المزمور التاسع والعشرون: صوت الرب

المزمور التاسع والعشرون: صوت الرب

همسات الروح

تأمُّل في سفر المزامير

بقلم الأب/ بولس جرس

المزمور التاسع والعشرون

صوت الرب

أولًا: تقديم المزمور

المزمور التاسع والعشرون مزمور مديح وحمد، يجمع فيه المرنّم نشيد الكون مع نشيد الشعب لتمجيد الرب الإله رب الكون والمالك على شعبه. يرى بعض المفسّرين والدارسين أن الكاتب استوحي أفكاره من بعض الأناشيد الكنعانيّة ودمجها في صلاته، لا سيّما تلك الخاصّة بالإله “هدد“، إله الرعد عند الكنعانيين، فهو يستعين ببعض الصور والاستعارات الأدبية الواردة فيها، وذلك بعد تنقّيتها من كل أثر للشرك والوثنية، فلا يعود الرعد شخصًا يُعبد، بل مجرد صوت الله القدير، والبرق مجرد شعاع… وهكذا تمتزج تلك الصور الشعريّة بخبرة الشعب العبري أثناء تجلّي الرب الإله على جبل سيناء (خروج 9: 16). يوم رآه العبرانيون متجليًا أمام أعينهم وسمعوا في الرعد صوته، ورأوا في البرق لمعان وجهه، حتى خافوا من ناره الآكلة وفضّلوا أن يستمعوا إلى موسى، على ألاّ يسمعوا صوت الله الرهيب مرة أخرى.

ويقول بعضهم أن المزمور يمكن أن يكون قد كُتب إثر خبرة حقيقية، فربما شاهد داود النبي عاصفة مرعبة حلَّت فجأة من جبال لبنان في الشمال منحدرة إلى برية قادش جنوبًا، وما أثارته من رعد وبرق خاطف باهر، وما نَجم عن ذلك من فزع وقنوط في نفوس سكان تلك المناطق… لما صاحبها من ضراوة وعنف وحرائق. على أن الأمر لا يتوقّف عند العلامات الخارجية والظواهر الطبيعية، بل يجب أن يُفهم كشهادة حية عن الله الحي، إله الخلاص الحاضر في تاريخ شعبه.

ويرى آخرون أن الأمر طبيعي لا يحتاج إلى تأويل أو تفسير، فقد كان داود النبي إنسانًا رقيق الحِس، مرهف المشاعر، يعرف كيف يعزف على أوتار قلبه أنشودة حب الله في كل مناسبة وتحت أي ظرف؛ فإذا ما تطلّع إلى السماء الصافية قال: “السموات تحدِّث بمجد الله“، وإن شاهد عاصفة رعدية وثورة في الطبيعة يتلمس صوت الرب الفعّال في حياة البشرية. وحتى إن دخل في ضيقة نراه يتلامس مع الله مخلصه، ومتى جاءه الفرج تمتّع بعربون الفرح السماوي. وإن طارده الأعداء تلمّس مدينة الله ذات الأبواب الحصينة المفتوحة تحتضنه حبًا، وإن عاد إلى شعبه أنشد بجمال بيت الرب… هكذا سيظل داود النبي يعلم البشرية كيف تلتقي الله وتتلمّس وجهه في كل حال.

مزمور طقسي: كمزمور يردّده المصلّون ويُنشدونه في جوقتين، فهو نشيد طقسي ليتورجي. يتلو الكاهن العبارة الأولى، فتجيبه الجماعة بالعبارة الثانية: صوت الرب يحطّم الأرز، يحطّم الرب أرز لبنان. يصلّى في الهيكل، فيهتف الشعب بصوت عظيم “المجد لله”. وهكذا يمتزج مديح سكان الأرض بمديح سكان السماء، وتتجاوب ليتورجيا الأرض مع ليتورجيا السماء كما في سفر الرؤيا.

جاء في الترجمة السبعينية أن هذا المزمور يُنشد بمناسبة عيد المظال القدسي؛ ذلك العيد الذي يبتهجون فيه بنهاية الحصاد (العنب والزيتون)، ويُصلّى كي يرسل الرب مطرًا ليكسر الجفاف (زكريا 14: 16-18). كما يربطه التلمود بعيد الخمسين أو عيد الأسابيع.

مزمور مسياني: فكلماته تشير إلى دخول رئيس الكهنة الأعظم إلى بلاط مدينة أورشليم السمائية في مجد ملكوته، ويحوي هذا المزمور نبوءة خاصّة عن الرب يسوع، إذ اعتُبر هذا المزمور بحسب التقليد منذ البدء نبوءة عن قيامة الرب يسوع وصعوده في العهد الجديد، لذلك يُنشد في عيدَي ِ القيامة والصعود. كما يصور دخول الربّ وجلوسه على عرشه في مجلس الآلهة. وهو يشير إلى قدرة الله التي تحمي شعبه من خطر العواصف والطوفان، فالله القدير يعمل بكامل قدرته في العالم والكون. وشعبه يقدم الشكر والتمجيد و ُنشد إلهَه الجبار الذي يمنحه البركة والسلام.

علاقته بالمزمور الثامن والعشرين: يأتي هذا المزمور في وضع مناسب بعد المزمورالثامن والعشرين، حيث يصرخ المرنّم هناك: “إلهي لا تسكت عني، فأشابه الهابطين في الجب” (28: 1). فنشعر هذا المزمور كأن الرب يستجيب لصرخته، ويتقدّم لنجدته في شكل عاصفة تجتاح أعماق النبي وشعبه، فتغيّر الطبيعة وتحرّرالجميع من كل قوى الشر والآلهة الباطلة. كما يتشابه المزموران في خاتمتهما حيث يُعطي الرب شعبه قوة وعزة ويباركه بالسلام.

ثانيًا: نص المزمور وتقسيمه

يتكوّن المزمور من إحدى عشرة آية وينقسم لخمسة أقسام:

القسم الأول: دعوة لعبادة حقيقية                   (1- 2)

  1. قدّموا للرب يا أبناء الله، قدّموا للرب مجدًا وعزة
  2. قدّموا للرب مجدًا لاسمه.اسجدوا للرب في قدسه.

القسم الثاني: سيادة الله على البحار             (3- 5)

3 . صوت الرب على المياه إله المجد أرعد الرب على المياه الكثيرة.

4 . صوت الرب عظيم القوة صوت الرب بهاء كله.

5. صوت الرب يكسر الأرز، يكسر الرب أرز لبنان.

القسم الثالث: سيادة الله على الخلائق       (6-7)

6. يجعل لبنان يقفز كالعجل، وحرمون كولد الثور الوحشي.

7 . صوت الرب يقدح لهيب نار.

القسم الرابع: سيادة الله على البراري        )8-9)

8. صوت الرب يزلزل البرية، يزلزل الرب برية قادش.

9 . صوت الرب يهز الأشجار يعري الرب أشجار الغاب، (يولد الأيائل) كل من في هيكله يهتف “المجد لك يا الله”.

القسم الخامس: سيادته على شعبه والعالم    (9-11)

10 . الرب يجلس على الطوفان، يجلس ملكًا إلى الأبد.

11. الرب يمنح شعبه العزة الرب يبارك شعبه بالسلام.

ثالثًا: تفسير المزمور

القسم الأول: دعوة لعبادة حقيقية                      (1- 2)

  1. قدّموا للرب يا أبناء الله، قدّموا للرب مجدًا وعزةً

يستهلّ المرنّم صلاته في هذا المزمور بنداء خاص يوجّهه إلى إخوته “بني الله “، كي يقدّموا الإكرام اللازم لله تعالى وحده بما يليق بعظمته وجلاله دون سواه من الآلهة الزائفة.ثم يتوجّه إلى زوّار هيكل أورشليم، الذين يفدون إليه محمّلين بالعطايا، يتمحور تركيزهم عليهادون التفكير فيما هو أعمق، فكثيرًا ما يكون بالهم مشغول بما يحملون من تقدمات وما ينحرون من ذبائح حيوانية…

لهذا يوجّه المرنّم نظرهم إلى أولوية الذبيحة الروحية وأهميتها، فليس اهتمام الرب منصبًا على دم العجول وشحم الكباش بل بشوق القلب وخشوع النفس وعطش الروح…  ولا يتم تمجيده بسفك دماء المحرقات والمثمنات، بل عبر طاعة ناموسه والخضوع لإرادته، وتسليم الحياة بين يديه، والخشوع في حضرته، وتتميم مشيئته بالعمل لا بالكلام….  

  • يا بني الله

أمّا كلمة” أبناء الله” فهي لفظ يتكرّر أكثر من مرة في الكتاب المقدس ويعني أولئك الذين قطع الله معهم عهدًا، أي بني إسرائيل، وقد استخدمه الرب يسوع في الموعظة على الجبل “بني العلي تدعون” (لو 6 :35) إذ يكاد يقتصر حديثه عن الله على لفظ “الآب”، ليؤكّد على فرادة العلاقة بين الله وشعبه وحميمة ويختم بشارته “لا أسميكم عبيدًا بعد بل أحباء” (يو 15:15).

