المزمور الثلاثون

المزمور الثلاثون

همسات الروح

تأمُّل في سفر المزامير

المزمور الثلاثون

يا رب

 أعدت ليّ الحياة

همسات الروح

تأمُّل في سفر المزامير

يا رب

أعدت ليّ الحياة

الأب/ بولس جرس

أولاً: تقديم المزمور

هو مزمور شكر للخلاص من مرض مميت، وفرح لتدشين بيت داود، وبه نبدأ سلسلة صغيرة من مزامير الشكر (مز 30-34)، نستهلها بهذا المزمور. وفيه اعتراف بالجميل وشكر من أجل شفاء مفاجئ بطريقة معجزيه تمتع به شخص مصاب بمرض خطير. فإن الآيتين (3 و9) تشيران بصراحة إلى الموت والقبر، وإلى شفاءرائع بعث في نفس المرنم شكرًا مملوءًا فرحًا، كما دفعه ليبرز ما علمته الآمه من دروس. وهو يُنشده ليشكر الله الذي نجّاه من خطر الموت، ويتوسّم في نشيده بنصوص نبويّة ترتبط بشعب الله، ليجعل من اختباره اشخصيّ للخلاص، نموذجًا لمصير شعب الله كله على مدى الأجيال. وهذا ما جعل من هذه الصلاة الفرديّة نشيدًا ينشد في العيد السنوي لتجديد الهيكل.

من جهة نسبة المزمور لداود النبي يقول Gaebelein: “أولئك الذين يتجاهلون العنوان وينكرون نسبة المزمور لداود، يعتقدون أن الكاتب ربما إرميا حينما رُفع من الجب. جاء هذا التفسير معتمدًا على العبارة: “لأنك نشلتني” وتعني حرفيًا: “أنت رفعتني أو سحبتني إلى فوق”. لكن الأمر لا يحتاج إلى التفسير الحرفي لتعني انتشال من جُب، بل هو تعبير مجازي يشير إلى الرفع من أعماق الحزن والضيق”. ونحن من جانبنا نحتاج إلى هذا المزمور لنكشف بروح الصلاة حضرة الله السامع لتضرُّعاتنا وشكوانا وسط اجتماعنا الليتورجى.

أمّا موضوع المزمور فمأخوذ من المزمورين السادس “يا رب لا تغضب ولا تحتد” والتاسع والثمانين ” تعيد الإنسان إلى التراب …نحن نفنى بغضبك ونرتعب بحدة غيظك“، بحسب عنوان المزمور فإنه قد أُنشد عند تدشين بيت داود أي قصر الملك. ويرى البعض أن العلاقة بين مزمور شكر لأجل الشفاء من مرض وتدشين قصر داود، علاقة غامضة، لكن العلاقة هنا رمزية. فحيث قاست الطبيعة البشرية الصالحة، من مرض شديد بسبب الخطيئة، فقدت بسببه صورة الله فيها، والقدرة على التمثّل بخالقهاوالدخول معه في علاقة…  ويكمن الخلاص في أن شفائها بيد خالقها الذي يجدّد طبيعتها ويرد لها جمالها الأصيل، مجدّدًا خلقتها ليقيمها قصرًا له أو مقدّسًا مكرّسًا له. أمّا الآراء الخاصة بوضع هذا المزمور ومناسبته فهي كالآتي:

  • مزمور نبوي مسياني: هو نبوءة عن المسيح الذي جدد طبيعة البشر بقوة قيامته. يتطلّع كثير من الآباء إلى المزمور بمنظار باطني رمزي، فما البيت سوى الكنيسة التي جدّدها السيد المسيح، مؤكّدين أنّه إنما يعالج موضوع تجديد الطبيعة البشرية بقوة القيامة، وأن المرض هنا يخص النفس، وقد حلَّ بالسقوط في الخطيئة، كما أن الشفاء أيضًا هو شفاء النفس بعمل المسيح الخلاصي. لهذا فإن ما ورد في المزمور رمزيٌّ ونبويْ. يكشف لنا كيف أن ابن داود الذي قام من بين الأموات، كما لو كان قد برأ من جراحاته وخلص من الموت، قد أسّس بيته الجديد، أي الكنيسة. وقد قيل: “مجروح لأجل معاصينا، مسحوق لأجل آثامنا، تأديب سلامنا عليه، وبحبره شفينا” (إش 53: 5). وحسب القديس أغسطينوس فإنها أغنية القيامة المفرحة التي جدّدت الجسد، لا جسد ربنا فحسب بل وكل الكنيسة، وقد أبدل حال الجسد إلى الخلود. في المزمور الأخير نجد الخيمة التي يجب أن نقطن فيها -إذ فيها خيرنا -قد كملت، وقد جاء هذا المزمور يختص بتدشين البيت الذي يبقى أبديًا في سلام لا يتحطّم!
  • مزمور ليتورجي طقسي: أُعدّ نبويًا لأجل تدشين الهيكل الأول، لكن لا يوجد برهان على ذلك ولا حتى مجرد احتمال. يرى plumer أن أفضل الآراء هي أن المزمور قد نُظّم لتدشين المذبح في يبدر أرونة  اليبوسي على جبل المُريَّا موضع بناء الهيكل (2 صم 24: 18-25؛ 1 أي 18: 30)، وقد دعاه داود النبي “بيت الرب” (1 أي 22: 1). كما استخدم المزمور لتدشين قصر داود نفسه، الذي بُني بخشب حيرام (2 صم 5: 11؛ 1 أى 14: 1). هذا يتفق تمامًا مع عنوانه ومع تصرُّفات اليهود التقوية (تث 20: 5)؛ فقد حمل داود النبي ذات المشاعر التقوية الواردة في المزمور عند إقامته في بيته، كما جاء في (2 صم 7: 2) تحت رعاية الله، وحضرته وبركته. يقول الأسقف وايزر [إن هذا المزمور، حسب عنوانه، كان يُستحدم في تدشين (هانوكه) الهيكل الذي كان يحتفل به سنويًا، كتذكار للعودة إلى العبادة في الهيكل الذي سبق فدمّره أنتيخوس أبيفانيوس. منذ عام 165 ق.م فصاعدًا صار الاحتفال يُقام في ذات الموعد كتذكار للخلاص المعجزي من سيطرة الآراميين (السوريين) (1مك 4: 52 الخ، يو 10: 22)]، لكن المزمور لم يكن قد وضع أساسًا لهذا الغرض
  • مزمور حمد وتسبيح وشكر: يرى بعض الدارسين النبي بعد أن تعني بال “هدوء بعد العاصفة” في المزمور التاسع والعشرين، حيث يتكلم الرب في العاصفة ويسيطر على كل قوى الطبيعة ويحطّم المتكبّرين ويهاجم الآلهة المقدّسة في الجبال حتى معبد قادش، وينعم على شعبه بالسلام، ينشد هنا: “أعظّمك يا رب… استغثتُ بك فشفيتني”. فالمزمور التاسع والعشرون يمكن أن يصلح كمقدّمة لمجموعة مزامير الشكر هذه. ليعتقد البعض أنه وُضع للاحتفال بالشفاء من مرض عضال، كان توقّع الموت المبكر بسببه يبدو مرعبًا، ربما لأن المريض كان صغير السن وينتمي إلى الرب ويرى القديس أثناسيوس الرسولي أن داود النبي أنشده بعيد لقاءه بناثان النبي  حين اعترف: “خطئت إلى الرب” فكانت إجابة النبي: “والرب رفع عنك خطيئتك” فلما عرف أن الرب قد غفر إثمه، تجدّدت بالتوبة نفسه فعادت إلى بيت الآب بل وصارت هي ذاتها بيت الله  كما يرى البعض أن داود وضع هذا المزمور بعد خلاصه من الموت عندما أدّبه الله لأنه قام بإحصاء الشعب (2 صم 24).حيث لم نسمع عن أن داود قد عانى من مرض خطير كما حدث مع حزقيا الملك، وأنه صرخ إلى الرب فاستجاب له في ذلك الأمر، وأعاد له صحته وقوته،بينما يرى القديس  غريغوريوس أن هذا المزمور نبوءة عمّا حدث مع حزقيا الملك إذ خلّصه الله من سنحاريب ومدّ عمره خمسة عشر عامًا وأنقذ الهيكل من نيران الأعداء(2 مل 19-20)…  

