المزمور الثامن والعشرون:  خلّص شعبك وبارك ميراثك

المزمور الثامن والعشرون: خلّص شعبك وبارك ميراثك

همسات الروح

تأمُّل في سفر المزامير

بقلم الأب/ بولس جرس

المزمور الثامن والعشرون

خلّص شعبك وبارك ميراثك

أولاً: تقديم المزمور

مدخل: يقول القديس أغسطينوس عن هذا المزمور: “إنّه صوت الوسيط، الذي كان ذراعه قويًا في صراعه مع آلامه” .

نتوقّف طويلًا أمام “حصن خلاص ميسحه” حيث تتلاقى الكلمة مع الاسم الرئيسي المتداول والمعروف بيننا لابن الله فهو المسيح المخلّص، ونتذكّر مع داود كيف أرسل الله صموئيل النبي بقرن الزيت ليمسح له ملكًا من بيت يسى، فمسح داود أصغر اخوته وأضعفهم. وهكذا صار داود مسيحًا  للرب وصار الرب حصنًا لمسيحه، به يحتمي وعليه يتكل وإليه يلجأ… وهذا نفس ما تحقّق مع يسوع المخلّص، الذي أحاط به الأشرار واكتنفوه، تآمروا عليه وكمنوا له وقتلوه، لكنه ظل واثقًا وظل يصلّي إلى أبيه ويعرف أنّه حصنه وخلاصه، وفي لحظة النهاية الظاهرية المحتومة “أسلم الروح” كان قد صرخ ” في يديك أستودع روحي” فأقامه الله ملكًا أبديًا ناقضًا أوجاع الموت. رئيس السلام. الذي خلّص نفسه بطاعته فكان سبب خلاص الكثيرين فانطبق عليه ما انطبق لداود في الوحدة مع شعبه.

تحوي هذه المرثاة صرخة صادرة تحت ضغط عميق،  حيث  تعكس خطرًا هائلًا يحيق برجل يقترب به من الموت؛ وهي إذ تمثّل صرخة صلاة لدينونة الأعداء، وتسبيحًا من أجل الخلاص المرتقب، وشفاعة من أجل جميع شعب الله. يصنف جانكل  Gunkelهذا المزمور كمرثاة شخصية، أمّا موفينكل  Mowinckel فيعدّه مرثاة جماعية قومية، ويعتبره تورناي  Tournayمزمور شكر. ويحسبه آخرون مزمورًا ملوكيًا.

  1. مزمور مسيَّاني: حينما عانى النبي داود من الألم، وشعر أنه منحدر إلى الحفرة (الجب)، رأى بروح النبوّة السيد المسيح، مخلّصنا، داخلًا إلى الجحيم ليحطّم أبوابه، ويفتدي منه مؤمني العهد القديم الذين رقدوا على الرجاء. لقد رأى مخلّص العالم، الذي قبل بإرادته أن يبذل ذاته من أجل البشر. بمعني آخر كان داود النبي يردّد هذا المزمور باسم “ابن داود” وهو يقدّم في شيء من التفصيل خبرة داود الحرفي (التاريخي)، وفي نفس الوقت كان يقدّمه رمزًا للسيد المسيح العظيم، القادم، ومن ثم نعتبر هذا المزمور مسيانيًا رمزيًا. إنّه في الواقع يمثّل طلبة يقدّمها رئيس كهنتنا الأعظم لحسابنا. تُليت هذه الصلاة في الهيكل أمام التابوت، بواسطة إنسان ربما كان مريضًا أو كان يعاني من متاعب الأشرار. وُجّهت الصلاة نحو أعماق الهيكل – قدس الأقداس – حيث يتربّع الرب على التابوت (1 مل 8: 6-7). بحسب النص العبري والترجمة السبعينية يُنسب هذا المزمور لداود النبي. يرى البعض أن حزقيا الملك قدّم هذه الصلاة حينما أوشك على الموت.
  2. مزمور صلاة: يدمج النبي هنا بين شخصه وشعبه، فهو في موقف أزمة وضيق شديد يتوجّه  صارخًا نحو إلهه في صلاة استغاثة وضراعة طالبًا عدله وهو واثق من استجابة إلهه ومخلّصه، حصنه وملجأه. لقد شعر داود النبي الذي أحدق به خطر داهم بأنّه قد صار على درجة من الضعف والهزال تعادل الضعف ذاته، لكنه ظل موقنًا أنه برغم عجزه الكامل مازال قادر ًا أن ينجو من الجب (الهاوية)، من الانحدار نحو ظلمة  العالم السفلي، وذلك بقوة الله  مخلّصه. لقد حوّلت كثرة الضيقات المتواترة وشدّتها وتواليها داود إلى مرنّم عذب الكلمات  حلو الألحان، يعرف – بروح الثقة – أن يلجأ إلى الله بصرخات قلبية فعّالة ومقبولة، يكره الشر ويخشاه، يتّسع قلبه لإدراك خلاص الله له ولكل شعبه، فينسى همومه الخاصّة طالبًا ومصليًا من أجل بركة شعب الله ونموّه. بمعني آخر لم تحوّل الضيقات داود إلى الكآبة أو التذمُّر بل إلى اتساع القلب بالحب وارتفاع الفكر إلى السماء ليحيا متهللاً بلا انقطاع!
  3. مزمور شكر  وإيفاء النذور: كما يمثّل هذا المزمور إيفاءً بنذر داود الذي حوّلته كثرة أحزانه إلى “شادي إسرائيل العذب”، فهو في وسط الألم يقدّم نذرًا لله  أن يرفع في حضرته ” ترنيمة مفرحة ” أو “تسبحة فرح” للرب كذبيحة شكر لخلاصه، بل نراه ههنا يفي بالنذر حتى  قبلما تتحقّق استجابة صلواته.

ثانيًا: نص المزمور وتقسيمه

يتكوّن المزمور من تسع آيات  وينقسم  إلى أربعة أقسام

القسم الأول:  صلاة ابتهال                                 (1-2)

1. ” إليك يا رب أصرخ يا صخرتي، لا تتصامم من جهتي لئلاّ تسكت عني؛ فأشابه الهابطين في الجُب”.

2. ” استمع صوت تضرُّعي إذ أستغيث بك وأرفع يدي إلى محراب قدسك”.

القسم الثاني:  صلاة تضرُّع وثقة                             (3-5)

3. ” لا تجذبني مع الأشرار ومع فعلة الاثم المخاطبين أصحابهم بالسلام والشر في قلوبهم”

4. ” أعطهم حسب فعلهم وحسب شر أعمالهم. حسب صنع أيديهم أعطهم. رُد عليهم معاملتهم”

5.  لأنّهم لم ينتبهوا إلى أفعال الرب ولا إلى أعمال يديه يهدمهم ولا يبنيهم”

القسم الثالث:  صلاة شكر  وتسبيح                  (6-7)

6.  ” مبارك الرب لأنه سمع صوت تضرُّعي” .