2.قدّموا للرب مجد اسمه، أسجدوا للرب في زينة مقدسه

يظهر اسم الله “يهوه”، ثماني عشرة مرة في هذا المزمور القصير!!!وهو اللقب الخاص بالله في العهد القديم والذي استخدمه حين سأله موسى “ما اسمك؟” وتكرار هذا اللقب بذلك الشكل المكثف يُعلن عن عنصر جوهري في العبادة ألا وهو “حضور الله وسط شعبه”بالصوت والصورة بالحس والعقل، فمجد الله الحقيقي كما قال أحدالقديسين في الإنسان الحي، وهو يتجلّى حقًا لا من خلال الطبيعة فحسب وإنما بحضوره الحي وسط أولاده.

  • قدّموا

في النسخة السبعينية، تتكرّر كلمة “قدّموا” أربع مرات، ليكمّل المرنّم: “اسجدوا للرب في دار قدسه”، وكأنه يدعو المؤمنين أينما وُجدوا في أركان العالم الأربعة: “الشمال والجنوب والشرق والغرب” أن يقدّسوا حياتهم تقدمة حب حية لله الحي، دون إهمال أو تجاهل لقدسية تلك اللحظة وهذا الاجتماع، فمجرد التواجد في بيت الله وفي هيكله المقدس هو تواجد في حضرة الرب، في دار قدسه.

وأهم ما يلح عليه المرنّم ويطالب به بني إسرائيل، ويريد أن ينصبّ عليه اهتمامهم وتركيزهم هو “الطاعة والخضوع”، فأينما وُجدوا، وتحت كل الظروف، يجب أن يرتفع اسم الرب ويتزايد تمجيده على ألسنة جميع البشر في كل مكان وزمان. وهو إذ يرقب ما يقوم به بنوه من أفعال حسنة وسلوك صالح، يسر بذلك ويتمجّد فيهم: “يرون أعمالكم الحسنة، فيمجّدون أباكم الذي في السماوات” (مت 5:16).

  • اسجدوا للرب

السجود في لغة الكتاب هو إعلان الإيمان المطلق، الخضوع الكامل والطاعة التامّة للرب الإله وحده، وهو من أساليب العبادة منذ القدم يستخدمه البشر للدلالة على الخضوع، لهذا قصره الله في الوصايا العشر على ذاته فقط، فلا ينبغي أن يسجد أبناء الله أمام صورة أو تمثال أو منحوت، بل عليهم أن يقدّسوا الله وحده وأن يسجدوا له دون سواه… وقد أكّد الرب يسوع ذات المعنى حين طلب منه الشيطان أن يسجد له نظير منحه السلطان على العالم أجمع فقال “للرب إلهك تسجد وإياه وحده تعبد” (متى 4).

  • في زينة مقدسة

أي في محل إقامة الله بين أبنائه وشعبه، في الهيكل المقدّس وهو دومًا في التقليد والكتب والمزامير محل إكرام وإجلال “ببيتك يا رب تليق القداسة”()، وقد سبق أن ناقشنا في المزمور الخامس عشر، الشروط اللازمة للدخول إلى الهيكل لذا فالتصرُّف الوحيد اللائق أمام تلك العظمة والبهاء هو السجود أي إعلان التسليم المطلق لله ، نفهم غضب يسوع الذي وصل به أن يصنع سوطًا ويطرد الباعة من الهيكل خارجًا “بيت أبي بيت صلاة يُدعى وأنتم جعلتموه مغارة للصوص” ( مر11 :17 ).

   فالهيكل مقدس:

  • بحضورالله البهي فيه حضورًا غير المنظور لكنه حضور حقيقيٌ وفعليٌ…
  • §          بما يمثّله من رمز روحي تجتمع حوله قبائل بني إسرائيل “بيت الرب”، ثم لاحقًا جميع الأمم والشعوب “إلى الشرق انظروا”.
  • §          لبهاء هذا البيت وروعة بنائه وما استُخدم في بناءه من مواد ثمينة وما يحوي من كنوز كانت مطمعًا دائمًا للغزاة بما يحوي في تابوت العهد من مقدّسات

لوحي الشريعة – قسط المن قات الله الشعب به  في البرية– الحية النحاسية التي رفعها موسى– عصا هارون التي أزهرت- المجمرة الذهبية التي لهارون الكاهن.

القسم الثاني: سيادة الله على البحار                (3- 5)

3 . صوت الرب على المياه إله المجد أرعد الرب فوق المياه الكثيرة

هنا يبدأ نشيد تمجيد ل “صوت الرب”، تكرّرت كلمة “صوت” في هذا المزمور سبع مرّات، شبه سبع موجات متعاقبة من الرعد تصور قوة الكلمة وفاعليتها في حياة البشر:

  1. صوتُ الرب على المياه الغزيرة كالطوفان.
  2. صوت الرب عظيم القوة
  3. صوت الرب بهاء كله
  4. صوتُ الرب على لبنان يتخطّى جباله ويقطع أرزه، (أش 14: 8؛ 34: 24)
  5. صوت الرب يقدح نار وينزع عن الطبيعة مجدها.
  6. صوت الرب يزلزل البرية فتتراقص الجبال لسماعه،
  7. صوت الرب كذلك يهتز أشجار الغاب ويولّد أيائلها وغزلانها خوفًا من سماعها صوته.

إذن تختفي أمام صوت الرب كل قوى الطبيعة وتتلاشى، ولا يبقى حاضرًا إلاّ الله جالسًا ممجدًا على عرشه يحطّم كل قوّة متكبّرة. وفي الحين نفسه ُيفيض على شعبه البركة والسلام، حيث تنطلق العاصفة من البحر، لتدور حول أرض إسرائيل، ومن ثَم تعود إلى البحر دون أن تؤذي الشعب الساكن في حمي الله، في أرض الميعاد.

  • إله المجد أرعد

إنه نشيد قدرة الله، يذكّرنا بالفصل الأول من سفر التكوين، حيث تخلق كلمةُ الله كلَّ شيء، كما يذكّرناُ بحادثة الطوفان (تكوين 7-8)، وكذا بما شاهد الشعب وهم وقوف أمام الجبل من برق ورعد بسيناء (خر 19: 9).

في البدء، كانت المياه تغطي وجه الأرض، وروح الله يرف على وجه المياه (تكوين 1)، فإن كان للمياه هذه القدرة للسيطرة على الأرض ومصيرها؛ فللرب سلطان كامل على هذه المياه… وإذ نعرف من العلوم الطبيعية أن الماءهو أصل كل حياة على الأرض، فسيد هذه المياه هو إذن المصدر الحقيقي لكل حياة. وهكذا يعلن الكتاب سلطان الرب الذي يسيطر بمجرد بصوته على هذا الماء؛ يرعد فتضطرب البحار ويفتح فاه فتعج المحيطات وترتجف أمام كلمته …

إن إله إسرائيل الحاضر في هيكل أورشليم وسط شعبه هو الرب الجبار،  لذا يطلب المرنّم من شعبه سجودًا خاشعًا، وخضوعًا كاملاً  لإرادته المقدّسة، وسلوكًا يليق بحضرته الإلهية،  سواء تواجدوا  اليوم في الهيكل،  أو حيثما يتوجّهون في حياتهم، فهو الإله الذي تخضع له كل قوة،  ما في السماء وما على الأرض وما تحت الأرض… بل ترتعد أمامه المياه ففي سفر التكوين (1: 6 )”وقال الله : ليكن جلد في وسط المياه ليكن فاصلاً بين مياه ومياه “… الرب يتحكّم في المياه الغزيرة الجبارة وبكلمة تطيعه وتخضع لصوته، لدرجة أن تغيير مسار جريانها فترتد إلى الخلف أمام مجده الحاضر في التابوت كما حدث مع يشوع عند عبور الأردن. بل يذكر سفر التكوين الله خالق للتنانين العظام وكل ذوات الأنفس الحية الدابة التي فاضت بها المياه كأجناسها، وكما نعرف كان التنين آلهة تُعبدلكن الرب هو خالقها وصاحب السلطان عليها، وها هو الرب يمد سلطانه لا على مجرد حركة المياه: فوق – أسفل – أمام – خلف، بل يمس خواصها الجوهرية، فيعطيها حياة داخلية، حافلة بكل ما هو عظيم وجميل وجبار. وحتى العاتي منها، يروّضه الله ويجعله مصدر حياة للأرض كلها… يرد الرعدأيضًا في هذا المزمور، كتعبير عن سلطان الله على جميع عناصر الطبيعة، فطاقة الرعد المرعبة هذه، تصبح علامة قدرة تمثّل حضور الله بين شعبه وسط الرعود.

  • فهدير المياه: دليل على المياه العاتية المخيفة.
  • هزيم الريح: دليل على قوة العاصفة.
  • نسيم الهواء: دليل على الهواء الهادي الرقيق.

وهكذا نرى أن المزمور يستوحي آياته من الخلق والطوفان وخبرة سيناء، ليصل بنا إلى النتيجة النهائية: إن الله سيد العالم الأرضي والسمائي، وهو المالك على شعبه، وأن مُلكه يدوم إلى الأبد. يخلص المرنّم من هذه الآية البسيطة العميقة إلى ما يهدف تقديمه من دروس: إن المياه بكل سطوتها وجبروتها ترتعد أمام صوته وتسرع لتنفّذ إرادته.

