المزمور الثالث والعشرون

المزمور الثالث والعشرون

همسات الروح

تأمل في سفر المزامير

المزمور الثالث والعشرون

الرّب راعيّ

بقلم الأب/ بولس جرس

أولاً: تقديم المزمور

يُعتبر هذا المزمور “جوهرة  المزامير”  فهو من أعذب ما ورد في سفر المزامير، بكونه تسبحة إيمان وأمان وثقة؛ يشع في القلب طمأنينة ويروي النفس العطشى بهدوء سرمدي وينير ظلمات الوحدة والضيق ويبدِّد أشباح الهواجس والمخاوف… فالسمة الغالبة على كل آياته العذبة المعبِّرة هي الثقة في الله والتيقن من رعايته ومحبته، وكأن  المرنّم طفل يرتمي على صدر ربه في سلام وسكون حيث يختفي بوق الحرب ، لتظهر قيثارة السلام التي لا تعود تُصْدِر لحنًا حزينًا بل تعزف سيمفونية حب فرحة تتغنى بالله كقائد حكيم، كراعٍ صالح، كأب رؤوم  ، بل وصديق حميم للنفس البشرية.

يُعتَبر داود بحق هو أنسب شخصية يمكن أن تكتب مزمورًا تقويًا رعويًا كهذا، ويعتقد كثيرون أن هذا المزمور من أولى ما نظم داود من المزامير؛ حيث تحتل صورة الراعي مساحة طفولته وشبتبه كما تُشكّل عادات حياته الأولى كراعٍ للغنم معظم صور الجزء الأول من المزمور. لقد اختبر المرنم من خلال مهنته الأصلية كراع للغنم، يعتني بها صباحًا ومساء ويقودها ذهابًا وإيابًا يطعمها ويرويها ويريحها ويعرفها ويعالجها ويحميها… وهي بدورها تعتمد عليه اعتمادًا كاملاً وتثق فيه ثقة بلا حدود، تعرف صوته وتتبعه، تتبعه عيونها في اطمئنان،  تشم رائحته على بعد أميال بل وتشتم رائحتها فيه… وهذا بالتمام ما يمثِّله وجود الله في حياة الإنسان وما تقدّمه بركات الشركة الإلهيّة مع الله، والنبي هنا إذ يسترجع صورًا من حياته الماضية  ويتأمّلها فيراها قريبة  بل ومتطابقة في كثير من الأوجه مع توصيف علاقة الإنسان المؤمن بالرب إلهه بوجه عام وعلاقة داود النبي بالله على وجه الخصوص فما يقوم به النبي هو مجرد تطبيق شاعري لأحداث حياته بما فيها من انتقالات وتحوُّلات دراماتيكيّة   وصراعات وهروب وفرار وهزائم وانتصارات وقد عبرت أمام عينيه تحت رعاية الله اليقظة الساهرة وسط كل أنواع الضيقات، التى شعر خلالها وعبر ظلماتها وأنوارها… قوة وجود الرب .

يسمّي بعض المفسّرين المزامير (22، 23، 24) بمجموعة مزامير الراعي، وقد كتبها داود بإلهام من الروح القدس.  في المزمور السابق رأينا صورة رائعة للراعي المتألم، وقد عُلّق على الشجرة ليحمل أتعاب شعبه، ويَعبر بهم من خلال صليبه إلى المجد. أمّا هنا فنجد صورة مبهجة لقطيع يفيض فرحًا وشِبَعًا، وهو شعب الله يتقدّمه الراعي باستحقاقات دمه المسفوك فداء عن الجميع، ليدخل به إلى المراعٍ الخضراء إلى فردوس الروح حيث تنساب جداول المياه (النعم والبركات) في عذوبة، وهي مواهب الروح القدس عبر الأسرار المقدسة في الكنيسة كي تروي الأعماق الداخلية للكيان الإنساني الصارخ عطشًا وتجدِّدها.

ومن هذا المنطلق نستطيع أن نعتبر المزمور الثالث والعشرين:

  • مزمور شكر:  يُنشده داود  ليعلن إيمانه وثقته بالرب الذي رافقه في جميع طرقه وحفظه من كل شر، فلم يعوزه شيء من طعام أو شراب. أنشده شكرًا للرب الذي قاده من المرعى وأجلسه على عرش المجد ملكًا لإسرائيل شعبه، وحماه وحفظه من كل شر خلال تلك المسيرة المحفوفة بالأهوال.

كما تنشده جماعة إسرائيل الفخورة بإلهها والمتباهية بسكناه وسطها وبتبنّي الله لها كشعبه وغنم مرعاه. وهي قد سبق وتذوّقت عذوبة تلك الخبرة تحت قيادة الرب لها نحو أرض الميعاد عبر البرّية فهناك كان يربضها ويرعاها. ثم نظّمها في دولة واحدة قوية مستقرة كصف واحد وشعب واحد وسمح للملك أن يبني له هيكلاً، وهو الذي لا يسكن في هياكل صنعة أيدي البشر، أراد أن ينزل ويخل بمجده ويسكن وسط شعبه في أورشليم، ينتظر شعبه كل عام ويستقبله في هيكله كضيف عزيز يعتني به ويرعاه، ويشبعه ويرويه.

هكذ لا يمثّل هذا المزمور مسيرة داود الشخصية تحت قيادة الرب الراعي فحسب، بل مسيرة شعب الله وكل من يؤمن به على مر الزمان. فليس غريبا إذن أن يرى كثير من علماء الكتّاب والمفسّرين فيه ارتباطًا وثيقًا بذبيحة الشكر التي يقدّمها زائر الحاج لنوال البركة، كمن عَبَر بوادٍ سحيق ليدخل  إلى بيت الله، ومع كل نعمة يتمتع بها يرى يدّ الله الحانية ورعايته الفائقة له، يقوده ليسكن في مَقْدسه السماوي ويكون معه أبديًا.