7. ” الرب عزي وترسي عليه أتكل قلبي، فانتصرت ويبتهج قلبي وبأغنيتي أحمده”.

القسم الرابع: تشفُّع وحب                               (8-9)

8.  ” الرب عزٌ لهم وحصن خلاص مسيحه هو”.

9. ” خلّص شعبك وبارك ميراثك وارعهم واحملهم إلى الأبد”

ثالثًا: تفسير المزمور

القسم الأول: صلاة ابتهال                              (1-2)

1. ” إليك يا رب أصرخ يا صخرتي، لا تتصامم من جهتي لئلاّ تسكت عني؛ فأشابه الهابطين في الجُب”

الصراخ هو المرحلة الأخيرة بعد الدعاء، هما والصلاة والنداءوالاستغاثة جهرًا. لم يبق غير الصراخ، وهنا أستطيب التعبير الذي يعبّر عن  حب بنوي.

  • ” لا تتصامم”

 أي لا تسد أذنيك، فالصمم هو عدم القدرة على السماع، أمّا التصامم فهو عدم الرغبة في السماع.  والمرنّم هنا إذ يصرخ إلى الرب ملجأه ومعتمده وصخرته يطلب منه الإصغاء التام والاستجابة المباشرة لأن حياته في خطر.

  • ” لا تسكت”

  كتبت في شرح  المزمور التاسع والعشرين مزمور “صوت الرب” الذي يتحدّث فيه المرنّم عن جبروت هذا الصوت الذي يزلزل الجبال ويقتلع أشجار الأرز ويولد الأيائل” أن شعب الله لم يعد يخاف من هذه المظاهر التي كانت تمثّل قبلاً مصدرًا للرعب باعتبارها صوت الله لأنّه يعرف أن الرب مصدرها وهو قادر على التحكُّم فيها بمجرد كلمة لكن ما يرعب النبي والشعب هو “صمت الله” فماذا يعني هذا الصمت الرهيب؟

حيث يمثّل المزمور صلاة استغاثة فإنّه يحتاج أولاً وأخيرًا للاستماع، فهو يصرخ أساسًا كي يسمع الله ويستجيب! بهذا المعني لا يصلح أن يلتزم الله الصمت، وإنّما يتوجّب أن يتكلّم ليفرّح شعبه وعبده وليربك أعداءه الأشرار.

بصمت الله يفتقد النبي والمؤمنون الأبرار كلمته، فكيف تكون الحياة بدون سماع صوته الذي يعبّر عن وجوده الحقيقي فكما سبق القول أن الصوت يعني وجود الشخص وغياب الصوت أو صمته  يعني حسيًا غياب صاحبه، (نجد في تراثنا الشرقي دعاء” الله لا يغيِّب لك حسًا” أي تعيش وتوجد وتحيا) وكما تغني الأم لرضيعها وهي بعيدة عنه فيشعر بوجودها رغم غياب جسدها… فالله الذي خلق الكون والمسكونة كلّها لأجل الإنسان، وظلّ يحبّه حتى حين سقط في الخطيئة وابتعد لكن الرب بمحبّته للبشر خلّصه بصليب ابنه فهو منذ الخلق في الفردوس في حوار مستمر معه “منذ البدء كلّمنا الله… وأخير ًا كلّمنا بابنه…” فإن مَن لا يتمتّع بالشركة معه، لا يقدر أن يسمع  الصوت الإلهي فيكون الله بالنسبة له صامتًا. مثل هذا مصيره جُب الموت! ما أرهب  صمت الله!

الله – في حبه – دائم الحديث مع الإنسان محبوبه؛ فإذا كان الله هو “محب البشر” فالإنسان المؤمن  هو مَن يسمع صوته ويستجيب، أمّا غير المؤمن فيظنّه صامتًا. ومتى سأل المرنّم استجابة إلهيّة شخصيّة: “لئلاّ تسكت عني فهو يعلم بأن الله لن يكون صامتًا، فكان خوفه يكمن من نفسه، لئلاّ يكون هو نفسه قد أُصيب بالصمم  لذا يبدو له الله وكأنّه صامت. لقد اعتاد أن يصرخ من قلبه، مترقّبًا سماع صوت الله أي  حضوره وخلاصه في حياته. إذ يصلّي لأجل خلاصه الروحي وبنيان مملكة الله، يؤمن بأنّه يُحسب ميتًا ما لم ينل استجابة لصلاته، وبهذا ينحدرأعماق الجحيم (الحفرة). إنّه ببساطة يثق في قوة الله القاهرة للموت. إنّه لم يخفْ الموت في حدّ ذاته، لكنه خشى، أن يموت قبل تحقيق رسالة الله في حياته.

2. ” استمع صوت تضرُّعي إذ أستغيث بك وأرفع يدي إلى محراب قدسك”

         إليك أتوجّه بالدعاء والصلاة والصراخ والتضرُّع مستغيثًا طالبًا المعونة بكل جوارحي، إليك أرفع قلبي وعقلي وروحي نحوك. أبسط يدي في هيكلك المقدس أمام محراب قدسك.

  • ” استمع صوت تضرُّعي”

   يبتهل داود إلى الله طالبًا منه أن يتحدّث معه شخصيًا وألاّ يسكت عنه، فهو الذي عادة ما يجد خلاص الله في القُرب من هيكل الله الساكن وسط شعبه، يرفع يديه نحو الهيكل المقدس، حتى ولو لم يكن الهيكل قد بُني بعد! لكنه كان يعني بهيكل قدسه الخيمة والتابوت حيث كان يسكن بين الكاروبين، ومن هناك اعتاد أن يخاطب شعبه. جاء في (خر 25: 22): “وأنا أجتمع بك هناك، وأتكلّم معك من على الغطاء، من بين الكاروبين اللذين على تابوت الشهادة”. فهكذا كان أتقياء العهد القديم يتطلّعون بعيونهم الطبيعيّة نحو الله ساكن الهيكل.

  • “وأرفع يدي إلى محراب قدسك”

 يشير رفع الأيدي هنا نحو إيماءةً قديمة في الصلاة والتضرُّع والتوسُّل (مز 44: 20؛ 63: 4؛ 88: 9،141: 2؛ 143: 6)، وهي إشارة إلى رغبة في التمتُّع بالبركات السماوية، تكشف عن الشعور بالعوز إلى السمويات حيث لا تستطيع الزمنيات أن تملأها أو تحل محلها. كما يرمز بسط الأيدى ورفعهما إلى الإيمان بالسيد المسيح المصلوب ومشاركته صليبه واهب الغلبة، فما كان ممكنًا للشعب قديمًا أن يغلب عماليق دون رفع يّديْ موسى النبي. وقد اعتاد الفنان القبطي أن يصوّر القدّيسين باسطين أيديهم ليعلن أن سرّ نصرتهم وقداستهم هو التصاقهم بالمصلوب كرجال صلاة حقيقيّين.