4 . صوت الرب بالقوة، صوت الرب بالجلال

الصوت في اللغة تعبير عن الكيان، وليس غريبًا أن نفهم جوهر الشيء أو الشخص من صوته، “صوت الرب”  في هذا المزمور يُعبّر عن كيانه، لذلك فهو ملئ بالقوة والجلال والجبروت، هذه كانت خبرة شعب العهد مع صوت الله، فلا يبالغ المرنّم اليوم إذ يؤكّد هذا المعنى حيث يمتد صوت الرب بجبروته على باقي عناصر الطبيعة ليخضعها ويتحكّم فيها كما فعل مع المياه؛  فهو على الأرز، أكبر أشجار الطبيعة وأعلاها وأشدّها صلابة، وعلى لبنان أقوى الحضارات المجاورة والمنافسة لحضارة شعب الله، وحتى جبل حرمون ذلك المكان المقدّس عند الكنعانيين،  الذي يقابله إلى الجنوب جبل سيناء. إنه بقدرته يهزه، يزلزله، يرفعه ويجعله كالعجل يقفز متباعدًا أمام مجد الرب وقدرته المهيبتة، التي تهز الجبال، هكذا جليل هو صوت الرب ومهيبة هي كلمته.

                وكما يعرف قاريء الكتاب المقدس، فإن لبني إسرائيل خبرة رهيبة مع صوت الرب، فقد شك بعضهم في موسى وارتابوا فيما يفعل إبان صعوده إلى الجبل ومع مَن يتكلّم، فطلبوا منه أن يثبت لهم ذلك بأن يريهم مع من يتكلّم، بل لقد طلبوا أن يروا الله (خروج 19: 9 -21) فما كان من موسى سوى أن رفع إلى الرب طلبة شعبه. فقال الرب لموسى “ها أنا آت إليكم في ظلام السحاب لكي يسمع الشعب حين أتكلم معك فيؤمنون بك أيضًا إلى الأبد“: “فانحدر موسى… وقدّس الشعب وغسلوا ثيابهم وقال لهم “كونوا مستعدين لليوم الثالث “. وحدث في اليوم الثالث لما كان الصباح أنه صارت رعود وبروق وسحاب ثقيل على الجبل وصوت بوق شديد جدًا فارتعد كل الشعب… فوقعوا أسفل الجبل وكان جبل سيناء كله يدخن لأن الرب نزل عليه بالنار وصعد دخان ناره كالأتون وارتجف كل الجبل جدًا. فكان صوت البوق يزداد اشتدادًا جدًا وموسى يتكلّم والله يجيبه بصوت …  وكان الشعب يرون الرعود والبروق وصوت البوق والجبل يدخّن، فارتعدوا ووقفوا عن بُعد وقالوا لموسى: “تكلّم أنت معنا فنسمع ولا يتكلّم الله معنا لئلا نموت” (خر20 :15 – 21).

5 . صوت الرب يكسر الأرز، يكسر الرب أرز لبنان

  • صوت الرب يكسر الأرز

الأرز أقوى أنواع الأشجار وأطولها عمرًا وأشدها احتمالاً للعواصف الثلجية والأنواء، وتتميّز بضخامة الجذع وعمق الجذور التي تخترق الصخور فتزيد الشجر صلابة، بحيث لا تستطيع الرياح والعواصف مهما بلغت قوتها أن تقتلعه أو تزعزعه أو حتى تؤثّر فيه. 

وخشب الأرز من أروع وأعظم الأخشاب وقد استخدمه سليمان في بناء الهيكل بمواصفات معينة… ومازالت شجرة الأرز إلى اليوم رمزًا للبنان تزين علمه وتتوسطه، وتجمع حولها كل أطياف شعبه المتعدّدة والمتصارعة… ولبنان الكتاب المقدس ليس لبنان اليوم، بل كان يشمل إقليم الشام كله، وقد قامت فيه حضارة عظيمة هي الحضارة الفينيقية، التي أثّرت كثيرًا بعبادتها وطقوسها وآلهتها على الشعب اليهودي في مختلف العصور، بل وأزاغت عيون الكثير من الشعب مرارًا عن عبادة الله الحق. لهذا فإن النبي يعلن غضب الرب وغضبه الشخصي على هذه المملكة وحضارتها، وعلى شجرة الأرز رمز تلك الحضارة فيخضعها ويحطّمها، وهو يفعل ذلك ليحمي شعبه من شرك العبادات الوثنية.  وفي كل ذلك يكتفي الله العلي القدير بمجرد “رفع صوته” فتتحطّم أمامه قوة لبنان وقوة الأرز العتي… حقًا ما أعظمك يا إله إسرائيل وما أعجب صوتك أيها الرب إله القوات.

  • الرب إله العاصفة

للعواصف مكانتها وأهميتها في الشعر والتاريخ الكتابي. يكفي لذلك أن نقرأ ما كُتب (خروج 19: 16؛ قضاة 5: 4). ولكن لماذا أنشد بنو إسرائيل العاصفة وقد عرّفت الشعوب القديمة عناصرها على أنها إلهيّة؟ إن العبراني لا يضطرب أمام العاصفة كالوثنيين، لأنه يعرف أنها قبل كل شيءهي مجرد صوت من” أصوات الله“. وهو لا يخشى البروق والرعود، لأنها لا تتجاوز أن تكون ظواهرطبيعية تسبق المطر المخصب للأرض. فصوت الرب حامي شعبه، سيكون عاملَ خير. لذا يخشى بنو إسرائيل “صمت الله ” أكثر من خوفهم من صوت العواصف. وعندما نتحدّث عن العاصفة نتذكّر إله العاصفة، وقوّته التي تشمل الكون كله. فهو المتسلّط على جبروت الطبيعة: الريح والمياه التي غالبًا ما تكون عدوّة الانسان، يدجّنها بحيث توفّر لشعبه الطعام والحياة. وهو متسلّط على لبنان وحرمون، هذين المكانين العتيدين. وعلى قادش ذلك المكان الموحش القاسي، ومتسلّط على أسرار الولادة والحياة.

 ها هو إذن نشيد قدرة الله، يرفعه الإنسان متذكّر ًا الأسفار المقدسة   حيث ُتخلق الأشياءجميعًا “بكلمة الله”. وها الكلمة صارت جسدًا في شخص يسوع الذي لم يأت إلينا في الرعد والضجيج، بل في صمت المذود، فسكن بيننا مملوءًا نعمة وحقًا، دون أن يفقد القدرة على إسكات الريح وانتهار العاصفة وإخضاع موج البحر الهادر.فتخرس وتصمت وتسكن.

القسم الثالث: سيادة الله على الخلائق               (6-7)

6 . ويوثبها كعجل لبنان وسريون كولد الثور الوحشى

هكذا يؤثّر صوت الرب على جبروت الأرز وعلى عجول لبنان التي ترعى في المراعي الخضراء الخصبة فيزداد حجمها وتموج قوة، والثور في الكتاب المقدس رمز للقوة وقرناه رمز للبطش … لكن ليست الثيران هنا هي المقصودة فهي مجرد خليقة من   الرب، ولا قوتها فهي عطية منه. المقصود هنا هو عبادة العجل الذهبي التي كانت منتشرة في تلك البقاع، وهي إشارة إلى العجل الذي صنعه هارون في البرية وأحرقه موسى بالنار فحوله إلى غبار.

7 . صوت الرب يقدح لهب نار

رأينا ذلك بالتفصيل في لقاء جبل سيناء في الفصل الأول من سفر الخروج “العليقة النورانية” التي تحترق باللهب دون أن تشعل فيها النار،  أيضًا في الفصل التاسع عشر حيث لقاء الله بموسى أمام الشعب وكان الجبل يدخن كأتون النار… فبعد أن أعلن الرب سيطرته على المياه ، أقوى ما في الطبيعة وأصل الحياة، وعلى الأشجار، ثمرة التقاء المياه بالأرض،  وعلى الجبال والصخور أعلى وأصلد ما على سطح البسيطة…وعلى جميع الحيوانات ثمرة التقاء الأرض بالوديان والسهول وأقوى رموزها في الثيران …ها هو يعلن سطوته وسيطرته على النيران وهي بدورها من القوى العظمى التي لا تقل أهمية عن المياه، فإذا كان الماء أصل الحياة،  فاكتشاف الإنسان للنار يشكل أصل الحضارة  الإنسانية، فهي مصدر الطاقة والقوة والإستنارة… ها هو الرب بقوته يقدحها أي يحرّكها ويتحكّم فيها، يشعلهاثم يعود فيطفئها! إنها مجرد خليقة طيعة بين يديه ليس لها سوى أن تنصاع لأمره.