  • مزمور ملوكي ليتورجي: ينشده المرنّم بعد أن عاش حفلات العيد في الهيكل، بينما يعود إلى بيته بانتظار أن يرجع ثانية إلى الهيكل فيقضي فيه أيامًا جميلة. ربما استُخدم هذا المزمور في تجليس الملك حيث يصف طقس التتويج، وكأنه يتضمّن موكبًا يبدأ من الهيكل ويمتد إلى الينبوع، شاملاً الطواف حول المدينة المقدسة (مز 48: 13الخ). وما هذا التجليس إلاّ رمز لاهتمام بالملك ورعاية الله له وتأكيدًا لتلك الحقيقة الخالدة أمام الشعب أن الراعي الحقيقي ليس هو الملِك الأرضي بل الله نفسه (المسيح نفسه ابن داود)، هو الراعي المحب لشعبه يرعاه ويهتم بالنفس والجسد.
  • مزمور أسراري: العمقُ مع القوة هما ما يختفي وراء بساطة هذا المزمور. لقد وجد المسيحيون الأول فيه رمزًا لأعمال السيد المسيح القدسية في الأسرار المقدسة. لهذا جعلوه من صُلْب طقوس المعمودية، ففي ليلة عيد القيامة (الفصح المسيحي) كان المعمدون حديثًا يترنّمون به بعد نوال سرى العماد والميرون، وقد لبسوا الثياب البيضاء وحملوا المشاعل، وساروا في موكب النور مُسرعين تجاه مذبح الرب، يشتركون بفرح في المائدة السماوية. ومازالت كنيستنا القبطية المصرية تترنّم بهذا المزمور يوميًا أثناء تسبحة الساعة الثالثة، تذكارًا لحلول الروح القدس على التلاميذ في تلك الساعة، هذا الروح الذي لا يزال عاملاً في الكنيسة، خاصة في الأسرار الإلهية المقدسة. حيث وجد آباء الكنيسة الأُول بهجتهم وسرورهم وتهليلهم فيه، رأوا فيه رعاية الراعي الصالح وعنايته بقطيعه، ويفسّر لنا القديس غريغوريوس النيصي (330-395) هذا المزمور على أنه مزمور التدرّج فيقول: “يعلّم المسيح الكنيسة بهذا المزمور أن عليها أن تصير نعجة للراعي الصالح. فالكرازة تقودك إلى المراعي وينابيع التعليم. ويجب أن تُدفن معه في الموت بالمعمودية. ولكن هذا ليس موتًا، بل ظلّ الموت وصورته. بعد هذا يهيّئ مائدة الأسرار. ثم يمسح بزيت الروح، وأخيرًا يأتي بالخمر التي تُفرّح قلب الإنسان وتسكره بسكر العفّة”.

ثانيًا: نص المزمور وتقسيمه

يتكون هذا المزمور من 6 آيات وينقسم إلى قسمين متساويين:

القسم الأول: اتكال كامل (1-3)

1.  مزمور لداود، الرب راعي فلا يعوزني شيئ

2. في مراع خضر يريحني، ومياهًا هادئة يوردني.

3. ينعش نفسي يهديني سبل الحق من أجل اسمه.

القسم الثاني ثقته بوجود الله وعمله ( 4- 6):

4 . لو سرت في وادي ظل الموت، لا أخاف شرًا، لأنك أنت معي. عصاك وعكازك هما يعزياني.

5 . تهيئ قدامي مائدة تجاه خصومي، وتدهن بالطيب رأسي وكأسي روية.

6. الخير والرحمة يتبعاني كل أيام حياتي. وأسكن في بيت الرب إلى مدى الأيام.

ثالثًا: تفسير المزمور

القسم الأول: اتكال كامل (1-3)

  1. الرب راعي فلا يعوزني شيئًا

تبرز صورة الراعي عبر صفحات الكتاب المقدس منذ فصوله الأولى، وتظل حاضرة إلى الفصول الأخيرة… ففي سفر التكوين نرى هابيل الراعي الصالح يقدّم ذبائح صالحة، ثم إبراهيم الراعي المرتحل خلف نداء الرب راعيه، وكذا اسحق ابنه الذي ورث المهنة عن أبيه ويعقوب ولابان وأولاد يعقوب، بل كل شعب إسرائيل، كان يقدّم نفسه كشعب من الرعاة … كما كانت عظمة الشخص وقوته تُقاس بما يمتلك من رؤوس الغنم وما تحت يديه من قطعان.

و منذ عهد الآباء (تكوين 48: 15) عرفنا الله راعيًا لشعبه، مهتمًا بكل فرد فيه: إبراهيم، اسحق، يعقوب، الأسباط ويوسف وموسى… وحين خرج الشعب إلى البرية، مع موسى قاده الرب ورعاه، كما يقود الراعي خرافه، وساقه كقطيع خاص به في البرّية لمدة أريعين سنة، لم يجوعوا ولم يعطشوا ولم يعوزهم شيء. فقد قاتهم بالمن والسلوى ورواهم من ماء الصخرة ، وَقَالَ مُوسَى: «ذلِكَ بِأَنَّ الرَّبَّ يُعْطِيكُمْ فِي الْمَسَاءِ لَحْمًا لِتَأْكُلُوا، وَفِي الصَّبَاحِ خُبْزًا لِتَشْبَعُوا”. (خر16: 8). لهذا سجدوا له وأعلنوا أنهم الشعب الذين الرب راعيهم والغنم الذي تقوده يده.

ولا يرى الرب بأسًا من أن يقدم نفسه كراع لشعبه يرعاه ويهتم به، حيث يقدم نفسه لموسى في سفر الخروج “رأيت وسمعت ونزلت لأخلّصهم…” وليس مستغربًا أن نشاهده يسير أمامهم في البرية ويقودهم فلم يجوعوا ولم يعطشوا ولم تبلى ثيابهم حيث المن السماوي قوتهم ومياهًا من الصخور تتفجر لهم، بل وحتى السلوى لإشباع شهواتهم إلى أن أوصلهم لأرض تدر لبنًا وعسلاً… أليس راعيًا من يعمل هذا كله! وما يكون الراعي إذن.

  كما أقام عليهم نيابة عنه ملوكًا وكهنة وأنبياء رعاة: كموسى وهارون ويشوع وصموئيل، ثم ملوكًا كشاول وداود وسليمان ويوشيا… ليرعونهم بالاستقامة… وأعطاهم الكهنة والأنبياءرعاة لكن للأسف الشديد ضل كثير من أولئك الرعاة فصاروا رعاة فاسدين يتكلّم عنهم حزقيال النبي فيقول “يذبحون الثمينة ويجهضون الحوامل ويفترسون …” ونجد تركيزًا على هذا الموضوع بشكل خاصّ في الكتب النبوية، يقول هوشع “يرعاهم الرب كالحمل في الأرض الرحبة”(هو4: 16). ويؤكّد أرميا النبي: “أجمع غنمي وأردها إلى حظائرها فتثمر وتكثر” (هو 23: 3). ويقول أشعيا النبي عن الرب أنه يرعى قطيعه كالراعي، فيجمع الحملان بذراعه ويحملها في حضنه ويستاق المرضعات رويدًا (أش 40: 11) كما يقود الربُّ خرافه إلى ينابيع المياه (أش 49: 10)، وإذا تفرّقت يجمعها (أش 56: 8).

  • الرب راعي فلا يعوزني شيئًا

يمكن اعتبارها الآية الذهبية  لهذا المزمور وهي من أجمل آيات المزامير بل الكتاب المقدس بأكمله، هي قريبة إلى قلب كل إنسان عرف الرب وسار أمامه، يحفظها الجميع عن ظهر قلب،  تردّدها كل الألسن بمختلف اللغات،  وتترنّم بها الشفاه في سعادة وفرح، كما تغرّد بها القلوب في أوقات الشدة وأوقات الفرج، في لحظات السعادة و الحزن … في لفظة “راعٍ” يستخِدم داود أكثر التشبيهات التي تكشف عن علاقة الراعي وارتباطه والتصاقه برعيته، فهو يعيش مع قطيعه، يشاركه حياته ومصيره وهو يمثّل كل شيءٍ بالنسبة للقطيع: يقوده ويرعاه ويقوته ويوجّهه ويعالجه ويحميه.والقطيع يمثل أهم شيء للراعي الذي يبذل نفسه في سبيل الخراف.