القسم الثاني:  تضرُّع وثقة                                     (3-5)

3. ” لا تجذبني مع الأشرار ومع فعلة الاثم المخاطبين أصحابهم بالسلام والشر في قلوبهم”

لا تجذبني… يبدو الفعل غريبًا وفي غير موضعه، لكن المرنّم هنا يريد أن يلفت نظر الرب إلى حقيقة وإن كانت مريرة وهي أن الأبرار في بؤسهم ومخاض تجاربهم المريرة يمرّون بلحظات ضعف يقارنون فيها حياتهم الشقيّة بحياة الأشرار السعيدة الخالية من المتاعب، فيغارون وقد ينجذبون للحظة نحو ذلك النوع السلس الرخيص الحافل بالخُبث والمكر والرياء لدرجة أن يتصنّعوا السلام في قلوبهم ويتحدّثوا عنه مع أصحابهم بينما هم يصنعون الشر.

لذلك يطلب المرنّم من الله ألاّ يحصيه مع الأشرار أولئك الذئاب والحيات المخادعين، المنافقين، المحتالين والمرائين. فإن الله بكونه الراعي الصالح يعرف أن عبده داود  المرنّم هو مجرّد حمل وليس ذئبًا. فالمؤمن في العالم يحلّ بين الخطأة  لكنه ليس واحد منهم” لستم من العالم … لو كنتم من العالم لأحبكم العالم، لذا فهو  لا يشاركهم شرّهم، بل يقدّم حياته مبذولةً لكي يحملهم من الشر إلى حياة القداسة، وهو إذ يعتزل الشر يعيش في العالم ولكن بروح الله القدوس فيصير هيكلاً مقدسًا حتى لا يكون مصيرنا مع الأشرار.

وهنا يتطرّق إلى الذهن سؤال: مَن هم هؤلاء الأشرار الذين يُريد المرنّم اعتزال حياتهم لكي لا يشاركهم مصيرهم الأبدي؟ يركّز المرنّم على المنافقين المخادعين الذين يتكلّمون بالسلام بينما يربض الشر في قلوبهم، هؤلاء الذين يستخدمون  الكلمات الناعمة المعسولة تحمل شكل الحب ليصطادوا بها نفوس البسطاء. هؤلاء أكثر خطرًا من الوحوش المفترسة!

وكما يقول القديس يعقوب السروجي: “الخبث علم بل حرفة شيطانية خالية من الصدق، يتوهّم صاحبه أنّه يخفيه عن أكثر الناس. وعديم الخبث هو مَن كانت نفسه نقية كما فطرت، ويعمل بوحي تلك النقاوة… فالخبث نبي كاذب.

4. ” أعطهم حسب فعلهم وحسب شر أعمالهم. حسب صنع أيديهم أعطهم. رُد عليهم معاملتهم”

ليست هذه لغة ألم وانتقام، ولا هي باللغة التي تتعارض مع الصلاة من أجل أعدائنا، وإنّما هي نبوءة خاصّة عن هلاك المهلكين. فالمرنّم يعرف جيدًا وعود الله لأحباءه وأعداءه وأن البشر سيحصدون حتمًا ما يزرعونه، “ما يزرعه الإنسان إيّاه يحصد” وليس شيئًا آخر. وحيث أن   العمى هو علّة خبثهم وخداعهم لأنّه يخرس ضمائرهم ويعمي بصيرتهم الداخلية، فلا يعودوا قادرين أن يتنسّموا بصمات حب الله وخلاصه في حياتهم وحياة الأبرار حرموا أنفسهم من الله مصدرهم، ليفقدوا ما نالوا بالطبيعة، وعِوض السمُو ينحطون، وعِوض البناء يُهدمون.

وهكذا تُنزع نعمة الله عنهم فينحلّون تمامًا. هؤلاء الأشرار وإن نجحوا في أعمالهم الدنيوية وحياتهم الاجتماعية، فإن جزاءهم عند الرب قريب وعقابهم أكيد ونهايتهم بائسة؛ لأن الرب سيجازي كل واحد كحسب أعماله وما صنعته يداه، فيرد لكل واحد المعاملة حسب تعامل الآخرين. وهذا ما وضعه المسيح في تلك المعادلة الصعبة ” كل ما تريدون أن يفعل الناس بكم، افعلوه أنتم أيضًا بهم” والرب حين يحاسب يقدّم نفسه مكان القريب حيث يقول ” كنت… كل ما فعلتموه بأحد هؤلاء بي فعلتموه”.

5. “لأنّهم لم ينتبهوا إلى أفعال الرب ولا إلى أعمال يديه يهدمهم ولا يبنيهم”

لذا ستكون نهايتهم “اذهبوا عني يا فاعلي الاثم لأني كنت… فينهارون أمامه “متى رأيناك”… كل ما لم تفعلونه… فحيث ترك الأشرار في غبائهم طريق الرب وسلكوا بمشورة قلوبهم ولم ينتبهوا إلى شريعة الرب ولم يتأمّلوا في عمل يديه، فإن الرب سيقتلعهم ويهدمهم.

القسم الثالث:  صلاة شكر  وتسبيح                 (6-7)

6.  ” مبارك الرب لأنه سمع صوت تضرُّعي”

إذ يحصد غير المؤمنين ثمر خبثهم وشرّهم وعماهم الروحي؛ لأن خداعهم يخدعهم فيهلكون… وهكذا نرى النبي وقد ارتاحت نفسه بالصلاة… فلم يتحقّق بعد شئ من تضرُّعاته، ولم يسمع حتى استجابة عن صراخه. لكن مجرّد الصلاة كفعل رجوع والتجاء واحتماء بالرب كفيلة بأن توفّر له سلامة النفس وصفاء الروح، فإذا به يشعر وكأن صلاته قد أستُجيبت وطِلبته قد سُمعت فيبارك الرب بكل قلبه.

  • “مبارك الرب الإله

 إذ قدّم داود النبي صلاة قلبية روحية أدرك أن الخلاص أو ما هو أعظم (الخلاص الأبدي) ليس ببعيد عنه. لقد اقتنع أن الرب سمع له ولم يسكت عنه، لذلك راح يصيغ تسبيحة شكر لله. فإذا كان قد صلّى بإيمان في القسم الأول (1-2)، نراه بذات الإيمان يقدّم شكرًا للرب على استجابته وتحنُّنه لأن مَن يُصلّي بإيمان يفرح في الرجاء. مؤكّدًا ثقته  في كلمات الله نفسه: “ويكون أني قبلما يدعون أنا أُجيب، وفيما هم يتكلّمون بعد أنا أسمع” (إش 65: 24). فمن خلال هذه الثقة تمتزج صلوات المؤمن وتضرُّعاته بالشكر والتسبيح لله الذي يسمع لنا.