القسم الرابع: سيادة الله على البراري                 )8-9)

8 . صوت الرب يزلزل البرية، يزلزل الرب برية قادش

تزحف العاصفة في طريقها إلى القفر، متجهة نحو برية الصحراء العربية شرق الجبل المواجه للبنان حيث يزلزل “صوت الرب” البرية كلها. وكلمة يُزلزل في العبرية اقترنت بصورة المرأة وهي في حالة مخاض الولادة. كما تمثّل برية قادش بنوع خاص، أهمية كبيرة للمرنّم، فمملكة قادش تلك الأمة المستكبرة التي غزت إسرائيل وحاربتها وسيطرت عليها وأذلتّها لفترة من الزمان، هي المعنية بهذه الويلات والزلازل وهي الموعودة من قبل النبي المرنم بتجلّي قدرة الرب الساحقة عليها لتذلها وتخضعها.فهي أيضًا كمملكة لبنان، لن تنجو من غضب الرب الرهيب وسطوة صوته، فكما انتهر الرب أرز لبنان وجباله وكسر كبرياءه وهزم قوته، سوف يسحق أيضًا هذه البرية الموحشة وشعبها القاسي المتوحش …

لعلنا نلاحظ ذلك الفيض المتناسق من التقدُّم والتطوُّر والاتساع التدريجي، لقدرات الرب و” صوته” حيث يمتد جبروته المتمثّل في صوته من المياه إلى النيران، ومن الجبال إلى الوديان ومن النبات إلى الحيوان، ليصل بنا إلى برية القفر الموحشة، إنها الموت البعيد عن كل أشكال الحياة بحيث لا تستطيع الحياة أن تقترب منها أو تعيش فيها…

وها هو الرب بعد إظهار سلطانه وجبروته على كل أشكال الحياة. يعلن سيطرته على البرية ووادي ظلال الموت، إنه يسبق فيعلن لنا سلطان الله يمتد أيضا على قوة الموت، فيغزوها وينتصر عليها ويقهرها، فهو الذي اقتحم مملكة الموت ونزل إلى أعماق الجحيم فسبى سبيًا.

القسم الخامس: سيادة الله على الشعوب      (9-11)

9 .  صوت الرب يهز الأشجار، يعري الرب أشجار الغاب، يولد الأيائل ويكشف الوعور

جاء في النص العبري: ” يُولّد الأيائل”، وكأن العاصفة الناجمة عن “صوت الرب” في عنفها كفيلة بأن ترعب الأيائل البرية العنيدة العتية، فترقدمستسلمة أمامه وتضع صغارها قبل موعد الولادة. أمّا في النسخة السبعينية، فجاءت “يرتب الأيائل”، وهي قطيع مشتّت لا يستقر على حال، معروف بالرعونة وعدم الروية…

ما أعجب صوتك يا رب وما أعظم تأثيره، نراه يهز الجبال فتتزعزع، وينتهر المياه فترتجف، ويحطّم قوة أرز لبنان فينكسر، ويتلاعب بقوة النار فيقدحها ليشعلها ويطفئها، كما سمعناصوته ه يزلزل البريةويهز جبالها… وها نحن نراه يترفّق بحيوان أعجم، ويهتم بلحظة بالغة الخطورة والحساسية في بقائه واستمراريته، لحظة الولادة، ها هو يترفّق بالأيائل الساكنة أعالي الجبال وبصوته الحنون يرفق ويساعد، إنه الإله القوي كلي الجبروت كلي القدرة وكلي الحنان والرحمة…

ويصوّر لنا سفر الملوك هذه التجربة الفريدة لنبي الله العظيم إيليا (1 ملوك 19: 9 – 15) “وكان كلام الرب إلى فقال أخرج وقف على الجبل أمام الرب … فإذا الرب عابر وريح عظيمة وشديدة تصدع الجبال وتحطّم الصخور أمام الرب ولم يكن الرب في الريح، وبعد الريح زلزلة ولم يكن الرب في الزلزلة، وبعد الزلزلة نار ولم يكن الرب في النار، وبعد النار صوت نسيم لطيف، فلما سمع إيليا ستر وجهه بردائه ووقف بمدخل المغارة …” يتشابه صوت الرب هنا تمامًا “صوت الرب” في هذا المزمور:

هذا هو جوهر الرب في كل الكتاب، قوته لا تخفى على أحد وسلطانه لا حدود له، لكن عظمته تكمن في رقته وحنانه وعذوبته؛ إنه النسمة العذبة الرقيقة على وجه نبيّه المذعور “قتلوا … وبقيت أنا وحدي وهم يطلبون نفسي ليأخذوها”، وهو نفسه الذي يساعد الأيائل البائسة التي لا معين لها في لحظات مخاضها، فيخلصها من الموت ويهبها حياة واستمرارية، هو من يتحكّم في الماء والنار في النبات والحيوان في الجبل والسهل ووعر البرية أيضًا… يكشف كل وعر ويجعل المستحيل سهلاً ميسورًا…

  • وفي هيكله الكل قائل “مجدًا”

النتيجة الحتمية لهذا الدرس الطويل الممتد عبر تاريخ الكون وتاريخ الخلاص وتاريخ شعب الله وتاريخ الشعوب ، في الطبيعة وفي الحيوان والإنسان…ليعرف الجميع  إن الرب هو الإله  المجيدالذي  به تليق العظمة والقوة والمجد والسلطان ، ولا يملك الإنسان أمام هذا كله سوى أن ينطق بالمجد، ويسجد بخشوع ويصلّي بابتهال ويسبح في بهاء  ذاك الذي يسبحه الكون والشمس والقمر والنجوم، تسبحه النار والبحار والأنهار والجبال والوديان، النبات والحيوان والملائكة والرئاسات  والأرباب والقوات…تنطق الخلائق كلّها بمجده  وبعظمته تتحدّث.

  • مجدًا

هكذا عندما يصل المؤمن العاقل الحكيم إلى أورشليم، ويجد نفسه أمام تلك العظمة المتجلية في الطبيعة وفي مجد هيكل سليمان المهيب بحضور الرب المجيد، ينفتح عقله وقلبه، فينطلق لسانه معطيًا مجدًا لله، وهذا ما يردّده النبي المرنّم في هذا المزمور ويرغب من كل نفس مؤمنة أن تشعر به وتصلّيه في حضرة الله…

 أليست هي نفس تسبحة الملائكة ليلة الميلاد أمام رب المجد، إزاء ذلك الطفل الصغير في المقمّط والموضوع في مذود بقر… حيث أنشدت لحظة ميلاد الكلمة الأزلي: “المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام وللناس المسرة” إنه نفس نشيد الملائكة الذي وحدّ السماء والأرض.

10. الرب بالطوفان جلس، ويجلس الرب ملكًا إلى الأبد

إذا كان الطوفان هو أفدح كارثة طبيعية أصابت لا الإنسان وحده بل كل ما هو على سطح  الكرة الأرضية ، فلم تُبق على شيء من نبات أو حيوان  أو  إنسان،  وغمرت حتى الجبال… ( تك 6 : 8 )؛  فإن الله ، إله إسرائيل هو يسود هذا الطوفان بل هو أعظم منه  إذ  يحكمه ويديّره فيطلقه ويوقّفه، يفتح كوى السماء ويغلقها،  يسد منابع الأرض ويفجّرها… فما الطوفان نفسه سوى خليقة هشة في يد الله يجلس عليه ويتربع ، يأمره فينطلق وينتهره فينسحب أمام كلمته ، إنه سيد الكون، سيد المياه ، سيد الطوفان يمتطيه كدابة ويجلس عليه مستريحًا كأنه كرسي  عرش.

  • يجلس الرب ملكًا إلى الأبد

ليس لملكه انقضاء فله كل المجد والسلطان هو الذي لا بداية له ولا نهاية، الأول والآخر، الألف والياء، إنه الرب المالك إلى الأبدوهو الكلي القدرة العلي فوق كل الخلائق، والجلوس هنا علامة على القدرة والسيطرة، وهو هنا جلوس أبدي لا نهاية له ولا انقضاء.

11. الرب يعطي عزًا لشعبه، الرب يبارك شعبه بالسلام

أيها الملك السماوي المعزي، ما جلوسك جلوس ملوك الأرض، وما ملكك يا ملك الملوك ملك زمني، وما جبروت عزتك أيها المقتدر وحده جبروت إذلال، وإنما جبروت عز لشعبك…  فبقوتك تقويه، وبنورك تهديه، وبنعمك تغذيه، وبيدك تعزيه، وبعكازك ترعاه إلى المراعي الخصبة كما يرعى الراعي الخراف، وبمحبتك تحتويه كمايحتضن الأب البنين… إنك تبارك شعبك بالسلام وهذه أعظم عطية لكل العصور، لذلك لن ينزع أحد من أبناءك، أبناء الله، سلامهم وهكذا أعلن ابنك المتجسّد سلطانه بقوله لتلاميذه قبيل صعوده إلى السماء: “سلامي أترك لكم”…

رابعًا: تطبيق المزمور

  • كيف عاش الرب يسوع هذا المزمور؟

بالطبع يمكن أن ينطبق هذا المزمور على الرب يسوع وعلى حياته تمامًا، فالمسيح هو ملك العالم ونحن نختم الصلاة الربيّة بالقول: “لأن لك الملك والقوّة والمجد إلى الأبد آمين” (مت 6: 13). وسيظهر ملكًا في نهاية العالم عندما “يجلس على عرشه ليدين كل الأمم” (مت 25: 31).”له تجثو كل ركبة” (فل 2: 10) “وتسجد أمامه حتى ملائكة السماء” (عب 1: 4). وتنشد له كلُّ الخلائق وتقول: “للجالس على العرش والحمل الحمد والإكرام والمجد والجبروت إلى أبد الدهور” (رؤ 5: 13).