 يعود داود بذكرياته إلى الأيام الخوالي، أيام صباه، أيام كان يمرح متجولاً بين الربوع يرعى غنم أبيه يسى، والمزمار في يده يعزف أعذب الألحان، والخراف تتحرّك أمامه وحوله في حرية وأمان، يعرفها بأنسالها وأسماءها، يحصيها ويعيد حصرها، يقودها إلى أخصب المراعي مهما كلّفه ذلك من بحث وجهد ومشقة، يوردها أعذب المياه حتى ترتوي وتهنأ، يوجهها ويحميها، هذا هو معنى الرعاية كما عرفه واختبره داود شخصيًا.

 وحين تشعر الخراف في المراعي بروح الحب كأساس لعاطفة راعيها نحوها، مصحوبًا بالحنكة والخبرة وروح المسئولية والقدرة على القيادة مما يشعرها بقدرته على الدفاع عنها بقوته وحمايتها من كل شر الكواسر وغدر الجوارح… راع يعرف خرافه واحتياجاتها الحاضرة والمستقبلية، فيجهز لها كل مستلزمات حياتها بحيث يكفلها من جميع الجوانب ويشبع كل احتياجاتها الجسدية والروحية فلا يعوذها شيء؛ عندها سوف الخراف تتبعه وتنعم به راعيًا وقائدًا مدبرًا وحاميًا وفاديًا…

  • في مراع خضر يحيني، مياهها هادئة يوردني

استكمالاً لتلك الصورة الجميلة عن الماء والخضرة والراحة والهدوء، نكاد نتلمس مع المرنم خبرته المُعاشة وتجربته الشخصية، فنشعر به وقد تقدّم به العمر وكأنه يستعيد ذكريات تلك الأيام البعيدة، لكنه لا يذكر نفسه راعيًا بل يرى أن الرب هو الراعي الذي تتبعه خرافه في اطمئنان وتسير خلفه في هدوء لأنها تعرف صوته، ولأنه يعرفها ويعلم احتياجاتها قبل أن تعبّر عنها وهي:

  • فهو يعرف الطريق إلى موارد الغذاء وينابيع المياه، يعرف السبل إلى الوديان نحو المراعي الخصبة،
  • يعرف متى يخرج القطيع لينطلق به إلى المراعي،
  • يعرف في أية ساعة يجب أن تعود لتدخل الحظيرة.
  • يعلم متى يستطيع كل خروف أن ينطلق منفردًا.
  • ويعرف متى يجب أن يتجمع القطيع لينام.

وفي راحة وحرية وآمان حين ينفخ مزماره. تجتمع القلوب حوله وتخشع النفوس أمام جمال أناشيده الخلابة …

ماذا يريد داود وماذا يطلب قلب الإنسان المضطرب الذي أقلقته الحياة، غير أن يستريح في الرب ويتبعه ليكون له راعيًا وقائدًا عائلاً وسندًا، فيلقي عليه همومه وأحماله، يلجأ إليه وقت الضيق فيصير له فرجًا وناصرًا … فالرب كفيل بتلبية جميع احتياجات الإنسان وتحقيق كل ما يرضي نفسه وروحه بل أعظم من ذلك يقدّم له فرصة فريدة لتحقيق الانسجام والتناغم الداخلي والخارجي باختصار يمنحه ” الحياة”.

  • مياهها هادئة يوردني

ما هي مياه الراحة؟ دُعِي الهيكل “بيت قرار”(1 أيام: 2)، أي “منزل أو مكان الراحة” حيث يستقر تابوت الرب (مز 132: 8، 14)، ومن تمَّ فإنّ ماء الراحة يشير إلى حيث يوجد الراعي الذي يستضيف الخراف ليطعمها ويُرويها ويهبها راحة لا تقارن بما يهبه العالم.

  •  تنعش نفسي، يهدني سبل الحق من أجل اسمه

بعدما أشبع الرب جميع احتياجات رعاياه من البشر ماديًا وجسديًا، نراه يرتقي بهم إلى درجات أعمق من الإشباع والفرح الداخلي… أولى هذه الدرجات هي انتعاش النفس والروح، وهي سمة تصاحب أو صاحبت جميع الأبرار والقديسين في كل لحظات حياتهم حتى في زمن الشدة والضيق والاضطهاد والاحتجاب، فالنفس البارة دومًا منتعشة فهي تعرف أن الله راعيها وهو وإن تأخر أو تأنى أو احتجب بحيث لا يمكنها أن تراه من موقعها فهو أبدًا لا يغيب أو يتخلّى عنها ولا يغلق أذانه عن صراخها ولا تغفل عيناه عن متابعتها ولا ينأى قلبه عن مواكبة خطواتها…إذن تعرف النفس طريق العودة من عالم العنف والظلمة إلى عالم الراحة والبر تحت قيادة الرب وبقوته،

  •   يهدني سبل الحق

الهداية وهي عكس الضلال هي معرفة الطريق الصواب، فالخروف الذي هداه الله إلى الطريق الصحيح سالم آمن هادي مستكين، على عكس الخروف القلق الضال دائمًا المبلبل الفكر الكثير الحركة المرتبك التصرفات المضطرب السلوك… والابن الذي يحفظ وصايا أبيه ولا يعصى له أمرًا عكس الابن الضال … وسبيل الحق.

  • سبيل الحق

طريق الرب، ناموسه وشريعته بمعنى التبعية لله دون سواه والتمسك به ربًا ومعلمًا وهاديًا اختاره وحده دون أي شيء أو شخص سواه.

  • من أجل أسمه

“لا لنا يا رب لا لنا بل لاسمك القدوس أعطِ مجدًا”، يعرف المرنم كم هو قدوس اسم الرب وكم  يغار الله على اسمه، فاسمه يختلف عن اسم أي إله آخر فلكل آلهة اسم، يضعه البشر ليتعرّفوا من خلاله عليه، أمّا الله فقد رفض عندما سأله موسى أن يعطي ذاته اسمًا، ولما ألح موسى عليه قال له قل لهم أرسلني إليكم “الكائن” وهذا ليس اسمًا بل صفة وجوهر، فهو الكيان الذي ينبع منه كل كيان، وهو مصدر ومنتهى جميع الكائنات، به كان كل شيء وبغيره لم يكن شيء مما كان فيه كانت الحياة والحياة نور للناس وكلمة “يهوه“، الاسم الذي يطلقه الكتاب على الله ليست اسمًا بل معنىً أي “أنا أكون ما هو أنا”، وعندما حاول التقليد الكهنوتي في الكتاب المقدس أن يقدّم اسمًا أكثر قبولاً قدّم اسم “إلوهيم” وهي جمع إله وبالتالي ليست اسمًا بل هي صفة تعني إله الآلهة ورب الأرباب، وكان لاسم الله قدسيّة، بحيث لا ينطق به اليهودي ولو في الصلاة ويستعيض عنه بألقاب مثل السيد “أدوناي” أو الرب أو الإله.