  • ” لأنّه سمع صوت تضرُّعي”

 لا يجب على مَن يؤمن حقًا أن يحزن حين يبطئ في الله في الاستجابة لأمر ما يطلبه وهو  يعلم أن الله يرى ويسمع ويفعل ويحقِّق كل ما هو لخير وبنيان محبيه فليس الإنسان أَحكم من الله الذي يعرف إن ما يحدث لك قد يكون لأنك غير مستحق، أو بسبب عدم توافق طرق القلب مع تلك الطلبات (وإنّما تضادها)، أو قد يكون تأخير استجابته لأن المؤمن نفسه  لم يبلغ بعد القامة التي تؤهّله لنوال تلك العطية التي يسأل نوالها. إذ يلزم عدم الاندفاع نحو بلوغ قامات عظيمة قبل الأوان، حتى لا يُساء إلى عطية الله بسبب نوالها بسرعة. فإن ما يبلغه الإنسان  بسرعة يفقده بسهولة، أمّا ما يناله بتعب فيحفظه بعناية.فإذا قد نال داود طلبته، لأنها طلبة روحية، تخص خلاص نفسه وبنيان الجماعة وهلاك الشر، فذلك لأنها طلبة تليق بقامته الروحية، لهذا تمتّع ببركة الرب في قلبه، وهكذا انفتح فاه مباركًا الرب كزكريا أبو يوحنا.

7. ” الرب عزّي وتُرسي عليه اتكل قلبي، فانتصرت ويبتهج قلبي وبأغنيتي أحمده”

يقدّم النبي في هذه الآية خلاصة خبرته، فقد جرّب الحماية بالعسكر ولم تفلح، والحماية بالأهل فلم يناصرونه، والاحتماء بالقوة فخانته، والتحصُّن بالصداقة والأصدقاء فتخلّوا عنه. ولم يصدّق سوى الرب، لكنّه يبق بجواره حين تخلّى عنه الجميع وأنكروه. فتعلّم ألاّ يعتمد على ذراع بشر، بل على الرب الذي يُشكّل له تُرسًا: يصد عنه هجمات العدو. عِزًا: يرفعه فوق جميع أعدائه وينصره. متكلاً عليه كامل اعتماده وعليه وحده يتكل.

النتيجة الحتمية هي الفرح والانتصار والابتهاج والتبشير بقوة الرب والتغنّي بأعماله وحمده في جميع الأوقات.

اتكال القلب، أي الإنسان الداخلي أو الكيان باطني ككل، لهذا يصير النبي وكل إنسان مؤمن متكل على الله  فرح متهلل الكيان كله، فالقلوب التي تثق في الله ويؤمن بوجوده وعمله وخلاصه تتهلل في الرب دومًا ولا تعرف القلق ولا الخوف أو الشك…

كثيرًا ما يظن الإنسان نفسه أثناء الضيقات والتجارب واللحظات الصعبة والأليمة، أن حياته تنتهي  أو أن ليله أكثر الليالي طولاً وظلامًا، لكن بحسب قوة الإيمان يدرك أن الرب حاضر وسيشرق فيحوّل ليله إلى نهار مفرح، وظلامه إلى نور.

القسم الرابع: تشفُّع وحب                               (8-9)

8.  ” الرب عزٌّ لهم وحصن خلاص مسيحه هو”

تمتزج مراثي داود بمزامير وذبائح الشكر. لأنّه تعلّم من خلال تجاربه القاسية والمتعدّدة  ألاّ يؤمن فقط أن خلاص الله قد أحال حزنه فرحًا، وتضرُّعه شكرًا، بل أيضًا أنّه قد حوّل صلاته إلى شكر  وشفاعة.

وهكذا يعمّم النبي خبرته، مطبّقًا إيّاها على شعب الله الذي يحميه يهوه. ولا يبالغ إذ يعتقد أيضًا بأن ما هو نافع ومفيد للملك فسيصل أثره بالتأكيد ليمس الشعب كله. بالتأكيد ما هو لنفع عضو أو لخسارته له فاعليته على الجسد كله. فالواحد في الكل والكل في واحد والجميع في حضرة الرب إلههم.

ها هو ينسى ضيقه ليطلب بنيان شعب الله. إنّه لم يستطع أن يفرح بخلاصه دون الاعتراف بانشغاله بالجماعة.

الرب عزٌّ لشعبه الشعور بالفرح والسعادة الباطنية من داخله يترنّم داود ليشمل كل الأبرار وجميع أفراد شعب الله في كل مكان وزمان، فالرب لهم حصن الخلاص وهو مصدر فخرهم وعزّهم وهو وحده المخلّص، لمسيحه ولكل مَن يؤمنون به، فلن يتخلّى عنهم ولن يسلّمهم ولن يتركهم فريسة في يد العدو ليلتهمهم.

9. “خلّص شعبك وبارك ميراثك وارعهم واحفظهم إلى الأبد”

 يقول داود “شعبك“، ناسبًا إيّاهم لله وليس لنفسه. إنهم نصيب وفي الرب تكمن قوّتهم وخلاصهم. يسأل داود الله عن شعبه للتمتُّع بالعطايا التالية:

–  الخلاص: أن ينقذهم من أعدائهم. فنحن لا نستطيع أن نتمتّع بالشركة معه ما لم يهبنا النصر على الخطايا والشيطان.

–  البركة الصادرة عن الله فيتباركون. لا يكفي الخلاص من الأعداء الروحيّين، وإنّما نحن في حاجة إلى تذوُّق عذوبة الله نفسه، إذ هو برّنا، وقداستنا، ومجدنا، وفرحنا.

– الرعاية والاهتمام: ورعايتنا، إذ يقوتنا في مرعاه السماوي، يقدّم لنا الخبز السماوي، الجسد والدم الافخارستي، مع مواهب الروح القدس.

– النصر:  الارتفاع فوق الأعداء، وفوق المخاوف والمخاطر والتمتُّع بالميراث الأسمى والمجد الأبدي. رفعة أبدية. لكنّه لا ينتزع الآلام من حياة المؤمنين، بل يرفعهم فوق كل ضيقة وحزن لينعموا به حتى في تجاربهم.