  • صوت الرب هو ” الكلمة” وقد جاء الكلمة الإلهي متجسدًا إلى العالم، ذلك القفر الجاف بلا ثمر، ليزلزله ويكسر صلابته وينهي عناده وعصيانه فيجعله يهتز من أعماقه ويصرخ كامرأة تئن وتتمخّض، لكنها بإنجابها طفلاً تعود فتعرف الفرح بوليد يُبهج حياتهاوينير حياتنا وهكذا “َالْكَلِمَةُ صَارَ جَسَدًا وَحَلَّ بَيْنَنَا” (يو 1: 14).
  • قدّموا للرب يا أبناء الله: إذا كان أبناء شعب اسرائيل هم أبناء الله بالتبني وُطلب منهم تقديم المجد والإكرام لاسم أبيهم السماوي، فقد تحقّق في حياة يسوع ” وَنَحْنُ قَدْ آمَنَّا وَعَرَفْنَا أَنَّكَ أَنْتَ الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ الْحَيِّ” (يو 6:96)، ابن الله الوحيد ملء هذه الوصية، فهو رب المجد وقد قدّم للرب في كل لحظة من حياته مجدًاوإكرامًا:

منذ ميلاده في مغارة “الْمَجْدُ للهِ فِي الأَعَالِي، وَعَلَى الأَرْضِ السَّلاَمُ، وَبِالنَّاسِ الْمَسَرَّةُ” (لو2: 14). إلى ظهور نجم “أَيْنَ هُوَ الْمَوْلُودُ مَلِكُ الْيَهُودِ؟ فَإِنَّنَا رَأَيْنَا نَجْمَهُ فِي الْمَشْرِقِ وَأَتَيْنَا لِنَسْجُدَ لَهُ ” (مت 2:2)، إلى لحظة التجلّي بصوت من السماء “هذا هو ابني الحبيب الذي به سُررت فله اسمعوا” (مت 17: 5)، إلى كل معجزاته وتعاليمه وعظاته لذا حق له أن يقول: “أَنَا مَجَّدْتُكَ عَلَى الأَرْضِ. الْعَمَلَ الَّذِي أَعْطَيْتَنِي لأَعْمَلَ قَدْ أَكْمَلْتُهُ ” (يو 17: 4).

  • اسجدوا للرب في زينة مقدسه لا ينكر أحد حب الرب يسوع المسيح لهيكل أورشليم منذ نعومة أظفاره، وتقديسه وإجلاله له وغيرته عليه فهو “بيت الآب” كما دعاه “أَلَيْسَ مَكْتُوبًا: بَيْتِي بَيْتَ صَلاَةٍ يُدْعَى لِجَمِيعِ الأُمَمِ؟ وَأَنْتُمْ جَعَلْتُمُوهُ مَغَارَةَ لُصُوص” (مر ر11:17) إلا أن هذا الهيكل قد انشق حجابه و نُقض بموته وقيامته،  فبعد التجسُّد والفداء لم يعد الحجر محور عبادة بل قد صار”الكلمة نفسه هو” قَالَ لَهُمْ يَسُوعُ الْحَجَرُ الَّذِي رَفَضَهُ الْبَنَّاؤُونَ هُوَ قَدْ صَارَ رَأْسَ الزَّاوِيَةِ (مت21 :42)، فالرب يسوع المسيح نفسه مسجود له وممجد في كل كنيسة في كل بلد ومكان وزمان… وهو زينة مقدس الله وفيه وبه وعبره يُقدم للرب سجودًا حقيقيًا واجبًا ومقدسًا أَنَا حَيٌّ، يَقُولُ الرَّبُّ، إِنَّهُ لِي سَتَجْثُو كُلُّ رُكْبَةٍ، وَكُلُّ لِسَانٍ سَيَحْمَدُ اللهَ” (رو 14: 11).
  • معنى السجود: السجود لله كما رأينا هو الطاعة والخضوع وقد علّمنا الرب يسوع المسيح الطاعة والخضوع، فهو كابن “لكِنَّهُ أَخْلَى نَفْسَهُ، آخِذًا صُورَةَ عَبْدٍ، صَائِرًا فِي شِبْهِ النَّاسِ” (في 2: 7) فتجسّد آخذًا صورة عبد وأطاع حتى الموت على الصليب، لذا فقد شاء أن يغيّر مفهوم السجود…حين قال للسامرية: “الساجدون الحقيقيون بالروح والحق ينبغي أن يسجدوا” (يو 4: 1).  فلا يمكن أن نحدّ وجود الله على مكان بعينه. فالسجود له هو أولاً وأخيرًا عملية خضوع وإخلاء… وقد علّمنا يسوع بتواضعه وإخلاءه لذاته السجود فكثيرًا ما قضي الليل ساجدًا، وكثيرًا ما سجد في الهيكل والمجامع …
  • صوت الرب: بتجسُّده صارالرب يسوع المسيح هو “صوت الرب“، الكلمة المتجسد الذي نزل إلى العالم ليُقيم من تلاميذه، أبناء الرعد، أداة فعّالة لحياة الإنجيل الجديدة، حيث زلزل طبيعتهم القديمة وأقام محلّها طبيعة جديدة تلك الحاملة صورة المسيح الكلمة المتجسّد، وتحقّقت فيه نبوءة النبي”اليوم متى سمعتم صوته فلا تقسّوا قلوبكم” فبقبول المسيح أُعطي لجميع المؤمنين به نعمة فوق نعمة وصارت خرافه تسمع صوته فتتعرّف عليه وتتبعه وهو بالبركة يرعاها ويحفظها ويغذّيها وينمّيها.
  • فيض مياه حية: رأى النبي إشعياء العالم كبرية سوف تتمتع في العصر المسيَّاني بفيض مياه حية، “مَنْ آمَنَ بِي، كَمَا قَالَ الْكِتَابُ، تَجْرِي مِنْ بَطْنِهِ أَنْهَارُ مَاءٍ حَيٍّ” (يو 7: 38) ممّا يبدّل أحوالها ويغيّر طبيعتها الموحشة فتصير جنة مثمرة، ويقول: “فتصير البرية بستانًا فيسكن في البرية الحق والعدل يقيم. وهكذا صار نبع الماء المتدفّق من جنب يسوع على الصليب والذي منه وُلدت الكنيسة، وترمز إليه معمودية الخلاص، هو نبع المياه الحية الذي يتفجّر ويفيض نعمة وبركة في نفوس أبناء الملكوت.
  • الله في العاصفة“: تتجلّى قدرة الله في العهد الجديد لا في الطبيعة فقط وإنما في عاصفة النفس الداخلية أيضًا؛ إنه يعلن عن ذاته في أعماقنا من خلال العواصف التي تجتاح طبيعتنا الداخلية. فقد جاء كلمة الله ليدخل النفس ويثير فيها ثورة داخلية ضد الشر، ليُحطّم فيها الإنسان العتيق ويهبها الإنسان الجديد. إنها أيضًا تلك العاصفة التي يجب أن تجتاح أعضاء الجماعة المسيحية ككل، حتى ُيعلن من خلالها عهدالله المتجدّد مع شعبه الذي ليس كوضع رقعة جديدة على ثوب عتيق، وإنما يقوم على التغيير الكامل والتجدُّد الشامل، “كلم الله أبائنا منذ البدءبصور وأشكال كثيرة … وأخيرًا كلمنا بابنه الوحيد يسوع المسيح، الذي هو صوت الله المتجسّد: رأيناه، سمعناه، لمسته أيدينا. لم يكن مرعبًا فنخشاه ولا مُعارضًا صارخًا في الشوارع فنهابه، بل كان رفيقًا رقيقًا وديعًا متواضعًا حنونًا… فعرفنا به الآب ورأيناه “مَن رآني فقد رأي الآب، وأظهر قوة سلطانه على العاصفة حين أيقظوه في القارب وقد كادت المياه تفتك بهم فانتهر الريح فسكتت في الحال، حقًا إنّه الإله الحال في وسط شعبه ليسكنه في سلام ويؤكد له كلمته الأزلية: “لا تخافوا”.
  • يجلس الرب ملكًا إلى الأبد: هكذا يجلس يسوع ملكًا على يمين عرش العظمة في السماوات ليدين الأحياء والأموات وملكوته ملكوت أبدي… “وَأَمَّا رَأْسُ الْكَلاَمِ فَهُوَ: أَنَّ لَنَا رَئِيسَ كَهَنَةٍ مِثْلَ هذَا، قَدْ جَلَسَ فِي يَمِينِ عَرْشِ الْعَظَمَةِ فِي السَّمَاوَاتِ” (عب 8 :1).
  • الرب يعطي عزًا لشعبه: هو الراعي الصالح الحنون الذي يعرف خرافه ويدعوها بأسمائها ويقودها إلى المراعي الخضراء فلا يعوزها شيء ويحرّرها فلا تخضع بعد لسلطان الشر والخطيئة والموت، ولا يخطفها أحد من يده ويكللّها بالمجدوالكرامة على صورة الكلمة المتجسّد.
  • الرب يبارك شعبه بالسلام: هو يسوع ملك السلام بشرت به الملائكة يوم الميلاد “الْمَجْدُ للهِ فِي الأَعَالِي، وَعَلَى الأَرْضِ السَّلاَمُ، وَبِالنَّاسِ الْمَسَرَّةُ” (لو 2: 14) وقبل صعوده بارك تلاميذه: “سَلاَمًا أَتْرُكُ لَكُمْ. سَلاَمِي أُعْطِيكُم.” (يو 14: 27) سلامي أترك لكم سلامي أستودعكم، وبينما هو يباركهم ارتفع عنهم إلى السماء لتظل البركة مستمرة والعطية السماوية بالسلام قائمة إلى أن يعود فيجمع خرافه ويملك معهما إلى الأبد.
  • كيف نعيش نحن المسيحيين هذا المزمور

