ما دمتم لا تجبرونه ، بالخطيئة المميتة، أن يهجركم. أصدروا أفعال إيمان إرادية، صريحة، متواترة بهذا الحضور الإلهي الحقيقي الدائم، داخلكم. لا تبحثوا عن الله في الخارج، بل هناك، فيكم، حيث يقيم من أجلكم، وحيث يدعوكم، وينتظركم، وحيث يتألم من تشتتكم ونسيانكم”.
كان العلامة كرنليوس الحجري يأسف لمثل هذا النسيان، ويقول: “ما أقلّ، بين الناس، من يقدرون موهبة النعمة قدرها: فعلى كل واحد أن يعجب بها، ويحترمها في نفسهن وعلى الوعّاظ، ومعلمي العلوم أن يشرحوها ويغرسوها غرساً في أذهان الشعب، وعلى المؤمنين أن يعلموا أنهم هياكل حية للروح القدس، يحملون الله نفسه في قلوبهم، ويلزمهم أن يسلكوا، في حضرته، سلوكاً إلهياً، ويحيوا حياة لائقة بمثل هذا الضيف المرافق لهم في كل مكان، والناظر إليهم في كل أوان.
والأسقف دي سيغور يردد الشكوى نفسها بقوله: “المسيحيون جميعهم يعلمون، بوجه عام، أن الله في قلوبهم، وأنهم هياكل يسوع المسيح، وأن الروح القدس فيما بينهم… فكيف يمكن ألا يعلق أحد منهم على هذا الأمر شيئاً من الأهمية، ولا يفتكر فيه أو يحيا به ؟ حتى بين الكهنة ، والكهنة الطيبين . لا أخشى أن أقول : قد قلّ فيهم من يقدّم للنفوس هذا الغذاء اللذيذ العديم المثال، على شدّة احتياجهم إليه، وأنه وحده جدير بأن يشبع جوعهم ويروي عطشهم- لأن الله هو حياة نفسهم، وكنز قلبهم، ورفيق حياتهم، وينبوع قوّتهم وقداسة تقواهم”.
ولم يتردد السيد دي سيغور عن أن يشكو نفسه من قلة من يحيون هذا التعليم السامي، وقد وضحه القديس بولس في رسالته إلى الكولسيين (ف 26:1) “السرّ الذي كان مكتوماً منذ الدهور والأجيال، وأعلن الآن لقديسيه الذين شاء أن يعلمهم ما هو في الأمم غنى مجد هذا السر، الذي هو المسيح فيكم”.
ثم يقول بسلامة نية : ” نحن خدام الله، ليس فينا روح الإيمان الحيّ، فإيماننا محدود كحدود الأساقفة الشرفيين، وأنا واحد منهم “.
فلا نكير أنّ ألزم ما ينبغي أن نتوغل فيه من حقائق الإيمان إنما هو هذه الحقيقة الرفيعة التي نحتوي عليها في داخلنا.
ولا نظن أنها من الأمور المستحيلة.
فمن كان بولس يخاطب حينما كان يتكلم عن “هذا السرّ العظيم”، سر حضور الله فينا بالنعمة؟
كان يخاطب دبّاغي أفسس، وحمّامي كورنتس، وكل من لم يكونوا أقل انغماساً في المادّة من كثيرين من مسيحيي عصرنا . كان يخاطب قوماً قد تمنعهم عاداتهم وأفكارهم الوثنية عن فهم “الله فينا” أكثر من مسيحيين معرقين في المسيحية. وهبنا سلّمنا بأن جميع المؤمنين لا يمكنهم أن يفيدوا من فكرة حضور الله فينا الفائدة نفسها، أفلا يمكنا أن نفرض أن كثيراً من النفوس الرهبانية والنفوس الحارّة الراغبة في الأنس بالله، تستفيد فائدة جلّى ، إذا ما وجّهت انتباهها إلى هذا الموضوع المهمّ .
لقد افترضنا ذلك، فأقدمنا على كتابة هذه الصفحات.
الفصل الثاني
النظام الفائق الطبيعة
إن الله يخلق الإنسان جسماً ونفساً، لا غير.
فتحديد الإنسان بأنه حيوان ناطق يتفق والحقيقة الفلسفية، ولا يتفق والحقيقة التاريخية.
فالإنسان، كما برأه الله، وكما أراد أن يكون، هو أكثر من إنسان، هو إنسان + … زائد شيئاً.
وها نحن أولاء نوضح “هذا الشيء”.
متى أراد الله أن يخلق خليقة، يلتزم أن يعطيها كل ما تقوم به في طبيعتها الخاصة.
يريد الله ، مثلا ، أن يخلق شجرة ، فيلتزم أن يـوليها كل ما تقوم به شجرة، لا أكثر ولا أقل . وإذا شاء بعد خلق الشجرة ، أن يزيدها شيئاً، كقوّة الانتقال ، مثلا ، فهذا الشيء المزيد لا يمكن اعتباره شيئاً واجباً طبعاً، بل متجاوزاً للطبيعة، فائق الطبيعة.
وعندما يشاء الله أن يخلق حيواناً، يلزم أن يمنحه كل ما يقوم به الحيوان. فهل يجب عليه أن يمنحه شيئاً أكثر؟ كلا. ولو حدث أن منحه إياه، لكان ذلك إنعاماً محضاً. فلو منح حصاناً أو كلباً، مثلا، عقلا، لأمكن القول بأنها منحة متجاوزة طبيعة الكلب والحصان، وبمعنى أصح أنها منحة فائقة الطبيعة.
هذه جميعها تقديرات صرف، وإليكم الواقع الحقيقي:
أراد الله أن يخلق الإنسان، فأوجب على نفسه أن يمنحه كل ما يقيمه في طبيعته الإنسانية. ولا شيء أكثر: أي جسداً ونفساً لا غير.
ويعلمنا الوحي أن الله، لما خلقه، كان كأنه غير راض بما قد تم، فشاء عن اندفاع غير متناه من حبه العظيم، أن يضيف شيئاً على المواهب العجيبة التي تقوم بها طبيعة الإنسان.
جسد ونفس، شيء حسن، فيهما الإنسان كله. ولكن الله ليس كله في هذا الخلق.
لقد خلق مخططه، ولكنه لم يستنفد كل حبه، فلم يرَ أنه أعطى الكفاية، وهو يريد أن يعطي أكثر. فلن يكون الإنسان إنساناً، فحسب إنه سيكون جسداً ونفساً، ثم يكون أكثر من ذلك.
وصمّم الله أن يشركه في حياته الخاصة، في حياته الإلهية.
فيظل الإنسان إنساناً، ولكنه يدعى، منذ هذا العالم، إلى أن يحيا الحياة الإلهية ، حتى يستطيع أن يحياها ، في ملئها ، بعـد هـذه الدنيا ، في السماء، بلا نهاية؛ بنوع محدود دائماً، ولكن بلا حجاب.
وكان الله قد علق على نوال هذه المواهب السامية (وأخرى غيرها من النظام الزمني والشعوري، كالعصمة من الألم والموت) تمام المحافظة على أوامره.
ولما وقف الله تعالى نيل الحيـاة الإلهية على طاعة الإنسان الأول ، لم يبرح أن يكون طيباً كل الطيبة، إذ وفر لنا بذلك أسباب الاستحقاق، كأننا نستحق ما كان من لدنه هبة محضاً.
فبعدما عصى آدم، ضاع كل شيء.
ونحن الخلائق الحساسة، نبكي بكاء مراً على فقد الهبات الحسية. وأصبحنا نتألم… وأيّ ألم! وأصبحنا نموت.
والأمر الجوهري بين كل الأمور أنا سُلبنا كنوزنا الإلهية جميعها. ولما كان الله قد وحّد بيننا وبينها، بات امتلاكها أو فقدها شرط حياة أو موت لنا، وفقدنا إياها هو الهلاك بلا رحمة.
إن الله على الحقيقة ، لم يقم أولا بخلق الإنسان ، ثم عاد فخلق فيه
الفائق الطبيعة، بل خلقه، دفعة واحدة، فائق الطبيعة. فإن حافظ الإنسان، دائماً على كنوز حياته الإلهية، عاين الله وجهاً لوجه ، وإن طرد الله من عنده، طرده الله إلى الأبد من ملكوته. تلك كانت الشريعة.
ولكن الإنسان اختار، عن معرفة وحماقة، فقدان حياته الإلهية. فكانت الخطيئة الأصلية.
فالله سيتركه، بلا شك، لنفسه، قصاصاً له.
وهذا ما نعانيه منذ البدء، ولا يمكن أن يكون خلاف ذلك.
وأجواء الحياة ليست سواء. فقد نظن أن الجو فائق الطبيعة الذي ولدنا فيه هو جوّ حتميّ أعدّت أجزاؤه من قبل إعداداً آلياً . في حين كان ممكناً ألا يكون لنا مخلص. فالفادي ليس قطعة زينة لازمة في منزل. وكان ممكناً كل الإمكان ألا يجيء أحد لإسعافنا، بعد الخطيئة، وألا يكون عندنا يسوع المسيح، وأننا، وقد سقطنا مرة، نبقى ساقطين إلى الأبد.
فإبليس أخطأ، ولم يكن لإبليس من فاد يخلصه. وثار الملائكة الأشرار، فتركهم الله هالكين إلى الأبد. ونحن، لماذا خلصنا الله؟
إبليس والشياطين، مثلنا، لم يجنوا إلا جناية واحدة. والله لم يخلصهم. وأما نحن، فقد خلصنا. كانوا هم أرواحاً خالصة. ونحن طبائع سافلة، أرواحاً في أجساد. والله يخلصنا ولم يخلصهم. فمن يفكر في ذلك؟
نحن أواخر الأسرة، يغفر الله لنا، والأبكار مقاماً، والأجمل خلقاً، والأقل، على ما يظهر خطأ، لم يغفر لهم.
أما إن الله قد أحبّنا!
أعطانا ، بادئ بدء ، عطايا عجيبة إضافية ، مجانية ، فأضعناها؛ وترك في الظلال خلائق أكثر امتيازاً بطبيعتها منا – ولم يفكر إلا في أن يعيد إلينا كل شيء.
فأي شيء غير هذه العطايا العجيبة؟ أيّ الكنوز الثمينة في نظره تعالى، يعدّها للعودة بنا إلى امتلاكه، وأي الطرق يختار للبلوغ إلى ذلك.
الفصل الثالث
الفداء
سبق أن ذكرنا أن الفائق الطبيعة هو الحياة الإلهية فينا، وهو اشتراك طبيعتنا المتناهية بالطبيعة اللامتناهية.
وإن فينا من الفهم ما يكفي لكي نقدر ما عندنا من الغنى.
فقبل أن أفهم، تفصيلياً، ما تقوم به حياتي الإلهية، أعلم أن الله قد فدانا، وأن يسوع المسيح لم يأت ويتجسد إلا لغرض واحد، وهو أن يردّ لنا الفائق الطبيعة الذي فقدناه.
وهذا السلوك العجيب: أن يصير الله إنساناً مولوداً في مغارة، وأن يعيش، ثلاثين سنة، مختفياً، وثلاث سنين، معتلناً، ثم يموت مصلوباً، كل هذه لا غاية له إلا أن نعود بشراً إلهيين.
رأينا أنا كنا، بخطيئة آدم، أناساً لا أكثر من ناس، فلم يرض الله أن نكون على هذه الصورة، وقد خرّبنا عمله. إنه يريد عمله سليماً.
وكنا طردناه من عندنا. فهو يريد أن يعود إلينا.
“… فصار الكلمة جسداً”.
يدعونا القديس أغناطيوس في رياضاته، عند التأمل في سر التسجد، أن نتوغل في مقاصد الله، وأن نرى الثالوث يتشاور في مصير الإنسان وفي خلاصه.
بينما كان تان يفكر في الله وفي تنزّه جلاله، كان يتصور الإنسان نملة، والله شخصاً مظلم الحس يكنس بردائه ، بلا أي اهتمام ، النملة هذا المخلوق الحقير الزاحل عن رجله. يا للجهالة فيما هو الله!
الثالوث حانٍ علينا، مشفق على شقائنا، يبحث عن وسيلة لخلاصنا.
أتُرى الله أعظم من أن ينحني هكذا؟- إنه طيّب، غير متناهي الطيبة ، ولـه عطف شديد على الإنسان أذهـل داود النبي ، فصاح : “ما الإنسان حتى تذكره، وابن البشر حتى تفتقده؟”
نحن، لا شك، مستضعفون جداً، ولكن الله جدّ رحيم! وما لم يسمح به الملائكة ، فها هوذا يمنحنا إياه . أما المسألة ، فهي : قد حدثت خطيئة، ارتكبها إنسان، فوجب التكفير عنها، عن هذه الخطيئة. وهذا التكفير يقوم به إنسان، لكن الإهانة التي لحقت بالله غير متناهية، ولا أحد غير الله يمكنه أن يأتي فعلا ذا قيمة غير متناهية.
حينئذ، يلفظ الأقنوم الثاني، من أعماق السماء كلمة الخلاص بأنه يأخذ كل شيء على عاتقه. هو ابن الله، سيصير ابن البشر. ويتخذ طبيعتنا ، ويصبح واحداً منا ، وتكون له أم نظيرنا ، وحياة كحياتنا ، وآلام كآلامنا . فيتمّ التكفير بإنسان ، لأن الكلمة يصير جسداً ، على حين لا يبرح كلمة.
وتقرر التجسد. فيسمى المخلص أخانا في الطبيعة، لكي نصبح إخوته في النعمة؛ ويقاسمنا حياتنا، لكي نصير شركاء له في حياته.
هو ذا المشروع وإليك إنجازه.
يجئ الملاك جبرائيل، فيقابل مريم ويقول لها: “إن الله يريد أمّاً. أتقبلين أن تكوني أمّاً لابن الله؟” فتقبل مريم، ويأتي يسوع إلى العالم: “كلمة وجيزة” كما يقول الآباء القديسون، على قياسنا.
لو كان الله قد اكتفى بإعطائنا مرسوماً خلاصياً أو أمرنا أمراً ما، لما فهمنا.
قد كان للعبرانيين، في العهد القديم، ألواح الوصايا. هي قوانين، قلّما تجتذب البشر، وتاريخ إسرائيل ما هو إلا تاريخ النسيان والجحود المتواصل.
القوانين لا تدوم قوانين خالصة ، ولا الأوامـر تـدوم أوامـر . أما الكلمة فيتجسّد. وبدلا من أن نسير على قوانين، فإننا نمشي خلف إنسان.
وعندما يصبح ابن الله واحداً منا، يصير هو رئيسنا، وبكرنا، وأخانا الأكبر، وتتشرّف به الأسرة كلها. ويكفينا أن نتبعه حتى لا نزلّ أبداً.
إنه يتبين لنا من أين ينبغي أن نمرّ: ” أنا الطريق ” . إذ يكون دائماً
في الطليعة ، ورايته عارضتا صليبه ، تظهران مهمـا كـان بعيداً ، لأن في وسطهما قلباً وضاء مشرقاً.
” أنا النور ” ! هلمّوا – يا أولادي – إن الطريـق وعر ، ولكني معكم . لا أسألكم إلا أن تضعوا أقدامكم على آثار أقدامي. آمنوا بكلامي . ” أنا الحق ” من يقبل العماد ويؤمن ، فهذا يخلص . ومن يأبَ أن يسمع صوتي، فهذا يهلك … كيف طرحت عذابك أرضاً، على حافة الطريق وتوقفت؟ من أراد أن يتبعني، فليحمل صليبه، وإذ ذاك، يمكنه أن يتبعني.
مسكين! لا قوة عندك. فهاك حياة الآب، قد نزلت بالعماد على نفسك، فعليك أن تحافظ عليها وتنميها، ودونك الوسائل: أسراري…، فإن تضعف، وتسقط، يجب أن تنهض، لقد سقطت ثلاثاً في الطريق، لأعطيك، بمثل شجاعتي في النهوض من سقطاتي الطبيعية، شجاعة النهوض من سقطاتك الأدبية.
وأعطيتك غير مثلي. وضعت تحت تصرفك قوى- أما عندك الاعتراف؟ أسمى أسراري ألوهة، وقد اخترعته لئلا تنتن الخطيئة دائماً في قلبك. وكما كان لأبي ، بعد خطيئة آدم ألا يغفر له أبداً ، كان لي ، بعد خطيئة منط ألا أصفح عنك أبداً. فانظر إلى طيبتي، لا لتطمع فيّ ، بل لتثق بي. وكلما خطئت، وجدت كاهناً مستعداً أن يغفر لك ، باسمي. وكلما استولى عليك شك أو غم، فاستمع إلى صوت ممثليّ على الأرض، اسمع إلى صوت كنيستي.
أي مثال ، وأي نظـام ، بـل أي مساعدة تنقصك ؟ ماذا أستطيع أن أصنع لك ولم أصنعه؟ وكل هذا ، انتبه جيداً ، كل هذا جميعه ما صنعته إلا لكي تحيا حياة الآب والابن والـروح القـدس ، لكي تحيا الحياة الإلهية. وما عملت هذه الأعمال الجبارة إلا لأستطيع ككلمة أن أشركك في حياتي وهي حياة الآب والروح. أتعدّ هذه الحياة الإلهية، هذه الحياة الفائقة الطبيعة، شيئاً زهيداً؟ …
– إنك لا تفتكر في ذلك، أو إنك لا تكترث له . أما أنا … فانظر إلى ما عزمت عليه وإلى ما فعلت.
ثم حاول أن تفهم.
– أنا أعلم، يا رب، فزدني إيماناً . وهبني أن أشغل حياتي كلها بهذه الأفكار . لقد جعلت حياتي إلهية ، سأفكر في ذلك ، ولـن أنسى أي ثمن قد كلّفك هذا العمل.
– لم تفهم، بعد، كل شيء. لقد رأيت، بنظرة، حياتي وهباتي. رأيت المهد، وحياتي الخفية من أجلك، وبشارتي بالإنجيل، وكنيستي وأسراري من أجلك. فهل لاحظت ما يخيم على هذا كله من الظل الكثيف المشئوم، البادي تحت عارضتي الصليب على الجلجلة.
كان لي أن أعيش سعيداً على الأرض. فلم أرد. بل أردت أن يكتب في الإنجيل: “طوبى للمساكين”، لو عشت غنياً، لكنت تقول لي: “تكلمني على هواك”. لقد اخترت الفقر. ففي بيت لحم، لم يكن عندي شيء، وعلى الصليب لم يكن عندي شيء، وبين الاثنين، لم يكن عندي شيء.
وكان لي أن أعيش مكرماً، ففضلت أن أقول: “طوبى للمضطهدين” ولا أتعرض للومك. فتأمل. منذ ميلادي، هبّ من يطلب موتي، هيرودس. وأثناء تبشيري، حاولوا قبضي وسجني، وأخذوا حجارة ليرجموني. جازوني على طيبتي بالشتائم . أما في آلامي ، فقد تجرّعتُ، عند حانان، وقيافا، وهيرودس، وبيلاطس، ومن اليهود الصيّاحين، صنوف الترك، والبغض، والخيانة ولم يبق شيء.
وكان لي … ولكن ما منفعة التكرار؟
لقد احترت العذاب، اخترت الصليب واخترت أن أبذل دمي كله. لماذا؟
حتى تفهم أحسن الفهم لما كان عندي من التقدير للحياة الفائقة الطبيعة التي خُلقت لها نفسك. فتلاشيتُ وأخليت ذات نفسي، لكي يحيا الله فيك، وتحيا ملء الحياة.
ويا للأسف!
فأي إفلاس كان إفلاسي . فعلت ذلك جميعه من أجل البشر فأين، من بينهم ، من يحفل به ؟ أيـن اهتمام الأكثرين منهم لما فيهم من الحياة الإلهية ؟ – الخطايا في كل مكان ، في الشوارع وفي البيوت . في رده الاستقبال، وحجر النوم، حتى في الهياكل، وخلف حصون الأديار، خطايا الصالحين خاصة! هذا ما طرحني على الأرض في نزعي، فلم أتمالك، كانت كثيرة، وغليظة، وباهظة، فانسحقت وتلاشيت.
دمي ، كل دمي باطل ، لا لمن يولدون وثنيين، ولكن لغير المؤمنين
باختيارهم، وللمسيحيين العائشين في الخطيئة المميتة.
يهوذا الشقي، قد رأيته، هو مثال النفوس التي ترفض الهداية، حاولت إرجاعه، بالطيبة، والشفقة وبالوعيد. جثوت أمامه وغسلت قدميه، فلم يرد أن يفهم، ولم يتحرك، فالتزمت أن أتركه للهلاك.
دمي جميعه ذهب هدراً. كنت أحسبه شيئاً. لقد حيرني الإنسان. أهذا هو قلب الإنسان!
وأمي، أمي المسكينة التي أشركتها في الفداء – في استشهادي.
ليست أمك فقط، لأن عندها لك من العواطف ما عند الأم لابنها، ولكن لأنك، بكل صواب، مدين لها بحياتك الفائقة الطبيعة.
ففي البشارة، عندما ظهر جبرائيل أمامها، انظر ما عرض عليها، وما طلب منها، قال: “إن الله قد صمم أن يعيد الحياة الإلهية للإنسان؛ وهو لهذا يريد أن يتجسد، وقد اختارك لكي تكوني والدة له، فإذا رضيت، حصل العالم على مخلص، فيخلص. وبدونك، لا يتم شيء. فقولي نعم، ويتمّ كل شيء. وإليك الشروط: إن ابنك يموت على الصليب، وأنت تربينه للتضحية به. إذ لا فداء بدون الجلجة. فمن أجل خلاص البشر أبنائك الآخرين- وهم أبناؤك، لأنهم يكونون مدينين لك بحياتهم الفائقة الطبيعة. فكل شيء متعلق بكلمة “ليكن” من فمك- إذن، لابد من تسليم بكرك. فهل تقبلين؟ أن يموت الابن الواحد لكي يخلص الآخرون جميعاً”.
فقالت مريم: أنا أمة الرب، فليكن لي ما يشاء.
وصارت – أمي – أمك . وقد شئت أنا ذلك من أجلك.
ورد في سفر الملوك الثاني أن أمّاً كان لها ولدان. وعلمت يوماً أن أصغرهما حكم عليه بالموت لأنه قتل أخاه. فجرت الأم إلى المحكمة وارتمت على قدمي القاضي، وقالت: أرجوك يا سيدي. إني فقدت أحد ولدي، فلا تفجعني بقتل الباقي لي.
ويمكنّا أن نتصوّر مريم القدرة المشفعة، عندما ترى أحد بنيها مشرفاً على الموت، وهو في حال الخطيئة، فإنها تنطرح على قدمي الآب وهي تقول. يا إلهي، إني قدمت للموت بكري، فأسألك بحق آلامه كلها وآلامي ، أن ارحم ابني الثاني ولا تحكم عليه بالهلاك إلى الأبد . أرسل إليه نعمة التوبة واقبل توسلي من أجله.
هل أخذنا نفهم قيمة حياتنا الفائقة الطبيعة. فمن لا يعرف قيمة شيء فليسأل خبيراً.
أنا لا أقدّر قيمة حياتي الفائقة الطبيعة، بل أعدّها بمنزلة الصفر.
فكيف قدرتها مريم وكيف قدرها يسوع؟ فكلاهما خبيران.
فمن المخطئ أنا أم هما؟
لا شك أني أنا المخطئ، فعليّ أن أعدّل حكمي وأحاول أن أكتشف بنفسي الحياة الفائقة الطبيعة ، أي حضور الله في نفسي بالنعمة الإلهية.