أعتبر هذه الآية هي الآية الذهبية  لهذا المزمور  لما تحويه من شمولية الخلاص للشعب كله،  وما تشير إليه عن قوة الله المخلّص القادر على التدخُّل  والخلاص، و الذي يمتد عمله إلى حياة طالبيه بالبركة.  ولِما فيها من تسليم وثقة واحتضان متبادل:  فهم شعبه وغنم مرعاه وميراثه الذي يخصّه، وهو فاديهم ومخلّصهم  وراعي نفوسهم وحياتهم…

بهذا الدعاء البهيج يختتم النبي مزموره السعيد، بنداء إلى الرب الذي حفظه وخلّصه، أن يخلّص جميع أبناء شعبه.  إلى الإله الذي باركه ومسحه وقدّسه ودعاه من المراعي ليملك على شعبه أن يبارك جميع أبناء الشعب الذي اختاره من بين جميع الشعوب ليس الآن فقط بل الآن وكل أوان وإلى الأبد يحفظ الرب الذين يتقونه.

رابعًا: تطبيق المزمور

  • كيف عاش الرب يسوع  هذا المزمور

               إنّها صلاة استغاثة للاستماع، أي كي يسمع الله ويستجيب! وشُكر على النعم المعطاة، وطلب بركة الحضور الإلهي… صلاة إنسان يعرف مع مَن يتكلّم ويعلم أن الله لن يلتزم  الصمت طويلاً، بل سيتكلّم ليفرّح شعبه وعبده البار وليربك الأعداء الأشرار.

  • ” إليك يا رب أصرخ يا صخرتي”: صرخ يسوع إلى أبيه في ساعة آلامه، وبتوسُّل رجاه أن يعبر عنه كأس الألم والموت، لكنه قبل إرادته ليتم الخلاص.
  • §       “لا تتصامم من جهتي”: خلّص الله العالم بصليب ابنه ليدخل مع الإنسان في حوار متواصل متجدّد منذ البدء كلّمنا الله… وأخيرًا كلّمنا بابنه. فإن مَن لا يتمتع بالشركة مع السيد المسيح، كلمة الله، لا يقدر أن يسمع الآب ولا أن يتعرّف على إرادته الإلهية؛ فيكون الله بالنسبة له صامتًا. مثل هذا مصيره جُب الموت! فما أرهب صمت الله! والحقيقة أن الله لا ينفصل قط عن كلمته لكن بالنسبة لغير المؤمن فيسوع ليس بكلمة الله… وكأنّه بعدم إيمانه يحرم نفسه من الصوت الإلهي ويُحسب الله بالنسبة له صامتًا!
  • §       “لئلاّ تسكت عني؛ فأشابه الهابطين في الجُب“: يبتهل طالبًا أن يتحدّث الله معه شخصيًا ولا يسكت عنه، لهذا يرفع يديه على الصليب  مصليًا  معلنًا  عن علاقته  بالآب، وأنّه وإن هبط إلى الجحيم كفّارة عن خطايا  العالم (يو 1: 1؛ 14: 9؛ رو 3: 25؛ 1 يو 2: 2). فهو هكذا بالإيمان يتطلّع  نحو الرحمة والنُصرة والقيامة.
  •  ” استمع صوت تضرُّعي إذ أستغيث بك وأرفع يدي إلى محراب قدسك”. لقد جاء كلمة الله ليحقّق خلاصنا من الجحيم بأعماله الخلاصية التي تعلن عن الحب الإلهي حتى خلال الصمت. فنذكر العبد المتألّم في إشعياء، كلمة الله الذي “لا يصيح ولا يرفع صوته” (إش 42: 2)؛ كما نذكر صمت ربنا يسوع المسيح أثناء آلامه أمام مجمع السنهدريم، وأمام بيلاطس، إذ كان ساكتًا لم يُجب بشيء! (مر 14: 61؛ 15: 5).
  •  ” لا تجذبني مع الأشرار ومع فعلة الاثم… أعطهم حسب فعلهم وحسب شر أعمالهم. حسب صُنع أيديهم أعطهم. رُد عليهم معاملتهم”: صلّي يسوع  لأجل بنيان ملكوت الله، وهو مدرك ما سيواجهه  من أهوال العذاب والموت، وأنّه سيُحصَى مع الأثمة  ويحاسَب مع الأشرار… لكنه لم يدنهم ولم يحكم عليهم بل عمل لخلاصهم، واختطف اللص الذي آمن به على الصليب من أنياب إبليس.
  • §       ” مبارك الرب لأنّه سمع صوت تضرُّعي” : صلّى يسوع بإيمان وثقة  – ولو لم ينل استجابة لحظية لصلاته بعد- ألاّ أنّه ظلّ موقنًا وواثقًا أنّه حتى لو وصل حتى إلى أبواب الموت وانحدر إلى أعماق الجحيم، فقوة الله القاهرة للموت تقدر أن تنتشله. لذا فلم يخفْ يسوع الموت في حدّ ذاته، لكنه خشى الموت قبل الأوان، أي قبل تحقيق رسالته التي لأجلها أتى وأُرسل من قِبَل الله.
  • ” الرب عزّي وتُرسي عليه اتكل قلبي، فانتصرت ويبتهج قلبي وبأغنيتي أحمده”: نال يسوع طلبته بالقيامة من بين الأموات والانتصار على الألم وظلمة القبر، لأنّها طِلبة روحية، تخص خلاص نفسه وبنيان الجماعة وهلاك الشر، طِلبة تليق بقامته الروحية، لهذا تمتّع بمعونة الرب ونال نصرًا أبديًا.
  • ” الرب عزٌّ لهم وحصن خلاص مسيحه هو“: تنطبق تمامًا على الرب يسوع فهو مسيح الرب وهو الذي أعزه الله ومنحه مكانة فوق كل قامة وأجلسه عن يمينه وخلّصه فجعله مخلّصًا للبشرية جمعاء.
  • خلّص شعبك وبارك ميراثك “: هذا الهتاف العظيم لإله القوات أتّمه بسوع في جسده وبصليبه المقدس خلّص العالم وأنقذ شعبه وحرّره من الظلمة والجلوس في ظلال الموت مانحًا إيّاهم الحرية من عبودية إبليس بأن اشترى صك عبوديتهم بدمه الطاهر فصاروا بالحقيقة أحرارًا.
  • وارعهم واحملهم إلى الأبد”: هكذا حقّق الرب يسوع في شخصه هذه النبوءة الخالدة وصار هو نفسه الراعي الصالح راعي الخراف العظيم الذي يحب خرافه ويبذل ذاته من أجل أن تحيا وتخلص وتجد المرعى.
  • كيف نعيش نحن المسيحيّين  هذا المزمور

إن  الله – في حبه للبشر – دائم الحديث مع الإنسان محبوبه؛ فالإنسان الروحي يسمع صوته  ويستجيب، أمّا الجسداني فيظنه صامتًا. لقد تحدّث الله، فسمعه الطفل صموئيل، أمّا معلمه عالي  الكاهن المختبر فلم يستطيع أن يسمعه.