والنبي المرنم إذ يطلب من الله أن يهدي سبيله، يعرّف نفسه وشعبه بأنهم غنم مرعاه بل ابنه ومسيحه، وأن وجوده هوشعبه مرتبط بالراعي، هذا ما يريد إعلانه لجميع الأمم، لذا يخرج النبي بهذه البديهية المصيرية التي تربطه وشعبه بالرب إلههم، فكل ما يحدث لهم، يسيء إلى القدوس الذي لا يغفل ولا يترك الخراف تضيع، ويفتش عن الضال.

القسم الثاني: ثقته بوجود الله وعمله (4-6)

  •  لو سرت في وادي ظل الموت، لا أخاف شرًا لأنك معي، عصاك وعكازك هما يعزياني
  •  لو سرت في الوادي

بعد أن رسّخ النبي البديهية المنطقية الأولى وهي ارتباط مصيره باسم إلهه الذي لا يقهر، يعيد إعلان ما يعيش من فرح وما يسكن قلبه من اطمئنان، فأينما سار وحيثما حلّ، يعرف أنه تحت عناية راع قدير عظيم، قادر أن يدفع عنه كل شر، حتى لو فاق قوته البشرية. فالمتاعب -مهما اشتدت-لا توقف مسيرة القطيع نحو الأبدية، ولا تُرْهِبه، ولا تحكم رجاءه، مادام في رعاية ذلك الراعي المخلّص. هنا يحدّد المرنم خطواته بدقة عجيبة، فهو في حالة “سَيْر”، لا تعرف التوقُّف، وهو دائم “التقدُّم” بخطىً “ثابتة” مهما اشتدت الضيقات. وإذ يسير في “وادٍ” وليس على قمم الجبال، فهو في عبور هادئ، يشعر فيه بالأمان والهدوء والسلام رغم الظلمة وظلال الموت لأنه مع رب الحياة.

  • وادي ظلال الموت

الموت هو العدو الرئيسي للإنسان، لقد قهر الإنسان جميع قوى الحيوان وسيطر وتحكّم أو كاد في قوى الطبيعة واكتشف قوانينها ونواميسها ليسيِّرها ويتحكّم بها، لكن “آخر عدو يقهر هو الموت” فما أدراك ما قوة الموت وتأثيره على البشر، إنه لا يعرف الرحمة ولا تأخذه شفقة ولا يفرِّق بين غني فقير، شاب وعجوز، سعيد وتعيس، يكفي أن يلقي عليهم بظله فيعودون إلى التراب ويحلّ فتنحني رقاب الجميع، ويتكلّم فيسود صمت القبور ينطق أحكامه فيصمت البشر، يأمر فيخضع الجميع، ويتسلّط فتنهمر دموع القهر والخسران، …

إنه الموت الذي دخل إلى العالم بحسد إبليس وسقوط الإنسان في شِرك الخطيئة وخروجه من الجنة والحضرة الإلهية. إنه الحقيقة المؤكّدة في حياة كل الكائنات “فليس أحد يحيا ولا يرى الموت”… ما أرهبك أيها الموت وما أرهب ظلك من يجتاز في واديك الممتلئ عظامًا ولا يرتعد!

  •  لا أخاف شرًا

جميل أنت حقًا أيها النبي المرنم  داود… إذ لا تحاول إخفاء إحساسك بالخوف من الشر وأنت تعبر وادي ظلال الموت، وهو شعور غريزي  مقبول ومشروع وأنت لا تحاول أن تداريه  متظاهرًا  بشجاعة لا تمتلكها… فمَن مِنّا لا يخاف الموت ومَن لا يرهب السير في ظلال واديه ومَن لا يضرب قلبه إذاء ظلمته الرهيبة… أمّا أنت يا رجل الله فلست بخائف، كيف؟،  لكنك تعترف بأن عدم الخوف لا ينبع من شجاعتك الشخصية، مهما عظمت، بل ينطلق من إحساسك بمن هو معك، يرعاك ويرافق خطاك، من تتتابعك عيناه وتسند خطاك يداه وتدفع عنك قوة العدو عصاه، من يبذل حياته لأجلك، من لديه القدرة وحده أن يدفع قوى الموت والجحيم إلى الخلف فترتد مهزومة… “أين قوتك يا جحيم وأين شوكتك أيها الموت”، فخرافه: محمولة على المنكبين، محفوظة في حدقة العين، منقوشة على أكف اليدين، مصونة في سويداء القلب… وهو يهمس دومًا لها “لا تخف فإني معك.

  • لأنك أنت معي

أخيرًا أراك مطمئنًا أيها الإنسان البائس الشقي، أخيرًا أراك تصدق راعيك، وتسلِّم نفسك لحراسته ورعايته الحانية.لأنك معي وليس لأني معك، فالإنسان لا يستطيع أن يذهب وهو لا يعرف الطريق… بك نحيا ونتحرك ونوجد: أنت السيد ونحن العبيد، أنت الرب ونحن التراب، أنت المنبع والمصدر وإليك المصير، أنت الخالق ونحن مجرد خليقة، نحن الخليقة البائسة المرتعدة، أنت المرافِق ونحن المرافَقون، أنت القائد ونحن التابعون، أنت الفاعل ونحن المفعول به، أنت الراعي ونحن خرافك وغنم مرعاك. بدون رعايتك الأبوية وحبك الذي جعلك تترك الكون باتساعه، والكائنات بجلالها وانتظام نواميسها وتسير خلفنا تاركًا لنا حرية الاختيار، بل ويزداد حبك وانشغالك بنا ويستعر بحثك عنّا كلّما ضللنا بعيدًا، حتى لتترك التسع والتسعين في البرية لتفتش وتبحث عن الضال… وعندما نصرخ طالبين معونتك، نجدك تطير وتحِّلق بكاروبك المقدس لتكون بجوارنا في التو واللحظة، ترفعنا وترعانا تطعمنا وتسقينا.

  • عصاك وعكازك هما يُعزيّانني

العصا: أول أداة حربية وآلة عسكرية استخدمها الإنسان منذ بداية التاريخ وبرغم تطور الزمان واختلاف الحضارات والشعوب إلاّ أننا نجدها في جميع الثقافات، حتى صارت رمزًا وإشارة إلى مقام وقوة حاملها… وما زالت العصا حتى اليوم 2020 تستخدمها أفريقيا بل وأوروبا وفي العالم أجمع بجميع شعوبه وحضاراته. أمّا عندنا في صعيد مصروإلى وقت قريب فلا يخرج الرجل القروي من بيته أبدًا دون عصاه. ويذكر الكتاب المقدس مرات عدة سواء في المزامير والحكمة وباقي الأسفار دور العصا في القيادة والدفاع، كعصا موسى وتتعدّد وظائف العصا بتعدُّد المهن، فعصا فرعون غير عصا موسى التي بها شق البحر وضرب الصخرة ففجّر المياه ورماها أمام فرعون فصارت حيّة ابتلعت حيّات عصيّ سحرة فرعون، كما تختلف عصا الراعي عن عصا المعلم وعصا الأسقف غير عصا الكاهن. ويخبرنا العظيم داود أن للرب الراعي عصًا، لكنها لا تَجْرح بل ترعى وتُعزّى!