الكتاب الثاني
سكنى الله في النفس

إن الخطوط الكبرى في مخطط الله هي فيما يأتي:
قد منح الله الإنسان في الأصل، فوق طبيعته، مواهب مدهشة، منحه اشتراكاً حبيّاً في حياة الثالوث الأقدس نفسه.
فخسر الإنسان بالخطيئة الأصلية هذا الكنز فائق الطبيعة.
غير أنه بقى موضع للمغفرة. فقرر الله أن يردّ للإنسان هذا الاشتراك الفائق في حياته الإلهية، ما عدا بعض عطايا كانت تابعة من النظام الزمني.
واختار الله، لردّ هذا الاشتراك، أن يأتي هو نفسه إلى العالم. فيتجسد الكلمة الأقنوم الثاني من الثالوث الأقدس ، بعد أن سأل مريم هل تقبل هذا الشرف – مع ما فيه من الآلام – بأن تكون أمّه؟
وبفضل هذا الفداء، عدنا بشراً إلهيين. ولم يقرر الله مجيئه إلى الأرض إلا لكي يدخل إلى نفوسنا. ولا جذبه إلى العالم مهد بيت لحم بل قلبنا. فهو يريد أن يمكث في هذا المسكن لكي نعود إلى ما كنا عليه في الأصل، أي “حاملي الله”.
إن الله بالنعمة المبررة يحوّل نفسنا:
1- هيكلاً حقيقياً.
2- سماءً.
3- مسيحاً آخر.
الفصل الأول
نفسنا هيكل الله
لا شيء أثبت في رسائل القديس بولس، ولا أكثر تكريراً من قوله: إن علينا أن نعتبر أنفسنا هياكل، كنائس حقيقية ومساكن لله: “أنتم هياكل الله”.
وقد اعتمد القديس بولس في تعليمه هذا على قول الرب: “من يحبني” أي من يحفظ وصاياي ولا يخطئ، يحىَ بالنعمة، “وأنا وأبي نحبه” وإليه نأتي ونتخذه لنا منزلاً، ومسكناً ومقاماً”.
” نأتي إليه ” من يأتي ؟ الآب والابن والروح القدس ونحن واحد، لا غير . نأتي ، نحضر ، لا هذا الحضور الواجب ، الشامل حضـور الكيان الإلهي غير المحدود، ولكن حضوراً خاصاً، مجانياً، كله حب ، يجعل صلتكم بي لا صلاة صنيع بصانعه ولا صلة خليقة بخالقها، بل صلة صديق بصديق.
“نأتي إليه” يا لها من نعمة ، وإن تكن حضوراً وغياباً سريعاً . غير
أننا نصنع أحسن : إننا نأتي ونبقى ، نأتي لكي نقيم ، ونستمر ، ونسكن في النفس حتى نؤلّهها تأليهاً أكمل تأليه.
نأتي ونقيم. وهذه الإقامة لا نهاية لها. لكن أنت وحدك تقدر بالخطيئة أن تحكم بطردنا . وإذ ذاك، نذهب . ولابد من الذهاب . أما قبل الخطيئة، فحضورنا وحياتنا فيك حقيقة ثابتة وأمر واقع.
إن كلمة القديس بطرس، على صعوبة ترجمتها ، جميلة حانية ، بيّن فيها للمسيحيين الأولين أنهم يكونون شركـاء في الطبيعة الإلهية ، ولا يزالون، ما داموا محافظين على حال النعمة.
فلنحاول أن نتصور هذه الحالة. حالة حضور الله فينا.
لقد تأملنا كثيراً في مغارة بيت لحم، فلنفرض أن الحياة قد دبت فجأة فيها… فحمل المهد يسوع الطفل، الإله الإنسان. فنحن بالنعمة مهود حية، نحمل، لا ناسوت الرب، بل لاهوته. وإذا كان القداس الأول، بحسب رموز قداسات الميلاد الثلاثة، يذكرنا بميلاد الكلمة الأزلي في حشا الآب، والقداس الثاني يذكرنا بميلاد المسيح في بيت لحم، فالقداس الثالث يمثل ميلاد الله الروحي في كل نفس من النفوس بالنعمة المبررة.
وقد تأملنا، مراراً، في سرّ القربان. فلنفرض “الحقّة” التي تحتوي على يسوع قد دبت فيها الحياة. فنحن بالنعمة آنية حية نحمل في نفوسنا لا ناسوت المخلص، بل نحمل منه أعظم ما فيه لاهوته.
إن جندياً خلّص القربان من كنيسة اشتعلت فيها النـار ، أيـام
الحرب ، فكان فخوراً بأنه حمل بيديه الإله الحيّ ، برهة من الزمن .
فما يكون فخرنا نحن، إذ أننا في كل لحظة نحمل الله، متى كنا في حال النعمة. نحمله في نفوسنا، حيثما نذهب، إلى كل مكان، لا في أيدينا، مثل ذلك الجندي الشجاع ، ولا كالبابا إسكندر الذي كان يحمله دائماً، محفوظاً في عُليبة من ذهب، معلقاً في عنقه.
نحن هياكل . كان القديسون يعيشون متأملين في هذه الفكرة.
لما سأل الحاكم الروماني القديسة لوسيا : “هل فيك الروح القدس؟” قالت: “نعم، من يعيشون أطهاراً، أتقياء، يكونون هياكل الروح القدس”.
ونظير هذا الجواب جواب القديس أغناطيوس الأنطاكي، إلى الإمبراطور ترايان، عندما شتمه، لأنه مسيحي، وعدّه حقيراً. فقال القديس: “لا أحد يعدّ حقيراً أغناطيوس حامل المسيح” قال الإمبراطور: “كيف تقدر أن تدعو نفسك حامل المسيح؟” فقال: “لأن هذه هي الحقيقة. فأنا أحمل الله فيّ”.
وعند الاحتياج، فالمسيح نفسه يقول لبعض النفوس المختارة أعاجيب حضوره فينا.
فقد قال، يوماً، للقديسة أنجال: “يا ابنتي العزيزة أنت هيكلي ونعيمي”. وقال للقديسة جرترودة: “لقد اخترتك لأسكن فيك وأجد فيك نعيمي”.
إن ما أراد المعلم الإلهي أن يمنحه لهاتين القديستين لم يكن معرفة
إيمانية محضاً ، بـل معرفة اختيارية ، شعورية ، لسنا نعالجها في درسنا هذا . ولكن ما وجّهه إليهما من الكلام يناسبنا نحن أيضاً . إن الله ، بكل حق ، يقدر أن يدعونا هيكله ، وبكل حق يمكنه أن يقول لنا : “لقد اخترتك لأسكن فيك”. وهذا ما تعلمنا إياه الكتب اللاهوتية.
والمسيحيون المستنيرون، وذوو الإيمان الحي لا يجهلون ذلك.
فإن ليونيد أوريجان كان ينحني فوق صدر طفله في المهد ليقبله، ثم يقول لمن ينذهل من عمله: “إني أعبد الله الحاضر في قلب هذا الطفل المعمّد”.
وكتب أوريجان، بعد حين، عند كلامه عن النعمة المبررة وعما تولينا من الحياة الإلهية فقال: “أعلم أن نفسي هي مسكن . مسكن مَن؟ هي مسكن الله والمسيح والروح القدس”.
حافظوا على هذا الطفل الصغير،
إنه لعظيم، يحتوي على الله.
هما بيتان من الشعر. كان فيكتور هوجو يعتقد أنه يعبر بهما عن أسمى وأرق حقائقنا اللاهوتية.
وهذه كلمة أم مسيحية ظلت مدة طويلة لم ترزق فيها ولداً، وضعت طفلة ، فقدموها إليها لكي تقبلها ، فقالت : ” لا ، بعد حين ، متى قبلت سرّ العماد”. لقد قلّ من عندهن مثل هذا الإيمان بين الأمهات.
وتقدم مسيحي للشهادة في محكمة، فلم يرَ الصليب أمامه، فوضع يده على صدره، وقال: “هنا على الأقل يوجد الله”.
وحبس أحد الضباط في قلعة لأنه أبى أن يقوم بعمل يخالف ضميره. فكان يعزيه، في حرمانه من زيارة الرب في القربان، افتكاره أن لا شيء يمكن أن يحرمه من زيارة الله الساكن بالنعمة في نفسه. وقد كتب ما يأتي: ” أحسن ما أقوم به من عبادة أني أدخل إلى داخل نفسي وأسجد لله الحاضر فيّ… أوَلسنا هياكل حية؟”
أي قوة تغمر من يفهم ويقدر أن يقول في كل لحظة: لست أبداً وحدي، أنا اثنان: هو وأنا.
وإليك في ختام هذا الفصل نصيحة الأسقف دولْست: “لتكن نفسك هيكلاً، تسجد أمامها، احتراماً للضيف الإلهي الذي يسكن فيها”.
الفصل الثاني
نحن سماء
(القديس أغسطينوس)
ماتت الأخت أليصابات الثالوث الكرملية، بعد سنوات قليلة قضتها في الحياة الرهبانية ، وكانت تستوحي روحانيتها من عقيدة ” سكنى الله في النفس”. وقد تركت مثالاً لما يمكن أن يكون الأنس “في الداخل”.
يقول عنها الأب فوش في إحدى رسائله: “إن ما يحملني على تقدير هذه النفس الرهبانية مزية خاصة فيها، هي وهي أن كمالها إنما هو في تفتح النعمة، وفي نموّ الفضائل اللاهوتية التي يفيضها فينا جميعاً العماد، تدريجياً”.
ومعنى ذلك أن الأساس الذي بنت عليه الأخت أليصابات قداستها هو فينا كلنا، والضيف الإلهي الحاضر فيها هو عينه فينا، وليس هناك نوعان لحالة النعمة.
لكن، لا شك أن المحل الذي أعددناه لله فينا قد يختلف باختلاف درجة فضائلنا.
ولا شك، أيضاًن أن الله يمكنه أن ينعم بنعم مختارة تسهّل الحياة في الداخل- وهذا ما حدث للأخت أليصابات. غير أنا نستطيع، بروح الإيمان، وحده، أن نبلغ إلى تلك الأبعاد من معرفة حياة الله فينا. وهذا في استطاعة الجميع، بل هو: مسألة إرادة وتمرين.
تقول الأخت أليصابات: إنها وجدت السر العظيم يوم اكتشفت أن كلمات المسيح وكلمات القديس بولس عن “الله فينا” لم تكن صورة بل كانت حقيقة، حقيقة سامية. فجعلت هذه الحقيقة مركز حياتها.
“الله فينا” أي فينا الآب والابن والروح القدس “الثلاثة” حسب تعبيرها. فلا يكلمنها أحد عن إله بعيد، غائب . فإلهها قريب كل القرب. ثلاثتها، هنا، معها . وحياتها كلها توجز بهذه الكلمات : “الأنس بضيوف نفسي في الداخل”.
وأصبح منذ ذاك، أعز أفكارها- وهو فكر يصدق علينا جميعاً- أن نفسها بامتلاكها لله قد صارت سماء.
لقد قلنا، قبلا إن نفسنا هيكل. ويمكنّا أن نقول، أيضاً، بكل صواب: إن نفسنا سماء وفردوس.
“فالحياة هي أن نتناول الله، من الصباح إلى المساء ، ومن المساء إلى الصباح… إننا نحمله فينا، ونفسنا سماء له، قبل الأوان.
ويظهر أن احتلال ” الثلاثة ” مسكننا الإلهي هو سرّ القداسة . وهو أمر يسير. فما أجمل ذلك… يوم يرفع الستار، ونسعد برؤية الله، وجهاً لوجه.
وكتبت إلى أخت لها، فذكرت كلمة الرسول: “لستم ضيوفاً ولا غرباء. إنما أنتم من مدينة القديسين ومن أهل بيت الله.
وأضافت: “هذه السماء في صميم نفسك. أليس هذا شيئاً بسيطاً، شيئاً معزياً؟ فأنت، ما بين مشاغلك الوالدية، تقدرين أن تختلي في هذه العزلة… وإذا شئت أن تتسلطي على ذاتك، فما عليك إلا أن تدخلي إلى داخل نفسك، حيث يسكن الضيف الإلهي ، ويمكنك أن تفتكري في هذه الكلمة الجميلة : ” أعضاؤكم هيكل الروح القدس الساكن فيكم” ( 1 كو 16:3 ) وفي كلمة الرب : ” اثبتوا فيّ وأنا فيكم ” ويذكر أن القديسة كاترينا السيانية كانت تعيش دائمــاً في القليّة ، ولو كانت في وسط العالم، لأنها كانت تعيش في هذا المسكن الداخل…”
هذه الفكرة كانت تستولي عليها حتى في ريـاضاتها . فكتبت : “إن نفسي سماء، أعيش فيها، في انتظار أورشليم السماوية…” ثم توجز كل ذلك بعبارة بليغة : “لقد وجدت سمائي على الأرض لأن السماء هي
الله، والله في نفسي”.
وإن نعماً فريدة كانت توغل الأخت أليصابات في سرّ الله إيغالا خاصاً. وهذه السهولة “للإيغال في الداخل” وللحياة “في وحدة الواحد” لا يمكن أن ينالها على مثل هذا المستوى سوى من بودر من النفوس بمدد سماوي نادر. أو حفظ من مشتتات العالم الكثيرة.
ولسنا نزعم أن الجميع لهم هذه السهولة، ولكنا نقول إن الله يسكن في جميع من يكونون في حال النعمة ، وإنّ لنا ، مـع نعمة الله ، ومـع ما لدينا من وسائل العبادة، أن ندخل إلى داخلنا، متى أردنا أن نصلي- ندخل إلى نفسنا – لأن الله حاضر فينا ، وليس من مكان يكون فيه أقرب إلينا منّا.
وقد تنازل ربنا ففسر ذلك هو نفسه للقديسة مرغريتا مريم، فقال: “لقد اخترت نفسك لتكون لي سماء راحة على الأرض، واخترت قلبك ليكون عرش نعيم لحبي الإلهي”. ذلك حضور كانت تشعر به القديسة شعوراً. أما نحن، فإنا ندركه بالإيمان؛ ولكنه في كلا الحالين واحد، لا يختلف إلا بطريقة الإدراك.
وفسّر الآباء هذا التعليم في مواضع كثيرة. يقول أوريجان: “أنت سماء معدّ للسماء”، ويقول القديس أغسطينوس: “نحن سماء لأننا نحمل ربّ السماء”. وجاء في كتاب الاقتداء بالمسيح: “حيثما يكن الله، تكن السماء”.
ورأت القديسة ترزيا نفساً في حالة النعمة، فاختطفت بروحها
وكتبت: “ليست السماء وحدها مقراً لله، فثمّ مقرّ آخر في النفس يمكن أن ندعوه سماء أخرى”.
ونظرت هذه القديسة إلى مسألة حضور الله في النفس نظرة روحانية مثل جميع المؤلفين القدماء، غير أنها لم تغفل، عند اللزوم، ذكر أصولها اللاهوتية والعقائدية. وعندما أوردت قول أوريجان: “أنت سماء”، قالت: “إن نفسنا سماء صغيرة، فيها يسكن من خلق السماء والأرض”. فهل من شيء أعجب من أن نرى من تملأ عظمته ألف عام يأوي إلى كوخ ضيق مثل نفسنا!”
والقديس برنردس في كلامه عن النفس يقول: “لا يكفي أن ندعوها سماوية فحسب، بل ينبغي أن ندعوها السماء نفسها”.
ولا شك أن هذه “السماء ” وهي تختلف عن سماء الأبدية ، يمكنا أن نفقدها . لأننا نحمـل كنوزنـا ههنا ، في آنيـة سريعة العطب ؛ أما السماء الأخرى، فلا تزول. هذه “السماء” غير منظورة فينا. والله حاضر ، لكنه لا يقع تحت حواسنا . فبين الإيمان وبين الرؤيا هـوّة فاصلة.
تأثرت طفلة (صارت بعد حين راهبة) من عبارة سمعتها في رياضة مناولتها الأولى ، وهي : ” إن جسدنا حجاب يمنعنا من رؤية الله ” . فإنه، والحق يقال ، لا مسافة بين النعمة وبين المجد إلا هذا الحجاب . عند الموت يسقط الحجاب، فنعاين.

الفصل الثالث

مسيح آخر

أن تكون النفس “هيكلاً” وأن تكون ” سماءً ” تلك حقيقة حالها متى كانت في حال النعمة.
ولكن لنا أن نتقدم خطوة أخرى، ونقول: إن المسيحي الذي يحيا الله فيه، هو مسيح آخر.
هو مسيح آخر، بقبوله تعليم المسيح، وباعترافه الظاهر والمكشوف بإنجيله . ثم إن إيماننا ، فعلا ، ينبغي ألا يكون لنا وحدنـا ، بـل يجب أن يشعّ وأن يظهر ما يميزنا من السمات: “البسوا يسوع المسيح”.
كم من معمّدين، وا أسفاه، يكتفون بهذا، فهم مسيحيون صورة، كمعالم الطريق.
المسيح هو مسيح آخر ، يجب أن يكـون مسيحاً ، وأن يحيـا ، أو يحاول أن يحيا ، مـا استطاع ، بخلاف العالم ، حياة يسوع المسيح ، في تفكيره وشعوره: “ليكن فيكم من الأفكار والأخلاق ما هو في المسيح يسوع” (فيلبي 5:2).
ثم ، ماذا كان القديس بولس يقصد بقوله : ” حيّ أنا ، لا أنا الحيّ ، بل المسيح حي فيّ ” ؟ كثيرون من المؤلفين يطبّقون هذه الكلمة على حضور – ربنا الإله الإنسان – فينا بالمناولة . أما القديس بولس فكان يفتكر في حضور الرب الروحي فينا بالنعمة المبررة، بكونه الكلمة. ولما كانت هذه العبارة بالغة منتهى الجمال في حقيقتها، كان الكثيرون يترددون في فهمها، حذرين، ويحاولون أن يلطفوها. والمفسرون الحقيقيون ليس عندهم هذا التردد. فالعبارة ينبغي فهمها، حرفياً. يقول الأب برات: “لماذا يتكلمون عن التشبّه بينما الرسول يقصد الوحدة الذاتية السرية؟” يجب علينا أن نكون كالمسيح، لا لأنه اتخذ إنسانية كإنسانيتنا، فحسب ، ولكن لأنه وهب إنسانيتنا فردياً ، حياة مثل حياته تماماً ، الحياة الإلهية عينها.
فعليّ ، إذن كمسيحي ، أن ألبس زيه ، وأتخلق بأخلاقه وألبس ، فوق هذا كله شخصه وأصير إياه.
إن المسيح يحيا حياة الآب . ” أنا والآب واحد ” . فعلينا نحن أن نحيا حياة الابن . ” ليكونوا واحداً ” ها هوذا الميثاق الإلهي ، الـذي ينبغي أن تسير على هداه حياتنا الفائقة الطبيعة. وما نشير إليه من التنقيحات الضرورية لا يغير شيئاً من مضمونه الجوهري. فهو- المسيح- لا يحيا حياة أخرى غير حياة الله نفسه، ونحن يجب علينا ألاّ نحيا حياة غير حياته. لأن حياته هي حياة الله ، وحياتنا هي أيضاً ، بالنعمة ، حيـاة الله عينه.
عندما أراد ربنا أن يفسر هذه الحقيقة التي نتكلم عنها، استعار هذا
التشبيه وقال: “انظروا إلى الكرمة، فإن ماويّة واحدة تجري في غصونها وفي جفنتها. فأنا الكرمة وأنتم الأغصان. فيّ ملء الحياة الإلهية؛ وفيكم، ما دمتم متحدين بي، الحياة الإلهية بالمشاركة” (يوحنا 1:15-6).
واختار القديس بولس مثلا آخر : تأملوا جسداً وأعضاءه ، تروا في الجسد وفي الأعضاء دماً واحداً وحياة واحدة. وليس للأعضاء حياة إلا بالجسم- فإذا انفصلت الأعضاء عن الجسم، جفت وماتت ، وصارت كلا شيء، ويظل الجسد يحييها وينعشها ما دامت متصلة به. هذه حال المسيح والمسيحيين. فالمسيح هو الجسم، وأنتم المسيحيين الأعضاء، فحياته تصبح حياتكم. وبما أن حياة المسيح إلهية تصبح حياتكم بهذا الاتحاد به حياة إلهية. فكونوا دائماً أعضاء المسيح.
لنتصور الآب والابن والروح القدس ، الثالـوث الأقـدس بحراً لا حدود له.
فيعزم هذا البحر جميعه، بسرٍّ من جودة الله اللامتناهية، وينبجس في حيّز، حوض وسيع ، لكنه محدود ، هو ذا ناسوت ربنا يسوع المسيح. أي أن في المسيح كل حياة الآب والروح القدس.
فغاية المعمودية هي أن تصلنا بهذا الحوض وما هو إلا المخلص، حيث ملء اللاهوت.
لقد اتصلنا بالمسيح في يوم عمادنا، وقبلنا به الحياة الإلهية، وجرت هذه الحياة به إلينا ؛ وهي لا تبرح تسيل ، في كل دقيقة فينا . مـا دمنا في حال النعمة . فإن حلت بنا خطيئة مميتة انقفل صنبور الاتصـال بيننا وبين الحوض الإلهي. فلابدّ حينئذ من سر التوبة ليفتح الممرّ من جديد للسائل الإلهي، لكي يصل إلينا.
هذا التشبيه على غلطته، يبيّن لنا مجمل صلاتنا بالله، بواسطة ربنا يسوع المسيح ، ويشرح لنا خصوصاً كيف يكفي لحياة الله فينا ، أن نبقى متصلين بالمسيح؛ وهذا ما نردده في ختام كل صلاة من صلواتنا، غذ نقول: بربنا يسوع المسيح، آمين، فيسوع المسيح يؤلّهنا. ولا شيء يصل إلينا من جانب الأمور الروحية إلا بيسوع المسيح.
إن مثل الجفنة والأغصان الذي اختاره الرب يصوّر أصـدق تصوير ما يبلغ إليه الإنسان عندما تنقطع عنه الحياة الإلهية. فيصير غصناً يابساً خالياً من الماوية: حطباً لنار جهنم. فإن فاجأه الموت، وهو منقطع عن السيال الإلهي، فقد هلك إلى الأبد! فهو، إما غصن حيّ متصل بالجفنة، وإما حطب يابس، ولا توسط بين الأمرين.
يقول القديس أغسطينوس: “ليس على المسيحي أن يخاف شيئاً أكثر من خوفه من الانفصال عن جسد المسيح. فإذا انفصل، لم يبق عضواً فيه، وإن لم يكن عضواً، لم تكن فيه حياة روحية. ومن ليس فيه روح يسوع المسيح، فليس معه، كما يقول الرسول”.
إن أمراً واحداً جدير بالاهتمام، وهو المحافظة على الاتصال. “مطعّمين بالمسيح ” ، ” متأصلين فيه ” حسب كلام القديس بولس ، فتجري فينا الحياة التي تجري في المسيح، وهي حياة الله نفسه.
ولكن إذا كـانت حياة الله هي جوهرياً عين الحياة التي في المسيح
وفينا، فإنها تختلف مقداراً وشروطاً.
فهو يمتلكها جميعها – ونحن نمتكلها بالمشاركة.
هو يمتلكها طبعاً – ونحن بالتبني.
هو يمتلكها بحق جسده – ونحن نمتلكها بالمعمودية.
هو يمتلكها امتلاكاً ممتنع الزوال – أما نحن فيمكنا أن نفقدها.
هذا ، ويحسن بنا أن يكون كلامنا عما تختلف فيـه الحياة الإلهية في ربنا وفينا أقلّ من الكلام عمّا تتفق فيه. وليس الخطر في أن نحسب نفوسنا مسيحاً أكثر مما نحن ، بل في ألا نقبل أن نصـدّق أننا مسيح على مقدار ما نحن.
ومن سوّلت له نفسه أن يستكبر أو يبالغ في حضور الله فيه، فحسبنا أن نقول له ما كان القديس برنردس يقوله لأحد رهبانه: “إن الحمار الذي حما ربنا ما كفّ أن يكون حماراً”.
فاشتراكنا في الحياة الإلهية ، كخليقة ، وكائن محدود ، لا يحوّلنا إلى الله، بل إنه يبقينا خلائق. ومن يفهم العقيدة المسيحية فهماً صحيحاً، يعلم ألا علاقة لها بالحلولية.
ثم إن النفوس المتعوّدة التأمل في السكنى الإلهية لا تنتفخ بذلك كبراً، بل تتلاشى تواضعاً . وتقول القديسة ترزيا : ” إن تأمل تلك النفوس فيما نالت من النعم يزيدها معرفة بشقائها. فهي ترتعد من أن تكون كسفينة مثقلة بحمولتها، فتغرق في قاع البحر”.
ثم إن خوفها مـن إمكان فقدها للضيف الإلهي يقلل من ثقتها بذاتها.
“وما يحدثه فيها هذا الخوف من الشعور هو من الشدة بحيث يستحثها أن تكون دائماً على حذر، وأن تستمدّ حتى من ضعفها قوة لئلا تفقد بذنب منها، فرصة واحدة يمكنها بها أن ترضي الله. وكلما شعرت بما يسبغه عليها من النعم، ازدادت خشية من إمكان إهانته وحذراً من نفسها.
إن ما يؤلم النفوس المسيحية أوجع إيلام ليس في أن نبالغ بحضور الله فينا.
ويرى الأب رميار أن مسيحيين كثيرين ، مـع إيمانهم بمواعيد الله لا يمكنهم أن يسلموا بسمو عظمتها.
“وهم يخافون أن ينسبوا كثيراً من الطيبة والكرم حتى إلى من يسمّونه الرب الكريم. ويقنعون أنفسهم أن في مواعيده مبالغة، عندما يسمعون أنهم مدعوون إلى أن يكونوا شركاء في الطبيعة الإلهية، وإخوة متبنين ليسوع المسيح، وأعضاء في جسده، وأبناء للآب السماوي، وإلى أن يحيوا منذ الآن، حياة الله، لينعموا أبدياً في سعادته؛ وأكثرهم يحسبون ذلك رموزاً وأمثلة.
قالت الحية في الفردوس : ” تصيران كآلهة ” وكـانت تكذب . أما نحن، فبالنعمة المبررة نصبح بكل حق وصواب “أبناء الله”، أناساً إلهيين، مسحاء آخرين”.
كتب كاتب، قال: “يقول لي الناس إني ابن برجل وامرأة، وهذا يدهشني؛ فقد كنت أظن أني أكثر من ذلك”. ما أكثر من لا يدهشهم ذلك، ولا يتوهمون أنهم أكثر من ذلك!…
فعقيدة حضور الله وسكنها فينا، بكونها العقيدة المركزية، تضع كل شيء في محله ، فنرى ما ينبغي أن نردّ بـه على الاعتراض الآتي : من يريد أن يعتبر أن الله فيه، في نفسه، أفلا يذهب من باله يسوع المسيح، يسوع الشخص التاريخي ، الجليلي ، المولـود منذ ألفي سنة ؟ أما تصرّح القديسة ترزيا، وهي حجة في الأمور النسكية ، أنها أهملت مدة التأمل في أسرار ناسوت المخلص، فأسفت من بعد على ذلك، طول حياتها؟
لا شيء أبعد عن الصواب في تعليم السكنى الإلهية من القول بأنا نحرم يسوع المسيح من المكانة التي يستحقها، مكانة الشرف.
فالعبادة لله، حاضراً فينا، لا تنفي العبادة ليسوع المسيح، بل هي بخلاف ذلك تتضمنها، وتفترضها، وتوليها كل معناها. هل صار الكلمة إنساناً لأمر، إلا لكي يأتي مع الآب والروح القدس إلينا، ويحيوا في نفوسنا، ويسمحوا لنا أن نحيا معهم الحياة الإلهية. ” شركتكم مع الابن في الله”.
فيسوع المسيح بكونه “كلمة”، هو علّة فاعلية في خلاصنا مثل الآب والروح القدس، وبكونه كلمة أيضاً يحيا في نفسنا المبررة.
وهو، كإنسان إله، علة آلية في فدائنا ، أي كان الأداة السعيدة التي افتدتنا ، ولا يزال يمنحنا ، بتعليمه ، وبكنيسته وأسراره ، جميع الوسائل للثبات في الإيمان.
وكإنسان إله، هو علة استحقاقية لخلاصنا، أي نحن مدينون بحياتنا
لمساعيه وتضحيته التعويضية.
وهو كإنسان إله أيضاً علة مثالية لفدائنا، أي المثال الإلهي الذي يكفي أن ننظر إليه، ونقتدي به، ونتبعه لنحفظ النعمة في هذه الدنيا، ونبلغ إلى المجد الأبدي.
إن بعض المؤلفين أو المفسرين يعزلون المسيح، بعيداً، عندما يتكلمون عنه.
فيجب إنصاف المخلص، إنه شخص تاريخي في تاريخنا الروحي كله. ولا ننس أن هذا المسيح البعيد ما جاء إلا ليقرّب الله منا، ويعيد الثالوث القدوس إلى نفوسنا، وأن علينا أن نبحث بالإيمان حتى نكتشفه إذ أنه موجود في أعماق وجودنا.
لا شك أن كثيرين يكتفون بالتأمل في يسوع البعيد، في الزمان والمكان. ويعيشون كأنه كل شيء يجري الآن، قريباً منهم، كما كان يجري في الجليل. ولكنا نقول: إن صحّ أنا نحن العائشين، الآن، قد كنا حاضرين عند يسوع الجليلي، مدة حياته، فيسوع ذلك الزمان ليس الآن حاضراً عندنا حقاً.
لكن الله، الآب، والابن وروح قدس حالة النعمة، حاضراً حقاً وحقيقة ، بالقرب منا – فينا – وما أسهل الأنس به على هذا الوجه ، بلا احتياج في مخاطبته ، والحياة معه ، إلى مخيلتي وإلى جهـود الانتقال على الخريطة إلى بعيد، بل حسبي فعل إيمان.
إن الله ليس بعيداً، إنه يحيا فيّ، في داخلي.
قال شاعر صوفي:
ومن عجب أني أحنّ إليهم وأسأل عنهم من لقيت وهم معي
وتطلبهم عيني وهم في سوادها ويشتاقهم قلبي وهم بين أضلعي
الفصل الرابع
“تحقيق” مواهبنا الفائقة الطبيعة