ثانيًا: نص المزمور وتقسيمه

يتكون المزمور من ثلاثة عشر آية وينقسم إلى أربع أقسام:

القسم الأول: تسبيحة شفاء ( 1- 3)

1.مزمور لداود نشيد لتدشين البيت

2. أعظمك يارب لأنك نشلتني وحرمت أعدائي الشماتة في

القسم الثاني: دعوة للتذكر                       ( 4-5)

3. استغثت بك فشفيتني أيُّها الرب إلهي

4. أصعدتني من أعماق عالم الأموات وأحييتني من بين الهابطين في الجب

5. رتلوا للرب يا أتقياءه واحمدوا ذكره المقدس

القسم الثالث: تطلُّع إلى الخبرة الماضية      (6-10)

 6 .     غضب الرب للحظة ورضاه طول الحياة، إذا أبكاني في المساء ففي الصباح أرنّم فرحًا

7.يا رب أقول في طمأنينتي لا أتزعزع إلى الأبد

8. برضاك وقفت منيعًا كالجبل، وحين حجبت وجهك ارتعبت.

9. إليك يا رب أصرخ وإلى إلهي أتضرّع

10. أي نفع لك من موتي ومن هبوطي إلى الهاوية

فهل التراب يسبّح بحمدك ويحدّث فيخبر بحمدك

القسم الرابع: تجديد التسبيح      (11-13)

 11. فاستمع يا رب وتحنّن وكُن يا رب نصيري

12. حوّل نواحي إلى رقص ومسوحي إلى ثياب فرح

13. لأرتل لك ولا أسكت أيُّها الرب إلهي إلى الأبد أحمدك

ثالثًا: تفسير المزمور

القسم الأول: تسبيحة شفاء ( 1- 3)

1.مزمور لداود نشيد لتدشين البيت

يرى بعض الدارسين أن ذلك يعني استخدام الصوت مع الآلات الموسيقية ممتزجة معًا أثناء خدمة الهيكل. وقول “مزمور أغنية” يعني أن الآلة الموسيقية تسبق الصوت، أمّا إذا قيل: “أغنية مزمور” فذلك يعني أن الصوت يسبق استخدام الآلات الموسيقية وهي عادة ما تكون آلات وترية مع آلات أخرى (أغنية) عند إنشاده في الهيكل.

2. أعظّمك يارب لأنك نشلتني وحرمت أعدائي الشماتةفي  

أعظّمك يا ربي وإلهي، يستهل النبي مزموره بالتعظيم والتكبير والإجلال اللائق بالله، فهو “العظيم” وحده، وليست العظمة صفة من صفاته إنما هو عظيم في كيانه، بل هو العظمة ذاتها، ولا هي مدح من لسان خليقته فهو أجل من أن يمدح إنما هي تسبيح واعتراف، وأنها كشف وإعلان لعظمة ذاك الذي أشرق في حياة خلائقه الوضيعة فحوّلها إلى مجد وبهاء، وحوّل ترابها تبرًا وصراخها تهليلاً كما حوّل أحزانها أفراحًا وأنينها نداء ابتهاج.

  • يا رب

أكثر الكلمات تكرارًا في الكتاب المقدس بعهديه، فالرب هو السيد والإله. ورب العبد هو مَن يملكه ويتحكّم في حياته ومصيره، كما يمكن اعتبار كلمة “يا رب”  الكلمة الأكثر تكرارًا في حياة كل إنسان لا سيّما في مجتمعاتنا الشرقية بل والغرب… فالرب، للإنسان هو المبدأ والمنتهى، وهو من يشكّل حياته ويصوغها، كذا يعول السيد عبده ويحميه ويتكفّل بكل احتياجاته بل يدافع عنه ولا يتركه فريسة لأرباب أخرى… هكذا كان رب العبيد يفعل بعبيده وإمائه، فكم بالحري رب الأرباب يفعل بخلائقه وأبناءه البشر الذين أحبهم منذ البدء، الذين أحبّهم إلى المنتهى… لذلك يلجأ النبي ” العبد”  إلى سيده ” الرب”  وخالقه ، باريه وإلهه، الذي قاد خطاه ليخرج به منتصرًا رافع الرأس من معركة ظن الجميع فيها، أن نهايته قد اقتربت وأن ساعاته باتت معدودة، فما كان من سيده إلاّ أن تدخل وأصدر فرمانًا سلطانيًا يعلن نصرة عبده .