أمّا العكاز فمعقوف من الطرف الأعلى، ومن مصدر الفعل نرى أنها للسند والارتكاز ويساعد على الثبات واستقامة الوقوف، وهو التطوُّر الطبيعي للعصا ولا يُستخدم في الحرب ويصلح كعلامة ورمز للشخص، وهو عادة أثمن معدنًا وأجمل شكلاً، لذا يحمله الأكبر سنًا والأكثر وقارًا. ما أجمل هذا، العصا تحمي الخراف من مطاردة العدو وتجاوز الخصوم وتدفع كل شر ومكروه… فعصا الرب تشير إلى قوته، وما أروع العكاز في يده يسند خطي بنيه ويقويهم في لحظات الضعف والألم عندما نكاد تخور قواهم…

  • يعزياني

“تكون عصاك وعكازك هاديًا لي”، الكلمة اليونانية “بارقليط” تشير إلى الروح القدس، نقرأ في غريغوريوس النيصي “ثم يقودك بعصا الروح القدس، لأن البارقليط (أو الهادي) هو الروح القدس”. كل ما فيك وكل ما معك يحمي ويسند فكيف لا نطمئن ونتعزّى ونترنّم بمراحمه ولو اجتزنا في وادي ظلال الموت.

  • تهيئ قدامي مائدة تجاه خصومي تدهن بالطيب رأسي وكأسي روية

تهيئ أي يعد ويجهز ومن يهيئ المائدة اثنان السيد الذي يدفع تكاليف كل أنواع الطعام، والعبد الذي يقوم بإعداد الأطعمة والمأكولات ووضعها على المائدة. وقد أعد الرب لخرافه كل شيء، فهم معه لن يحتاجون شيئًا، “هلم كلوا خبزي واشربوا خمري”، “هلم فإن وليمتي قد أعُدت”. قدامي أي حتى قبل وصولي كظرف زمان أو أمامك ظرف مكان…  بمعنى أني لن أبحث فهي أمام وجهي ولن أنتظر لحظة لإعداد الطعام وأنا أعاني ألم الجوع، فأنت “أبي” قد عرفت ما تشتهي نفسي وما أنا محتاج إليه قبل أن أطلبه، والمائدة حافلة لا تحوي فقط ما يسد الرمق ويشبع الجوع، بل كل ما تشتهيه النفس والروح.

  • مائدة

ربما عنى المرتل بأن الله الذي يهتم بنا إذ يرى العدو قائمًا ضدنا يُعِدُّ بنفسه لنا المائدة لكي نأكل في غير عجلة، دون ارتباك أو اضطراب، ويُجْلِسنا لنَنْعم بالقوت دون أن نخاف العدو الذي يَطرِق أبوابنا، إنه يهبنا سلامًا وشبعًا وسط المعركة بكوننا خاصته المحبوبة! في مواضع أخرى في سفر المزامير كثيرًا ما يُقدّم ذبيحة الشكر ويتبعها أو بصحبها وجبة ذبيحة أي مائدة مقدسة (مزمور 22: 26؛ 63: 6) أو ذبائح (مز66: 13؛ 116: 17).

  • تجاه مضايقي

كأن مضايقي داود وأعداؤه الذين نجحوا أن ينزلوا به إلى وادي الموت كانوا ينتظرون هلاكه قبل وصوله إليه، ولعلهم كانوا يتجولون في الهيكل ساعة كان  يُقدم ذبيحة الشكر لله، لذا ردّد هذه العبارة، أمامهم ليبيِّن مدى ما أولاه الرب له من رعاية وما أسبغ عليه من بركات،  لدرجة  أن حوّل له وادي الموت إلى وادٍ للراحة، حافل بكل وسائل المجد والكرامة والنصر والعزة… لذلك حين رأى العدو ما أكرمه به الرب وجزيل إنعاماته، ذهلوا واضطربوا وتبدّدوا أمام قوة ذراع الرب التي تجلّت حتى أنه أقام لعبده داود مائدة نصر رائعة، سيقيمها لجميع المؤمنين به مستقبلا،  فما أروعك…

هكذا يرعى الرب مؤمنيه ويوفر لهم جميع احتياجاتهم الروحية والجسدية، ويعبّر المرنّم عن هذا الشعور بالاكتفاء باستخدام عدّة أفعال هي:

*
  •  أربضتني: أي وضعتني وخلقتني، وكأسدرابض في شموخ   في أرض خصبة أرحتني، وشيئًا لم تعوزني.
*
  • رويتني: من أعذب ماء، ماء النعمة، مياه الراحة. والشرب احتياج يتقدّم على كل ما سواه من احتياجات البشر الجسدية.
*
  • أقمت  لي مائدة: لم تتركني في الوادي حيث أربضتني وترعاني أفتش عن قوتي، بل أعددت لي طعامًا، وكالملوك على مائدتك أجلستني…والأكل احتياج جوهري من احتياجات البشر الجسدية.
*
  • حميتني: تُعَد الحماية أهم الاحتياجات النفسية عند الإنسان، فالشعور بالأمان هو الإحساس الذي يتجذر في نفس الطفل بوجود أبويه مما يمنحه السلام وبمده بالإحساس بالقدرة على النجاة.
*
  • سندتني: وفي لحظات الألم والاضطراب، حين خفت وارتعدت وكادت تخور قواي، منحتني النجاة من أهوال الجحيم، ومددت يدك المملوءة رفقًا فسندتني ومن قاع هوة الموت انتشلتني.

6. الخير والرحمة يتبعاني كل أيام حياتي. وأسكن في بيت الرب إلى مدى الأيام.

  • الخير والرحمة يتبعاني

يسير المؤمن في طرقات الحياة سعيدًا مطمئنًا، يحيا في الخير والحب والنور ويسعى أن يشرك معه كل من حوله “أمّا انا وبيتي فنعبد الرب” ويدعو كل من يعرفهم الى جواره ليتذوّقوا طيبات العيش في كنف الرب… هو يعرف وقد اختبر كم هو غني الرب بالرحمة والتحنن، على الذين يحبونه من كل قلوبهم، وحين وثمار الخلاص يثمرها الإنسان المؤمن، ليست ذلك نتيجة أعماله ومجهوده الشخصي فحسب، بل من ثمار عمل روح الله القدوس فيه واتباعه لناموسه وحفظ كلمته في قلبه ومحبّة الله ورحمته… لذلك يتكل المرنّم على رحمته ويحبه فيعرف أنه لن ُيحرم من الخيرات كل أيام حياته بل وفي الآخرة أيضًا أعماله تتبعه.

  • وأسكن في بيت الرب

على الدوام، في كل مراحل حياته،  وعبر العديد من المزامير نلاحظ شبق داود وهيامه بهيكل الرب، لدرجة جعلته يصرخ في أحد مزاميره: “واحدة سألت من الرب وإيّاها ألتمس، أن أسكن في بيت الرب إلى الأبد”… هذه هي مياه الراحة المقصودة، أي السكنى مع الرب، فرحمته ومحبته تؤهلان النفس الساكنة في بيته، لتتفرّغ إلى ذلك النوع من الحياة المملوءة بلذة الفرح والترنيم والترتيل والتسبيح والشكر والسجود… وهو ما يعرفه ويختبره ويعيشه الحاج إلى الهيكل أثناء زيارات الحج التي يعتبرها المرنم مجرد لحظات خاطفة، فبيت الله وهيكله المقدّس يصلان بالنفس إلى الاقتراب من حضرة الله وهذا هو غاية المراد للنفوس البارة على مدى الأجيال.حيث يؤكد القديس أغسطينوس هذا المعني بقوله الشهير: “خلقتنا يا الله وقلوبنا مضطربة إلى أن تستريح فيك” ها قد وجد المرنم لنفسه موضع راحة حيث يستريح ويتمتع بصحبة خالقه وباريه.