وجد في مذكرات الجامعي الكبير، أولّي لابرين، العبارات الآتية: “أنا مسيحي ، بنعمة الله . فهـل أفهـم ما معنى أني مسيحي ؟ . . . لا يكفي أن أكون مسيحياً بمقتضى العادة، والعاطفة. أريد أن أكون مسيحياً مستنيراً بالفكر ، والاختبار . أريد أن أفكّر فيما أنا ، وأرى مـا أنا… عليّ أن أراجع المبادئ وأتأملها وأتعمق في فهمها”.
لقد قلّ بين المسيحيين من عنده مثل هذه الرصانة في الحياة المسيحية، ومن لا يكتفي بإيمان عاطفي أو من قبيل العادة ، بـل يريـد أن يعرف ما يقدمه لنا العماد من الكنوز الفائقة الطبيعة.
والطيبون من المسيحيين لا يظهرون مسيحيين كـل الظهور لأنهم لم يحققوا مواهبهم الإلهية.
إن الله يسكن فينا بالنعمة. ونحن نعيش معه، وكأنه غير موجود. فتحقيق هذه السكنى يقوم بمعرفتنا أن ما نملكه هو فينا . وليس المقصود
أن نضعه فينا، بل أن نكتشفه، ونعمل على أن ما هو لنا يكون لنا.
وإلا فكيف يحرّضنا على الحياة المسيحية امتلاكنا كنزاً لا علم لنا بوجوده.
قد يقال: لا حاجة بي إلى التبحّر في طبيعة حال النعمة، متى كنت فيها. فأنا بدون خطيئة، وهذا يكفي. ومن ثمّ، فحياتي أهل للثواب ، وأعمالي صالحة ونفسي متحدة بالله.
نعم، لا حاجة إلى شيء، إذا شئنا أن نعيش مثل جميع الناس، ولكن هل تلك حياة مسيحية، حياة عدد كبير من المسيحيين؟ يقومون ببعض ممارسات، وهم يجهلون ، غالباً، معناها العميق، فهي خالية من كل حياة، لأنها لا فهم فيها لهذه الحياة.
“لو كنت تعلمين عطية الله!” لو كنا نفهم، ولو قليلاً، أحسن قليلاً، عطية الله!
إن مانعاً جسيماً يعترض هذا العلم بعطية الله. فجميع الحقائق الروحانية الفائقة الطبيعة هي جزء من العالم غير المنظور ، وعرضة لأن نمرّ بها مرور الكرام أي بدون انتباه.
فأول ما يلزمنا عمله هو أن نؤمن بحقيقة الحقائق التي فينا. إنها موجودة، ولكن يلزم أن نمتلكها.
ولا فائدة من هذا الاعتراض : “إني لا أشعر بشيء، إذن لا شيء هناك”.
إن ظواهر كثيرة في عالم المادة تمر بنا ولا ندركها: كهضم الطعام،
وتحوّله، والدورة الدموية. فهل ندهش، في عالم الروح، وفيما يلامس ظواهر روحية فائقة، ألا نبصر ولا نشعر بشيء؟ يجب أن نسلّم أن هناك عالماً موجوداً ، وإن كنا لا نراه ، وأنه من نظام أعلى من الذي نراه .
إن الله هو منذ الأزل غير منظور. ولم يظهر منظوراً ومحسوساً سوى ثلاث وثلاثين سنة. أفلم يكن موجوداً إلا ثلاثاً وثلاثين سنة؟ نحن لم نمتحن حسّياً حضوره، وهو مع ذلك حيّ أبديّاً”.
ونفوس موتانا، حينما تفارق هذا العالم، لا تبرح موجودة، وإن توارت خلف المنظورات . ومن فقد قوّة الكلام ، لم يفقد قوّة التفكير . لأنه ما فقد غير القوة على التعبير.
نحن إذن في عالم أرواح، لا في عالم أجسام لا غير، وعالم الأرواح أحق بالوجود من عالم الأجسام.
ولما كان الاعتماد كله عليه، أوصانا القديس بولس ألا نعتبر سواه: لا تعيشـوا على الأرض ، بل في السماء – لتكن حياتكم خفية في الله – لا تلتفتوا إلا إلى الأشياء التي لا تُرى . فالعالم غير المنظـور ليس عالماً بعيداً، أو مستقبلاً ، بل هو أدنى عالم منكم . قال شاعر يخاطب الله :
وما المسافة ما بيني وبينكم غير المسافة بين الروح والجسد
يقول القديس أغناطيوس: “يجب ألا نمرّ سريعاً بحقيقة نريد أن نستوعبها، بل فلنتوقف فيها، ونرجع إليها، ونحدّق فيها” . ويقول نيومن : ” إننا نحتاج إلى وقت طويل لكي نشعر بالأشياء ، ونفهمها كمـا هي ؛ ولن نفهم ذلك إلا تدريجياً”.
وإن كانت الحقائق المنظورة لا تدرك إلا بالتبصّر والصبر، فكيف بالحقائق غير المنظورة!
لا ريب أن بعض النفوس هي أوفر مواهب من غيرها لمثل هذا “التحقيق”، على حين يمكن الجميع أن يبلغوا إلى الضروري الكافي إذا تمرنوا على روح الإيمان.
وما كلامنا هنا إلا عن التقوى الممكنة للجميع.
إن الله قد أنعم على بعض النفوس بنعم خاصة. فالقديسة مرغريتا مريم كانت تشعر بحضور ربنا شعوراً حسيّاً- والطوباوي سوزو قال له ملاكه ، يوماً : ” حدّق ببصرك في صدرك ، فترى ” ، فـرأى شخصه قد أصبح شفّافاً وأبصر فيه الله. وقال الرب للقديسة كاترينا السيانية:
أنت الغير الكائنة وأنا الكائن . تأمليني في عمـق قلبك ، فتعلمي أني خالقك، فتكوني سعيدة”.
هذه الأحوال، وما هناك من نعم خاصة بنفوس ممتازة، هي خارجة عن درسنا الحالي المقتصر على حضور الله في كل نفس عائشة في حال النعمة. فمن يمكنه أن يمنع أي مسيحي أن يجدّ ويكتشف بالإيمان أن الله حيّ فيه.
أمضى إلى الكنيسة، فأجد الرب هناك مقيماً في بيت القربان. فأسجد، لأن يسوع موجود حقاً أمامي. فلماذا لا أسلك السلوك نفسه، لحضور الله فيّ بالنعمة؟
إليك وصف الأسقف بنسون لأحد معارفه : “إنه يبتدئ بفعل تخلٍّ
اختياري عن عالم المحسوسات، ثم يصدر فعل إيمان بحقيقة العالم غير “المنظور ” – ويجتهد أن يغوص في أعماق نفسه ، حتى يتـوارى كـل ما حواليه من صوت الأرغن، ووطء الأقدام، وصلابة المسجد الخشبي تحت ركبتيه، فيحسّ أنه عاد لا شيء، إلا قلباً يخفق، وروحاً يولّد صوراص لا تنقطع – هذه طريقة قد تكون صعبة، ولا حاجة إليها – ثم يغرق في الغوص حتى يسيطر حضور الله على روحه وقلبه، فيخضعان – عفواً لمشيئته تعالى . ويبقى على هذه الحال، مدة طويلة … وهو يرى نفسه في هذا المحل السري الذي بلّغه إليه جهده العنيف، حيث يرى الكنيسة وأسرارها من الداخل.
أكثيرٌ أن نطلب ، مـن كل مسيحي ، يريد أن يحيا إيمانه ، أن يسأل نفسه ، من وقت إلى آخر ، مثلما كـان يفعـل أولى لابرين : “أنا مسيحي بنعمة الله . . . فهل أفهم مـا معنى أني مسيحي . . . هل أفكّر في ذلك ؟”
ما أعظم ما نجد من العون الداخلي في هذا اليقين: “الله لا يفارقني؛ الله معي وفيّ ، الله يحبني ، إني متحد بمسيحه ، قلباً إلى قلب : روحه يهبّ فيّ هبوب نسيم النبوّة اللطيف، ليس لي إلا أن أصغي وأتبع، ليس لي إلا أن أفهم وأتذوق، وليس لي إلا أن أثق وأرجو؛ وحياتي ليست غريبة، يجب أن أتركها لكي أتبع المعلم؛ فهو نفسه يتبناها، ويختصّ بها؛ أسير وإياها معه، لا نطلّق غير الشرّ، ولا نجانب إلا ما يكون أقل خيراً. وصحبة الحبيب السماوي لا تلهيني عن تتميم أعمالي اليومية، بل تحثّني على
إتمامها ، فرحاً ، مثابراً ، لأن أعمالي هي أعماله نفسها.
أليست عظمة الإنسان النهائية هي الله، حقاً، الله الذي يحيا فيه، وإن لم يكن حيّاً فيه ، فهو يريد أن يحيا فيه ، حياة أكثر ، فأكثـر امتلاء.
قد ندهش، أحياناً، ونرتعد من أن مجتمعنا الحاضر كله “عالميّ”: حكومة، وخدمات اجتماعية، وإدارات وغيرها. حتى لنتساءل: “أي تبديل يحدث في العالم لو خلا من فائق الطبيعة، ومن الفداء، ومن الصليب، ومن يسوع المسيح نفسه؟”
– لا ندري ما نجيب، بل قد نضطر أن نقول: لا شيء، لا كثير ولا قليل من التبديل.
وتقع المسئولية في هذه الحال على عواتق كثيرة، ولكن القسم الأثقل منها إنما يقع على عواتقنا نحن المسيحيين، فإننا نملك كنوزاً ثمينة تناسيناها، ولم نحاول أن نفتش عنها.
لقد حان أن ” نحقق ” مواهبنا الإلهية ” بحياة النعمة الداخليـة – مع يسوع المسيح، كما كان أحد المهتدين يقول: “لست، يا نفسي، وحدك، فإن من يؤلهك يحيا فيك . لقد اتخذت الجنسية الإلهية ” .
ثم يواصل قوله: “يا لسموّ أبسط النفوس في أصغر الجسوم، وفي أفقر الملابس ! يا لسموّ هذه النفس التي مسّتها النعمة ! إنها غـدت قصراً خالداً لسكنى ملك الملوك ، ورب الأرباب ، الإله المثلث الأقانيم .
“ترى ، أهذا ممكن ؟ أهو معقول ؟ أن تملك النفس، وهي في حال
النعمة، جوهريّاً، الثالوث، وتعرفه حاضراً في روحها وجسدها، ويمكنها أن تحبه كما تحب عروس عروسها!…
فإن يكن الإنسان متناهياً في حقارته لاتخاذه جسده من تراب الأرض ، فإنه غير متناه في عظمته وغير متنـاهٍ في قوّته ، وفي نبلـه ، ما دام ، بالنعمة ، يشترك في حياة الله.
“فلماذا يعنّد الإنسان في تصغير نفسه، لمَ عناده، وهو في هذه العظمة ، حتى يعيش صغيراً؟”
يا لها من خطيئة إهمال مخيفة ! ويا له احتقاراً غليظاً “للواقع” أن تنتظم الجماعات أو تحاول أن تنتظم ، قصـداً ، بـدون أي التفات إلى مـا هو فوق الطبيعة ، وأن نحيا عمليّاً ، ونحن نجهل ، تقريباً ، جهلاً تامّاً ، ما هو الإنسان كما خلقه الله ، لا أنه جسد ونفس ، بل كما حدّده ترتليانوس : ” جسد ونفس وروح قدس ” .
ويا لها من كبرياء، ويا له من انحطاط ألا نرى في الإنسان إلا الإنسان!
لا يحق لنا، وقد اتخذنا “الجنسية الإلهية” أن نحيا بلا شعور “متعلمنين” ، ولا يحق لنا أن نقف جامدين ، أمام ” علمنة ” كـل شيء. يجب أن تكون لله مكانته في حياتنا، كما يجب أن تكون في حياة المجتمعات وحياة الشعوب.
إن بعض الشعوب تحاول أن تطرد الله، وتلغيه، وتُقنع الناس أنهم “ناس ، لا غير”. فإجبار الشعوب والأفراد على نسيان ما هو فوق الطبيعة وحرمانهم منه، هو الحكم عليهم بالهلاك الآتي. وما الجحيم إلا بعض “العلمانية العامة”، والبقعة التي اختارها الملاك الشرير والإنسان الخاطئ، حيث صار الله فيها كلا شيء.
نحن، بني الله، لا نحيَ كأبناء بشر عاديين . بل لنحيَ إلهيين ، ونعمل على أن يعيش من يعيش حولنا، عيشة إلهية. ولنحقق مواهبنا الفائقة الطبيعة، ونساعد النفوس على أن تفهم أنها مدعوّة إلى أن تحيا “بالله فيها”.
كان الأب جراتري ، عند ذكره مواهبنا الفائقة الطبيعة يقول: “إن الناس ، مـن عادتهم أن يمروا بالعجائب ولا يبالوا . أوَ ليس حضور الله في القلوب من أعظم العجائب ؟ فأين ، بين الناس ، مـن يفتكر فيه ؟ أو يهتم له؟” ويقول فنلون: “لا تؤاخذهم، فإنهم لا يرون شيئاً، ولا يفكرون في شيء.
“على حين أن الحياة ، مع الضيف الإلهيّ، هي الحياة الراهنة الواجب أن يألفها جميع المعمّدين. فأين هم من ذلك؟ أهناك واحد من ألف، أم من عشرة آلاف يعرف عطية الله وينعم بها!
“فماذا ننتظر حتى نستقرّ في هذه الحالة الراهنة، ونبلغ من كثيرين أن يعرفوا عطية الله وينعموا بها؟”.

الكتاب الثالث
الخطيئة المميتة
تقطع ما بيننا وبين الله

مما ” يحقق ” مواهبنا الفائقة الطبيعة أن نفتكر فيما نصير إليه ، منذ ما نستهين بها، باقترافنا خطيئة مميتة، ونطرحها بعيداً، كأمتعة بالية.
فبالنعمة المبررة ، يسكن الله فينا ، الله ، الآب ، والابن والروح القدس.
لننظر إلى ما تحدثه الخطيئة المميتة في علاقاتنا
بالآب
وبالابن
وبالروح القدس
وبذلك نتقدم ، خطوة ، في درس هذا السرّ المعبود الذي يشغلنا .
الفصل الأول

القطيعة بيننا وبين الله الآب

لقي رجل غني في الطريق طفلاً فقيراً، فلمّه، وتبنّاه. وأخذ يربّيه: يقوته، ويحوطه بعنايته. ويجلسه إلى مائدة أسرته فيشاركها في أفراحها ويفيد من علاقاتها ومن جميع ما توليه إيـاه مكانته فيها ” كابن ملك ” من الفوائد . وهو إن بقى وفيّاً، فأبوه المتبنّيه يشركه في ميراثه، لا يسأله شيئاً إلا أن يبقى في الأسرة، ولا يخون من لمّه، وآواه ورفع مكانته.
فلما شبّ الصبي، جعل يفكّر في أن يترك متبنّيه، ويهجر الأسرة وأحوالها، والميراث المنتظر وهو فوق ذلك، ينوي أن يتملّص من أبيه، ليحل محله، ويكون هو السيد. ولكن محاولته باءت بالإخفاق.
وكانت النتيجة أن احتفظ الأب الغني بجميع حقوقه وكل قوته وثروته، وطرد الولد العاق من داره إلى الأبد : ” اذهب . إني لن أعرفك، منذ اليوم”.
في هذا المثل وصف محكم لما يدعوه هلم اللاهوت “التبنّي الإلهي”، وبيان لما كافأ الإنسان به الله تعالى على تبنّيه المملوء حبّاً.
كان الله في الأصل قد منح الإنسان، زيادة على المواهب الطبيعية، رفعة فائقة الطبيعة، مجاناً، ووعده بالميراث السماوي، وبإمكان التمتّع، حتى في هذه الحياة ، بالعطايا الإلهية ، إذا ثبت على الأمانة والوفاء ؛ ولكن الإنسان، لما خدعه الشيطان بقوله : ” تصيران كآلهة ” ، زعم أنه ينزل الله عن عرشه، وفضّل إتباع هواه على طاعة الله. فأدّى به غروره إلى الطرد من الفردوس الأرضي، وإلى الحرمان من جميع المواهب الإلهية.
ورد فيما روى الأسقف دي سيغور، ما يأتي:
أضاع أحد الآباء طفلته في سوق مزدحمة، وظل زمناً طويلاً يبحث عنها، فلم يقف لها على أثر. وبعد أربع سنوات، بينما كان في مدينة لندن، يواصل البحث عن ابنته، إذ لمحها على مسرح بين جماعة من المصارعين . هـي ، لا شـك ، ابنته ! فصعـد نحـوهـا وناداها : ” يا ولدي ! ” فأشاحت البنت وجهها عنه ، ولم تتذكر أيامها الأولى، وقد أفسدها طول إقامتها في تلك البيئة الخالعة العذار، ثم عادت والتفتت إليه وقال : “أنت ؟ أنت والدي؟ . . . أنا لا أعرفك! والدي الحقيقي هو هذا، وأشارت إلى ممخرق كان قد هجم ليتدخّل ولا يدع الفريسة تفلت من قبضته.
وكم من مرة تدفع الإنسان شهوته الدنيئة، فيفلت من يد الله الرحيمة، ويرتمي بين أحضان الشيطان عدوه اللدود، ولا يزال الآب يطلبه، ويدعوه بصوت ضميره ، تارة . وبصوت الواعظين ، أخرى ، ويظل الشيطان من جهته يغريه بالأباطيل، ليسكت ضميره ويشلّ عزيمته.
وهل يتنكّر الإنسان لله لينال شيئاً ثميناً؟
– كلا ، بل سخافة لا تساوي قلامة. نستسلم جهلاً للا شيء: لنظرة، أو لقراءة ، أو لكلمة أو رغبة . يقول القديس أغناطيوس للخاطئ: “أأنت تكفي الله والله لا يكفيك؟ تطلب اللا شيء، خارجاً عنك، فاطلب، بالأحرى الخير الأسمى فيك”.
“فيك” . . . وهذا ما يكبّر، بالخصوص ، ذنوبنا.
قد تكون الإهانة من بعيد : غشّاً يمكن تفسيره ، أمّا الإهانة ، مواجهة ، لمن نرتبط به بمحبة وثيقة ، ومن هو فينا ، ومن هو ونحن واحد ، فإنها لتحدًّ غريب لا تسمح بها أدنى مبادئ الشرف ولا أبسـط
عواطف الحب.
البنت المخطوفة لم تكن مسئولة، لأنها لم تكن تعرف والدها الحقيقي. أما نحن ، فهل نعتذر بأننا لم نكن نعرف الله ، أم أنـه لم يكن طيّباً نحونا ؟
على أنه لا تكاد نفس تفرّ منه، حتى ينهض، سريعاً، ملاحقاً لنا، يكثر المساعي ويكرّر الدعوات، وهو يعلم بين أيّ أيد دنسة قد انطرحنا، وعلى أي قلب كئيب ارتمينا. فيدور حولنا … منتظراً فرصة ليتدخل وينقذنا. هو هناك، يداه مفتوحتان ، يبسط ذراعيه، منادياً، ومتوسلاً بجميع الأساليب، من الخارج والداخل ليرّدنا إليه: “يا ابني، هأنذا، أنا أبوك، أرجوك تعال! لو كنت تعلم كم أرغب في أن تعود ابني”.
يا له ملحقاً بديعاً لقصة الابن الشاطر، ولما يبذل من المساعي لكي يعود إلى بيت أبيه، ولقصة والد الفتاة وما يعانيه في سبيل الوصول إلى استرجاعها إليه. غير أن هذا ليس سوى صورة ضئيلة لاهتمام الآب السماوي، وطلبه للنفوس التي تبتعد عنه.
فماذا يعادل حنانه تعالى، من هذا القبيل، في معاملته شعبه المختار في العهد القديم.
كان هذا الشعب يتوارى دائماً عنه تعالى، بالرغم من كل ما كان يعمل لاسترداده. فلم يكن الترغيب ولا الترهيب ليؤثرا فيه إلا قليلا. يتوب نادراً، ويضل غالباً، لا يسمع إلى الله ولا إلى الأنبياء.
فيأسف الله ويقول : ” كفى ، يا إسرائيل ، لقـد دعوتك ، حتى
اليوم ، شعبي . فما أنت ، بعد اليوم ، بشعبي ” .
ويظهر إسرائيل التوبة والرجوع عن غواياته، فلا ينفّذ الله ما توعّد به ، بل يعفو عن ولده .
ولم يحدث ذلك ، مرة في التاريخ ، بل عشر مرات ، ومئة مرة، وكل مرة .. وما أكثر الأمثال التي أتى بها ربنا ليصوّر لنا اهتمام أبي العائلة باسترداد من ابتعد عنه بالخطيئة من أبنائه:
إذا أضاعت امرأة درهماً، فإنها تكبّ على البحث عنه في كل مكان! فتوقد سراجها، وتنظر تحت كل فراش، وتكنس البيت حتى تجده.
وإن شردت للراعي نعجة، يترك القطيع ويخرج مفتشاً عنها، بين الأدغال، وفي مسالك الجبال ، حتى إذا وجدها ، حملها على منكبيه وعاد بها إلى حظيرتها مسروراً.
ويقول الرب– وكأنه يبالغ في قوله–: “ويكون في السماء فرح بخاطئ واحد يتوب أكثر من الفرح بتسعة وتسعين لا يحتاجون إلى توبة”.
هذا ما يصنعه الله حتى يعيد إلينا الحياة الإلهية.
تقدم أحد العمال إلى الكاهن بعد سماعه عظة على مثل الراعي الصالح، وطلب منه أنه يعترف بخطاياه، وقال : ” إن مثل هذا الراعي الذي راح يفتش عن نعجته الضالّة قـد أثّر فيّ ، فقلت هـذا الخروف إنما هو أنا.
نعم هذا الخروف هو كل واحد منا عندما نبتعد عن القطيع.
الفصل الثاني
القطيعة بيننا وبين الله الابن