  • ” إليك يا رب أصرخ يا صخرتي، لا تتصامم من جهتي: المؤمن المسيحي في حالة اتصال دائم يصرخ إلى الرب كيرياليسون في كل الطقوس وكل اللغات طالبًا الرحمة والخلاص.
  • §        لئلاّ تسكت عني؛ فأشابه الهابطين في الجُب”: يحب المؤمن المسيحي  صوت الله ويسعى في صلاته الصامتة أن يصغي إلى صوته سواء في الكتاب المقدس أو إرشاد الكنيسة أو حتى في الطبيعة فهو يعلم جيدًا أن الله لا يصمت أبدًا بل ويكلّمه في اخوته البشر لا سيّما الفقراء والمساكين.
  •  ” استمع صوت تضرُّعي إذ أستغيث بك وأرفع يدي إلى محراب قدسك”: يعلم المؤمن المسيحي  أن الله أباه السماوي يسمعه  ويعرفه ويعلم كل احتياجاته حتى قبل أن يطلبها.
  • “رفع الأيدي”: إيماءةً قديمة عامّة في الصلاة والتضرُّع والتوسُّل (مز 44: 20؛ 63: 4؛ 88: 9،141: 2؛ 143: 6)، تشير إلى الرغبة في التمتُّع بالبركات السماوية، والكشف عن الشعور بالعوز إلى السمويات حيث لا تستطيع الزمنيات أن تملأها. كما يرمز بسط الأيدى ورفعهما إلى الإيمان بالسيد المسيح المصلوب ومشاركته صليبه واهب الغلبة، فما كان ممكنًا للشعب قديمًا أن يغلب عماليق دون رفع يديْ موسى النبي. وقد اعتاد الفنان القبطي أن يصوّر القدّيسين باسطين أيديهم ليعلن أن سرّ نصرتهم وقداستهم هو التصاقهم بالمصلوب كرجال صلاة حقيقيّين.
  • ” لا تجذبني مع الأشرار ومع فعلة الاثم المخاطبين أصحابهم بالسلام والشر في قلوبهم”: يحياالمؤمن المسيحي   في عالم فاسد لكنه لا يتمثّل به ولا يرفضه ولا يدينه بل يحاول أن يكون فيه ملحًا ونورًا.
  •  ” أعطهم حسب فعلهم وحسب شر أعمالهم. حسب صُنع أيديهم أعطهم. رُد عليهم معاملتهم”

  لأنّهم لم ينتبهوا إلى أفعال الرب ولا إلى أعمال يديه يهدمهم ولا يبنيهم”: لايطلبالمؤمن المسيحي  دينونة بل كسيده يطلب غفرانًا وتوبة وارتدادًا من الخطأة عن خطيئتهم.

  • “مبارك الرب لأنّه سمع صوت تضرُّعي”: المؤمن المسيحي يبارك في كل حين يبارك الرب واخوته والعالم.
  • “الرب عزّي وتُرسي عليه اتكل قلبي”: المؤمن المسيحي  متكل على الرب بصفة مطلقة فهو حصنه وعزّه وتُرسه وحِماه وخلاصه.يليق بنا أن نثق في كلمات الله نفسه: “ويكون أني قبلما يدعون أنا أُجيب، وفيما هم يتكلّمون بعد أنا أسمع” (إش 65: 24). خلال هذه الثقة نمزج صلواتنا وتضرُّعاتنا.
  • فانتصرت : المؤمن المسيحي منتصر دومًا لا يعرف الهزيمة وإن سقط فسرعان ما يقوم.
  • ويبتهج قلبي وبأغنيتي أحمده”: المؤمن المسيحي  الحقيقي مسرور مبتهج مترنّم سعيد شاكر.
  •   ” الرب عزٌّ لهم وحصن خلاص مسيحه هو”: المؤمن المسيحي  معتز بالله وبمسيحه ومسيحيّته.
  •  ” خلّص شعبك وبارك ميراثك وارعهم واحملهم إلى الأبد”:  يسأل المؤمن المسيحي من أجل استجابة إلهية شخصية، و يعلم بأن الله لن يكون صامتًا، فكأن خوفه يكمن من نفسه، لئلاّ يكون أصم فيبدو له كأن الله صامت. فقد اعتاد أن يصرخ من قلبه، مترقّبًا صوت الله في قلبه كرسالة شخصيّة تمس حياته.
  • الله لا  يفصل الأبرار عن الأشرار في العالم، لكنه يليق بالمسيحي الحق العضو في كنيسة  الله المقدّسة ألاّ يكون مع  أشرار، يلزم أن يعتزل الخميرة الفاسدة (1 كو 5: 7) لكي يبقى هو خميرة مقدّسة قادرة أن تقدّس الكثيرين في الرب. هكذا يليق بالكنيسة أن تعتزل الشر (إش 52: 11)، تنسى شعبها وبيت أبيها القديم إبليس، لأن ربها يشتهي حُسنها (مز 45).

خامسًا: المزمور في فكر وأقوال الآباء

يتّفق أغلب الآباء أن  المرتّل الحقيقي لهذا المزمور هو الرب يسوع المسيح الذي أُحصى مع الأثمة (إش 53: 12)، وقد حمل خطايا العالم كله (1 يو 2: 2). ودخل بسببنا إلى الجحيم، لكن نصيبه ليس مع الأشرار، لأنّه لم يصنع شرًا ولا وُجد في فمه إثم. نزل مع الأشرار لكي يفصل المؤمنين الحقيقيّين عن الأشرار غير المؤمنين، فيحمل مؤمنيه كغنائم على كتفيه، ويصعد بهم من الجحيم إلى حضن الآب يشاركونه أمجاده الأبدية.

فإن كان مسيحنا قدحلَّ بين الخطأة، ولم يشاركهم شرّهم، بل قدَّم حياته مبذولةً لكي يحملهم من الشر إلى الحياة المقدّسة، هكذا يليق بنا نحن أعضاء جسده ألاّ نحتقر الخطأة بل الخطيئة، نعتزل الشر ذاته، فنعيش في العالم ولكن كمن في السماء يحملناروح الله القدوس إلى هيكله مقدّسًا حياتنا، حتى لا يكون مصيرنا مع الأشرار.

يرى القديس أغسطينوس:  في كلمات المرنّم أنّها كلمات السيد المسيح حينما سُمّر على الصليب، إذ ظن غير المؤمنين أن الله قد تركه وأنه ينحدر في الجب أبديًا.