  • طوال الأيام

       إنه لا يريد أن يكون لقاءه بالرب في بيته وسط شعبه، في هيكله المقدس، مجرد زيارة دورية عابرة مرتبطة بالتقويم الطقسي، بل يتوق إلى ما هو أسمى وأرفع وأروع، أن يسكن مع الرب في بيته حيث يثق أنه سيجد الراحة والسكينة. فهو موقن أنه إذ يسكن في بيت الرب وتكون إقامته معه، سيحيا استقرارًا دائمًا على عكس الترحّال الدائم، فحين يكون الرب راعيًا للنفس تستقر ساكنة في سلام، وهذا ما يعبّر عنه النبي نفسه في موضع آخر بقوله: “ارجعي يا نفسي إلى موضع راحتك” ليس نعيمًا وقتيًا خاضع لظروف المكان، بل مقامًا خالدًا حيث يتمتع بالنور الدائم والحضرة المتجدّدة مع الرب، وبعد العمر الأرضي، ستنطلق النفس محلّقة نحو خيرات لا تفنى ولا تعرف فسادًا، لا غروب فيها ولا نهاية لها، حيث ستسكن معه في سعادة أبدية إلى دهر الدهور…

رابعًا: تطبيق المزمور

  • كيف عاش الرب يسوع هذا المزمور؟

ينطبق المزمور على مراحل عدِّة من حياة الرب الرب يسوع فهو الصورة الحقيقية للراعي.  وإذا كان العهد القديم يقدّم لنا يهوه كراع كما اعتادت الأمم الشرقية أن تدعو حكّامها وملوكها الصالحين “رعاة”، هكذا يُستَهلُّ المزمور في سطوره الأولى بأكثر الصور الكتابية شعبية: صورة الراعي، وإذ تحتل لفظة “راعٍ” بين كل التشبيهات المكانة الأكثر عذوبة ورقة، لأنها تخترق القلوب. فالله هو الراعي الذي يخلّص شعبه. والمسيح هو الابن الكلمة هو الراعي الصالح الذي يهتمّ بقطيعه، وما العصا التي يحملها ليقود قطيعه سوى صليبه الذي خلّص العالم.

  • الراعي الصالح: قال الرب يسوع عن نفسه بصريح العبارة “أنا هو الراعي الصالح” وتوصيف الصلاح هذا ينبثق ممّا يقدّمه للخراف “الذي يبذل نفسه عن الخراف” وقد قدّم يسوع في حياته وصلبه وموته وقيامته هذا النموذج الفريد الذي لا مثيل له في الماضي والحاضر والمستقبل.
  • الملك من نسل داود: وكما كان الله وسيظل راعيًا لشعبه، ومن ثم أجلس داود على عرش الملك فكان نِعم الراعي الصالح الذي يشبه في محبته ورعايته قلب الله “فتشت قلب داود عبدي فوجدته مثل قلبي” كذلك صار الرب يسوع كلمة الله المتجسد هو راعي الخراف الحقيقي، فلا غرو أن هذا المزمور قد استُخدم في تجليس الملك راعي شعبه، رمزًا للسيد المسيح ابن داود، الملك والراعي الصالح المحب لشعبه.
  • ويبرز هذا المزمور الله الراعي المخلص من جوانب ثلاثة: المخلص كراعٍ صالح: تدخّل لينتزع رعيته من يد العدو ويسلّمها لمن يعرفها بأسمائها وتعرفه، ويبذل نفسه كي تنعم بالسلام الأبدي تحت قيادة راع الخراف العظيم.
  • المخلّص كقائد: بعد أن حرر يسوع خرافه من أمور الأرض العابرة، يدخل رعيته كقائدبأبناء إلى سُبًل البرّ، “الرب قائدي في سبُلُ البر” فتسلك سبُل السلامة تحت قيادته ، وتتجلّى قدرات القائد من خلال عنايته وحمايته، وهكذا يُعلِن الله عن ذاته في المسيح كقائد ورأس للكنيسة التي هي جسده.
  • المخلّص كصديق: يقود هذا الراعي شعبه ويستقبله دخولاً إلى بيته المقدس لنمضي كل أيام حياتنا تحقيقًا لقول الرب:”صديقي ومضيفي”، وقد أُعدَّ وليمة عائلية مفتوحة وممتدة، يدعو إليها كل المؤمنين باسمه إليها ليقدم لهم في القربان المقدس ذبيحة نفسه فيُشبِع فيهم فرحًا وحياة أبدية لمن يتناول منه. والقائد المخلص والصديق في فيض حبه يهب شعبه سلامًا وشبعًا، فهو يُقدّم المائدة ويخدمها بنفسه بعدما غسل أرجل تلاميذه.
  • المرعى الخضر الخصيب: هي الكنيسة المقدسة بما توفره من مائدة الخبز والخمر والماء والزيت وكلها عطايّا أرض الميعاد الوفير، فتفيض الكؤوس ويعيش الشعب متمتعًا برعاية الله ورحمته؛ يستضيف الله شعبه في وليمة مسيانية، تطابق وليمة جسد الرب يسوع المسيح ودمه.
  • مياه الراحة: تلك هي مياه المعمودية المقدسة التي يحيا من ينالها في المخلص ويدخل في كنف رعايته، وينجو من عبودية إبليس ويحيا مرتويًا بماء النعمة والخلاص.
  • قام المسيح بإنعاش نفوس كل من يؤمن به فإنه يحيا منتعشًا في سلام وراحة وإن مات فسيحيا…
  • وادي ظلال الموت: عبر يسوع هذا الوادي حين مات ونزل الى الجحيم بالصليب ليعبر بكل من يؤمن به إلى واحة الخير والبركة والخلاص.
  • لأنك أنت معي: عاش يسوع على الأرض ويحيا في السماء في رفقة الآب السماوي ” أعرف أنك معي في كل حين” فلم يرهب المصير الرهيب بل وجّه وجهه إلى أورشليم وهو عالم بما ينتظره من صبغة… لكنه كان يؤمن ان الله معه وأنه لن يترك نفسه في الجحيم ولن يدع قدوسه يرى فسادًا.
  • عصاك وعكازك يرعياني: عاش يسوع كراع صالح بين خرافه فسقاهم بدمه وقاتهم بجسده وفداهم بروحه ويظل هو الصورة النموذجية للراعي الصالح بعصاه وعكازه على مدى الأيام.
  • تهيئ قدامي مائدة: كما أكل الرب الفصح مع التلاميذ صار هو الحمل المذبوح فداء عن أحبائه وقدّم لهم ذاته على خشبة الصليب وصار هو الذبيحة الأبدية ودعا جميع من يؤمنون به على مر الأجيال أن يجلسوا معه على مائدته المعدة لهم وأن يأكلوا جسده ودمه ليحيوا.
  • كأسي روية: لقد تذوق يسوع كأس الألم حتى السمالة ولم يتمنع ولم يهرب، قبلها خضوعًا لإرادة الآب من أجل خلاص قطيعه، فملأ الله له كأس مجد وانتصار أبدي.
  • تدهن بالطيب رأسي: مسح الله ابنه يسوع بالروح القدس وجعله مسيحًا إلى الأبد. فصار يسوع أنت المسيح ابن الله الحي”. كمسح الكاهن للملك بالزيت.
  • الخير والرحمة يتبعاني: هكذا صار اسمه مباركًا بين الشعوب وله تسجد كل ركبة ما في السماوات وما على الأرض وما تحت الأرض، تباركه جميع الأجيال.
  • كل أيام حياتي: منذ تجسُّده على الأرض وفي كل مكان كان يحل فيه كان الخير والحب والرحمة من سماته فهو “الذي جال يصنع خيرًا ويشفي كل سقم”. إلى مدى الأيام: الذي لا بداية له ولا نهاية صعد متوجًا بالنصر وفتح أبواب الملكوت لكل من يؤمن به ليحيا حياة أبدية.
  • وأسكن: السكنى مع الله كما في الفردوس، أمنية المرنم هي أعظم انتصار حقّقه يسوع بدمه على عود الصليب وبذا سبى سبيًا وأعطى الناس عطايا فأجلسنا معه وجلس هو “على يمين عرش العظمة في السماويات “.
  • كيف نعيش هذا المزمور ‏ كمسيحيين؟