إن الخطيئة المميتة، تجاه الآب هي جحود فظيع. وهي تجاه المسيح الرب خيانة وحنث.
والحنث بالوعد، وخرق المعاهدات، سواء أكان ذلك بين شعب وشعب، وبين دولة والكنيسة، أم بين الإنسان وبين الله، فهو خيانـة وتمرد شنيع.
فكم قطعنا عهداً، إزاء الرب، عهداً احتفاليّاً مقدساً . . .
أما تعهدنا يوم مناولتنا الأولى أن نجحد الشيطان ونتبع يسوع المسيح؟ فإلى كم من الزمان أبرمنا هذا العقد ؟ أإلى يوم ، أم أسبوع ، أم إلى سنة، أم عشرين سنة ؟ – كلا ، بل قلنا : ” أرتبط بيسوع المسيح إلى الأبد” إلى الأبد؛ إذن في الحياة وفي الأبدية.
ومرت أيام حافظت فيها النفس على العهد.
ثم جاءت ساعة تجربة شديدة . ولنقدر أنها سقطت . . . سقطة مميتة.
ألم تتجدّد هذه السقطة ؟ . . . كنا عقدنا مع الله عقداً ذا طرفين. فمن مزّق العقد ؟ كنا قلنا وأكّدنا القول : ” أكفـر بالشيطان وأرتبط إلى الأبد بالمسيح”. والآن فإني أقول: “أكفر بيسوع المسيح وأرتبط بالشيطان. لم تبق لي علاقة بالمسيح. إني أجحده. وأريد الشيطان؛ هو يكون منذ الآن سيدي”.
لا ريب أننا بدون خباثة غريبة لا نقول صريحاً: “وأرتبط بالشيطان إلى الأبد”. ولكنا نقولها عمليّاً. فالإنسان، عند اقتراف الخطيئة المميتة، يقابل بين المسيح وعدوه، ويختار عدوه، بلا شك إلى الأبد.
فأي هلع يعتري الخائن ، يوم ينفخ في الصور ، وينادي : قومـوا يا سكان القبور، للوقوف أمام منبر الديان، وليجاوب كل إنسان عن خيانته العظمى، وعن كل ما اقترف من ذنوب لم يتب عنها؟!
فيقول له الديان: أنت حكمت على نفسك، أيها المسيحي، اذهب، لست أعرفك ، نزعت عنك العلامة الإلهية ، فلم يبق فيك غيرك، في حين كان واجباً أن نكون معاً، أنت وأنا. ابق على ما أنت، أنت وحدك.
كان من عادة المسيحيين الأولين أن يلبس المعمدون الجدد ملابس بيضاء، مدة ثمانية الأيام التابعة لعمادهم، وذلك تذكاراً لما تعهدوا به، يوم قبولهم في الكنيسة.
وقد احتفظت الليتورجية من تلك العادة بوضع البطرشيل الأبيض على رأس الطفل عند تنصيره، وقول الكاهن له: ” اقبل هذا ثوب البرارة، واجتهد ، خاصة ، أن تعيده غير مدنّس ، يـوم تقف أمام منبر الله ” . و “ربطة ” الساعـد البيضـاء والثوب الأبيض يفيدان المعنى نفسه ، في
المناولة الأولى.
فماذا فعلنا بما تعهدنا به، احتفالياً، من تلك الطهارة؟ كان ثوبنا إذ ذاك، بلا دنس. فهل حفظناه نقيّاً بلا عيب.
بينما كان الاضطهاد الفندالي على أشده، كان جاحد اسمه ألبيدوفور، يلاحق ببغضه شماساً متمسكاً بالإيمان. فلما بالغ في مضايقته، لجأ الشماس إلى رداء العماد الأبيض الذي كان قد ألبسه للجاحد، يوم قبوله في الكنيسة ، ولما لقيه، بسط الرداء ، ونشره كراية أمامه وقال له : “هاك، انظر ، أتعرف هذا الرداء ، إنك تدنّسه الآن ، وسوف يشكوك ، يوم الدينونة، فاحذر”.
ولو أن من نضحّي به، بلا اكتراث، لم يكن سوى شخص وعدناه وعداً ما، لهان الأمر.
ولكننا نعرف أننا مدينون لهذا الشخص بكل ما نملك من خير. وقد رأينا ما قاسى في سبيل فدائنا من الآلام وما دفع عنا من الثمن.
غير أن أهوال الآلام ، والدم المسفوك على الصليب ، كـل هذا قد ذهب، بسبب الخطيئة، ضياعاً، بل الأحرى بنا أن نقول، بسبب خطيئتنا نحن.
إن جلادي المسيح لم يكونوا أولئك الجنود الرومانيين الذين فلحوا ظهر المخلص بمجالدهم، وبصقوا في وجهه، وألبسوه خرق الأرجوان. ثم سمّروا يديه ورجليه على الجلجلة، وضربوا رأسه المكلل بالشوك بالقصبة.
إن جلادي المسيح الحقيقيين إنما هم نحن…
كان في إحدى الرعايا صليب كبير قد أوشك أن يتفكّك. فأحضر الكاهن حداداً وطلب منه أن يدقّ المسامير ويثبتها في الخشبة. فصعد الحداد السلّم حتى صار أمام المصلوب. وإذا به يشعر بإيمانه يستيقظ داخل نفسه، وتستولي عليه رعشة من الندم لتركه الممارسة من زمن طويل، فالتفت إلى الكاهن من فوق وقـال له وقـد تجمدت المطرقة في يده : لا أقدر، يا أبي، حقّاً، لا أقدر…
لو أن ذكرى المصلوب تنتصب أمامنا، عند التجربة، لكفينا شر كثير من السقطات.
وجاء في إحدى سير القديسين عبد الأحد:
أن امرأة مشبوهة السير طرق بابها ليلة، وهي وحدها، رجل غاية في الجمال، إلا أنه كان حزيناً كل الحزن. فدعته المرأة إلى مقاسمتها عشاءها، فقبل؛ وإذا بكل ما كان بين يديه من بياضات يتلطخ بالدم. فرأت المرأة من الواجب أن تغيّر الفوطة لكنها لم تلبث أن تلطخت من جديد.
ففهمت المرأة، إذ ذاك، أن الجالس أمامها ليس إنساناً كسائر الناس، إنما هو مصلوب الجلجلة؛ وكل ذلك الدم الجاري… هو ثمن خطيئتها.
أتراه خبراً صحيحاً أم رمزياً؟ لا فرق. وأصح الأخبار أن الخطيئة المميتة هي جحود للمسيح لا يعادله جحود.

الفصل الثالث
القطيعة بيننا وبين الروح القدس

إن السر الذي يجعلنا أبناء الله ومسكناً للاهوت هو سرّ المعمودية. ويمكنا أن ” نحقق ” حضور الثالوث الأقدس فينا بالنعمـة ، بنوع أفضل، إذا كنا نتأمل أحياناً في كل طقس من الطقوس التي نتحد بها بالمسيح.
فالطفل الصغير نحمله إلى الكنيسة ، ولكن لا يمكن أن يدخلها ، بل يجب أن يبقى في ساحة الكنيسة، لأنه ما زال “خارجاً عنها”.
ثم يأتي الكاهن ويلقي الأسئلة اللازمة، فيجيبه الشبين والشبينة عن الطفل الصغير: إنه يريد أن يكون ابناً لله.
ثم يواصل الأسئلة : ” هل تريد أن تعتمد ؟ – ” نعم أريد ” إلخ. حينئذ ، يأمر الكاهن بسلطانه الكهنوتي الشيطان ، قائلاً :
“اخرج أيها الروح النجس من هذا الطفل، وده المكان للروح القدس”.
يا لغرابة المقابلة! نفس هذا الطفل الصغير، من أجل الخطيئة الأصلية، يحتلها روح اسمه الشيطان. ولا يكفي أن يدعى باسمه ، بل ينبغي أن يعرف علناً بما هـو : ” روح نجس ” أي وسخ – ” اخـرج
ودع المكان” – لمن؟ “للروح القدس”.
وبقوة هذه الكلمة الجميلة، مثل جميع الكلمات الخالقة، ينهزم الشيطان ، ويدخل الروح القدس ، ويقيم ، مـا دام لـه أن يقيم . “نأتي . . . ونقيم ” .
كان الملك القديس لويس يوقّع رسائله باسم لويس البواسّي، باسم المكان الذي قبل فيه سر العماد ودخلت فيه الحياة الإلهية، وصار به مسيحيّاً. فمن الأعقل: أنحن، وقلّما نفتكر في عمادنا ، أم القديسون الذين يفكرون فيه بعاطفة الحب والحنان؟
الشيطان، هو، في ذلك، أحكم منا. فلم ينهزم ، دون أن يلتفت وراءه. وقد خرج بالرغم منه، ولكنه مستعد أن يعود، حالما تسنح له فرصة.
أما الآن، فالروح القدس يملك، سيّداً، في هذا الطفل. والشيطان لن ينفك يحاول الرجوع إلى ما يحسبه ملكه. هو لا يقدر أن يحارب الله في سلطانه ، ولكنه يقدر أن يحاربه في ” أملاكه ” من البشـر . وكـل ما يسعى إليه أن يطرد الروح القدس من قلب الإنسان، أن يعزله “ليملك” محله في نفوسنا.
علام يتراهن الشيطان والله في هذا الصراع؟ – إنهما يتراهنان على مواهبنا الفائقة الطبيعة ، يتراهنان على حياة الله فينا . لا أكثر من ذلك ولا أقل.
فلننظر إلى كل ما يدّعي الشيطان أنـه مستعد أن يعطينا إياه، بدلا
مما نحمل فينا من الغنى الإلهي.
لما أمّل أن يوقع ابن البشر ( المسيح ) في الخطيئة ، مضى بـه ، كما جاء في خبر التجربة بالإنجيل ، إلى جبل عال ، وأراه من هناك ، ممالك العالم كلها، وقال له: “أعطيك هذا كله ، إن وقعت ساجداً لي “.
وهذا الكلام الخلاّب لا يوجهه إلى نفس فريدة كنفس المسيح ، بل هو يعرضه على أية نفس كانت: كل ما يمكن من الكنوز ، هو مستعد أن يعطيه بدلا منه، كل الخيرات المادية. وهو يعلم أنه لن يخسر أبداً، لأن لا مقابلة بين ما يعطي وما يأخذ.
ولنفرض لحظة أنـه نجـح وسقطت النفس في خطيئة جسيمـة فلا شيء يظهر منها إلى الخارج.
ولو مرّ في الطريق شخصان: أحدهما في حال النعمة، والآخر في حال الخطيئة المميتة ، لما تميز أحدهما مـن الآخر . ولكـن ، في الحقيقـة ، ما أبعد الفرق بينهما.
فقد انتصرت الغرائز على مطالب الإيمان، بعد غليان الشهوات الرديئة، وقيّدت الإرادة وحكمت بالطرد على الروح القدس.
وبعد ما كان الكاهن قد قال : “اخرج أيها الروح النجس، ودع المكان للروح القدس ” . يعود الخاطئ فيعكس الكلمة التي جعلته مسيحياً ويقول : ” اخرج أيها الروح القدس ، اخـرج ، لسـت أريدك . اخرج إني أطردك ، اخرج مـن هنا ، اخـرج مني . أريـد منذ الآن، أن تسكن فيّ، أيها الروح القذر” – نعم، هوذا البدل الغريب الذي يحل محل الله.
إن سكنى الشيطان الظاهرة أمست نادرة؛ والله لا يسمح بها عادة، غير أن كل مـن يقترف خطيئة مميتة يمكن تسميته مسكوناً – ولا بدع في ذلك.
قد حدث في الثورات أن أشخاصاً لا ضمير لهم أجبروا الله أن يجلو عن كثير من الكنائس، إذ حطموا أبوابها بالفؤوس ، وطردوا من كان فيها من العباد، مما استحق أن يدعي تدنيس القدسيات.
فمن أحق بأن يدعى مدنّس الأقداس من شخص يطرد الله لا من هيكل مادي ميت ، أو كنيسة من حجر ، بـل من هيكل حيّ ، من نفسه !
والروح القدس . ليس أقـل قداسة مـن جسد الرب القدوس ، ولا حضور الأقنوم الثالث فينا ، بين الحضورين الحقيقيين ، أقـل “حقية” من حضور الأقنوم الثاني في الهيكل الإلهي.
إن تساهلنا في ترك نفسنا ، الهيكل المكرّس ، للتخريب ، مرجعه إلى نسياننا الغريب للحقيقة التي طالما ذكّر القديس بولس بها المسيحيين الأولين، بقوله: كونوا أطهاراً، أعفاء وقديسين، متجنبين كل خطيئة؛ “لأن الله يحيا فينا، ونحن هياكل الله”.
فعلينا الآن أن نرى: لا كيف يساعدنا فهمنا لسكنى الله فينا على حفظنا من الخطئية ، ويهيئ لنا الأنس بالله ، بـل كيف أن افتكارنا في أن الله فينا يوسع هذا الأنس إلى أبعد الحدود.

الكتاب الرابع
النعمة وعلاقتنا الممكنة بالله فينا

نرى مما ذكرنا حتى الآن أننا يمكنّا، ويجب علينا نحو الرب المقيم بالنعمة فينا، أن نأنس به أنساً مفهوماً شهيّاً، في كل وقت. ولم يخش مؤلف ” الاقتداء ” أن يقول : ” إنه أنس فائق الحد ” لائق بمؤالفة الله العجيبة.
فلندعْ جانباً كل اعتبار الاتحاد الصوفي – Mysilque- ونتحدث عن العلاقات البديهية بين كل نفس مسيحية، وبين الضيف المعبود الذي يحيا فيها.
ولنبيّن، تجنّباً لكل التباس، ما معنى “الصوفيّة”. فإنها على حدود المادة التي نعالجها. فإنّ قوانا ترتفع بنوع عجيب حتى نصبح أهلاً لأن ندرك ، بشكل غير عادي ” سكنى الله فينا ” وهـذا الحضـور الإلهي فينا ، المدرك بديهيّاً بالإيمان ، يغدو صوفيّاً . وقد ندرك ذلك بمعرفة مباشرة تكون أشد أو أخف تأثيراً، وأطول أو أقصر مدة ، وأعلى أو أدنى سموّاً، أو أن الله، الحاضر فينا بالنعمة يظهر لنا بنوع آخر، كأن يظهر بناسوته مثلاً.
ولذلك يكـون صوفيّاً كل مظهر ينجم عنه تقوية الحضور العادي
البديهي فينا ، بنـوع غير اعتيادي ، أو إضـافـة حضـور آخـر غير اعتيادي عليه.
والحياة الصوفية لا تكون، في بدء أمرها، سوى فوران حياة النعمة المشتركة، بين جميع النفوس الخالية من الخطيئة المميتة.
ثم إن النفس لا تغدو، غالباً، صوفية، لأن عندها ما ليس عندنا، ولكنها تملك الضيف الإلهي بنوع أحسن وأسمى منا.
ومما لا ريب فيه أن حياة الله فينا هي أساس التقوى البديهية، وأساس التقوى الصوفية. ويقول الأب ديجران مازون: “من يستطيع، بوسائله الطبيعية أن يدرك بعض مشاهدات نفسه العقلية، يتمتع حقّاً بمشهد أشبه يفجر الحالة الصوفية، ولكن بدون أن يشعر بعذوبة المحاسن الفائقة الطبيعة”.
فلنرَ، بعد عرض هذه الاعتبارات العامة، ما يمكن أن تكون علاقات كل مسيحي عادي:
بالآب
والابن
وبالروح القدس.
الفصل الأول
علاقات المسيحي العادي بالآب