باختصار عندما يبدو كأن الله قد سدَّ أذنيه عن أن يسمع لنا، أو صمت ولم يستجب لصلواتنا، يلزمنا ألاّ نكف عن المثابرة في الصلاة حتى ننعم بحقّنا في الاستجابة، أي حق إصعادنا كما من الجحيم للتمتُّع بقوة الحياة المُقامة. صمت الله هو موت لنا، وحديثه معنا هو متعة بالحياة الجديدة المُقامة في كلمة الله القائم من الأموات!

فمنذ ظهوره إلى يوم مماته تطلّع الشعب إلى داود بكونه ملكهم وراعيهم، وتوقّعوا منه أن يحملهم ويرعاهم ويوفّر لهم الحماية، وهكذا فعل… لكن ذلك تم فقط لأنّه هو نفسه كان محمولاً ومحميًا وتحت رعاية قديرة، والمؤمن الحق متى شعر أنّه محمول في حضن الآب بقوة الروح القدس، يستطيع  حينها أن يحمل بدوره الآخرين إلى نفس المكانة لا بقدرته الذاتية وإنما بالنعمة الإلهية. لأن  الثقل يستقر كلّه على أكتاف ذاك الراعى الصالح الواحد وحده.

إنّه ليس عمل القادة الروحيّين وحدهم أن يصلّوا عن الشعب، وإنما هو عمل كل عضو أن يُصلّي لأجل أورشليم وعمل الآباء أن يصلّوا عن الأبناء، كما الأبناء عن الآباء، والكهنة عن الشعب كما الشعب عن الكهنة. فخلال الصلاة مع الحب والعمل الصالح يستطيع طفل أن يحمل العالم كله في المسيح.هذه الشفاعة نطق بها أيضًا المسيح القائم من الأموات خلال دمه الكفاري، وذلك لبنيان شعبه، واهبًا لهم الحياة المُقامة.هكذا بدأ المزمور بتضرُّع  المرتّل أن يسمع الله، لأجل بنيان نفسه وهدم الشر، وتحوّل التضرُّع خلال الإيمان إلى تسبحة شكر لله سامع صلوات مؤمنيه، وانطلق يشفع عن كل المؤمنين خلال خبرته العذبة مع الله باتساع قلب.

يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: ينصح بولس قائلاً: “اعزلوا الخبيث من بينكم”، “حتى يُرفع من وسطكم الذي فعل هذا الفعل” (1 كو 5: 2، 13). إنه أمر مرعب، ومرعب حقًا، هو مجمع الأشرار، فإن وباءهم ينتقل بسرعة ويؤثّر على مَن يتعاملون معه كمن هم مرضى… “فإن المعاشرت الرديئة تفسد الأخلاق الجيدة” (1 كو 15: 33)… ليته لا يكون لأحد صديق شرير.

القدّيس يوحنا السُلّمي مَن هم هؤلاء الأشرار الذين يُريد المرتّل اعتزال حياتهم لكي لا يشاركهم مصيرهم الأبدي؟يركّز المرتّل على المنافقين المخادعين الذين يتكلّمون بالسلام بينما يربض الشر في قلوبهم، هؤلاء الذين لهم الكلمات الناعمة المعسولة التي تحمل شكل الحب لكي يصطاد العدو بها نفوس البسطاء. هؤلاء أكثر خطرًا من الوحوش المفترسة! لعل المرتل قد تطلّع بعين النبّوة نحو يهوذا الأسخريوطي الذي سلّم سيده بقبلة مع كلمة سلام. مَن هو الخروف الذي قلب نفسه ذئبًا، وبدأ يعض الراعي الصالح؟! لماذا بالغش نسيت تلك الموهبة التي أعطاك إيّاها ربنا كما أعطى بطرس ويوحنا؟ ارتعبوا أيُّها الحكماء من القبلات الغاشّة، فإنّه بواحدة منها عُلّق ابن الله على خشبة.

ويرى الأسقف وايزر  Weiserأن أعضاء الجماعة التي دخلت مع الله في عهدٍ، أرادوا التعبير عن انفصالهم فعلاً وعملاً عن العناصر الجائرة التي في وسطهم (تث 27: 11 الخ).

وتأمل القديس يعقوب السروجي: الخبث علم بل حرفة شيطانية خالية من الصدق، يتوهّم صاحبه أنه يخفيه من أكثر الناس. البراءة سجية نفس سليمة، مطمئنة، بعيدة عن أي تحايل… عديم الخبث هو مَن كانت نفسه نقية كما فطرت، ويعمل بوحي تلك النقاوة… الخبث نبي كاذب.

يسأل القديس مار اسحق السرياني أن نُصلّي حسب إرادة الله لكي يُجيب صلواتنا، إذ يقول: “لا نطلب من الله أمرًا ما هو بالفعل سبق وفكر أن يهبه دون سؤال، ليس فقط لنا نحن أهل بيته وأصدقاءه المحبوبين لديه، بل ويعطيه للغرباء عن معرفته. يقول: “لا تكرّروا الكلام باطلاً كالوثنيّين” (راجع مت 6: 7)… “لكن اطلبوا أولاً ملكوت الله وبرّه وهذه كلها تُزاد لكم” (مت 6: 33)… ويضيف مار اسحق السرياني ما ورد في الآية [2] إنّما هي كلمات السيد المسيح المدفون، إذ ظنّه اليهود أنّه قد انحدر إلى الهاوية أبديًا مع فاعلي الشر؛ لكنّه بالحقيقة نزل إلى الجحيم ليُصعِد الذين ماتوا على الرجاء مترقبين عمله الخلاصي.

يقيم العلامة أوريجانوس مقارنة:  بين إرميا النبي الذي أُلقى في جُب ملكي في دار السجن، حيث غاص في الوحل (إر 38: 6)، والقدّيس بطرس الذي صعد إلى السطح، وهناك نظر رؤيا إلهية.

ويضيف العلامة أوريجانوس: “إن واجبنا كمؤمنين روحيّين أن نصعد مع كلمة الله بالروح القدس لننال معرفة حقّة ورؤى إلهية، ولا ندع كلمة الله أن تُلقى في الجُب خلال أفكارنا الجسدانيّة وشهواتنا الشريرة. لقد أخذ عبد ملك ثلاثين رجلاً معه ورفعوا إرميا من الجُب، بإلقاء ثياب بالية إليه ليضعها تحت إبطيْه تحت الحبال (إر 38: 12). من هو عبد الملك هذا إلاّ ربنا يسوع المسيح الذي صار عبدًا ليرفع أفكارنا وطبيعتنا من عمق الهاوية خلال الكنيسة (30 رجلاً) باتّضاعه (الثياب البالية)؟! يليق بنا أن نقبل فقر ربنا يسوع المسيح لكي نُرفع إلى فوق ونرتدي الثياب السماوية الملوكية أبديًا. هكذا نجلس عن يمين الملك السماوي الذي نزل إلى الحفرة كي لا ننزل نحن إليها”.