كيف لا نحيا؟ وكيف لا ينغمس المسيحي إلى العمق في عذوبة هذا المزمور الذي تردّده الكنيسة يوميًا في جميع تسبيحاتها… و عندما نقرأ الكرازات المسيحية الأولى نندهش لتعدُّد الإشارات والتلميحات إلى هذا المزمور في حياة المسيح والكنيسة. فكيف لا نعيشه وقد وُهبنا تحقيقه بالكامل في مخلصنا يسوع.

  • الرب راعي: يحيا المسيحي هذا الشعور بإحساس عميق حيث يشعر كل يوم واليوم كله برعاية الرب له وحمايته لحياته من كل المخاطر.
  • انتعاش النفس: في الكنيسةيشعر المؤمن أنها المرعى الخصيب والسهل الغني بوافر النعم والممتليء بالبركة وكافة التعزيات، فمن جرن معموديتها يخرج ابنًا لله بالنعمة ومن طيب بلسم مسحتها ينال مواهب الروح القدس وعلى مائدتها يجلس ليتغذّى بجسد الرب ودمه وفي رحابها يتقدّس بالزواج والكهنوت ومنها ينال أسرار التوبة والغفران والمسحة.فيها يسكن المؤمنون من جرن معموديتها يخرجون ومن أمام هيكلها يعودون إلى حضن الراعي في سلام، حيث الراحة الأبدية في نور لا يعرف غروبًا. وإذا كان الرب راعيك أيها المؤمن المترنّم فالخير يملأ بيتك والرحمة الإلهية تظللك كل أيام حياتك، بفضل الراعي الذي يشبع نفسك بركة وفرحًا وخيرًا ورحمة وسلامًا… 

خامسًا: المزمور في فكر آباء الكنيسة

قرأه آباء الكنيسة والتقليد في إطار التدرّج المسيحي

  • مراحل التدرُّج المسيحي: أسرار التدرُّج   هي المعمودية والتثبيت والإفخارستيا، وفيها يتدرّج المسيحي ليصل إلى ملء عطيّة الإيمان. الراعي هو القائد وهو الرفيق، يتسلّط على الخراف ويرافقها فيعيش حياتها ويقدر أن يدافع عن قطيعه، يعرف الخراف ويكيّف حياته على حياتها، سلطة الراعي لا تناقَش، ولكنها مؤسَّسة على المحبّة والتضحية (يوحنا10: 11). هذه الرعاية الإلهية تحتضن كل عضو من شعب الله بل وكل الشعب جماعة، حيث يقود الراعي الشعب المتمتع ويعدَّ له في بيته موضعًا، حتى يتبعه أينما ذهب، بذلك يجد المؤمن بهجته أنْ يتعبَّد ويخدم ويسكن مع ربه وكأنما يسكن معه في سمواته أبديًا، فغاية رعايته أن نستقر معه في مَقْدسه الإلهي!
  •  فقد كتب كيرلس الأورشليمي (315-387): “عرفك داود بفضيلة سرّ (الإفخارستيا) حين قال: هيأتَ مائدة أمام عينيّ تجاه مضطهدي. فما يعني بهذا إلاّ مائدة الأسرار التي هيأها الله لنا؟
  • –          ويقول القديس أمبروزيوس (339-397) “اسمع أيَّ سرّ قبلت، اسمع داود يكلّمك، هو أيضًا نظر مسبقًا إلى هذه الأسرار، فابتهج وأعلن أن لا شيء ينقصه، لماذا؟ لأن الذي قبل جسد المسيح لن يجوع أبدًا، كم مرّة سمعت هذا المزمور دون أن تفهمه؟ أنظر كم يليق بالأسرار السماوية”. لذا كان المعمّدون ينشدونه.
  • وتسير الكنيسة على هدي راعيها، فتأخذ الحياة الإلهية بالمعمودية، وتتغذّى بجسد الله بالإفخارستيا وتمسح أبناءها بزيت الروح في سرّ التثبيت، وهكذا يسير كل أبنائها في طريقهم إلى الآب بلا خوف، عابرون ظلمة الموت ويصلون إلى الراحة والسعادة.
  •  يقول أمبروزيوس: “بعد أن خلع المعمّد ثياب الضلال وتجدّد شبابه كالنسر، يُسرع نحو المائدة السماويّة، فيجد المذبح معدًّا فيهتف: “هيّأت أمامي مائدة”.
  • عصاك وعكازك هما يعزياني: عادة ما يكون للراعي:

1.  ثوب بسيط: يُشير إلى إخلاء المسيح ذاته ليحمل طبيعتنا البشرية ويأخذ شكل العبد ليدخلنا إلى مجده.

2.   عصا: تُسْتَخدم لحماية القطيع، وتُشير إلى صليب الرب الذي حَطَّم العدو، وقتل الخطية، وأفسد الموت.

3. عكاز: ويستخدمه الراعي للاستناد، أو ليمسك به خروفًا جامحًا يحاول الهروب بعيدًا عن القطيع… ويُشير إلى تأديب المخلص مؤمنيه بعصا الأبوة الحانية الحازمة.

4. آنية زيت: ليُطبّب بها جراحات خرافه، وتُشير إلى المسحة المقدسة.

5. سكين: يستخدمها عند الضرورة، وتُشير إلى عمل الروح القدس إذ يفصل الخير عن الشر.

6. مزمار: يعزف عليه ليعلن بهجته، إشارة إلى الفرح، حيث تُسبّحه النفس مع الجسد كما على قيثارة الحب.