“اعلم حق العلم أنك لست بالإنسان الذي يريده الله، لست بالإنسان الحقيقي، كما يتصوره تعالى، وكما تتصوره أنت، حين يحوّم مثالك الأعلى فوق روحك. ماذا صنعت بالحياة حتى الآن؟ أين حججك بتبنيك الإلهي؟ هل أنت ابن الله بأفعالك وأفكارك؟ – كلا . فابْكِ ، إذن، حياتك المدنّسة، الباطلة، العقيمة، فتجد الله عند دمعتك الأولى”.
هذا ما يقوله الأب جراتري لمن يعيش في الخطيئة.
أما النفوس التي تعيش عادة أو دائماً في حال النعمة ، فهل تدري ما يقدّم لها من الوسائل تبنّي الآب السماوي لها، إنه يمنحها حياته عينها، حاضرة فيها- بمقدار ما تستطيع الخليقة بقوّتها أن تترك الله مدخلا إليها.
إن للتبني البشري نظاماً شرعياً، قانونياً يولي المتبنَّى أن يشترك في اسم المتبنِّي، وشعارهن وميراثه؛ لكنه لا يستطيع أن ينقل إليه دمه.
أما التبنّي الإلهي، فإنه يحيينا بحياة الله نفسها… بشهادة القديس بطرس الصريحة في رسالته الثانية (ف 4:1): “وبه وُهبت لنا المواعد الثمينة العظمى، لكي تصيروا بها شركاء في الطبيعة الإلهية.
يقول مؤلف كتاب ” نحو القمم ” : لا سبيل إلى الشك في أن الحياة الرفيعة التي وعدنا بها يسوع المسيح وأعطانا إياها، هي اشتراك في حياة الله نفسها: وعندنا الدليل القاطع على أصلها، فهي تصدر من أعماق الآب مثل كلمته؛ وقد أعدّها وهيأها الابن الذي استحقها لنا بتضحيته. ويوزعها الروح القدس في النفوس دفقاتٍ سريةً من هذا الينبوع المتجه نحو البشر ، بحيث أصبح كـل من قبلوها أبناء لله ، مولودين على هذا المستوى العالي ، لا من دم ، ولا مـن مشيئة لحم ، ولا مشيئة بشر ، بل من الله . فنحن ، حقاً ، شركاء في الطبيعة الإلهية؛ تحلّ فينا ، بذاراً إلهياً ، فنحمل الله في جسدنا ؛ وروح الله يحيينا ويرشدنا، والبذار الإلهي فينا يحولنا كما تحـول النار الحديد ، فنصبح ، إذ نحن ممتلئون من اللاهوت ، هياكل الله الحيّ”.
لا يمكن أن نلخص، بأحسن مما تقدم، قصة كياننا فائق الطبيعة، ولا طبيعة ما يمكن – بل ما ينبغي – أن يكـون بيننا وبين الثالوث الإلهي، ولا سيما الله الآب، من الصلات . إن كلمة واحدة تعني كل شيء، وهي: أننا نصبح حقيقة . لا مجازاً أبناء الله.
ويتحتم علينا ، إذ ذاك ، إن كنا قد فهمنا شيئاً من عقيدة النعمة المبررة ، أن نحب الآب القدوس حبّاً بنويّاً خالصاً.
فأي فرق بين سيد عظيم يرتضي بعلاقات خالق بشيء يخصه، وبين أبينا الحبيب؛ بين إله بعيد لا يكترث لنا، وبين إلهنا الذي أزال المسافات ليحيا فينا.
كان الإنسان عبداً مملوكاً، فأصبح واحداً من الأسرة يمكنه فيها أن يدعو الله أباه .
هو أخو يسوع المسيح، يقول معه: أبانا الذي في السماوات. وهو من دم يسوع نفسه، ويسوع من دم أبيه. يسوع هو الابن والمسيحي يمكنه أن يدعى ابناً: بالتبنّي لا غير، في حين أن يسوع يحيا بجوهر اللاهوت طبيعيّاً، والمسيحي يحيا بالنعمة ابناً حقيقيّاً مختاراً، بين ألف، لأن الله “بمشيئته ولدنا بكلمة الحق ( يعقوب ، 1 : 18 ) ، وبما أننا أبناء ، يرسـل الله روح ابنه الذي بـه ندعو أبـا الآب ( روما، 8 : 15 )،
وبما أننا أبناء، فنحن إذن ورثة .
والمسيح بكرنا لا يشاء أن يستأثر بالميراث وحده، بل لم يأت إلى الأرض إلا لكي يملِّكنا إياه، ويشركنا في سعادته.
أما صعد نحو الآب ، بعد إقامته حيناً بيننا ، لكي يعد لنا مكاناً ؟ ثم يعود فيأخذنا يوماً، لأنه يرى أن نكون حيثما هو كائن.
ولن يبقى ، حينئذ ، هـذا ” الضيف الإلهي ” في هذا الجو الضيق من سماء نفسنا ، بل هناك ، يكون الأنس بلا حجاب في ملء النور ، وكمال الفرح، ولا تناهي السماء : “ادخل فرح سيدك” (متى 21:25).
سألت نفس قديسة : ما الموت ؟ . . . ثم قالت : هـل المـوت إلا قفزة في حضن الآب ! إن إقامتنا هنا وقتية . و ” آلام هـذا الـدهر لا تقاس بالمجد المزمع أن يتجلى فينا . فإن الخليقة في انتظار ، تتوقع تجلّي المجد في أبناء الله. لأن الخليقة قد أخضعت للباطل… وستعتق من عبودية الفساد إلى حرية مجد أبناء الله. ونحن نعلم أن الخليقة كلها تئن وتتمخض حتى الآن (رو 19:8-22).
سينتهي الموت، يوماً، ونعاين ” عند حيازة الميراث ، تجلّي حريّة أبناء الله المجيدة . ونحن نعلم أنه إذا ظهر ، نكون نحن أمثاله ، لأننا سنعاينه كما هو ” ( يو 2:3 ) . والذي أعدنا لذلك هو الله الذي أعطانا عربون الروح”. (2كو 4:5-5).
وحينئذ يكون ملء الكمال في الوحدة .
لم يأت المسيح إلى الأرض لأمر إلا ليلقي فينا، منذ هذه الحياة ،
حياة الآب ، حياته حتى نكون ، أبدياً، معه ، في وحدة مشرقة . وهذه الحياة تستمر وتتفتح فينا ، كما طلب من الآب : ” كما أنك ، أيها الآب ، في وأنا فيك ، فليكونوا هم أيضاً فنا. أنا فيهم ، وأنت فيّ – لكي يكونوا مكملين في الوحدة ” . (يو ، 21:17-22).
هل من أمر آخر أحقّ بحبنا مثل هذا، أمر حياة الله في النفوس، محجوبة على الأرض، مشرقة في السماء؟
هل من مخطط مثل هذه الألوف من جداول النعمة، تسيل، هادئة، صادرة من أغوار عميقة تجري بالرغم عما يعترضها من مختلف العوائق، نحو المحيط غير المحدود.
هل من مأساة كهذه المأساة: مأساة نفس يريد الله أن يحيا فيها، وهي تطرده ؛ أو نفس فارقها الله، وهو ، لحبه لها ، لا يني يحاول أن يعود إليها، منتظراً لحظة توبة منها أو بارقة حب يستطيع أن يدخل منها إلى هذه المدينة الميتة؟
ما أقل من يفكّر في هذه الحقائق من المسيحيين! وما أقل من عندهم هذه العبادة لأبي العائلة، في حين أن تبنيّنا الإلهي يحثّنا عليها، والصلاة التي علمنا إياها الرب “أبانا” إن فهمناها، فإنها تسهل علينا ممارستها.
أتلو الصلاة وفي النفس غرض.
لما علّم ربنا رسله صلاة “أبانا” ، م يقل لهم : إليكم صلاة من الصلوات تتلونها . إليكم نموذجاً أو مثالاً للصلاة.
بـل قال : متى صليتم ، ” فصلّوا هكـذا ” ( متى ، 9:6 ) فليس
عندنا ، إذن ، نماذج كثيرة للصلاة المسيحية – فالصلاة المسيحية هي صلاة المسيح ” أبانا ” التي ألّفها لنا – ” صلّوا هكذا ” . وقوله أمر صريح.
وليست أبانا الصلاة الأولى بين الصلوات، بل هي الصلاة الواحدة.
وهذا لا يعني أنها صلاة لا يمكن تبديل صورتها ، أو أنهـا تمنع التفتح التلقائي ، والارتفاع الشخصي ، والبداهة الفردية.
ولكنها تعني أن كل صلاة سواها لا تكون مسيحية إلا إذا أنبجست منه ، أو كانت توسّعاً فيها . فهي لا تقبـل أي تغيير جوهري فيها ، ولا أية زيادة أساسية عليها، لأنها مثال أصيل للصلوات جميعها؛ وجميع الصلوات ينبغي أن تتمثلها ، وتعكس ضوءها ، دون أن تحرفها.
متى صليتم ، فصلوا هكذا : ” أبانا الذي في السماوات ” . . .
” أبانا . . . ” هذه الصلاة هي دعامة تسند جميع صلواتنا الخاصة، وهي روح تقوانا الشخصية وحياتنا الداخلية.
“أبانا …” كثيرون لا يرون في ألفاظها الرقيقة سوى مقدمة لاستعطاف الله علينا.
على أن فيها أكثر من ذلك . هي تعبير عن الحقيقة التي ينبغي أن تدور حولها كل حياة دينية ، وتشعّ منها كل حياة مسيحية . لقـد كنا من قبل أبناء الغضب، فكلمة “أبانا” تذكرنا أننا عدنا ” أبناء الله ” . ولكن تعوّدنا إياها قد أضعف من قوّة معناها.
نحن ” أبناء الله ” ولا نرى في ذلك غرابة، بـل واجباً. نقـدر أن
ندعو الله أبانا ، ونحن العدم ؛ ندعوه أباً ، ونحن خطيئة .
كان هذا يدهش القديس بولس . فيقول : لكـن الروح فيّ ، الروح القدس، روح الآب هو يعرف الأبوة التي أطلبها في الآب .
وقد أفهمنا ربنا ذلك بأمثاله : “إن الأم تحب حقّاً . ولكن أين حب الأم من حب الآب السماوي – تأملوا زنابق الحقل، فإن سليمان، في كل مجده ، لم يلبس كواحدة منها. وانظروا طير السماء ، ألا يضمن لها خالقها رزقها ؟ أوَ يكون أكرم للزنابق وللطير منه لكم أنتم ! ”
“أبانا” كلمة تعبّر عن أجمل ألقاب الله .
الله عادل– نعم ، ولكنه أب. ورهيب– نعم ، متى لزمت الرهبة . ولكنه لا يزال أبداً أباً.
ومن المؤسف أن نرى كثيرين من المسيحيين الطيّبين خالين من الروح البنوي ، يفقدون الثقة بأبيهم، عند أول محنة .
وإن حلت بهم شدة ، اتّهموه ، ولم يتورّعوا من أن يعدّوه ظالماً – الله ظالم ؟ هل تأملنا في كلمة “أبانا” ؟
ويسقط الواحد في خطيئة – بعد سقطات أخرى كثيرة . فيستولى عليه اليأس ؛ لقد كان وعد وقصد … أيسقط ثانية ؟ هل يغفر الله له ثانية … الله حقود ؟
إن أباً من البشر لا يقوى على الحقد. فهل من خلق قلوب الآباء الآدميين يمكن أن يكون حقوداً ؟ – يا للحماقة ! فإذا خطئنا ، فلا نضف إلى خطايانا خطيئة هي ألف مرة أفظع من جميع خطايانا، وهي خطيئة الارتياب بأبينا.
هل ارتاب الابن الشاطر، لحظة، بأن أباه كان ممكناً أن يطرده؟- كلا ، ولا . بل قال : أقوم … وأمضي إلى أبي !
إن الروح البنوي الحقيقي يفهمنا أن أول ما نسأل في “أبانا” هو تقديس الله فينا وتمجيده، وذلك في ثلاث تمنيات:
“تقدّس اسمك !” لسنا نقول هذا تمنياً لله أن يتقدس بصلواتنا ، بل نطلب منه أن يتقدس فينا . ومن ذا يقدّس القدوس نفسه؟
“ليأت ملكوتك” نطلب مجيء هذا الملك كما طلبنا أن يتقدس اسمه تعالى فينا – أما الله، فمتى لا يكون ملكاً؟ – إنما نطلب مجيء مُلكنا، الملك الذي وعدنا الله به وغنمه المسيح بدمه وآلامه. نعم ، بعد أن نخدم المسيح على الأرض، نملك يوماً في ظل عظمته.
“لتكن مشيئتك على الأرض كما هي في السماء”.
لا حاجة إلى هذا الدعاء ، لكي يفعـل الله مـا يشاء . ونحن ، إذا ما دعوناه فما ذلك إلى لنتمم نحن إرادته . فمن يقـدر أن يمنع الله من فعل ما يريد؟ – لا أحد – ولكن بما أن الشيطان يمنع نفسنا وفعلنا عن طاعة الله، نطلب في صلاتنا أن نتمّم إرادة الله فينا.
“أعطنا خبزنا كفاف يومنا”.
يمكنا أن نفهم هذه الكلمات فهماً حرفيّاً أو روحياً. فكلا المعنيين سواء. فخبز الحياة هو المسيح، نطلب الحصول عليه كل يوم.
ويمكنا أن نفهم أنا نطلب الغذاء الضروري. ولا يمكن أن ينقص البار الطعام اليومي، كما كتب: “لا يترك الرب نفساً بارّة تموت جوعاً” ( أمثال ، 93:10 ) ” كنت شابّاً وقد شخت ، ولم أر قط صدّيقاً مهملا ولا ذرّيته تطلب خبزاً” (مز ، 25:36).
“واغفر لنا ذنوبنا كما نغفر نحن للمذنبين إلينا”.
إننا نلتمس مغفرة خطايانا، فنحيا بالله. إنه تعالى يترك لنا ما علينا من الذنوب كما يقول الإنجيل : ” تركت لك كل ما كان عليك ، لأنك سألتني” (متى ن 32:18 ) .
“ولا تدخلنا في تجربة ”
من الضروري أن نعلم أن العدو لا يقـدر على شـيء ضدّنا ، ما لم يأذن له الرب به، ولا يمنح الله الشيطان هذه السلطة على تجريبنا، إلا قصاصاً لخطايانا ، كما كتب : “من جعل يعقوب سلباً وإسرائيل نهباً؟ أليس الرب الذي خطئنا إليه، لأنهم أبوا أن يسلكوا في طرقه ويسمعوا شريعته ، فصبّ عليهم ضرام غضبه ” ( أشعيا ، 24:42 ) .
“لكن نجنا من الشرير”
هذه الطلبة هي خاتمة الصلاة وفيها مجمل طلباتنا وتمنياتنا. فإننا بقولنا: نجنا من الشرير نشمل كل من يحرضهم العدو علينا من الخصوم، وننال بتوسلاتنا من الله حماية صادقة وقوّة تنصرنا عليهم.
ومتى قلنا : “نجنا من الشرير” لم يبق ما يلزم أن نطلبه، لأننا طلبنا إجمالاً حمايتنا من كل شر. فماذا يخشى من العالم من كان الله في العالم حاميه.
نحن أبناء ، فلنا على أبينا أن يقوتنا، ولنا عليه أن يغفر لنا ، وأن يحمينا وينجينا من الشرير.
فالصلاة هي أن نعيش ” في بيتنا ” لا داخـل نفسنا فحسب ، بل في حضن الأسرة الإلهية الساكنة فينا . ونعيش في جو من الفرح ، والتسليم ، والثقة بأننا ننال من أبينا كل ما نطلبه ونتمناه.
كانت القديسة ترزيا تقول : ” يا إلهي ، إني أؤمن أنك الجودة كلها، والقدرة كلها ، وأنك تحبني . وهذا حسبي “.
فماذا يمنعنا أن نخاطب الله بمثل هذا الكلام في حالتي الفرج والضيق؟!
الفصل الثاني

علاقات المسيحي العادي بالكلمة (الابن)

نزل الكلمة إلى الأرض لكي يعطينا الحياة، حياته نفسها. حياة الله التي فقدها آدم.
لم يأت لأمر آخر إلا لعظمة هذه الحياة الإلهية فينا، عظمة نفسنا المؤلّهة.
“في البدء كان الكلمة، والكلمة كان عند الله، وكان الكلمة الله. كان ذلك في البدء لدى الله… فيه كانت الحياة” (يو1).
في الكلمة كانت الحياة، هذه الحياة التي كان الله قد يشاء أن يشرك الإنسان فيها منذ البدء، وهو يشاء بمعجزة من الحب أن يعيدها إليه، بالرغم من خطيئته.
فتجسد الكلمة . واقتربت الحياة البعيدة منا كل الاقتراب . فهوذا
الجوهر الأسمى يخفي ملء لاهوته لكي نقبله، آتياً إلينا في طبيعة إنسانية مثل طبيعتنا. فيكوّن منها شخص المسيح. وتصير حياة الكلمة حياة الإنسان الإله.
وتجري الحياة من هذا الإنسان الإله في الناس الآخرين المدعوّين جميعاً إلى أن يكونوا ” مشابهين له ، ويصبحوا إخوة ليسوع المسيح، البكر بين إخوة كثيرين” (رو ، 29:8).
هذه الفكرة – أننا إخوة المسيح ، وأنه البكر بيننا – تصدم بعض النفوس. فمن ألمّ بمغزاها، يشعر بما فيها من الغنى. ومن استغرب يتهيّب ويقول: إذن ، لا يكون بيننا وبين المسيح فرق؟
يرى هؤلاء في الله صورة “يهوه” الرهيب، متمنطقاً بالصواعق والبروق، لا يدنو منه أحد إلا حافياً، معفّر الجبين في التراب، هو العدل والعظمة الإلهية. هؤلاء تقوم تقواهم إما التأمل في ضعفهم وسقطاتهم، وإما بمطالعاتهم المتواترة في العهد القديم، أو في تذكرهم حكايات قديمة قرءوها في بعض الكتب أو سمعوها في المواعظ.
أما الآخرون، وليسوا دونهم احتراماً لله، فيذهلهم ما يبديه تعالى من الجهد لإخفاء قدرته، ولتقرّبه منا ، وهم ، إذ يرون فيه الديان العادل، يفضلون أن يروا فيه الصديق الرحيم.
ويرون أنه لا أنس ولا ألفة بدون لقاء وشيء من المساواة. ولمّا كان الكلمة قد قام في تجسده بكلا الأمرين، اتخذوا من ذلك فكرة مركّزة تسيطر على حياتهم ، يعبّر عنها مؤلف كتاب الاقتداء بالمسيح ، في الكتابين الأخيرين الثالث والرابع. فاقرأ الفصل 13 من الكتاب الرابع تجد نموذجاً لهذه الروح.
” من لي يارب ، أن أجدك ، وحدك ، وأفتح لك قلبي رحباً ، وأتمتع بك ، ملء شوقي . . . امنحني ، يارب ، أن تثبت فيّ ، وأثبت فيك، فنصبح واحداً”.
ويقرب من هذا كوننا أعضاء في شركة القديسين. فإن تأملنا في يسوع أخينا الأكبر يدفعنا ، بداهة ، أن ننظر إلى مـن يجهلون الحيـاة من إخوتنا إخوة المسيح ، فنندفع إلى المضيّ إليهم لنعينهم على الخروج من الموت إلى الحياة.
هكذا، تمضي النفوس السخية إلى أقاصي الأرض لتروي قصة السامرية والماء الحيّ الذي يروي جميع العطاش.
“فليكونوا واحداً”.
كل حياة مسيحية ينبغي أن تندمج بالمسيح، نظير الأواني المستطرقة. فمتى نقصت الحياة في نفس أو انقطعت عنها، يفقد المجموع كله كثيراً أو قليلاً من الحياة ، وإن زادت الحياة في نفس زادت في الجميع .
“فليكونوا واحداً” – يقول القديس أغسطينوس: “إن المسيحيين جميعهم يؤلفون جسد المسيح السري ؛ فيسوع حجر الزاوية الحيّ ، ونحن حجارة البنيان الحية الباقية. يسوع ونحن والنفوس التي في حال النعمة كتلة واحدة ، كاتدرائية واحدة ، قلب واحد ، حب واحـد ، كلّ واحد: الكل الواحد”.
لقد أعطى الله النفوس أن تحيا معاً ، وأن تحيا معـه . فنبضـات كل قلب تسري إلى كل قلب آخر ؛ وقوة كل قلب وفضيلته تنتقـل إلى كل قلب آخر، وهكذا تتقدس النفوس بقداسة بعضها. وكل عضو يعمل لقوّة الجميع.
وهناك نفوس تستريح إلى فكرة الجسد السريّ.
فقد جاء الكلمة إلى الأرض، واتخذ له جسداً، وصار وسيطاً. لأنه يريد أن يشرك في عمل فدائه جميع من يقبلون أن يشاركوه فيه… يريد أن يكون محتاجاً إلينا ، لا عجزاً منه عن القيام بكل شيء ، وحده ، ولكنّ حبه لنا يدفعه إلى طلب مساعدتنا . لقد كان قـادراً أن يخلص جميع النفوس، وحده. غير أنّ بعض النفوس لا تخلص بدوننا.
إن للتقوى طرقاً كثيرة. فالبعض يفضلون ، في عبادتهم للمسيح، أن يتأملوا في كلمة الله، وبعضهم في ناسوته.
وهاك مثلا، صلاة القديس أغناطيوس: “يا كلمة الله المحبوب، علمني أن أكون سخيّاً، فأخدمك كما يليق، بلا حساب، وأحارب معك بلا اكتراث لما يصيبني من الجراح، وأعمل بدون طلب للراحة، وأبذل حياتي، غير منتظر على ذلك أجراً ولا ثواباً، إلا معرفتي أني أعمل مشيئتك”.
ومنها صلاة الراهبة الكرملية، أليصابات الثالوث. فقد كان الكلمة الأزلي موضوع عبادتها المفضلة : ” أيها الكلمة الأزلي ، إني أريد أن أقضي عمري في الاستماع إليك، وأريد أن أصير قابلة للعلم ، حتى أتعلم كل شيء منك، أريد أن أحدّق إليك ، دائماً ، من خلال جميع الظلمات، والضعف والوهن، وأغرق في نورك الباهر. . .”
وآخرون يؤثرون التأمل في ناسوت المسيح، فيتجهون بفكرهم إلى طفولته، كالقديسة ترزيا الطفل يسوع . فالجميع يعرفون سيرتها ، وهي على ما فيها من الطراءة، ليس فيها شيء من الرخاوة.
فإن تقدمتها نفسها للرب، حتى تكون بين يديه كالكرة بين يدي طفل، يدحرجها ، ويقذفها، أو يثقبها بمسمار، أو يطرحها ويتركها في زاوية- إن هذا قد يبدو أول الأمر تافهاً، إلا أه يمضي إلى أبعد مما نتوهم من الجدّ.
ومؤسسة الكرمل نفسها، قد كانت عندها عبادة رقيقة للطفل الإلهي، من يوم ظهر لها على درج سلم الدير. فقالت له: “من أنت؟” فقال : “أنا يسوع ترزيا”. فقالت: “وأنا يارب، ترزيا يسوع”.
والقديس أنطونيوس رأى في صغره رؤيا. ذكرها مؤرخو حياته أنه أبصر أمامه طفلا صغيراً فاتحاً إزاره كأنه يريد أن يجمع فيه شيئاً ثميناً. فقال له: “ماذا تريد؟ ” فقال : ” أريد قلبك ” . قال : ” وماذا تعمل ؟ ” فقال: “أما ترى أني على الأرض، أفتش عن قلوب تقبل أن تحبني”.
والأب كندرون عاده في مرضه الأخير الأب أوليه. فسمعه يقول له: “اتخذ لك مرشداً الطفل يسوع”. فكان الأب أوليه يقول: “هذه الكلمات، ما كان أنفعها لي وأعزّها عندي”.
روح الطفولة هو عادة روح النفوس الداخلية . فإن تأملهـا في
سنوات ربنا الأولى لا يلبث أن يفضي بها إلى حياة إيمان حيّ، وخضوع تام وتسليم كلي لله لكي يحيا فيها، كما يشاء، وعلى قدر ما يشاء.
تقول بولين رينولد ، وهي إنجليزية تكثلكت وتكرملت: “إن الرب ناجاني طوال صباح بهذه الفكرة، فكرة احتياجي إلى روح الطفولة المقدسة. . . بأن أكون طفلا لا يقوى على الكلام ، ولا على المشي ، ولا على خدمة نفسه، بل هو محتاج إلى من يدوّره، ويقلّبه دون أن يستشيره . فاستمعت إلى المعلم ، فخرقت أقواله ذهني : ” حقاً ، مـن لا يولد ثانية، لا يمكن أن يرى ملكوت الله… يجب أن تولدوا من جديد… دعوا الأطفال يأتوا إليّ، فإن لهم ولمثالهم ملكوت الله ” . ونظرت إلى يسوع المثال ، يسوع التجسد ، ويسوع المهد ، والهـارب إلى مصر. ويسوع الناصرة. فأيّ سكوت، وأي خضوع وأي تسليم ! ”
فمن نالوا من المسيحيين بتأملهم بساطة الأطفال، يعرفون أكثر من سواهم ما يرمي إليه، وما يقتضيه منا هذا الميلاد الجديد، ميلاد الله في قلوبنا بالنعمة، مما يجعلنا “أبناء الملكوت”.
ثم إن فهم السكنى الإلهية ينمي فينا الروح القرباني أكثر من روح الطفولة.
وقد يتوهّم البعض، لأول وهلة، أن العبادة لله حاضراً في النفس يمكن أن تضر بالعبادة لله حاضراً في الهيكل (في القربان): فإذا كنت حاصلاً حقّاً على حضور الله روحياً، فالحضرة القربانية تكون دون منفعة وأقل اجتذاباً. ويمكني أن أستغنى عنها ما دمت أملك الله فيّ.
هذه نظرة سطحية، وهي حقاً باطلة. فالنفس، كلما زادت حياة بالله، ازدادت رغبة في أن تكون نفساً قربانية.
والنفس القربانية تحيا في “فعل الشكر” وهو معنى القربان (أوخاريستيا) وتبقى جائعة إلى التناول.
لأن المحب يرغب أن يزداد حبّاً ، والمالك يرغب أن يزداد ملكـاً ما أمكنه الملك. وامتلاك الله، الإنسان الإله هو أهم ما نرغب في امتلاكه، بلا شك ، لا يتمّ ذلك إلا بالتناول ، مما يقتضي حال النعمة.
والنفوس الروحانية تعلم ذلك، وتتوق إلى التناول المتواتر، وتعلم أيضاً أن تحوّل الخبز إلى جسد الرب يتم بكلمة، أما تحولنا نحن وسيرنا في طريق الكمال ، فإنـه يتطلب مناولات كثيرة ، وحضور الابن إلينا ، مراراً لا تحصى.
إن تأليهنا هو بلا مماراة، عمل الثالوث كله؛ وليس الأقنومان الأول والثالث أقل اهتمامً بتأليهنا من الأقنوم الثاني. لأن هذا التأليه يقوم بتبنّي الله الآب إيانا، وباتحاد نفوسنا بالروح القدس.
ولكننا قد أعطينا هذا الروح بيسوع المسيح، ونحن باتحادنا بيسوع المسيح ، وحده ، يعرفنا الله الآب كأبنائه ، ويحبنا الروح القدس .
وإذا كان تبريرنا هو عمل يسوع المسيح ، فإنما هو عمل قلبه .
وهذا التبرير قد أولانا إياه ربنا ، بفعل حرّ منه. إذ جاء إلى العالم حرّاً “لأنه شاء” ، وقد أقرّ ناسوته، وهو حرّ أيضاً، هذه المشيئة الحرّة. يقول القديس يعقوب : ” إن الله قد ولدنا باختياره ” ويقول القديس بولس : ” أحبّني وبذل نفسه عني ، خلّصني بحـب محض ، باندفـاع من قلبه”.
لقد خلّصنا من أجل كثرة محبته، ولا يبرح حبه ينال لنا في كل لحظة، بحق استحقاقاته، النعمة المبررة التي نحن في حاجة إليها ، كل حين. فقد “صار لنا، كما يقول القديس بولس، برّاً (مبرّراً) وقداسة وفداء “. وهو يقضي وقته، بإرسال الروح القدس إلينا، وكما تمّت العنصرة الأولى الكبرى ، بسعيه، يتم حلول الروح القدس، كل مرة ، في نفوسنا ، بدافع من حبه.
الفصل الثالث
علاقات المسيحي العادي بالروح القدس