  • انتشلني

نشل في العربية تعني، “نشَل مَحْفظةً: سرقها، خَطفها بخفَّة يدٍ ورشاقة. نشَل الغريقَ: أنقذه نشَل اللَّحمَ من القدر: أخرجه منها بيده،  نشل خاتمًا أو ساعة: أسرَع نزعه واقتلاعهَ.(قاموس المعاني الجامع) وهي هنا بمعنى: التقط بقوة برغبة ووعي، وانتشل هو ما يعود إلى اسم المفعول فالشيء أو الشخص المنتشل هو مَن امتدت إليه يد العناية فأخرجته من موقف صعب، كما حدث في حياة موسى “المنتشل من الماء” وكما حدث في حياة يوسف “انتشله اخوته بعد أن ألقوه في الجب” وكما حدث في حياة أرميا ودانيال وكثير من الصديقين… اليوم يشعر النبي وكأنه كان في الهاوية، أو  في جب الموت وقد حانت نهايته وأعداءه ينتظرون بشماتة الاحتفال بلحظة النهاية المرتقبة ليعلنوا النصر الأكيد، فقد تعبوا كثيرًا وسهروا يدبّرون ويخطّطون لهذه النهاية،  وها هم في سبيل حصد ثمرة تدابيرهم، فالفريسة في الجب والفخ قد أطبق عليها ولم يتبق سوى أن تلفظ أنفاسها الأخيرة لتبدأ احتفالات الشماتة والتشويه.

  • حرمت أعدائي عن الشماتة بي

يعيش الحاقد والشرير بشهوات قلبه، تحرّكه وتقود خطاه حمأه إلى حمأه والشماتة بالعدو أو حتى بالقريب شعور يتلذّذ فيه الخصم الشرير ليس بطعام يأكله أو مجد يناله أو مكسب يغتنمه بل مجرد رؤية ضحيته أو غريمه يعاني الألم والعذاب والحسرة والضيق، شعور الشماتة شعور يعيش في قلب الشرير فيحمل أكبر فرح وأعظم سروره وعميق رضاه في رؤية عذاب الآخر، وهذا نوع من السادية المرضية التي تنجم عن مرض نفسي يجعل قلب الإنسان قاسيًا لا يعرف لذة ولا يتذوّق سوى من خلال أذى الآخرين وتدميرهم.

وحيث يعرف الرب قلوب وأحشاء البشر، يعرف ما يفرح وما يحزن ويجازي كل حسب أعماله، شعر بما يتجرّعه الصديق داود من ألم وعذاب، وما يتذوّقه الأشرار من لذة الشماتة فقرّر أن يتدخّل فجأة وبسرعة. فمد يده بمهارة فائقة وانتشل نبيه من براثين الموت وسط ذهول العدو… فحوّل ألمه وحزنه إلى فرح وترنُّم وحوّل لذة الشماتة لديهم إلى خيبة وذهول.

3. استغثت بك فشفيتني أيُّها الرب إلهي

  • استغثت

الاستغاثة تعني طلب المعونة فالنبي في محنته وضيقة نفسه، لم يضيع وقته هباء ولم ينتظر الموت في صمت واستسلام حتى لو رآه العدو ساكنًا مستسلمًا لقدره لكن روحه القديسة ونفسه المؤمنة لم يستسلما بل ظلا يصرخان في صمت ونحن نعرف مدى تأثير استغاثة الصمت (شرحت في مزمور؟؟) أنها الأكثر تأثيرًا لدى الله… هكذا توجّه قلب داود وعقله ونفسه وروحه في فريق من كورال صامت يصرخ في صمت الجسد المنهك المسجى، يعرف هذا الفريق السماوي التقديس إلى أين يتوجّه فقد علّمته التجارب ألاّ يتكل على أحد ولا يعتمد على معونة إنسان ولا يطلب رحمة من مقتدر غير الله …كأن محصلة استغاثة الروح هي الشفاء، شفاء النفس أولاً سواء تم الخلاص الجسدي أو لم يتم، ثم شفاء الجسد، حين يشاء الرب أن يتدخّل ويرى ذلك لخير النفس البارة والآخرين، فينتشل ويشفي…