إنه مزمور فرح يحياه المسيحي كل يوم لاسيما في أيام الفرح وبه يترنم في أوقات السعادة، يُستخدم في طقوس الأعياد الكبرى، ونتعلم منه في حياتنا طرق التقرُّب إلى الله:  

  • قدّموا للرب يا أبناء الله : حيث قدم شعب العهد القديم مجدًا ناقصًا أكمله الرب بمجد كامل تجلي عبر مسيرته حتى الصليب ومن جنبه سال دم وماء لتولد الكنيسة كي تقدّم له المجد الحقيقي وتعلن اسمه لكل الشعوب من كل قبيلة وشعب وأمة ولسان حتى أقاصي الأرض داعية كل مؤمن مسيحي ليقدّم التمجيد لا بالكلام أو باللسان، بل بالأعمال الصالحة، فالمسيحي “كابن لله” “فَلْيُضِئْ نُورُكُمْ هكَذَا قُدَّامَ النَّاسِ، لِكَيْ يَرَوْا أَعْمَالَكُمُ الْحَسَنَةَ، وَيُمَجِّدُوا أَبَاكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ” ( مت 5:16) إذ يصنع الصلاح يرى الناس أعماله الصالحة  فيمجدون أباه الذي في السموات . وكنيستنا القبطية تقدّم في تسابيحها اليومية وصلواتها الطقسية المجد بلا انقطاع لاسيّما في أسبوع البصخة المبارك تسبحة العزة والتمجيد آلاف المرات ” لك القوة والمجد والتسبيح والسلطان”.
  • اسجدوا للرب في زينة مقدّسة: إذا كان وجود الهيكل في العهد القديم يقتصر على مكان واحد ومدينة واحدة تتوجّه إليها جميع الأبصار وتتوافد إليها جميع القوافل، فقد صار  السيد المسيح نفسه هيكلاً جديدًا وذبيحة وحيدة، فحيث ترتفع الذبيحة وحيث الأسقف والكاهن والمؤمنين هناك الكنيسة، وهناك يُسجد للرب ويُعترف به وُيمجد… الكنيسة إذن هي جسد المسيح  السري وهي مكان العبادة حيث يجتمع المؤمنون كل أحد ليقدّموا للرب مجدًا وسجودًا وإكرامًا يليق باسمه، لذا ومهما كان للعبادة الفردية من أهمية وضرورة، فلا بديل عن العبادة الجماعية في الكنيسة، وهكذا اهتم المسيحيون عبر العصور ببناء الكنائس وتزينها لأن جمالها وجلالها يذكّران المؤمنين بجلال الله وعظمته .
  • معنى السجود: ليس السجود بالمعنى المسيحي قاصرًا على المعنى الجسدي وحده “مطانيا“، إنما السجود هو التوبة وخشوع النفس وشعورها بمحدوديتها وتلاشيها أمام عظمة وجلال خالقها. تختلف أوضاع السجود من طقس إلى آخر، لكن المهم حسب الوصية الإنجيلية هو سجود الروح والحق أي سجود الأعماق بكل ما في النفس من الطاقة والصدق والحب والرحمة والخدمة.
  • صوت الرب: يسمع المسيحي كل يوم من أيام حياته في:

الطبيعة: نسمع تسبيح الكائنات والخلائق.

الكتاب المقدس: نقرأه ونسمعه في كل صفحة وآية.  

الكنيسة: حيث نتذوق أسراره ونستفيض من نعمه.

في حياتنا: حين نصغي السمع ونرنو نحوه بقلوبنا.

لم يعد صوت الرب بالنسبة للمسيحي مرعبًا مخيفًا كما كان في الماضي بل يتنسّمه المؤمن في قلبه ويتوق إليه بروحه ويتلقّاه في صفاء النفس بلا خوف ولا وجل.

  • الرب يعطي عزًا لشعبه: متى كان توجه قلب المؤمن نحو الرب صادقًا، فإن توجه قلب الرب نحو مؤمنيه لا يقل كرمًا وسخاءً فمَن من الشعوب عززه إلهه كما أعزنا الرب؟ مَن من المؤمنين بآلهة أخرى يستطيع أن يشاهد إلهه راعيًا في خدمته؟ يرعاه ويقوته بالمن، ثم يقدّم له ذاته مأكلا” أنا المن النازل من السماء مَن بأكلني يحيا بي”!؟، مَن من الآلهة  فجّر الماء وأخرجه من الصخرة وصار لشعبه مشربًا:” من يشرب من الماء الذي أنا أعطيه لا يعطش إلى الدهر” كُلُّ مَنْ يَشْرَبُ مِنْ هذَا الْمَاءِ يَعْطَشُ أَيْضًا وَلكِنْ مَنْ يَشْرَبُ مِنَ الْمَاءِ الَّذِي أُعْطِيهِ أَنَا فَلَنْ يَعْطَشَ إِلَى الأَبَدِ، بَلِ الْمَاءُ الَّذِي أُعْطِيهِ يَصِيرُ فِيهِ يَنْبُوعَ مَاءٍ يَنْبَعُ إِلَى حَيَاةٍ أَبَدِيَّةٍ ” (يو 4: 14)وأيضًا “لأَنَّ جَسَدِي مَأْكَلٌ حَق وَدَمِي مَشْرَبٌ حَقٌّ. “جسدي مأكل حق ودمي مشرب حقيقي”(يو 6: 55) مَن في الشعوب قاده إلهه في البرية لأربعين سنة وأسكنه أرضًا تفيض خيرًا لبنًا وعسلاً، وورده إلى الفردوس بعد أن فتح له الطريق بدمه الثمين على عود الصليب؟ مَن أحبه إلهه لدرجة أن يبذل ابنه الوحيد فداءًا عنه!!؟ فقط أبناءه وشعبه هم الذين حرّرهم من عبودية إبليس وألبسهم ثياب المجد وكلّلهم بالفرح، وأعطاهم المجد والعز والكرامة.
  • الرب يبارك شعبه بالسلام: السلام عطية أبدية لكل من الله لشعبه وأحبائه ومؤمنيه على كل العصور، وهو أجمل ما في الحياة: سلام النفس مع الله، سلام النفس مع القريب وسلام النفس مع الذات.وكانت عطية الرب يسوع لتلاميذه قبل صعوده: “سلامي أعطيكم، سلامي أنا أترك لكم” فهو المسيا ملك السلام.

خامسًا: المزمور في فكر وأقوال الآباء

يرى آباء الكنيسة أن أبناء الله هم المسيحيون الذين جاءوا من كل الأمم والقبائل ليقدّموا حياتهم ذبيحة حب لله، هؤلاء الذين أوصاهم الرب أن يدعو الآب أبًا لهم، قائلين: “أبانا الذي في السموات” (مت 6: 9). كما يرى البعض أنه يشير إلى الطغمات السمائية المقدّسة التي تُحسَب كأبناء لله، وفي نفس الوقت يشير إلى العاملين في هيكل أورشليم بكونه ظلاً للملكوت السماوي.

وفي هذا يقول القديس أغسطينوس: “يدعو المرتل أبناء الله (ايليم = القدير) أن يقدّموا أبناء الكباش الصغيرة كرامة مجدًا للرب ولاسمه، هؤلاء هم المؤمنون الذين نالوا التبنّي للقدير بالمعمودية، وقبلوا الروح القدس، روح القوة والسلطان. ماذا يمكن للطغمات السمائية أو للمؤمنين أن يقدّموا لله إلاّ حياتهم كعلامة حب له، استجابةً لحبهِ لهم، كأبناء محبّين له.يقدّم أولاد الله مجدًا وكرامة لله، ما هو هذا المجد إلا التمتُّع بجمال الله الفريد الذي هو قداسته، وإعلان نصرتنا على الخطيئة بقوة نعمته. فإن كان الله كلّي القداسة، فإننا لا نقدر أن نمجّده إلاّ بالحياة المقدّسة وشركة الطبيعة الإلهية وخبرة عمل نعمته الفائقة”.

يقول القديس أغسطينوس أيضًا:” قدّموا أنفسكم للرب، أنتم الذين ولدكم في الإنجيل الرسل قادة القطعان (1 كو 4: 15) …اسجدوا للرب في قلوب مقدّسة، محبة للكل، لأنكم أنفسكم موضع مسكنه الملوكي المقدس.

أمّا القديس جيروم فيقول:”قدّموا للرب أبناء الله، قدّموا للرب تقدمة كباش”، أي (تقدمة) الرسل و (تقدمة) المؤمنين. لنقتدِ بمخلصنا الذي دُعي هو نفسه بالراعي والحمل والكبش، وذُبح لأجلنا في مصر (خر 12: 6)، والذي أُمسك بقرنيه في العليقة (تك 22: 13) فدية عن اسحق.

بينما يرى القديس باسيليوس: “أن الكبش هو الذي يتقدم القطيع ويرشده للمراعي والمياه والحظائر، فهؤلاء يرمزون إلى الرؤساء، المتقدمين على رعية السيد المسيح، لأنه بتعاليمهم يرشدون الخراف الناطقة إلى المراعى والمساقي الروحية؛ وأنهم مستعدون لنطاح الأعداء بقرني العهدين القديم والجديد، ليجتذبوهم بكلمة الله إلى الحياة الصالحة التقوية. بهذا يصيّرونهم أبناء، يقربونهم لله، ليقولوا: “ها نحن والأولاد الذين أعطانيهم الله”.