سأل القديس بولس الأفسسيّين : “هل قبلتم الروح القدس؟ ”
أما نحن، فإنا نعلم ما نجيب به عن هذا السؤال. وحسبنا أن نتذكر يوم عمادنا، وكلمة الكاهن: “اخرج، أيها الروح النجس، ودع المكان للروح القدس”. – إن الروح القدس ساكن فينا، إن كنا لم نقترف خطيئة مميتة ، أو إن كنا ، بعد اقترافها ، قـد تحررنا منها ، واستعدنا حياة النعمة.
لا شيء أثبت من هذا الأمر، وإليك قول الرسول مكرراً: ألا تعلمون أن الروح القدس ساكن فيكم ؟ ” – ” أعضاؤكم هياكل الروح القدس” – ” نحن مختومون ، نحمل فينا عربون الخلاص ، الروح ” – ” نحن شركاء في الروح”. ويقول القديس يوحنا: “بهذا نعرف أنا ثابتون فيه وهو ثابت فينا، بأنه قد أعطانا روحه القدوس” (1يو ، 13:4).
وآباء الكنيسة يرددون هذا التعليم . وقد سار على خطاهم اللاهوتيون الكبار، حتى إن القديس بونافنتور يصرح قائلاً : من لا يؤمن بذلك ، فهو خارج عن الإيمان . ثم يقول : ” لا يستطيع الإنسان أن يرضى الله إلا بقدر ما يقبل الروح القدس، الهبة غير المخلوقة. وكل من يؤمنون إيماناً مستقيماً بالنعمة المبرّرة يعتقدون أن الروح القدس، العطية غير المخلوقة، يقيم حقّاً في النفوس المبرّرة . ومن خالف ذلك عدّ من أهل الضلال”.
وهذا رأي القديس توما عينه، كما أن المجمع التريدنتي قد أقرّ هذه النقطة بالإجماع.
ويرى الأب رميار “أن لا حاجة إلى بيان ما في حضور الروح القدس في نفس البار من اختلاف عن حضوره مع الأقانيم الثلاثة غير المحدود في كل مكان حتى في الجحيم”.
فابن الله هو أيضاً غير محدود، وموجود في كل مكان : وهذا لا يمنع أن نعبده ، خاصة ، حاضراً في القربان المقدس ، لأننا نعلم أنه حاضر هنا، لكي يعطينا ذات نفسه. وكذلك الروح القدس هو حاضر فينا بالنعمة، لكي يتحد بنا ويقدسنا.
وهو حضور خاص ، مستقل ، بنوع ما ، عن حضـور الأول ،
ويفسره سواريز بقوله: “لو أن اللامتناهي الإلهي – بافتراض المستحيل- لا يحضر الروح القدس فينا ، لأحضرته النعمة إلينا . فلنتصوّر فقيـراً عدماً يقيم بجوار كنز عظيم ، ولا يفيد من قربه غنى ، لأن الغنى إنما يكون بامتلاك الكنز لا بالمقام قريباً منه. وهذا هو الفرق بين نفس البار ونفس الخاطئ. فالخاطئ والهالك نفسه قريبان هما أيضاً من الخير اللامتناهي ولكنهما لا يزالان فقيرين ، لأنهما لا يملكان هـذا الخير ، في حين أن من كان في حال النعمة، كان مالكاً في نفسه الروح القدس، وكان مالكاً معه ملء النعم السماوية، كمن يملك كنـزاً يخصه ويمكنه أن يستمدّ منه ما يشاء.
والكنيسة تدعو الروح القدس “ضيف النفس الحلو” لأن الروح القدس يفرح بسكنى قلوبنا.
فهل نفرح ، نحن المسيحيين ، بهذه السكنى ، سكنى الـروح القدس في أنفسنا؟
مسكين “الضيف الحلو ! ” هل ، للعبث ، تلقيه الليتورجية بهذا اللقب؟ إنك تسكن في نفسنا، ولكن من منا يفتكر فيك ، أو يهتم لحضورك؟
أيكون حضورك فينا هدية تافهة، لا قيمة لها؟ كيف وأنت الروح القدس، الروح الذي يحيا في الآب والابن، أو بالأحرى روح الآب والابن.
ألا يكون في هذا المعسكر الذي تمثله نفسنا، ويدخله ويخرج منه،
كل دقيقة ، جموع وأثقال ، ألا يكون فيه موضع للرئيس الأعلى ؟
فمفروض أن النفس هـي في حال النعمة وأن الروح القـدس ، بلا شك ، مقيم فيها. فكيف لا يكون هناك حرس شرف. أيبقى الروح متخفياً ، في حين يرغب أن يكون معروفاً ومحبوباً ، وأن يلتفّ الجميع من حوله، ولكنها رغبة قلّ بين المسيحيين ، حتى بين خيارهم من يلبيّها.
يقول الكردينال مانينج : ” إن يكن ، ثمّ ، ما يخجلنا ، ويعفـر في التراب وجهنا، فذلك أننا نعيش طوال يومنا، ولا نفتكر أن هناك روح قدس. مثل أولئك الأفسسيين، حين سألهم الرسول : ” هل قبلتم الروح القدس؟ فقالوا : بل ما سمعنا قطّ أن هناك روح قدس “.
أيكون ذلك لأن الروح القدس لا يستحق أن نفتكر فيه، أم أن لدينا شيئاً أهمّ منه ، وأحق أن يشغل، كل دقيقة ، فكرنا؟
أليس الروح القدس هو الحب غير المخلوق، وتمام الثالوث الأقدس “نهاية ما لا نهاية له، وحدّ ما لا حدّ له” ؟ أليس مبدع الخلق الأول ، على حسب تعبير الليتورجية في قولها: “أيها الروح الخالق” ومبدع الخلق الثاني، مبدع حياتنا الفائقة الطبيعة التي أعيدت إلى البشر عموماً، بحلوله على مريم، وأعيدت إلى كل منا بمجيئه إلينا في العماد ؟ ونقول:
” إننا لا نفتكر في ذلك ! فيا له ، حقاً ، من عذر ، ألاّ نفتكر بتة في الجوهري من الأمور”.
لو أن شخصاً عظيما، ملكاً أو رئيساً، نزل في مدينة ، ولو لزيارة قصيرة ، لفكّرت فيه المدينة كلها، وما هو إلا ملك أرضي.
ونحن المسيحيين يتخذ ملك السماء نفسنا سماء، ولا نفتكر فيه .
إن القديس بولس ، وكلامه خليق بالثقة ، لا يعتبر العبادة للروح القدس عبادة طارئة ، اختيارية ، وقد أبقى لنا وصايا تبيّن ما يجب علينا نحو ضيف نفسنا الحلو، وهي جديرة أن نتأمل فيها:
أولاً ، وقبل كل شيء ، لا خطيئة مميتة : ” لا تطفئوا الـروح ، لا تطفئوا النور الإلهي، لا في نفسكم ولا في سواكم بالتشكيك . فطردكم الروح القدس من نفسكم أو من نفس غيركم، إهانة كبرى تلحقونها به” (تسا ، 19:5).
هناك إهانة وهناك حزن للروح . يقول أشعيا : ” لا تحزنوا روحه القدوس ” (أشعيا ، 10:63) ويقول القديس بولس : “انبذوا عنكم الكذب ، ولا تخرج من أفواهكم كلمة فاسدة… ولا تحزنوا الروح القدس الذي ختمتم به ” (أفس 4) . فكل خطيئة عرضية تحزن الروح الناظر إلى كل طرقنا ، والشاهد على جميع أقوالنا ، وأفعالنا، وجميع أفكارنا وأميالنا.
هذه الوصايا السلبية هي أبعد من أن تحتمل كل واجباتنا نحو الروح القدس، كما يفهمها القديس بولس، وكما تقتضيها حالة النعمة، وتتطلّبها التقوى الصحيحة.
حضور الروح القدس فينا يدعونا لا إلى “عدم الفعل” بل إلى “الفعل ” ، إلى أن نفسح المحل للضيف الإلهي ، ونحاول بجميـع الوسائل أن نفيد من هذا الحضور ، ونتغلّل، يوميّاً إلى أعماق محبته ومؤانسته.
فالروح ساكن فينا ، حيّاً ، وعاملاً ؛ ولكن فينا أيضاً مـن يمكنه أن يضع حدوداً لفعله، وهو نحن . الروح يريد أن يعطي وأن يتحد بنا، ما أمكن الاتحاد ، ولكننا نحدد له المقام. فهو الضيف ونحن السادة المضيفون ، لا يقدر على كثير ولا قليل إلا بنا.
كان المطران جاي يقول: “لو كنتم تعرفون عطية الله، وثمن أقل نور داخلي وقيمته، وأقلّ مسة من الروح القدس ، وأقل فرصة مؤاتية ، لو كنتم تعلمون أنّ الله حاضر هنا ، وكيف يتقدم إليكم ، وكيف يستسلم لكم، ثم ما في ذلك لكم ولغيركم، وما فيه من الفوائد على الزمان وعلى الأبدية ! آه ! من يعطينا أن نفهم الأمور الفائقة الطبيعة وأن نقدر هذه الخيرات قدرها. فإن أقل ما فيها، عند القديس توما ، يفوق الخيرات الطبيعية جميعها”.
ما كان مصيرنا لولا سابق إحسانه إلينا ؟ إذ حملنا ، قبل إدراكنا الرشد ، إلى المعمودية ، وآتانا المحبة بقوة الروح القدس.
وما يكون مصيرنا ، لولا اتصال جوده علينا ؟ فإنه يوالي إلهامنا في الصلاة ، ويولينا القوّة في التجربة ، والشجاعة في الخطـر ، ويقيمنا ، إذا سقطنا ، ويردّنا إذا ضللنا.
فهل من شيء أغرب من مثابرة الروح القدس على تأليهنا من مثابرتنا على رفضه.
ليتنا نريد لأنفسنا من الخير ما يريده الله لنا !
وليس المهم أن الروح القدس يولينا قوّته، وحبّه ورغباته، بل الأهم
أنه يولينا ذات نفسه ويتحدّ بنا ، ولا شيء في وجودنا أعظم من اتحادنا بالروح القدس . ” إنّ من يقترن بالرب ، يكون معه روحاً واحداً ” (1كو 17:6 ) .
جاء في سيرة القديسة أنجال دي فولينو أنها زارت ، يوماً ، قبر القديس فرنسيس الأسيزي ، وإذا بها تسمع صوتاً يقول لها : ” إنك لجأت إلى خادمي فرنسيس ، فسأعرّفك بمساعدٍ آخر. أنا الروح القدس الذي جاء إليك . أريد أن أمنحك فرحاً ما ذقته حتى الآن ، وأرافقك ، حاضراً فيك … وأكلمك طول الوقت … وإذا أحببتني ، فلن أتركك أبداً، يا عروسي، إني أحبك ! وقد أقمت فيك ، وأنا أستريح بك ؛ فأنت بدورك ، اسكني فيّ واطلبي راحتك بي “.
فأخذت أنجال تقابل ما بين خطاياها وبين هذه النعم الأثيرة، فترددت ، وظنت أنها واهمة ، فقالت : ” لو كنت حقّاً الروح القدس ، لما أمكن أن تقول لي ما قلت، فهذه الأشياء ليست لأمثالي، ولو كنت أنت إياه ، لقضي عليّ من شدة الفرح ” – فقال : ” ألستُ ربّ مواهبي؟ فإني أعطيك ما أشاء من الفرح، لا أكثر ولا أقل”. وتختم القديسة كلامها بقولها : ” لا أستطيع أن أعبر عما شعرت به حينئذ ، من الفرح ، ولا سيما عندما قال لي : ” أنا الروح القدس ، عيشي في داخل نفسك ” .
إن ما كشفه الروح القدس تفضلاً منهن للقديسة أنجال، تعلمه الكنيسة لجميع المسيحيين. إن الروح القدس يحيا فينا، وليس له إلا رغبة
واحدة أن تبادله نفسنا ما عنده لنا من العواطف.
فاتحاده بنا أعمق ما يكون العمق.
أما نحن ، فما هو اتحادنا به ، ومن أي نوع هو ؟ أنكون بلا فهم ولا شعور ، مغلقين قلبنا دون الحب الغير المحدود : فكيف نخرج مـن هذا المأزق؟
إن بعض النفوس تتمنى هـذا الاتحاد ، ويمنعها مـن التقدم إليـه ما تعرفه من سماجتها وضعفها، فتتردد وتتأخر.
تقول هذا شيء غاية في الجمال، ولكن، من أين لمثلي أن يحلم بمثله؟ تتذكر كلمة بطرس عندما رأى الرب يتقـدم ليغسل قدميـه : كلا . . . وكلمـة القديسة أليصابات لمريم : أنّي لي هذا ؟ أن تأتي إليّ أم ربّي!
ليست المسألة أن نعرف هل هذا غاية في الجمال، ولكن هل هذا موجود؟
أحقُّ أن الروح القدس يقيم في نفسنا ، ويرغب أن يتحد بنا ؟ نعم؛ هذا أكيد وواقع ، وأنا حرّ في أن أراه أمراً غريباً ، غير أنه واقع يجب أن أسلّم به.
إنما الأغرب هـو ألا أحاول فهم هـذا الحضور ولا أرضى أن أحيا فيه.
يقول الأب أوليه : ” مهما يكن فينا من النعم ، فلن نبرح عدماً ، آنيةً من تراب، ومساكين . كأعراض الخبز والخمر في القربان المقدس ، ليس لها أن تفتخر بما تحتوي عليه ، ولا بما يفعله القربان في النفوس ، لأنها ليست سوى قشور واهية، وإن لامست اللاهوت عن قرب.
ويقول القديس برنردس: هذه حال أقدس النفوس الممتلئة من الروح القدس . يؤخرها أن تحيا في الله ما عندها مـن مزيد الاحترام ، لأن فكرة الاحترام يصحبها الخوف. فتنسى أن الحب هو الحب، وأن الحب ينفي الخوف. وحيثما يكن الحب، لا تكن أية عاطفة سواه. ومن أحب ، لا يعرف غير الحب . حب عروس وعروس . والروح القدس هو عروس النفوس.
إن الله يطلب أن يكون مرهوباً كإله، ومحترماً كأب ومحبوباً كعروس. ومتى أحب الله، فلن يطلب شيئاً آخر إلا أن يكون محبوباً. وحب العروس أعلى درجات الحب.
واتحاد الروح القدس بالنفس ليس اتحاداً جسدياً ، بل هو اتحاد روح بروح. ومن اتحد بالله، أصبح وإياه روحاً واحداً.
غير أن النفس لا تنفك تتستر بتواضعها وتقول: “لن أستطيع أبداً أن أحب حبّاً كافياً، فكيف أصارع جبّاراً، كيف أحب من لا مناسبة بين حبه وحبي . فهل أتأخر ؟ ” فيقول لها القديس برنردس : ” كـلا ، لا شك أن أحب الخليقة دون حب الله، ولكن حسبها أن تحب، بلا قيد ولا شرط ، ومن أعطى كل شيء، لا ينقصه شيء”.
ويكمّل قوله القديس يوحنا الصليبي ، فيأتي بالبرهان القاطع ، ويقول : إن النفس تقدر أن تبلـغ إلى أن تحب ” الحب ” حبّاً كافياً ، لأن ” الحبّ ” هو الذي يحب بها . وها هوذا ما كانت تحسبه مستحيلا من المساواة والمعادلة. ولكن كل شيء ينجلي، متى علمنا أن الحب الذي نحب به هو حب الله نفسه.
ويقول القديس فولجانس : ” إن قلب الإنسان لا يكفي لكي يحب الله ؛ فينبغي أن يكون له قلب إله . وهل لنا أن نحب الله بقلب الله ؟ نعم ، لأن محبة الله قد أفيضت في قلوبنا بالروح القـدس الذي أعطى لنا. ولا نقدر أن نحب الله إلا بالروح القدس : فلنحبّ الله بقلب الله ” .
الفصل الرابع

علاقات المسيحي العادي بالثالوث جميعه

يمكن النظر إلى عبادة الآب والابن والروح القدس الحاضرين فينا من وجوه مختلفة، بحسب الإلهامات الفائقة الطبيعة، ومختلف أميال النفوس.
ومن هنا أصل ما كان يذهل داود، إذ كان يقول : اللهمّ أنت عجيب فيمن تقيم بينهم.
إن بعض النفوس تفضل أن تتأمل في الثالوث جميعه، بدلاً من التوقف على حضور واحد أو آخر من الأقانيم ، أو على نقطة خاصة من ذلك الحضور . فإليك مثلاً لصلة بولين أرنولد بالثالوث : ” المسيح إله حقيقي وإنسان حقيقي ، فهو حقّاً إنسان كما هو حقّاً إله مولود من الآب في بهاء الأبد ، قد ولدنا على الجلجلة . وأصبح بتضحيتـه رأس البشر كلهم ، وأشركنا في الحياة الإلهية التي قبلها من أبيه.
“ولقّح حياتنا الطبيعية بطبيعته، وأشركنا بكيانه الإلهي. ولا يزال، وهو ساكن فينا، غير منفصل عن الآب والروح القدس.
“ففينا يلد الآب ابنه، وفينا ينبثق الروح القدس من الآب والابن. وجميع أسرار الثالوث وأعماله وحبه وكل سعادة الثالوث الأقدس تتمّ وتستمر فينا”.
كان الأب لسيوس مؤلف كتاب الأسماء الإلهية شديد العبادة للثالوث الأقدس. فإليك ابتهالاً من صلواته:
” أسألك ، يارب ، أن تجذب قلبي إليك ، في داخـل نفسي هناك، بعيداً عن ضوضاء العالم ، بعيداً عما يتعبنا من الهموم الثقيلة . هبني أن أمكث قريباً منك ، لأنعم بك ، وأحبك ، وأكرّمك وأسمع صوتك . هناك . أروي لك أكدار حياتي في منفاي ، هناك ، أجد بقربك عزائي! هبني ألا أنسى أبداً حضورك فيّ، يا من أنت نوري وحلاوة روحي! وألا أنساك أبداً، بل ترنو إليك كل حين عين نفسي”.
فمن الخطأ أن نتصور أن لا أحد يقدر أن يصلي مثل هؤلاء إلا من نالوا إنعامات خاصة من راهبات غير عاديات أو علماء متضلعين من العلوم اللاهوتية.
جاء في سيرة طالب ، كان ساكناً في شارع البريد بباريس، أنه كان يختلي ، في الصباح ، فيجد الضيوف الثلاثة في نفسه ، غير معتمد إلا على ما في صلاة الصبح : ” لنستحضر الله ، ونسجـد لجلاله القدوس . . . ” فأين الله ؟ وأين يحضر حضوراً خيراً من حضوره في قلبه، في قلب شاب في حال النعمة ؟
كانت روحانية هذا الطالب، وهو في العشرين من عمره، تدور حول هذه الفكرة : فكرة سكنى الله في نفسنا.
وقد كتب مرة إلى أحد رفاقه: “لعلّ الله يكون دائماً في المحل الواجب أن يشغله من قلبك” . وكتب في مذكرته: “إن الخطيئة هي أخوف ما يجب أن أخاف منه، لأنها تطرد الله من قلوبنا- وحالة النعمة ألزم ما ينبغي أن أطلبه لأنها تجعل الله في كل دقيقة، وتحفظه فينا”.
فمن لا يستطيع أن يتشبه، أو يحاول أن يتشبه بهذا الطالب، ويعيش في اشتياق إلى الله كشوقه وإيمان كإيمانه؟
– لا شك أن الأمر لا يكون سهلاً، ما دمنا ماديين، خشنين تخفي غلاظتنا عنا رؤية غير المحدود.
ولكن ، متى انجلى لنا ما نخسره من الخير ، بإهمالنا كل مـا نملك في داخلنا ، فهل نظل نمر بجانب العجائب ولا نلمحها أو نظـل نملكها في داخلنا ولا نحيا بها؟
ولنختم هذا الفصل بسؤالين، أولهما: هل للروح القدس في سرّ تقديسنا دور خاصّ لا يقوم به بالدرجة عينها الآب والابن؟
إن بعض المؤلفين يعتمدون على تقليد تاريخي جليل أشار إليه الآباء اليونانيون وأخصهم القديس كيرلس الإسكندري : وهو أن الآب والكلمة يكونان فينا بالروح القدس . فهو يستولي أولاً بالعماد على نفسنا، وللحال يحضر الآب والابن (الكلمة) ، لأنه حيثما يكن الروح القدس، يكن الآب والكلمة.
والسؤال الثاني: كيف يتم تماماً اتحاد الله بنا واتحادنا بالله؟ نقول: إن الله حاضر، وساكن وحيّ فينا. ذلك أمر واقع أكيد، وهو عقيدة من الإيمان. فلا نذهب في الجواب إلى أبعد من ذلك.
فالاتحاد قائم، والله يبقى الله، وأنا أبقى أنا.

الكتاب الخامس

ممارسة الأنس بالله ساكناً فينا

رأينا فيما سبق ما هو كنزنا . وأنه يصبح حقّاً كنزنا، إذا ما بذلنا الجهد:
في شتهائه.
في احفظه
في الظفر به.
الفصل الأول

في اشتهاء الكنز

كان الأب أوليه، على ما روى مؤلفو سيرته، يسمع غالباً صوتاً داخليّاً يهمس إليه همس آمر : ” حياة إلهية ، حياة إلهية ! ” فاتخذت حياته ، منذ تحوّله الثاني وتقدمته المطلقة ، شكـلاً احتفاليّاً تعبر عنـه هذه الصلاة التي كان يرفعها إلى الله:
” ليكن ، يارب ، نورك مرشدي ، يريني جميع الأشياء ، كما هي في ذاتها ” . أترانا في حاجة إلى صوت كالذي سمعه الأب أوليه ، حتى نتبنّى الكلمتين: “حياة إلهية” ونتخذهما قاعدة لسلوكنا؟
إن يعقوب، لما رأى في الحلم كأنّ سلماً منتصبة على الأرض ورأسها في السماء ، وملائكة الله تصعد وتنزل عليها… استيقظ من نومه ، خائفاً ، وقال:
“إن الرب لفي هذا المكان، وأنا لم أعلم. وما هذا المكان إلا بيت الله وباب السماء”.
هذا ما يحدث لنا، كما قال الكردينال مانينج، إذا استيقظنا وشعرنا أن الروح القدس قريب منا ، يحيط بنا ويحيا فينا . و ” أنه كله أذن يسمع كل خفقة من خفقات قلبنا، وكله انتباه لكل خاطر يجول في بالنا، وأن كياننا كله مكشوف لديه”.
غير أن أكثر الناس يعيشون، كأن لا نفس لهم … وكثيرون بين من يشعرون أنهم في خطر الهلاك لا يزالون يحيون كأن الله غير مقيم فيهم!
فخليق بالمسيحي أن يدعى الإنسان المستغرق في فكرة حضور الله في داخله… يحيا في هذه الفكرة : إن الله معه ، في شغاف قلبه … مستنير الضمير بالله، شاعراً أن كل هم من همومه، وكل باعث من بواعث حياته الأدبية مكشوف أمام الله القادر على كل شيء.
ولكن أين المسيحيون الحقيقيون؟!
لقد شكا ربنا إلى إحدى النفوس القديسة ، قال : ” أنا في كثير من القلوب كنـز بلا فائدة ، تملكني ، لأنها في حـال النعمة ، ولكنها لا تستمر في . فعوّضي عنها”.
فكيف نبلغ إلى هذا الفهم ، فهم سكنى الله فينا ، بواسطة النعمة ؟
يبدو أولاً، أن خير الوسائل هو اتخاذ هذه الفكرة موضوعاً متواتراً لتأملاتنا.
وواضح أننا ، إذ نحاول ، كل صباح ، بنية صادقة ، أن نركز فكرنا في صميم نفسنا، حيث يوجد الكنز الثمين، لا نلبث ، مع الاعتياد ومساعدة النعمة، أن نألف تذكر حضور الله فينا.
كانت أليصابات لاسور تقول: “الناس يعيشون على سطح نفوسهم، ولا يدخلون، بتَّةً إليها. ليتنا نعرف أن نختلي، ونرى ما عندنا ونعرفه!” وتقول بولين رينولد: “إن الله يحل فينا. فأيّ استقبال نستقبل به ضيفاً مثله؟ إني لأضطرب عند افتكاري، فإنه لا يكاد يدخل عندي، حتى أتحول عنه، لألتهي بأمور تافهة”.
ذكرنا هاتين الشخصيتين لأنهما عاشتا أكثر حياتهما في العالم: إحداهما لاسور، طول عمرها، والثانية بولين لم تدخل الدير إلا في السابعة والخمسين.
فقد يظن أن طريقة سكنى الله فينا هي مـن خصائص الديورة . أما في الحقيقة، فإن قليلا من النفوس ترضى أن تلزم الصمت ، وسط ضجيج الأمور الزائلة، لكي تصغي إلى ما تحدثه فينا الأمور الإلهية من الضجة الخفية الكبرى. إن الله إله محتجب ، لا يظهر إلا في السكون… أما في الضوضاء فلا يظهر أبداً.
تقول بولين رينولد: “أشعر أن أول ما يجب عليّ أن استعدّ به إنما هو السكوت بحسب قول تولار: ليس للآب سوى “كلمة” هي كلمته
وابنه، يقولها في صمت أبدي. وفي السكوت تقبلها النفس وتسمعها”.
ثم تقول : “صمتاً ، إذن ، يا نفسي ، حتى تسمعي الله . صمتاً حتى تقبلي الكلمة ، صمتاً حتى تجعليه يحدّثك عـن ذاته ، فتفهميه ، ويحيا فيك . صمتاً وصلاة ! ”
وتقول أليصابات لاسور : “إن أخص ما ينقص أهل عصرنا الاختلاء”.
كان الأب جراتري يفكر يوماً فيما يصير إليه العالم، لو رضى الناس أن يسكتوا ، مدة نصف ساعة ، كقول الكتاب ، لو أن جميع الناس حقّاً، رضوا أن يفكروا ، مدة نصف ساعة في نعيمهم الأبدي…
ولكن أين هذه الخلوة التي يتجلى فيها الله المحتجب في الداخل؟
كان بسيكاري، حفيد رينان، جنديّاً، وقد اهتدى، لطول إقامته في الصحراء. فهو يثني عليها بأنها: “أرض مباركة، مضى الرب إليها ، وتقدس مئات الرهبان تحت سمائها”. ثم يضيف إلى ما سبق : “وأود أن أقول إن الصحارى لا تزال في محلها ولا ينقصها غير النفوس اليقظة المتنبهة لتلتقط فيها صوت الله”.
الصحارى باقية والنفوس الجديرة بها تجد لها فيها دائماً مكاناً للاختلاء.
إن الرغبة في معرفة داخلنا تنشئ فينا حب الصلاة والاختلاء، وكلما ازددنا علماً ، وجدنا غنى جديداً ، وهتفنا مع الرسل: “حسن لنا أن نقيم ههنا”.
وهذا ما يحمل بعض النفوس أن تردد صدى قول بولين رينولد :
” أريـد أن أكـون ، دائمـاً ، المشغولة الصغيرة بالكبير المتـروك ” la petile occupée du grand ouplié “ما أكثر الأشياء التي نقولها، متى عشنا دائماً، معاً، وأحببنا حبّاً لا حدود له. وكان أحد الاثنين الله”.
ومن مقاصدها : “استغلّ ، خصوصاً ، لوحدة ، فهي كأحد الأسرار . وهو دائماً هناك ” في الوحدة.
” هو ، دائماً ، هناك ” أما نحن فلا نقدر أن نكون دائماً ، هناك . وإلا ، فلن نبقى على الأرض ، إذ نغدو في السماء ، ويمكنا أن نحاول البقاء ، ما استطعنا.
إن عند الكثيرين فاصلا عريضاً يفصل بين وقت الصلاة ووقت الأعمال اليومية.
كم نرى بين المسيحيين حتى الأتقياء والحارّين ممن يخصصون بعض الوقت صباحاً للصلاة أو للتأمل ، فإنهم ينسون ، طـول النهـار ، كل ما قصدوا ووعدوا. يذكرون الله، بعض دقائق، وينسونه طوال الدقائق الأخرى.
ومن مقاصد بولين رينولد : لا أترك يسوع، بعد المناولة والصلاة، بل أقول له: “لا أدعك تمضي” ثم تضيف إلى هذا قولها : ” إن تعوّد الصلاة في كل فرصة يسهّل علينا التقرّب من العـالم غير المنظور ” . إن لم نفعل ذلك، فإنه يستحيل علينا أن نحقق القرب من هذا العالم غير المنظور.
لما جاءت مرتا تدعو مريم، قائلة : المعلم هنا يدعوك، لم يكن المقصود ساعة معين. ونحن، فإن المعلم، هنا، في كل دقيقة، يدعو دعاء
متصلا ، كما يقول القديس بولس : هو يدعونا نحن أنفسنا.
وعندما تحدّث يسوع والمرأة السامرية، على بئر يعقوب، كانت الساعة السادسة، وكان جالساً على حافة البئر . أما هنا ، فليس جالساً على حافة قلبنا بل في صميمه. هنا معبده المختار. يرى أننا لا نقدر ، كل حين ، أن نكون قائمين، أمام المذبح ، فشاء أن يتخذ من قلوبنا هياكل، يدعونا من أعماقها ، ولا رغبة عنده أشد من رغبته في أن نلبّيه، ويسألنا هل نحن في حاجة إليه، أم نحن مكتفون؟!
قليلة هي النفوس الجائعة، المتعطشة إلى شيء، المحتاجة إلى المزيد، كأننا جميعنا في غنى عن كل شيء ، حتى العـدم يكفينا . يجب أن نشاهد المعلم مارّاً أمامنا حتى نقول له: “أين تقيم” أو أن نكون كالمجدلية ، قد أحببناه ، من قبل ، فنحسبه مثلها البستاني ، صباح يوم القيامة ونسأله: ” قل لي أين هو ؟ ” فمن كان يبحث عنه مثلها عنـد القبر ، فقد وجده.
كان القديس فرنسيس إكسافيه يستغرب كثرة تجار الفلفل والبهار في بلاد الشرق. فيقول : “لماذا لا يكون أكثر منهم من يطلبون الحصول على الجوهرة الثمينة؟”
كان بسيكاري يقول : “إن الكتابة، تحت نظر الثالوث القدس، تحدث فيّ هزّة عميقة” . فلماذا لا نذكر مثله، قبل كلً من أعمالنا، حضور الثالوث الساكن فينا؟ وكان يقول : “ليس عندي كنيسة في هذه الصحراء ، فإني أدخل إلى نفسي ، فأجد الله فيها “.
وإليك وصية الأب سرتيلانج مـن مقال عـن حضور الله فينا : ” اتخذ لك مرقاة (سلّما) من كل شيء : من الصلاة ، من حفلة دينية ، ومن أي عمل حسن؛ واجعل لك من المنزل كنيسة؛ ومن المنضدة ، والسرير ، والمكتب مذبحاً؛ وحوّل الحياة كلها حدثاً دينيّاً ، من الصباح إلى المساء، ومن المساء إلى الصباح: النوم ، والراحة، واللهو، والحديث ، والعمل، والصلاة جميعها، اجعلها طقساً ليتورجية أبدية في حياة وقتية. ها هي ذي الفكرة المسيحية، وهذا ما تقتضيه من الجهد ممن يفهمونها حقّاً . ولا يكون الإنسان مسيحيّاً إلا إذا طابقها ومرن عليها”.
“اتخذ لك من كل شيء مرقاة”.
الفصل الثاني