القسم الثاني: دعوة للتذكُّر                       ( 4-5)

4. أصعدتني من أعماق عالم الأموات وأحييتني من بين الهابطين في الجب

  • أصعدتني

كان النبي يشعر أثناء ضيقة مرضه، أنه يهبط بالتدريج إلى جب الهاوية وهو يعرف أن من يهبط إلى هذا الجب لا قيامة له، لا يعود ولا يعد بين الأحياء… أنه ينزلق إلى عالم الموت وما أهول الموت وما أبشع عالمه، أنه عالم الظلمة والعظام اليابسة، عالم اليأس والحرمان من رؤية نور الرب حسب المعتقد القديم… لذا كانت صرخات نفس النبي الصامتة تتصاعد كلما شعر بانزلاقه نازلاً إلى أعماق عالم الموت…

  • أحييتني

لقد ذاق النبي تجربة الموت بالفعل واقترب منها ماديًا ومعنويًا فكم مرة تعرّضت حياته للمخاطر وكم مرة واجه الموت وجهًا لوجه، وكم مرة كادت الهاوية أن تفتح فاها وتبتلعه… لهذا يقول أحييتني أي ردتني إلى الحياة بعد أن فارقتها أو كدن ، وفي هذا بالطبع نبوءة فريدة في نوعها عن موت السيد المسيح وقيامته حيث عاد ممجدًا إلى الحياة بعد أن دخل أعماق عالم الأموات وصعد من بين الهابطين في الجب… والجب حفرة عميقة متسعة غير البئر وعادة ما تكون مكان تجمع مياه فلهذا هي رطبة مليئة بالطين الذي يغوص فيه تدريجيًا بجانب ما يحتويه من الأمراض والرطوبة وقد ألقى فيها يوسف ابن يعقوب وانتشله اخوته بمشورة يهوذا، وألقى فيها النبي إرميا وقد تنبأ بخراب أورشليم وسقوطها فأغضب الملك لكنه أرسل فانتشله… وألقى فيها دانيال وكانت عامرة بالأسود المفترسة التي وضعت خصيصًا للقضاء عليه… صار الجب رمزًا للهاوية والهلاك والموت، لذا كان اليهود يعتبرون من يموت يذهب إلى الجب أي الشيئول أي الهاوية …

5 . رتّلوا للرب يا أتقيائه واحمدوا ذكره المقدس

  • رتّلوا للرب

الترتيل هو ترديد الصلاة مصحوبة بنغمة ولحن تعبر عن روح تلك الصلاة ، فإذا كانت الصلاة تعبر عن حزن نفسي كان اللحن بطيئًا حزينًا وإذا كانت الصلاة تعبر عن الفرح كان الترتيل عاليًا نشطًا… والترتيل بالصلاة يدخل النفس في جو الصلاة ويجعلها تعيش مشاعرها، لذا يقول القديس “من رتّل فقد صلّى مرتين” صلّى بفمه وصلّى بكيانه… وقد صلّى داود في ضيقته صلاة استغاثة شملت كيانه كله وها هو يدعو جميع الأتقياء إلى مشاركته صلاة الشكر بالترتيل والتهلل للرب الذي مد يده وانتشله فأفشل مشورة الأشرار ورفع راية الصديقين والأتقياء فحق عليهم أن يرتلوا له . وهو يشرك الأتقياء لأنه يعتبر أن تدخُّل الرب الصالح بار واحد هو خير يفرح به الأبرار جميعًا ويتعس به جميع الأشرار فالحرب واحدة والنصر واحد والهزيمة واحدة لذا يرتل الأبرار ويترنمون بفرح وشكر وتمجيد وتهليل لانتصار داود.