ويضيف القديس باسيليوس الكبير: “لنسجد له في دار قدسه، إن دار قدسه هي الكنيسة الواحدة المقدّسة وليست مجمع اليهود الذين بسبب خطيئتهم صارت دارهم خرابًا، واحتلّت الكنيسة مركزها، حيث فيها نلتقي بالله لنسجد له بالروح والحق، وخارجها لا يليق بنا أن نسجد”. هذا ويرى القديس باسيليوس أيضًا: أن كثيرين يُصلّون في الكنيسة وعقولهم مشغولة بالأباطيل، فلا يكونوا في دار قدسه. كما يقول: “المتقدّم في الإلهيات يقدّم مجدًا وكرامة الله”.

أمّا القديس أغسطينوس فيرى: أن دار قدسه هي السماء، ندخلها لنسجد لله حين يرتفع قلبنا إلى السماء ونحن بعد على الأرض. وهذا لن يتحقّق إلاّ بعمل الروح القدس فينا، القادر وحده أن يحمل إنساننا الداخلي إلى السماء، فيقول: “أجلسنا معه (مع المسيح) في السماويات”؛ لهذا نُصلّي في الساعة الثالثة، حيث نذكر حلول الروح القدس على الكنيسة، قائلين: “إذا ما وقفنا في هيكلك نُحسَب كالقيام في السماء”.

كذا يرى كثير من الآباء أن صوت الرب الذي أرعده على المياه الكثيرة، إنّما يُشير إلى حدث عماد السيد المسيح، الذي فيه شهد الآب عن الابن المتجسّد أنّه محبوبٌ لديه، موضع سروره، لكي نسمع جميعًا باتحادنا فيه صوت الآب الذي يفتح أحضانه ليستقبلنا كأبناء له. حينما يسكب الكاهن الميرون على مياه المعمودية يحرّك بالصليب المياه وينطق بهذه الكلمات، ليعلن أن صوت الآب قائم على الدوام يسـتقبل المعمّدين الذين صاروا أعضاء جسد المحبوب، يتمتّعون بشركة أمجاده.

كما يعلّق القدّيس هيبولتيس الروماني على هذه الكلمات بقوله: “أي صوت هذا؟ “هذا هو ابني الحبيب الذي به سُررت فعلى مياه المعمودية نسمع صوت الله القدير الذي يعلن بنوّتنا له. لهذا يُستخدم هذا المزمور في طقس قداس المعمودية عندما يحرّك الكاهن الماء بالصليب بعد سكب الميرون في جُرن المعمودية.

ويرى القديس أغسطينوس أن هذه المياه هي الأمم التي قبلت “صوت الرب“، إذ يقول: “حينما جعل ربنا يسوع المسيح صوته مسموعًا خلال الأمم المملوءة رهبة، حولهم إلى شريعته وجعل مسكنه فيهم”. ويتحدّث إشعياء النبي عن هذه المياه الكثيرة، قائلاً: “آه ضجيج شعوب كثيرة تضج كضجيج البحر وهدير قبائل تهدر كهدير مياه كثيرة، ولكنه ينتهرها فتهرب بعيدًا، وتُطرد كعاصفة الجبال أمام الريح وكالجل أمام الزوبعة. انتهر الرب هذه المياه الكثيرة بأن أرعد بصوته على الأمم فهربت بعيدًا كشعوب وثنية وصارت كلا شيء، لكنها عادت كنيسة قوية مجيدة، لا تحمل دوامات البحار ولا تياراته الجارفة ولا ملوحته، بل جاءت كنيسة تحمل طاعة المسيح ووداعته ولطفه. المياه الكثيرة تشير أيضًا إلى الآلام والضيقات التي تحل بالمؤمن حتى تكاد أن تبتلعه.

يقول القديس باسيليوس الكبير: هذا تجديدنا، يجعلنا على صورة الله من جديد، وذلك بغسل التجديد والروح القدس الذي يُجدّدنا فنصير أبناء الله، نصير خليقة جديدة مرة أخرى بشركة الروح، ويخلّصهما مما كان عتيقًا.

ويقول القديس جيروم: أرعد إله المجد حينما شهد الآب للابن، قائلاً: “هذا هو ابني الحبيب الذي به سُررت” (مت 3: 17). إذ جاء الكلمة الإلهي أعلن بالضعف ما هو أعظم من القوة، فقد ارتفع بالجسد على الصليب، حاملاً عارنا، لنحمل نحن قوّته وجلاله. وأعلن أيضًا كلمة الله أو صوت الرب سكناه في كنيسته، فكان يُجرى على أيدي الرسل عجائب كثيرة؛ يتهلل المرتل بعمل صوت الرب القوي والمجيد بعدما تحدّث عن عمله في المياه الكثيرة. وكأن المؤمن يختبر صوت الرب بقوة وجلال عظيم في حياته اليومية بعدما يدخل إلى مياه المعمودية ليتقبّل البنوة لله وعطية روحه القدوس الذي يجدّد حياتنا ليجعلنا على صورة الله.

وفي هذا يقول القديس إكليمندس السكندري: تغسلنا المعمودية من كل عيب وتجعلنا هيكل الله المقدّس، وتردنا إلى شركة الطبيعة الإلهية بواسطة الروح القدس. فصوت الرب على المياه يُرهب الشياطين ويعطي قوة وسلطانًا للمؤمنين؛ يُحطم طاقات الظلمة ويهبنا الاستنارة فنعيش بروح القوة والمجد الداخلي لا روح الفشل واليأس.

وفي هذا يقول القديس أغسطينوسصوت الرب يحطم الأرز”. بالتوبة يكسر الرب أولئك الذين يمجّدون ذواتهم بشرف أصلهم الزمني، تمثّل هذه الأشجار النفوس المتشامخة المعتدة بذاتها، فجاء صوت الرب أو كلمة الله المتجسّد ليدخل بهذه النفوس إلى حياة الاتضاع خلال حزن التوبة. وقد اختار الله ضعفاء العالم ليخزى بهم الأقوياء (1 كو 1: 27) لكي يتمتعوا بذاك القدير الذي صار لأجلهم في صورة ضعف.

بينما يرى بعض الآباء أن الأرز هنا يشير إلى عبادة الأوثان حيث معابدها الشاهقة وتماثيلها الضخمة لكن بلا ثمر روحي ولا نفع كالأرز المتشامخ بلا ثمر جاء كلمة الله المتجسّد ليقتلع العبادة الوثنية ويحوّل الأمم إلى ملكوته، ملكوت الوداعة المفرح والمثمر. ليس ما يُحطم كبرياء قلبي ولا ينتزع محبة العالم (الوثنية) وكل خطية إلاّ صوت الرب، أي التمتُّع بالسيد المسيح، الكلمة الإلهي المُختفي وراء كلمات الكتاب المقدس. لأطلبه في إنجيله وأنعم به، فيُقيم مملكته فيّ، ولا يقترب إليها عدو، ولا تشترك معها خطية ما.

إذ ندخل مياه المعمودية نلتقي مع صوت الرب الذي يُحطّم فينا تشامخ إنساننا العتيق، أو يحطّم عمل إبليس المتعجرف، أرز لبنان المزروع داخلنا، ويهلك العجل الذهبي، أي كل تعلُّق زمني وعبادة للزمنيات، ويقوم كلمة الله الوحيد فينا، في إنساننا الداخلي الجديد.

وفي هذا يقول القديس جيروم: ماذا يقول المزمور عن المخلص؟ “الحبيب مثل ابن ذوي القرن الواحد”. إن ربنا حبيبنا ومخلصنا هو ابن وحيد القرن، ابن الصليب الذي يرنم له حبقوق، قائلاً: “الأشعة تشرق إيمانًا من جواره، وهناك استنار قدرته” (راجع حب 3: 4). فبعدما صُلب ذاك الحبيب تحقّقت النبوة الواردة في المزمور: “صوت الرب يقدح لهيب النار”. لأنه عندما طهّرنا المسيح انطفأت نار الجحيم.

وفي هذا يقول الأنبا ساويرس أسقف الاشمونين: بالمعمودية المقدّسة ينعتق الإنسان من سلطان إبليس ويصير مولودًا من غير نطفة مثل ناسوت المسيح، لأن الروح القدس يقدّسه من ميلاد النطفة، فلا يبقى للشيطان سلطان عليه مادام روح المسيح فيه.

ويقول القديس يوحنا ذهبي الفم: الذي يعتمد للمسيح لا يولد من الله فقط بل يلبس المسيح أيضًا (غل3: 27). لا نأخذ هذا بالمعنى الأدبي، كأنه عمل من أعمال المحبة، بل هو حقيقة. فالتجسُّد جعل اتحادنا بالمسيح وشركتنا في الألوهة أمرًا واقعًا.