في حفظ الكنز

احفظ الوديعة . لا تكفي رغبتنا في أن نحيا حياة داخلية ، حتى نخلق ، بيننا وبين الكنز الذي نحمله ، ما نحب من الأنس والمؤالفة . فاللؤلؤة الثمينة لابدّ لها من طامعين كثيرين فيها، فيلزم الكثير من الحذر في حملها.
كالجندي في الخنادق لا يحميه تيقظه، وحده، من المفاجآت ، فتقادم دونه الأشواك الصناعية والأسلاك الشائكة.
هكذا نفسنا ، خزانة الله ، يجب حراسة ما فيها من الغنى ، والمرور
في العالم مرور ( ترسيوس )* بين اللاعبين ، يتفادى معاكسيه، ويصد عنه المشاغبين.
ومثل أمير روماني كان يحمل في عنقه أكرة ذهبية منقوشة عليها هذه الكتابة : ” تذكر أك لقيصر ” . وأجـدر بنا أن نقول : ” تذكر أن قيصر معك”. وهذا شيء تترتب عليه واجبات.
إن علينا أن نعيش بين الناس، لكنّ مؤلف كتاب الاقتداء يقسو كثيراً على من يقيم “خارجاً” ويقول : ” كلما خرجت بين الناس ، عدت أقلّ إنسانية”.
ويمكنا أن نضيف إلى ذلك : ” عدت أقل ألوهية ” أقل شعوراً بحضور الله فيّ.
إذن، يجب تجنب اللذات الباطلة والشواغل العاطلة، والصداقات العابثة، والمجتمعات الفارغة ، لا نقول الواجبة أو النافعة ، إنما نقول الباطلة وما بمعناها.
ويقول القديس بولس: لتكن شركتكم في الله مع يسوع المسيح. ولم يتكلم عن شركة سواها . لتكن محادثتنا في السماء ، بما يليق أن يجري في معبد أو بجانب بيت القربان.
وإذا اضطرتنا المحبة، أو واجب الحالة والغيرة، إلى مغادرة “داخلنا”، فلا نتكلم ، حينئذ ، إلا لنقول شيئاً خيراً من السكوت. ولنكن مسرعين إلى السماع، بطيئين عن الكلام ، كما يوصينا القديس يعقوب الرسول. فمن يتكلم كثيراً، فقلما يجد وقتاً للسماع.
كتب القديس ألفنس رودريكس في مذكرته: “يجب أن نتكلم قليلا مع الناس، وكثيراً مع الله. وليكن الله حاضراً، دائماً، في صميم قلبنا. فلا نعمل ولا نقل شيئاً دون استشارته.
لقد يقال : هذه نصيحة قديس لقديسين ، أو نصيحة راهب لرهبان . كلا ؛ بل هي نصيحـة صالحـة للجميـع ، ولا سيمـا مـن لا يحميهم السكوت من اجتياح الخارج لداخلهم.
وإليك ما يقول أحد المحامين: “إننا نسئ الظن في الحياة الفائقة الطبيعة . وعندي أن الحياة المسيحية تقوم كلها عل أن نحيا كـل لحظة من حياتنا مع يسوع المسيح، وأن نتخذه صديقاً لنا، ونجيّاً، ومعلماً ، لأنه معنا دائماً وفينا”.
وإليك رجلا علمانيّاً آخر، يقول: “لا يستطيع جميع الناس أن يكونوا قساوسة أو أن يعيشوا في الديورة، فعلى كل واحد أن يحيا حياة داخلية، حياة النعمة، “الحياة الإلهية”.
وهو يشير على المستغرق في الأمور الخارجية أن يلجأ إلى كتاب “الاقتداء” ، فهو المرشد الأمين إلى حياة الزهد والأنس بالله:
“كلما ازدادت المشاغل الخارجية، زادت الحاجة إلى الحياة الداخلية”.
“إذا شئت أن تذوق لذات الروح، فانصرف إلى الخلوة حيث تستطيع أن تكلمني كما تشاء”.
“واعتقد أنك لم تفعل شيئاً من أجل الله، ما دمت تجهل لذة وجودك، وحدك، معي”.
“لا تقل: إني لا أقدر على الاختلاء ؛ لأني لا أجد وقتاً لذلك . فإن كان هذا صحيحاً، كان أكبر دليل على أنك أحوج من يحتاج إلى العزلة والراحة قليلا”.
ليس هذا المثال أمراً خياليّاً. فقد رأينا طالب شارع البريد في باريس، وتفهمه “للحياة في الداخل” فكان منهاجه:
“استمع إلى صوت الله الباطن واعمل به بلا تأخر”. تبعاً لكلمة القديس بولس: “إن نعمة الله تضطرنا”.
إن الرب ساكن في نفسنا، كل حين، بنعمته، ولكنه لا يكشف حضوره إلا لمن يطلبه، ويكون حيث يجب من الأحوال لكي يجده.
إن خلاص العالم لن يكون بإعمال السيف، وهدير المصانع، وتدفق الكلام، بل “بحلول الله في خلائقه، لتقديس الأفراد. وبكثرة المختارين تخلص الشعوب.
ولعل أليصابات ليسور خير من بيّنت كيف يمكن التوفيق عمليّاً، بين الحياة الخارجية والحياة الداخلية الرفيعة.
إنها لم تكن لتجهل ما بين الحياتين من الاهتلاف، ولكن اسمعها تقول: “أكون دائماً متفتحة لمن يريد أن ياتمني على سرّ، ولكن لا كل الانفتاح ، وأحتفظ بداخلتي لله وحـده ، فأضمن ، في استقبالاتي الودية، لحظات طويلة من الاختلاء ، لأقدّم لنفسي من الغذاء ما يحفظها
أكثر قوة وسلاماً وأكثر امتلاء من الحياة الفائقة الطبيعة”.
ورسالتي الأولى هي رسالة المثل، رسالة الاختلاء: “إن حولي نفوساً كثيرة أحبها حبّاً جمّاً ، وعلى نحوها واجباً ينبغي أن أقـوم بـه ، فلها أن ترى ، من خلال مظهري ، ضيف نفسي المعبود ، وتشعر بـأن كل ما فيّ يتحدث عنه… لا أريد أن أكون ثرثارة روحية. أريد، إلا أن تقتضيني المحبة، أن ألزم الصمت العميق. فلا تتشتت نفسي، بل تبقى غارقة كلها في الله، لتشعّ بنوره إلى أبعد مدى”.
هذا ما يقتضيه ترتيب القيم: إحراز الله، أولا، في الداخل، وإعطاؤه بعد ذلك للخارج.
كم من الناس يمكنهم أن يوجهوا من اللوم إلى نفوسهم ما كان الكردينال برون يوجهه إلى نفسه وهو على فراش الموت. فقد عمل في حياته على تثقيف عقله بالمعارف أكثر مما عمل على تكميل إرادته بممارسة الحياة الداخلية.
فإليك هذه القاعدة الذهبية للأخت أليصابات:
“لا نعط من ذات نفسنا غير ما يمكن أن يفيد من يقبله من الآخرين، ونحتفظ بالباقي في جانب عميق من نفسنا ، كما يحتفظ البخيل بكنزه، ناوين أن نضحي به، متى دعت الحاجة إلى التضحية”.
ثم تقول في ختام إحدى رياضاتها : ” احفظ لله وحده أعماق نفسي ، وحياتي الداخلية ، وأقدم للغير طلاقـة وجـه ، ومجاملة ، وطيبة ، وكلاماً ، وأعمالا صغيرة . وفي هذه الحـال ، لا أتـرك الله إلا أقل ما يمكن. وهذه أفضل طريقة لعطاء الله. فنجعل المسيح الحيّ الحاضر وسطنا مثالاً لحياتنا، وصديقاً لنا في كل ساعة من ساعات التنزه وساعات البركة. ونسأله أن يبلغ حبه إلى النفوس بواسطتنا، لنكون شبه وعاء غليظ يحتوي على نور باهر ينير من خلال غلاظته ، ويدفئ كـل ما حوله.
هذا ما يعلمه جميع معلمي الحياة الروحية.
يقول الأب نوِّه : “إن الآب السماوي يتراءى، بلا انقطاع في كلمته، ويرسله إلى العالم ، ولا يني يحتضنه في حضنه . فكلمتك أنت هي نظرتك إلى الله، حاضراً فيك، ونظرتك إلى نفسك حاضراً في الله. فعليك ألاّ تفارق كلمتك. وإذا مددتها إلى موضوعات أخرى، فينبغي لك أن تستردها سريعاً . وإن ابتعدت مرة ، يجب ألا تنفصـل عنك . لا يكن ابتعادها خروجاً ، وإن خرجت، يلزم ألا تفارقك”.
ويقول القديس فرنسيس ديسال، وهو يعطي نصيحة بصورة تشبيه: “إن شخصاً وضع في وعاء صيني شراباً غالي الثمن، وحمله إلى داره. فهو يسير على مهل ، لا يلتفت إلى ما حوله ، بل ينظر تارة ، أمامه ، حذر أن يعثر بشيء ، وأخرى إلى الوعاء ليرى هل هو لا يميل إلى جانب. فعليك أن تفعل مثله . عند خروجك من رياضة روحية ، فلا تتشتت ، حالا ، بل انظر أمامك ، ثم انظـر إلى قلبـك ، لكيلا يسيل شراب العبادة منه إلا قليلا ” (مدخل العبادة).
وقد يمنح الله مثل هذه النفوس الممتازة سهولة خاصة . يروى مؤرخو
القديسة ترزيا أنها لم تكن، أثناء أسفارها، تفقد رؤية الضيف الإلهي، لحظة، وكانت تملك في صميم نفسها الأقانيم الثلاثة، وتشعر بحضورهم، وترى أنهم يصحبونها. ولم تكن تمر بها برهة من الوقت دون اختلاء، وكانت تتمنى ألا يكون عليها أن تتحدث إلى أحد من البشر.
لا شك أن القديسين لا يشبهوننا.
وكأن الله يرتضي أن يكافئ بعض النفوس الداخلية، فيمنحها قدرة على الاختلاء، حتى في أشد الأحوال تشتيتاً. فالقديسة مرغريتا مريم كانت تشعر بحضور الله في غرفة الطعام بالرغم من القراءة العادية. وإميلي دولترمون مؤسسة راهبات السجود قد شعرت بدعوة الله لها، وهي في سهرة راقصة، فقالت حينئذ: “أنت وحدك في حياتي، يارب”. وتيودلين ديبوشيه لم تفقد الاتحاد بالله، طول استماعها إلى رواية غنائية.
هذه امتيازات ليس لنا أن نطمع بمثلها، ما دمنا نميل إلى التشتت؛ ولكن لا يصعب علينا أن نتشبه بتلك القروية التي كانت تقول، بعد مناولتها ، وهي جاثية : ” يارب ، يسوع المسيح ، لن أنسى أنك معي”.
وإن لزمنا أن نتعاطى مع الآخرين، يتعين علينا ثلاثة أمور: أن نتكلم برزانة ، لأننا بيت قربان ، وأن نتكلم بنية سليمة ، لأننا نكلم بيت قربان، أو من يعدّه الله لكي يكون بيت قربان. ثم نتكلم بمحبة ، لأن من نخاطبه هو أيضاً بيت قربان أو قادر أن يكونه.
وإن كـان ما يدعوني إلى الخارج هو صوت الرسالة أو دعوة إلى
مساعدة القريب، فليكن أول اهتمامي ألا أفقد حضور الله.
إن الكاهن يلتفت ، مـراراً ، إلى الشعب وقت القداس ، ويقول: ” الرب معكم ” ففي ذلك مـا يحملنا على الالتفات إلى نفسنا ، مراراً في النهار وعلى القول : ” الرب معك ” ولو عندما نقول : السلام عليك يا مريم … “الرب معك”.
وترى الأخت أليصابات ليسور أن بلوغ النفس إلى الحياة المثالية تقتضينا أن نحيا في جـو فائق الطبيعة : فنعلم ” أن الله ماكث في صميمنا ، وأننا نمضي ، معه ، إلى كل شئوننا ، فيكون حينئذ لحياتنا قيمتها ، وإن لم نقم إلا بأمور مبتذلة . لأننا لا نحيا في هـذه الأمور ، بل نتجاوزها. والنفس الروحانية لا تتعاطى والعلل الثانوية، بل مع الله رأساً”.
ثم تضيف إلى ما تقدم: “أما في العمل، فبينما نكون في الظاهر قائمين بعمل مرتا، يمكن نفسنا أن تبقى دائماً مشغولة مثل مريم في تأملها ، لا تفارق هذا الينبوع المتعطشة إليه.
ها هي ذي الحياة الرسولية كما أفهمها.
وللأسقف جاي عبارة وجيزة في هذا المعنى: “أنت هيكل؛ فاترك الأشياء في ساحة الهيكل، والناس في صحنه، واحفظ لله قدس الأقداس”.