  • واحمدوا

الشكر والحمد لله واجب في كل حال وعلى كل حال، لكن يلذ الحمد والشكر عندما تطيب النفس وتفرح بالنصر لأنها تعتبره لفتة من الرب الذي يشرق في حياته ويمد ذراعه وينجيها فيخرجها من ظلمة الجب السفلي إلى نور حضوره البهيج…

  • ذكره المقدس

الذكر هو خاصية للعقل البشري وحده فكما نعرف أن الإنسان وحده هو الذي يحفظ بالتاريخ ويتذكره ويتعلم منه ويظل التاريخ هو محصلة حياته، لهذا فإن تاريخ الله مع شعبه الحافل بالعجائب والمعجزات منذ مسيرته مع إبراهيم ورفقته لإسحاق وصحبته ليعقوب ونزوله مع يوسف إلى السجن وسماعه صوت صراخ أبناءه في مصر وحواره المستديم مع موسى كليمه إلى قيادته لشعبه نحو أرض الميعاد واختياره لداود ابن يسى ونور حكمته لسليمان … تاريخ حافل … يذكره داود ذكرًا مقدسًا أي يذكره بكل إجلال وتقديس واحترام بل يصليه مع صلاته فيصير تاريخ حياته مع الرب شخصيًا وقوميًا … موضوع صلاة وذكر مقدس لأنه ذكر تدخل الله الشخصي في حياته . وآخر هذه التدخلات إنقاذه من الموت أثر صلاة استغاثة الصامتة التي رفعها إليه من قلب الهاوية وأعماق الجب وعالم الأموات.

القسم الثالث: تطلع إلى الخبرة الماضية      (6-10)

6 . غضب الرب للحظة ورضاه طول الحياة، إذا أبكاني في المساء ففي الصباح أرنم فرحًا

                استشعر اختيار هذه  الآية كلآية  ذهبية فهي افضل تعبير على الإطلاق للعلاقة بين الإنسان والله، فهكذا المرنّم خرج من الذكر المقدس بفكرة مقدسة ، لقد اكتشف من خلال مسيرة حياته أن الرب وإن غضب عليه أو على شعبه بسبب آثامهم وما يرتكبون من شرور ، فإن غضبه كغضب أب يؤدب ابناءه وليس مستديمًا ولا يمتد سوى للحظات ولا يتصاعد إلى النهاية أبدا “فقد ندم الرب” لأنه أهلك الأرض يوم الطوفان ووعد بألا يفعل ذلك في غضبه ثانية وأعطى عهده الذي لا ينقضه أو يخونه مهما نقض البشر من عهود وخانوا مواثيقه وخالفوا شرائعه بل مهما أغاظوه بتجاهلهم وأوثانهم وأصنامهم … قد يغضب للحظة وكم أغضبناه أممًا وشعوبًا وأفرادًا وهو حين يغضب يعاقب لكن سرعان ما يرحم … أغضبه داود مرارًا … وعاقبه مرارًا ، لكنه وهو يعرف محبته وصدق قلبه كان سرعان ما يتراءف ويعود يربت عليه ويترفق به ويصالحه تمامًا كأب حقيقي … يفتش ساعيًا في طلب الضال وفرحه أن يجده ويفرح وسماءه بخاطئ واحد يتوب مهما كان قد اغضبه نراه يفتح ذراعيه سريعًا وتعلن شفتاه “اليوم تكون معي في الفردوس” …

  • رضاه طول الحياة

كذا أكتشف الأبن المدلل المزعور من الموت، أن ذلك المرض لم يكن سوى لحظة غضب، لكنه سرعان ما سيعود إلى حضن الآب ناجيًا طالبًا الرحمة ليعيش كل أيام حياته في رضى الرب، وما أجمل هذا الرضى … أنه السعادة والفرح والسلام، أنه الشبع والارتواء أنه التمتع بنور حضوره في بهاء مجده وقديسيه …

  • إذ أبكاني في المساء

المساء والليل هما وقت الظلمة، وقت غروب النور وقت فقدان الرؤية والوضوح، أنهما وقت اختفاء الله وقت الأزمات، يوم يلتفت فلا يراه ويلتمسه فلا يشعر به ويطلبه فيصم أذنيه ويدعوه فيلتفت بوجه بعيدًا “لماذا تحتجب في وقت الضيق” (مز 10) فلا يكون أمام الأبن المدلل الذي يفتقد حنان الآب ورضاه سوى الاكتئاب ولا يبقى أمامه سوى البكاء … طوال المساء … طوال الليل… طالما الله غائب.