خاتمة  المزمور

يمثّل هذا المزمور صرخة صادرة من عمق الشدة، تمثّل الخطر الهائل الذي يحيق بنفس المؤمن المسيحي ويكاد  يهبط به إلى الموت؛ لكن كما حوّلت الضيقات والشدائد داود النبي إلى مرنّم عميق التعبير ومسبّح حلو الكلمات وشادٍ عذب الألحان… هكذا يتعلّم المؤمن أن يلجأ إلى الله بصرخات قلبية فعّالة  فتتحوّل الضيقات في حياة المؤمن من مصدر للكآبة  والتذمُّر إلى فرصة تقوده إلى اتّساع القلب بالحب وارتفاع الفكر إلى السماء ليحيا متهللاً بلا انقطاع.

كما يقدّم هذا المزمور تسبحة خلاص،  ونحن نعرف اليوم بروح الإيمان والثقة أن الله لم يعد صامتًا بل  يسمع ويخلّص، وحين  يتكلّم يفرح أحباؤه ويتهلّل جميع المتكلين عليه. إنّها صلاة للاستماع، كي يسمع الله لنا ويستجيب ؛ فبصمت الله تفقد حياتنا كلمته ونوره، فلا نعود نسمعه لنتعرّف على إرادته الإلهية ونتمتّع بالشركة معه، ما أرهب صمت الله! إنّه  يؤدّي إلى الجفاف والموت، كالغصن المنزوع من الكرمة ييبس ويجف ويحترق…

صمت الله هو موت لنا، وحديثه معنا هو متعة بالحياة الجديدة المقامة في كلمة الله القائم من الأموات. لذا يلزم ألاّ نكف عن المثابرة في الصلاة  عندما يبدو كأن الله قد سدَّ أذنيه عن أن يسمع، أو صمت ولم يعد يستجيب لصلواتنا، يجب أن نصلّي بإلحاح ولجاجة حتى ننعم بالاستجابة.

لقد تطلّع الشعب قديمًا إلى داود بكونه راعيهم وملكهم الذي يحميهم، وتوقّعوا منه أن يحملهم أيضًا في صلاته فهو  مسيح الرب، وهكذا فعل، وذلك فقط لأنّه هو نفسه كان محمولاً، ونحن اليوم محمولين في حضن الآب بالمسيح يسوع بقوة الروح القدس، نستطيع أن نحمل بدورنا الغير إلى نفس الموضع لا بقدرتنا الذاتية وإنما بالنعمة الإلهية. فلا يستقر الثقل كله على أكتافنا بل على أكتاف ذاك الراعى الصالح الواحد وحده.

إنّه ليس عمل القادة الروحيّين وحدهم أن يصلّوا عن الشعب، وإنّما هو عمل كل عضو أن يُصلّي لأجل نفسه والكنيسة “صلّوا بعضكم من أجل بعض وبولس الرسول يطلب من المؤمنين أن يصلّوا لأجله كي ينجو… وعمل الآباء أن يصلّوا عن الأبناء، كما الأبناء عن الآباء، والكهنة عن الشعب كما الشعب عن الكهنة.

فمن خلال الصلاة مع الحب والعمل الصالح يستطيع طفل أن يحمل العالم كله في المسيح.هكذا بدأ المزمور بالتضرُّع لله أن يسمع ويستجيب، لأجل بنيان المصلّي وهزيمة  الشر، وتحوّل التضرُّع خلال الإيمان إلى تسبحة شكر لله الذي يسمع صلوات مؤمنيه، ويستجيب لهم سريعًا…وانطلق المصلّي بانفراجة القلب ليتشفّع عن باقي اخوته  المؤمنين خلال خبرته العذبة مع الله باتّساع قلب.

وكانت الخاتمة الرائعة بتلك الآية التي تردّدها الشفاه وتتغنّى بها ألسن جميع الشعوب على مر الأجيال في كل مكان على الأرض “خلّص شعبك وبارك ميراثك”.

صلاة بروح المزمور

إليك يا رب أصرخ فاستمع إليّ

” إليك يا رب أصرخ يا إلهي وصخرتي،

فاستمع إلى صوت  أنيني و لا تصم أُذنيك عن أنيني

إن لم تلتفت إليّ وتميل أُذنيك نحوي

 سأشابه الهابطين في  الهاوية وجُب الموت

ها نفسي خاشعة أمامك

 ويداي مرفوعتان  إلى محراب قُدسك.

 لا تحسبني مع الأشرار ولا توقّفني وسط فعلة الاثم

لا تحاسبني مع المرائين  والمضمرين الشر في قلوبهم

حسب صُنع أيديهم أعطهم. رُد عليهم معاملتهم”

 لأنّهم لم ينتبهوا إلى أعمالك ولم يستمعوا إلى كلامك

ولم يلتفتوا للتأمُّل في أعمال  يديك

أمّا أنا فمسكين وفقير اللهم أعن ضعف إيماني

كلامك حفظت منذ صباي

وشريعتك صُنت  منذ حداثتي

وبأقوالك ألهج  وفي أعمال يديك  أتأمل نهارًا وليلاً

فإن كنت قد أخطأت يا سيدي

فليس عبد بلا خطيئة ولا سيد بلا رحمة

فها أنذا  أمامك علّمني وارشدني

وإن كنت قد ضللت، رُدّني إليك يا الله

فأنا لا أعرف ولا أثق في أحد سواك

 مبارك أنت أيها الرب لأنّك تسمع صوت تضرُّعي

 يا رب أنت  عزّي وتُرسي عليك اتكلت نفسي

يا رب أنت  عزٌّ وحصن خلاص لكل المستغيثين بك

 نصرتني  فابتهج قلبي وبأغنية نشيدي  أحمدك

شفتاي تسبحانك وقلبي يرتّل لك

يا الله العظيم الأبدي

خلّص شعبك وبارك ميراثك

وارعهم واحملهم إلى الأبد… آمين

فهرس المزمور الثامن والعشرين

خلّص شعبك وبارك ميراثك

أولاً: تقديم المزمور

ثانيًا: نص المزمور وتقسيمه     

ثالثًا: تفسير المزمور

القسم الأول:  صلاة ابتهال(1-2)

القسم الثاني:  صلاة تضرُّع وثقة   (3-5)

 القسم الثالث:  صلاة شكر  وتسبيح(6-7) 

القسم الرابع: تشفُّع وحُب (8-9)

 رابعًا: تطبيق المزمور

كيف عاش الرب يسوع هذا المزمور  

كيف نعيش نحن المسيحيّين هذا المزمور

خامسًا: المزمور في فكر وأقوال الآباء

خاتمة المزمور

صلاة حسب روح المزمور

الفهرس