الفصل الثالث

الظفر بالكنز

ما كان الدفاع، يوماً، خطة من يريد الملك من الشعوب– ولا خطة النفوس- فلا يكفي أن نحصّن الداخل ، حيث يقيم الله . فإن هذا الداخل لن يكـون لنا ، ولن يغدو حقاً لنا ، إلا إذا ظفرنا به عنوةً ، بثمن غال وكفاح طويل.
ومعلمو الحياة الروحية متفقون على ذلك، والاختبار الشخصي يشهد على أننا لا نجد الله إلا إذا خسرنا نفسنا.
ومن ظن أن الانتقال من خارج الأشياء إلى داخل النفس أمر سهل يسير، فقد وهم كثيراً. فافتح كتاب الاقتداء، والحرب الروحية، ورياضات القديس أغناطيوس ، والقديسة ترزيا، والقديس فرنسيس ديسال وأي مؤلف آخر في الحياة الروحية، تجدها جميعها تتضمن هذه العبارات: أهلك نفسك ، خالف هواك ، ضحّ ، حارب . فكل هذا يشير إلى الحرب. وأيّ كتاب تقوى خلا من ذكر محاربة النفس، فليس بكتاب تقوى صحيح.
وكثيرون يجبنون، لأنهم لا يعلمون ما الداعي إلى هذه الحرب الروحية، ويخافون من هذه الكلمات: “هلاك النفس، ومخالفة هواها ” . فيقولون :
إذن، هناك كبت للنفس، يحرم الإنسان معه من أعز ما يتمسك به.
فيخلق بنا أن نتجاوز الظواهر وندخل إلى الصميم، فنرى ما هنالك من الغنى ومن الأنس الممكن.
فإذا أمسكني لخوف من الألم ، دفعني الحب على الإقدام ، وشجعني مخلصي بمثله؛ وإن ارتبت في عاقبة مجهودي، ظهرت لي نتيجته مضمونة واضحة.
أما وقد ظهرت لي عاقبة محاربتي، فهأنذا أمضي وأحارب ما اقتضت المحاربة . فقد فهمت لماذا أخاطر بنفسي : لكي أظفر بامتلاك هذا الداخل الذي يقيم فيه الله نفسه.
ولابدّ لهذا الظفر من ثلاث مراحل: أن أعمل على أن أعرف نفسي- أن أعلم أني لست وحدي، بل أني اثنان: الضيف الإلهي وأنا.
وبعد هذا أفهم أن هنا واحداً زائداً. وأنه ينبغي حذفه بتصغير محلي، حتى أترك الملك جميعه لله.
بالاختصار:
أنا وحدي،
هو وأنا،
هو وحده.
أنا وحدي:
يبدو ، بادئ بدء ، أن ” معرفة النفس ” وجمع شتاتها من أيسر الأمور . أمـا يحب الإنسان ، بعـد فراغه من شئوونه ، أن يـأوى إلى
بيته؟- قد يأوى إلى بيته، ولكنه لا يدخل إلى نفسه.
لما دعا ربنا زكا، وهو في إحدى طرق أريحا، أن يعود إلى بيته، فماذ1 صنع زكا وأين كان؟
كان زكا على جمّيزة ينظر. ونحن مثل زكا في مكان، ننظر ونتلهى بمنظر الناس، والحركة والضجة.
لكن زكا كان يريد أن يرى المسيح، وهذا ما أطلعه على الشجرة. فهل ” نخرج ” مثل زكا ، لنشاهد ربنا ، أم لنتمتع بصياح الناس وضجتهم واصطدام بعضهم ببعض؟
“انزل يا زكا عن الجميزة انزل”.
فالله يوجه إلينا الدعوة نفسها. فنزل زكا مسرعاً. أما نحن فما أطول تباطؤنا في النزول.
” اليوم ينبغي لي أن أمكث في بيتك ” فانـزل وامض إلى بيتك ، بلا تأخر ، اليوم اليوم ، الساعة ، لا تتغيب ، يلزم أن ألتقي بك .
المسافة من أعلى الشجرة إلى أسفلها، إلى البيت، ليست طويلة عشرات أمتار. لكننا يصعب علينا قطع هذه الأمتار.
كان زكا في الطريق يلتقي بكثير من الناس، وكانوا يريدون أن يؤخروه، أو يشغلوه ويلهوه. فالأباطيل جذابة، ولابد من كثير من الشجاعة للتفلت من جاذبيتها. وعند القديسين الخبر اليقين.
سمع القديس بامبون ما جاء في المزامير: إن الله لا يكون مع من يعيش منصرفاً دائماً إلى الأمور الخارجية. فقال: “كفى ، متى حفظت هذا الدرس، أعود لأسمع الباقي”. وبعد أن أمضى في البرية تسعاً وأربعين سنة، قيل له: هل نجحت؟ فقال: حتى الآن، لا”.
هذا، ولا شك، جواب إنسان متواضع، ولكنه دليل على صعوبة الحياة الداخلية.
ومن لا يرى في الأمر صعوبة فليراجع ما شاء من كتاب الاقتداء بالمسيح، ولا سيما الكتب الثلاثة الأولى، فيعلم أن لا سبيل إلى الاختلاء إلا بالتخلي أي بالتجرّد ، وألا بلوغ إلى ” الداخل ” إلا بالزهـد ، والمرور على حطام الأوثان من شهواتنا وأهوائنا. وطرح الركونية جانباً. (le quietisme) ، فبينها وبيننا مسافات بعيـدة ، لأن الحيـاة الروحية لا تؤسس على الراحة السلبية.
هو وأنا:
وليست الأمانة في المرحلة الثانية بأقلّ منها ضرورة في المرحلة الأولى. فمتى بلغت النفس ، وهي في حال النعمة ، أن تعرف ذاتها فإنها تلتقي بالله فيتحول شعارها من “أنا وحدي” إلى كلينا “الله وأنا” ولكن في أشياء أخرى، إذا نظرنا إليها عن قرب تبيّنت لنا كثرتها.
ويحدث من ازدحامها ما حدث من قبل في بيت لحم، حين راح الرب يطلب موضعاً يولد فيه. وذلك أمر يسير كأمور هذا العالم جميعها. ولكنا نعلق عليها من الأهمية ما يجعلها تتسلط علينا؛ حتى إذا جاء الله ووقف على بابنا… سمع الجواب الذي سمعه من قبل: “لا محل عندنا له”.
فنفسنا فندق ، يستقبل كل رائح وغادٍ ، إلا الله ، فليس له فيها محل ، وهو ، وإن يكن مقيماً فينا ، ونحن في حال النعمـة ، فإنـه ، على العموم ، كأنه غير حاضر ، لأننـا نجهـل حضـوره ، أو لأننـا لا نلتفت إليه.
ويبقى الضيف الإلهي منبوذاً في زاوية، وحده، ينتظر من يكترث له، فلا يجد- إلى أن يأتي يوم يصبح فيه طلبه الصامت حكماً قاطعاً: “كنت غريباً ، فلم تؤووني ، وجوعان ، فلم تطعموني ، وعطشـان ، فلم تسقوني”، كنت فيك، فمنعك تشتتك عن إيوائي، وكنت متعطشاً إلى إعطائك ذات نفسي ، فلم تلبّ دعوتي ولم تكترث لجوعي . عطشت إلى هذا الحب الذي طالما وزعته أنت على ما هو دوني من الخلائق الحقيرة. كنت عطشان إلى أن أراك تكسر من حدة انهماكك في الملاذ، وتسيطر على أهوائك، وتتحرر مما كان يستعبدك من الأباطيل، حتى أستطيع أنا أن أملك على نفسك الخالية. ولكنك لم ترَ ولم تفهم شيئاً، أو لعلك رأيت وفهمت، ولكنك لم ترد! أسلّم بأن التخلي عن اللاشيء من أجل الكل صعب ، ولكن ، أما خلقتك عاقلا ، أمـا منحتك الجنسية الإلهية؟ إذن …؟
فإن يكن على كل مسيحي يريد إتباع المسيح أن يحمل صليبه ويميت نفسه ، فمن أجدر بذلك ممن ينزع إلى كمال الحياة المسيحية !
إن النعمة التي نقبلها في المعمودية تلقى فينا بذار الحياة الفائقة الطبيعة، وهذا البذار هو الله كله، ولكنا نقبله بنوع محدود، تبعاً لطاقة كل منا.
وعلى قياس اختيار العناية.
وهذا البذار ينمو بفعل الروح القدس ومعاونة النفس الواجب عليها “أن تميت بالروح أفعال الجسد”.
ويعتبر القديس بولس، بكل صواب، أننا نقبل في المعمودية عربون هذه الحياة الإلهية ، لا غير ، مما يفسر لنا كيف يمكن أن يقتصر امتلاك الله على بعض النفوس البارة، وكيف يمكنها، على ذلك، أن توسع طاقتها على احتواء الله، إذا تركت المسيح الذي حررنا بدمه من عبودية الخطيئة، أن يحررها، رويداً رويداً، بتلبيتها لإلهاماته.
فهو، بعد أن خلص جميع النفوس بنفسه، وبدون مشاركتها، يقدّس بروحه كل واحد، بحسب موافقته.
وبهذا نفهم أشواق القديسين الحارة.
إن بولين رينولد كتبت في رياضتها سنة 1902: “يمكني أن أزداد نموّاً في الحب ، والاتحاد ، وأزداد طاقـات في امتلاك الله إلى الأبـد ، ما مد الله في حياتي. أما الموت، فإنه يجمّدني فيما أكون عليه، حين قدومه. فكم أهملت في حياتي من تمجيد الله ومن استحقاقات! لعل هذا آخر مجهود من قبل الرحمة الإلهية”.
ويقول القديس بولس في رسالته إلى تلميذه تيموثاوس : ” ينبغي أن نموت معه لكي نحيا معه”.
وكان ربنا يقول لإحدى القديسات: “لم يبق إلا أنت وأنا. فأي تجرّد من كل ما سوانا حتى لا يبقى سوانا!” وكان شعار الأخت أليصابات : ” وحدنا ” ولكن ، يقتضي هذا الشعار مـن التضحيات حتى يصبح حقيقة لا صيغة لفظية.
وإليك أخيراً ، نصيحة القديس يوحنا فيانّي : ” لا يحل بينكـم وبين الله حائل”.
الله وحده:
تستطيع النفس أن تخطو أخيرة ، ثم تختفي عـن النظـر ، فتصبح لا ترى في كل شيء غير الله وحده.
فقد بدأت تملك وجودها تماماً، “قلبي في يدي كل حين “. ودخلت في ذاتها فوجدت أنها ليست وحدها. وإذ هي قد وجدت الله فيها، فلم يبق لشيء حساب عندها، حتى هي عينها فإنها دون الجميع؛ وها هي ذي مرحلة الصعود الروحي الأخيرة. أوجزها من قال: “وجدته على حدودي”.
ويخطر على البال أن الاختفاء أمر يسير. ولكن دلت فحوص الضمير المتكررة أن نفس الإنسـان في أعماقها ليست جميلة . قيل : والمرءُ مهما علا أصلا ومنزلةً حقُّ من الطِّينِ في أعماقِه نتنُ
فهناك الدناءة، والجبانة، ونقض الوعود، وقطع الصلوات، والتشتت غير المعذور. وهذه جميعها تزيد وتتوافر؛ لا أتكلم عن الخطيئة، لأن غرضي الكلام عن نفس سخية في حال النعمة أو هي ساعية في طلبها.
ومع ذلك فهي تشعر كأنها في حاجة إلى الهرب من ذاتها ، أو أن
تبقى في مكانها وتترك الاهتمام بالصلاة، لئلا تضجر الرب بتكرير طلباتها وسرد أنواع محنتها. فتقول:
لو أني ، بدلاً من أن أحدثه عن نفسي ، لا أحدّثه إلا عـن شخصه . . . فأكلمه عن غناه ، بدلاً من فقري ، وعـن رحمته بدلاً من بؤسي ، وعن صليبه ، بدلاً من صلباني ، وعن مجده بدلاً مـن الكلام على ضآلة مطامعي : ” المجد لله في العلا . . . المجـد للآب والابن والروح القدس… لك الشكر على عظمة جلال مجدك”.
مهما كانت هذه العاطفة سامية ، ومهما كانت صوابية ، فلن يمكن إلا أن يكون فينا ، ” نحن ” ، هذا الإله الساقط الـذي لا يني يتذكر السماء!- فينا نحن كل عيوبنا، وصغارنا، وعاداتنا المتأصلة، وأنانيتنا التي لا تموت، إلا بعد ربع ساعة من وفاتنا، كما يقول القديس فرنسيس ديسال.
وكان القديس أغسطينوس يصرخ إلى الله: “والآن، يارب، عهداً عليّ : إني أريد أن أموت عن نفسي ، لكي تحيا ، وحدك ، فيّ ” . والأب أوليه يقول في صلاته : ” أيها الكل ، يا كلي ، ما أنا ، بعـدُ ، أنا ؛ ما أنا إلا أنت” . فتصور ما تكلف من تضحيات ، حتى تقدّم ضحية لله . ” كنت أفرح ، يا إلهي ، أن أمثل أمامك ، ذبيحـة ، وأقول لك: يا لإله قلبي، لا تشفق عليّ، اقطع، وحطم وقطع الذبيحة تقطيعاً”.
ويسمع الكثيرون عن اتحاد القائد ديسونيس بالله، ولكن قلّ من
يعرف بأي تعابير كان يعبر عن تضحياته : ” تباركت يا إلهي، حينما تمتحنني . أحـب أن تسحقني ، وتفنيني ، لاشِني ، أكثـر ، فأكثر ، قلّبني وململني ، واهدمني ، وانحتني . أريـد أن أتلاشى حبّاً لك . . . أتمنى أن أكون مصلوباً، على أن تكون أنت صالبي”.
وليس المقصود هنا التضحية بالكبائر، بل التضحية بجزئيات الصغائر، بأقل هوى طبيعي.
وإليك كلام القديس يوحنا الصليبي في كتاب “عقبة الكرمل”، الفصل الحادي عشر وعنوانه:
” يلزم النفس أن تكبح أصغر أميالها حتى تدخـل في الاتحـاد الإلهي ” .
ثم يقول: وسبب ذلك أن الاتحاد الإلهي يقوم بتحوّل النفس إلى إرادة الله، التحوّل كله، بحيث تكون إرادته تعالى هي الأصل والباعث الأوحد إلى كل شيء، كأن إرادة الله وإرادة النفس ليستا إلا إرادة واحدة. وهذا التحول ضروري، لأن النفس قد يكون فيها ميل إلى نقائص ينكرها الله عليها، فهي تريد أموراً لا يريدها”.
وعقبة الكرمل هي تفسير للمنهج الآتي:
“إن شئت أن تذوق الكل، فلا تذق شيئاً.
“إن أردت أن تملك الكل، فتمنّ ألا تملك شيئاً.
“وإن أردت أن تكون الكل، فأرد ألا تكون شيئاً في جميع الأشياء.
“ومتى توقفت في شيء، فإنك تتوقف عن إلقاء نفسك في الكل.
“وإن أردت أن تمضي من الكل (الخليقة) إلى الكل (الله)، فينبغي لك أن تتخلى عن الكل للكل.
“ومتى بلغت إلى امتلاك الكل، لزمك أن تحافظ عليه، غير طالب لشيء سواه.
“لأنك إن أردت أن يكون لك شيء مع الكل، فليس كنزك كله خالصاً في الله”.
إننا نقوم، بلا مشقة، بالتضحيات الكبيرة، ولكن الصغيرة تكلفنا كثيراً.
قرأت بولين رينولد، وهي في الثانية والعشرين من عمرها، الكلمات التالية مكتوبة على صورة: “إن شئت أن تكون كاملاً، فلا يتعلق قلبك بشيء؛ امنح يسوع المسيح حبك كله”.
ثم كتبت: “تذكرت، حينئذ، أشياء صغيرة كنت أحتفظ بها احتفاظي بكنوز ثمينة، فعزمت أن أضحي بها… كانت عندي رسائل عزيزة من أيام طفولتي، كنت أحبها كثيراً، ولا أفارقها بتاتاً. فجمعتها حزمة ، وأنا لا أجسر أن أنظر إليها ، وسلمتها إلى الكاهن (معرفها) لكي يحرقها ، لأني لم أكن لأقوى على إعدامها. . . وقـد مـزّق قلبي ما فعلته تمزيقاً… ثم عدت ففتشت غرفتي ، وكل ما كان فيها من رسائل ، وشعور وزهور يابسة فألقيت بالجميع في النار. فكانت تضحية لا حدّ لقساوتها، ولا أظن أني أتيت عملا كلفني مثل كلفتها”.
ويشعر من يطالع سيرة بولين رينولد أن الله قد جعل تلك التضحية
الكبيرة شرطاً لما حباها من النعم الغزيرة.
وهي تقول: “ما عدت، من تلك الساعة أشعر بأقل تعلق بشيء، فقد فهمت غيرة من كان يصرّ على أن يملك قلبي ، ولم يكن ليحتمـل أن يكون له فيه شريك من رسالة أو زهرة”.
وقد تقتضي غيرة الرب الإلهية، أحياناً، ذبيحة أشد تعذيباً. فإن القديسة حنة دي شنتال لزمها أن تمر فوق جسوم أولادها المنطرحين على باب المنزل، لكي تلبي دعوة الله لها.
هكذا كانت كلمة الله إلى موسى في سبيل أرض الميعاد: “اخرج، ارحل… اقطع”. كما كانت شعار كل من صحبوا موسى في طريقهم إلى أرض كنعان.

خاتمة

كثيرون يحسبون التقوى، حيث لا تكون.
فقد يظنونها في هيئة أو في حركة، كما فعل السيد كامي صديق القديس فرنسيس ديسال، عندما أراد أن يقتدي بكماله، فلم يجد أحسن من أن يقلده في انحناءة رأسه؛ ولكنه لم يلبث أن شعر بأن ذلك لم يكن من القداسة. وتقول القديسة ترزيا الصغيرة: إنها كانت أحياناً تكاد تفقد صبرها من همس أخواتها صلواتها في جوارها.
ويعتقد آخرون أن التقوى مسألة شعور. فإذا منحهم الله بعض تعزيات روحية ، عدّوها أجـراً نقداً عن فضيلتهم وخلطوا بين السهولة في الصلاة وبين الفضيلة.
وغيرهم يحسب التقوى بكثرة الصلوات والعبادات…
إن التقوى الصحيحة تقوم بروح تنعش الحياة، هي تقوى رصينة مؤسسة على الفهم والإيمان، لا على العاطفة؛ يرعاها الزهو التقليدي والكفر بالذات.
وهي، فوق ذلك، تقوى عميقة تبلغ صميم هذا الداخل الذي نحمله فينا وتقضي إلينا من هناك بسر “الملك”.
إن علم “الله فينا” هو قمة التقوى، لأن مشكلة وجودنا العظمى الفريدة إنما هي هي مشكلة تأليهنا.
ففكرة الله فينا فكرة رحبة لا تنحصر في نقطة محددة ، بل تنظر إلى الأعظم والأجمل، دفعة واحدة.
وكل شيء معها يستنير بنور الله. فنصبح حقّاً فاهمين كل الفهم، وأشرف الفهم، ونتعود أن نطالع في داخلنا، في داخل نفسنا هذا الكتاب الثمين المقفل غالباً.
ولا يعود يهمنا في جميع ما نرى سوى “الداخل”. ولا نفتش بين كل ما يجري من الأحداث إلا عن أثر الله ، وفعـل الله وتاريخ الله . فيبدو لنا الإنسان، بين من حولنا من البشر، ضئيلا بجانب الله الذي يحيافيه، فنريد أن نحيا فيه. ثم ندرك أن أمراً واحداً في العالم جدير باهتمامنا، وما هو إلا حياة الله في النفس.
والأرض لا تعود شيئاً، يوم لا يبقى عليها ما يكوّن قديساً.
رحبة أيضاً “فكرة الله فينا” لأنها تجبر النفس على مواصلة الجهد لكي تتسامى وتتبسط وتترك محلا لله، كما يقول القديس يوحنا المعمدان: “له أن يكبر وعلي أن أصغر”.
إن التأليه في ناسوت الرب قد تمّ كاملا، منذ البداءة، أما فينا نحن المسحاء الآخرين، فالحياة الإلهية فينا قابلة للزيادة. نكون أولاً ” براعم إلهية ” ، بحسب تعبير الآباء ، معـدّيـن لأن نصبح ” زهوراً إلهيـة ” . لا نملك ، أول أمرنا ، إلا بداءة جوهره (عبر ، 14:3) ولكن لنا أن ننمو إلى النهاية: “يبلغ إلى تمام نموه في الله” (كولس ، 19:2).
وهذه التقوى الرحبة تصبح قوة محركة تؤثر فينا تأثير محرّض دائم :
“أينعس أو ينام حارس إسرائيل؟”
أي المبادئ والتعاليم جدير بأن يولد الطهارة في الإنسان نظير هذا المبدأ: “الله يحيا فيّ”.
يقول القديس أغسطينوس : ” إن المسيح في وسط داخلنا ، يرى من هناك ما تصنع أيدينا، وما يقول لساننا، وما يفكر عقلنا، وما تكون عاطفتنا . فبأي سهر ، وتقوى ، وأية عفة ينبغي لنا أن نحيا ، ما دمنا كل حين، تحت نظر هذا الإله القدوس!”
ويقول القديس أنسلم: “أيها المسيحي، أما قال لك الرسول إنك جسد المسيح عينه ؟ فاحفظ ، إذن ، هذا الجسد وهذه الأعضاء في كل ما هي خليقة به من الكرامة. إن عينيك هما عينا المسيح، أتدير عيني يسوع المسيح من هو الحق إلى جهة الباطل؟ وإن شفتيك هما شفتا يسوع المسيح، أتفتحهما ، لا أقول للافتراء وردئ الكلام ، بل للتافه وغير المفيد من الأحاديث ؟ فبأيّ حذر وأي اهتمام ، يجب علينا أن نرعى جميع حواسنا وأعضاء جسدنا ، لأن المسيح نفسه يرعاها ، ويملكها ويرأس أعمالها”.
وأيّ المبادئ يولد الغيرة خيراً من هذا المبدأ: “الله فينا”.
فمن رأى المسيح على أبواب النفوس مطروداً، لا يتمالك أن يتساءل كإيليا ، قديماً : ” ما تصنع هنا ، يا إيليا ؟ ” يمضي – الآخرون إلى القتال- وتبقى أنت مكانك؟ كأنّ من المحال ألا نمضي ونصرخ في الجموع مثل يوحنا المعمدان: ” إن بينكم – إن فيكم – من لا تعرفونه”.
كانت بولين رينولد تقول: “أيكفي أن أعرفك وأحبك؟ – كلا! أظهر، يا رب، نفسك للعالم، للجميع ! اجعل محبيك، ومكرسيك يعرفونك كل المعرفة ويعرّفون الغير بك! أوح إلى النفوس بسحر أسرارك المقدسة، حتى يتعطش جميع المسيحيين إلى أن يقدموك إلى النفوس والعقول والقلوب!
” ثم ، يا يسوع ، إلهي ، هذه الملايين والملايين ممن يعرفونـك ، البتة ، ولا يعرفون تجسدك وأسرارك ، وإنجيلك . وكنيستك عندهم كلاشيء . . . رحماك ! أظهر نفسك للعالم ” .
“تقوى فرحة” ليس فيها سوى غمّ واحد ، ألا نكون قديسين . كم من مسيحيين كانوا يحتملون محن الحياة أجمل احتمال، لو كانت عندهم معرفة وتجربة بما يحملون، أو بما كان واجباً أن يحملوه دائماً من الخير “الله في نفوسهم بالنعمة المبررة”.
يمكنا أن نفقد كل شيء ، ولا ينقصنا شيء ، إذا بقي الله معنـا فقد يتركنا الجميع، ولا نحرم كثيراً إن لم نترك الله.
وحدنا ، مع الله ، أكثرية ! وحدنا مع الله وحدة عامـرة بكـل ما يرضي النفس ويفرحها.
تقول أليصابات ليسور في مذكرتها: عندنا فرح لا يستطيع شر المصائب أن يلاشيه، هو نور يضئ أحلك الظلمات، وقوّة تسند كل ضعف. وحدنا، نسقط على الأرض كما سقط المسيح، وهو حامل صليبه؛ فنمشي ، مع ذلك، وسقطاتنا عابرة، ثم ننهض ظافرين. لأننا نستطيع كل شيء بمن يقوينا . كائنات ضعيفة نحمل فينا قدرة لا حد لها، وفي أعماق نفسنا نور لامع لا ينطفئ. فكيف لا نفرح فرحاً فائق الطبيعة، بالرغم من كل شيء، متى كنا نملك الله في الدنيا وفي الآخرة”.
تقوى محررة. أي تناقض بين من يستحيي من طيبته ومن يفتخر بشرّه. إن تسلك حسناً، فعيب، وإن تسلك شراً ، فشرف . هوذا انتصار الشيطان وانخذال الإنسان هذا الانقلاب الوحشي في القيم .
أسير في الشارع ، فيسخر مني ، لأني ذاهب إلى كنيسة لأتناول. أنا الذي يحيا الله فيّ، أستحيي وأختبئ خجلا، فما الحياء البشري إلا احتقار لله. جيف تهزأ بالأحياء، وأحياء يبالون بسخرية الجيف!
كان القديس لاون الكبير يقول: “اعرف عظمتك، أيها المسيحي، وتعلم أن تتحرر، أنت ابن الله، ابن ملك، وتبالي بابن عبد؟ ارفع رأسك، وامش، عالي الجبين. إن حقَّ لأحد أن يستحيي ويختفي ، فليس إياك أنت. اعلم ذلك ولا تنسه.
إنا نعيش في عالم منقلب. فلنعدّل القيم: ليس عيباً أن نعيش أطهاراً، وأن نصلي ونحمل الله. العيب أن نخون إيماننا، وننسى الله، ونفعل الخطيئة، هذا هو العيب. فصدّق ذلك ونادِ به، عند الحاجة.
لاتحتقر غيرك، ولاتستكبر بنفسك. فإن كان البعض بدون الله، فقد يمكن أن تكون أنت مثلهم؛ وما أنت فيه، فلن تدوم فيه طويلا، من دون الله.
لا كبرياء ، بل شهامة . أنت في حال النعمة ، تحمل الله : ما أعظمها حالة!
يقول هلّو: “قد يصبح العجب مستحيلاً، إذا تصوّر البشر ما هم عليه من العظمة. إن صوت المجد فيهم حريّ أن يسكت همسات الأنانية الخافتة. فالله يريد أن يحيينا بحياته، وأن يعطينا ذاته، وهو غير المحدود ينهاك، لما أنت عليه من السمو ، عن أن ترضى بما هو دونه . يكلمك عن ثمن فدائك حتى تعرف قيمتك؛ وينظم لك أفراحاً وأمجاداً ينبغي لك أن تصير أهلا لها وتحتمل الافتكار فيها.
” أنت الشاب ، أخا التلميذ الحبيب ، ترضى أن تجـاري سخيفاً لم ينفك يتكلم من عشرين سنة لكيلا يقول شيئاً”.
هذه التقوى العميقة، الرحبة، المحررة نرى مثالها الرفيع في العذراء السامية القداسة . فقد حيّيناها في مطلع هذا الكتاب كمـا نحب أن نختمه بذكرها.
روى عن الأب أوليه أنه كان يسمع غالباً صوتاً يقول: “أريد منك أن تحيا في تأمل دائم”. فمريم لم تكن تحتاج إلى من يذكّرها أن تعيش عيشة “داخلية” فقد كانت ، من قبل البشارة، تحيا في ملء الحياة الإلهية!
وجاءت البشارة: “الروح القدس يحلّ عليك” . وقد كان ، بالنعمة، ساكناً دائماً فيك هو والآب والكلمة. ولكنه يحلّ عليك الآن حلولا يعزّز الحياة الإلهية فيك إلى أقصى الحدود. فمنذ الآن إلى الميلاد، تحملين فيك ناسوت المخلص المقدس.
وما ونت مدة حياته البشرية، تنمو مثله في النعمة بمواجهة أمثلته وأقواله وحياته.
ولما انفصل يسوع عن مريم ليعود إلى أبيه، لم يبق لها من حضوره البشري، إلا حضوره القرباني مثلنا. ولكنه ظل من عند أبيه يرسل الروح القدس إلى التلاميذ فتفيد مريم سيدة الرسل، وهي بينهم، من حلوله، الفيض الأوفر.
ويمكنا أن نتأمل مريم، بعد العنصرة ، عند يوحنا.
لقد فارقها ابنها الإلهي، ولكن الحياة الإلهية فيها لم تفارقها، فحياتها تمرّ في حديث داخليّ ، مع ضيوف نفسها الثلاثة . فلا أحـداث كل يوم هناك، سوى قداس الرسول، أعظم أحداث التاريخ البشري… تكرير الساعة الفاضلة، إذ أخذت أرضنا الخاطئة تسير نحو ملء الحياة الفائقة الطبيعة.
كان رويسبروك يقول: “لا عمل لي في الخارج”.
وهكذا كانت مريم تقول: لا عمل لي في الخارج، إنما عملي في الداخل.
ما أسعد ما نكون، لو أن بعض من يطالعون هذه الصفحات يشعرون بالرغبة في أن لا يحيوا في الخارج، بل في أن يدخلوا إلى داخلهم ويبحثوا عن الحاضر فيه بالنعمة، الله الآب والابن والروح القدس.
قال السيد دولست: “ما أشد ما تكون دهشة الكثيرين، حين ينكشف لهم، ساعة موتهم ، هذا الداخل وما كانوا يحملون فيه من غنى لم يشعروا به مدة حياتهم”.

فهرست
الكتاب الأول:
مواهبنا الفائقة الطبيعة
الفصل الأول: الأنس بالله
الفصل الثاني: النظام الفائق الطبيعة
الفصل الثالث: الفداء
الكتاب الثاني :
سكنى الله فينا
الفصل الأول: نفسنا هيكل الله
الفصل الثاني: نحن سماء
الفصل الثالث: نحن مسيح آخر
الفصل الرابع: تحقيق مواهبنا الفائقة الطبيعة
الكتاب الثالث :
الخطيئة المميتة تقطع بيننا وبين الله
الفصل الأول : القطيعة بيننا وبين الله الآب
الفصل الثاني: القطيعة بيننا وبين الله الابن
الفصل الثالث: القطيعة بيننا وبين الله الروح القدس
الكتاب الرابع :
النعمة وعلاقاتنا الممكنة بالله فينا
الفصل الأول : علاقات المسيحي العادي بالآب
الفصل الثاني: علاقات المسيحي العادي بالكلمة-الابن
الفصل الثالث: علاقات المسيحي العادي بالروح القدس
الفصل الرابع: علاقات المسيحي العادي بالثالوث الأقدس جميعه
الكتاب الخامس :
ممارسة الأنس بالله، ساكناً فينا
الفصل الأول : في اشتهاء الكنز
الفصل الثاني: في حفظ الكنز
الفصل الثالث: الظفر بالكنز: أنا وحدي، هو وأنا، الله وحده
خاتمة
مطابع دار المعارف بمصر

* ترسيوس صبي روماني كان يحمل القربان في حق للمسجونين من المسيحيين ، ومات شهيد القربان.