  • يقول غريغوريوس النيصي:”إني ولو سرت في وادي ظل الموت لا أخاف سوءًا: “يجب أن تُدفن معه في الموت بالمعمودية، وهذا ليس موتًا، بل ظلّ الموت وصورته”. ويقول كيرلس السكندري: “بما أننا عمّدنا في موت المسيح، تسمّى المعمودية ظلّ الموت الذي لا نخافه”.
  • “هيأت قدامي مائدة تجاه مضايقي”: في سفر المزامير كثيرًا ما يُقدّم الشكر ويتبعه وجبة ذبيحة أي مائدة مقدسة (مزمور 22؛63) أو ذبائح شكر احتفالاً ينصر الله لبنيه على العدو (مزمور 66؛ 116)، كذا يمنحنا الرب يسوع المسيح مائدة جسده ودمه لتُخزِى العدو، فوجوده لا يُزعج ولا يَحرم من الوليمة المقدسة.  
  • ويقول القديس كيرلس الأورشليمي “حقًا يرتعد الشيطان من الذين يشتركون في هذه الأسرار بوقار”. لذا يردِّد المسيحي عند التناول “طهارة لأنفسنا وأجسادنا وأرواحنا وغفرانا لخطايانا وآثامنا”.
  • يقودني إلى مياه الراحة: نقرأ عند أثناسيوس الإسكندري (295-372): ” مياه الراحة تعني ولا شكّ المعموديّة المقدّسة التي بها يُنزع ثقلُ الخطايا”.
  • ويقول تيودوريتس:”مياه الراحة رمز للحياة، فيها يعمّد من يطلب النعمة، فيتعرّى من الخطيئة ويستعيد شبابه”.

خاتمة المزمور

نستطبع التأكيد على أن هذا هو موضوع مزمور الباراقليط وكثير من المزاميروهو ” الاتكال الكامل على الله”، فالله يقود المؤمنين إلى المراعي لنوال كل نعم الفردوس هذا الأمر لا يخص القديسين وحدهم، وإنما يشمل كل البشر، فالعناية الإلهية تمتد لتشمل حتى العصافير المُباع خمسة منها بفلسين (مت 10: 29). فكل ما يحدث في حياة البشر لا يتم بمحض الصدفة، ولا بطريقة عشوائية، وإنما بتدبير من الرب ولهدفٍ سامٍ محسوب، يشمل الإنسان من أخمص قدميه لشعر الرأس.

وما المراعي الخضراء تلك سوى ذلك الفردوس الذي سقطنا منه، فردنا إليه السيد المسيح بفداءه، وأدخلنا فيه بمياه المعمودية. وما البركات سوى التمتع بِسُكْنَى السيد المسيح فينا. حيث يسكن فينا ونسكن فيه.

كما يهبنا الرب حسب روح هذا المزمور “طبيعة الاكتفاء”، إذ نعلن أننا نتقبَّل من يديه بهجة الكفاية والشبع بجانب بهجة، مشاركته في فقره برجاء أن نشاركه أيضًا في مجده. من أجلنا افتقر السيد المسيح لكي نغتني. إننا بلا شك لا نحتاج شيئًا البتة، إذ هو بنفسه يصير طعامنا وشرابنا وملبسنا وحمايتنا وسلامنا وعون لحياة كلها بهجة، حضوره الواهب النِعَمْ يهب القلوب شبعًا وكفاية.

حين يدعو الكتاب المقدس الله “رب” و “ملك” و”خالق” يشعرنا بقدرته وقوته ومجده فنحس بخوف ورعدة، لكن عندما يسْميه “راع”، فإننا نتذوَّق حلاوته ورقّته عنايته بنا بنفس الدرجة عندما ندعو الله “أبًا”.

لكن لا يمكن التمتع بهذا المزمور كاملاً ما لم نَتقبَّل خلاص الرب يسوع المسيح، و لن نستطيع أن نختبر عذوبته ما لم نعترف كم هو ثمين دمه المهرق لأجلنا. ولن نستطيع التحقُّق من مفاعيله العذية في قلوبنا ونفوسنا ما لم نعترف أمامه: ربي قد اغْتسِلت بكُليّتِي بمعموديتك فحملت خاتم شركة طبيعتك الإلهية، مسحتني بدهنك فتقدّست لك وشربت من كأس دمك فتلتهب أحشائي بنار حبك فضمني إلى قطيعك هناك أحيا ومعك أسكن وفيك أجد راحتي.

صلاة بحسب روح المزمور

أيها الراعي الصالح

أنت راع نفسي، إليك وحدك التجيء،

أربضني ربي في مرعاك فلا أعود محتاجًا لشيء

بك أحتمي وفي حضنك أرتمي لأكون:

أسكب روحك القدوس فيّ فالخير والرحمة يتبعاني

لن أخاف شرًا لأنك معي، لن أضل الطريق فعصاك تهديني

لن أعطش أبدا فكأسي دائمًا روية، لن أجوع فمائدتي مهيأة قدامي أبديًا… لن أطلب ميراثًا فنعمتك تغمرني

غسلتني بمعموديتك فحملت خاتم شركة طبيعتك الإلهية، مسحتني بدهنك فتقدّست لك بكُليّتِي

وأسقيتني من كأس دمك فتلهبت أحشائي بنار حبك.

لن أحمل هم قوت أو كسوة أو سكن فأنت كفايتي

جنبك المفتوح يفيض لي مياه الراحة،   

لن أبحث عن راع آخر فأنت رفيق دربي

لن أهاب ظل الموت فأنت قيامتي

ولن أخشى العدو فأنت ناصري

موتك على الصليب فتح لي مَرْاعَي الفردوس،

وقدمته لي عصا وعكازًا عليهما استند،

بهما أفخر وفي ظلهما أحتمي

وسط آلام الحياة تقودني، 

وفي وقت ا لضعف تحملني على مِنكبيك،

وأخيرًا تستقر بي في بيتك السماوي

أيها الراعي الصالح أنت طريقي، فاحملني لحِضْن أبيك!

 لأُوجد معك ومع ابيك إلى الأبد.

 تملك قلبي بسلطان حبك يا من بذل ذاته من أجلي فأصير:

أسعد كائن في الوجود، يكفي أن عيناك ترقباني

وأغنى إنسان في الأرض، ففيض كرمك يغمرني

أهنأ قلب في الحياة، فلا خوف في كنفك ولا دموع

أبهج نفس في الكون فمن مثلك يا راعي تفسي

في ظلك أستتر آمين.

فهرس المزمور الثالث والعشرين

الرب راعيّ

أولاً: تقديم المزمور  

ثانيًا: نص المزمور وتقسيمه

ثالثًا: تفسير المزمور    

القسم الأول: اتكال كامل (1-3)

القسم الثاني ثقته بوجود الله وعمله (4-6)

رابعًا: تطبيق المزمور

كيف عاش الرب يسوع هذا المزمور

كيف نعيش نحن المسيحيين هذا المزمور

خامسًا: المزمور في فكر الآباء        

خاتمة المزمور  

صلاة حسب روح المزمور   

الفهرس