بينما يربط القديس أمبرسيوس بين السيد المسيح الابن الحبيب، وحيد القرن وبين القديسين كوحيدي القرن، قائلاً: يُدعى القديسون وحيدي القرن… فإن هذا النوع من الحيوانات يحسبون قد بلغوا حالة أعظم من النضوج بظهور القرن فيهم. وهكذا أيضًا عندما يبدأ القرن أن يظهر في رأس النفس يبدو كأنها تبلغ إلى حالة أعظم من النضوج في الفضائل، وهكذا ينمون حتى يبلغوا إلى الملء. بهذا القرن سحق الرب يسوع الأمم، لكي تدوس على الخرافات وتنال الخلاص، كقوله: “أضرب وأشفي”… ولهذا كانت الحيوانات الطاهرة حسب الشريعة هي ذات قرون، لأن الناموس روحي؛ فمن يطرد إغراءات هذا العالم بكلمة الله وحفظ الفضيلة يكون كمن هو مُصان بقرون على رؤوسهم، كما بأسلحة. مسيحنا وحيد القرن، حطم بالصليب شر الأمم ليقتنيهم أعضاء جسده، ونحن وحيدوا القرن، نحطّم الشر بالروح القدس بقوة صليب ربنا يسوع المسيح لنحيا كاملين فيه.

العواصف الشديدة أحيانًا تشعل نيرانًا خاصة في الغابات وأحيانًا تطفىء بمياهها النيران. صوت الرب يشعل بروحه القدوس نار الحب الإلهي، إذ يقول: “جئت لألقي نارًا على الأرض؛ فماذا أريد لو اضطرمت؟” (لو 12: 49)، هذه النيران تبتلع نيران الشهوة التي فينا وتقطعها. وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [بالنار تنطفئ النار؛ بنار الروح تنطفئ نار الشهوات!].

يرى القديس باسيليوس الكبير أن صوت الرب في يوم الدينونة يقطع لهيب النار أمّا كلمة “يقطع” فتعني هنا يفصل أو يميّز أو يفرز، لأن صوت الرب يفصل الأبرار عن الأشرار في يوم الدينوية، فيتمتّع الأبرار مباركوا الآب بالميراث المجيد ويُلقى الأشرار في النار المعدة لإبليس وملائكته.

إن العاصفة لابد أن تعبر ليتمجد الله الملك الذي يؤكّد حبه لكنيسته وقت الضيقة، واهبًا إيّاها قوة وبركة وسلامًا، إن سلّمت حياتها بين يديه واستعانت بصوت الرب ومواعيده كسند وخلاص لها.

خاتمة المزمور

حقًا نستطيع أن نعتبر مزمور “صوت الرب” كمزمور “مجد الله العامل في شعبه” ليدخلهم إلى شركة مجده. حيث يَهُبُّ عمل الله المجيدبروحه القدوس كعاصفة، تزلزل أعماق الكيان البشري وتخصب النفس فتعدّها للزرع والحصاد لتحيا في هذا العالم حياة مقدّسة لمجد الله…

إنه نشيد قدرة الله التي تعلو كل قوة، يرفعه الانسان فيتذكّر الكتاب المقدس بمجمله من سفر التكوبن حيث تخلق كلمة الله كلَّ شيء إلى سفر الرؤيا يحث يُهلك الحملُ التنينَ بنفس من فمه. فهو يالنسبة لنا مزمور يعبّر عن قوة إلهنا الحي الحاضر والمخلص الكلي القدرة. الذي أرسل ابنه في ملء الزمان “والكلمة صار جسدًا” في شخص يسوع الذي لم يأت إلينا في ضجيج الرعد، بل وديعًا متواضعًافي صمت المغارة، فسكن بيننا وكان مملوءًا نعمة وحقًا.

وحيث تكمن عظمة الإنسان في أنه تاج الخلائق وإكليلها، فإن تلك العظمة لا تنبع من ذاته إذ هو مجرد خليقة، ولا تكمن في نبوغ عقله وقوة منطقه، ولا تتجسّد في شدة عزمه وصلابة عزيمته؛ لأن أشد من ذلك متوفر في كائنات تتفوق على الإنسان كثيرًا… إنما تكمن قوة الإنسان في “حب الله له” فقد فضّله الله على جميع الكائنات وأظهر نحوه منذ البدء وعلى الدوام عطفًا وحبًا وحنانًا لا يقارن بما يفعله مع باقي الخلائق. فهو يطرب لسماع صلاته بالحانه وتراتيله ومزاميره وتضرعاته وينسجم لذيائحه ومحرقاته وبصغي إلى تنهداته وينصت إلى نبضات قلبه وآهاته فيهب لمعونته…

 يعرفه باسمه قبل حتى أن يُحبل به في البطن، ينقشه على كفه ويحفظه مثل حدقة العين، يظلل عليه بيده من الشمس لئلاّ تؤذيه ومن ضوء القمر لئلا يخدشه ويدعوه إلى رفقته في درب مجده والدخول معه في حوار، فما أروعه من إله وما أجملها من علاقة…

والإنسان العظيم حقًا نموذج الانسانية الجديدة هو الرب يسوع أنّه المعلم والمثال …فبرغم مساواته الله لم يحسب اختلاسًا أن يكون مساويًا لله بل أخلى ذاته وأطاع حتى الموت موت الصليب.الإنسان المسيحي هو مَن يقدّم للرب مجدًا وسجودًا بالروح والحق.

الإنسان المسيحي، المؤمن الحقيقي، هو الذي ينصت بكيانه كل يوم ليسمع صوت الرب، بل ويسعى لسماعه عبر كل الوسائل وسط كل ظروف العالم وضجيجه، وحين يسمعه يخضع ويسلم بلا مقاومة فيعطي مجدًا للرب بحياته ليعطيه الرب مجدًا وسلامًا وفرحًا. ما أحرى بنا نحن “كأبناء لله” أن نشهد عن قوته ومحبته باستعلان عمله الخلاصي فينا، فنكون له شهودًا بالحياة والسلوك كما بالكلام. كلام الرب…

وإذا كان صوت الله هو موضوع هذا المزمور، فإن تجاوب الإنسان مع هذا الصوت هو ما يهم، فالمسيحي هو:

  •  الذي ألف صوت الرب فلم يعد يخيفه أو يرعبه بل يجد فيه سعادته وفرحه.
  • هو مَن إذا سمع صوته لا يقسّي قلبه بل يقول، كل ما يأمر به الرب يفعل.
  • هو مَن يصغي إلى صوت الرب بأذنيه وقلبه يقول تكلمّ يا رب فإن عبدك يسمع، 
  • وهو حين يسمعه يدعوه يلبّي النداء قائلاً: هاأنذا فأرسلني.

صلاة بحسب روح المزمور

ربي أسمعني صوتك

زحام العالم يحيط بي يا رب فلا أكاد أسمعك

ضجيج الدنيا يغمرني يا رب فلا أكاد أسمع صوتك

هدير الأمواج يلطمني وصفير الرياح يصم أذني …

زئير الأسود يرعب فرائصي وكل العالم

يحاول أن يفصلني عنك لكن

أين أهرب من وجهك وكيف لا أسمع صوتك

إذا هربت إلى الجبال فأنت هناك تخاطب موسى وإيليا

وإذا خرجت إلى البرية أراك تخاطب بولس الرسول وأنطونيوس وبولا وباخوم

إذا نزلت إلى الوادي هناك ألمحك بين البشر وأسمعك تنادي آدم أين أنت؟ يا أبن الإنسان أين أنت؟ يا ابن الله أين أنت؟

سمعت صوتك فاختبأت يا أبي لأني عريان

نعم أكلت من الثمرة المحرمة

نعم أهملت وصاياك ونزعت عني حكمة ناموسك

نعم قتلت أخي ورفضت أن أحرسه وأرعاه

نعم عصيت أوامر أبي ولم أصغي لنصيحة أمي

نعم قتلت ابنك وظننت أني الوارث

نعم تناسيت واجباتي الأسرية والعائلية

نعم أهملت صلواتي الكنسية وتركت تماريني الروحية

 ما أعجبك أيها الكلمة!

 أيها الكلمة الإلهي…اقبل إليك ذبيحة شكري،

يا من أقمتني لأمجّدك اقبل تمجيد وتسبيح حياتي،

ما أعجبك أيها الكلمة الإلهي!

أنت تحوّل مياه خطاياي المهلكة وتيارات شهواتي إلى مياه عذبة!

ترعد على مياه المعمودية بروحك فتهبني سكناك فيّ!

تهبني قوتك وتسكب جلالك داخلي!

تُحطّم تشامخي (أرز لبنان) وتهبني وداعتك!

تقطع لهيب نار خطاياي بنار روحك المحييّ!

تُزلزل قفر أعماقي لتقيم فردوسك في داخلي!

تهب سلامًا وبنيانًا لكياني فتترتّب الأيائل (أفكار وطاقات نفسي المضطربة).

تشرق عليّ فأكتشف ضعفي وأتمتع بنعمتك بتوبتي.

 لتجلس في قلبي كملك ولتهبني قوة وبركة وسلامًا

تعال أيها الملك إليّ واحملني إليك!

فهرس المزمور التاسع والعشرين

أولاً: تقديم المزمور

ثانيًا: نص المزمور وتقسيمه

ثالثًا: تفسير المزمور

القسم الأول: دعوة لعبادة حقيقة (1-2)

القسم الثاني: سيادة الله على البحار (3-5)

القسم الثالث: سيادة الله على الخلائق (6-7)

القسم الرابع: سيادة الله على البراري (8-9)

القسم الخامس: سيادة الله على الشعوب (9-11)

رابعًا: تطبيق المزمور

كيف عاش الرب يسوع هذا المزمور

كيف نعيش نحن المسيحيين هذا المزمور.

خامسًا: المزمور في فكر و أقوال الآباء

 خاتمة

صلاة حسب روح المزمور.

فهرس المزمزر التاسع والعشرين