  • ففي الصباح أرنم فرحًا

الصباح هو وقت انقشاع الظلام بشروق الشمس وما تحمل من نور وبهجة وحياة متمثلة في يقظة الطبيعة وصحوة الكائنات وزقزقة العصافير التي تملأ النفس بهجة وسرورًا، فمع زوال الظلام واشراق النور ينبثق في النفس الأمل ويشرق الرجاء وتنطلق الروح في الترنيم والتسبيح بالرغم مما كانت تعانيه ليلا من قلق وتوتر وخوف وبكاء.

7.يا رب أقول في طمأنينتي لا أتزعزع إلى الأبد

الإنسان عادة  ما يميل  إلى تصور البقاء على حال مع أن المثل الشائع يعلن” أن بقاء الحال من المحال” وكثيرًا ما ينسى وهو في أشد قوته أن ذلك أمر عابر وأن الأمور إلى تغيير حتمي، فلك كهيرودس يرتكب جريمة قتل أطفال أبرياء لمجرد أنه يتصور أن من بينهم طفل سيكون ملكًا لإسرائيل عوضًا عنه وكل ما فعله شاول مع داود يسجل في هذه الخانة، بل ما نفعله نحن اليوم ونحن في “السلطة” غالبًا ما يعبر عن هذا المعنى، فالإنسان في طمأنيته لا يطيق تصور زوالها وهذا أكبر دليل على أنها طمأنينة زائفة لا تتكل على الرب بل على القوة الذاتية وبالتالي هي زائلة سريعة العطب والزوال.

فإن   كان داود قد اعتلى العرش ونال انتصارات متتالية، فهذا هو عمل مشيئة الله، لكن الآن إذ يصرف الله وجهه عنه يتزعزع ويمتلئ قلقًا حتى يرجع إلى نفسه ويعود بالتوية إلى إلهه. وما نقوله عن داود يتحقّق بالنسبة للبشرية أيضًا، فقد وهبها الله قوة وصلاحًا وسلطانًا وجمالاً، لكن إذ ظن الإنسان اأه وصل إلى كل ذلك بذكاءه وقوة ذراعه وأن ما حقّقه من إنجازات ملكه وحده لا فهو ثابت لا يتزعزع، كسر الوصية، (أفضل مثال على ذلك وباء كورونا) فقد حطم جموح بشري وانهار تحت وطأة روح القلق والاضطراب.

8. برضاك وقفت منيعًا كالجبل، وحين حجبت وجهك ارتعبت.

يكتشف المرنم الخلل وسبب زعزعته واضطرابه والخوف من زوال قوة صوته، فهو حين كان في حمى الرب وتحت ستر مظلته بقي منيعًا كالجبل وهو أقوى عناصر الوجود قوبة وصلابة، وهذا يتم في كنف ونور وجه الرب وتحت حمايته التي لا تقهر؛ أما حين يحجب الرب وجهه ولو للحظة، يكتشف الإنسان مدى ضعفه وهشاشته فيتملكه الرعب والخوف والاضطراب.

  • صرفت وجهك عني فصرت قلقًا

يقول القديس باسيليوس الكبير: “مع أنك قد خلقتني جميلاً بالطبيعة، لكنني مُت بالخطيئة، بخداع الحية. لقد أضفت إلى الجمال الذي أعطيتني إياه حينما خلقتني أولاً قوة كي أتمم مشيئتك” الآن إذ حجب الرب وجهه عن داود الذي أساء إلى الجمال والقوة الذين وهبهما له الله، لم يكن أمامه إلا ّ أن يصرخ إلى واهب العطايا. لأنه يؤمن أنه مهما بلغت خطاياه فإن مراحم الله تنتظرنه لكي ترد إليه بهاء الله. وهذا درس للمؤمنين على مر الجيال: إن كان الله يحجب وجهه فإلى حين لكي نصرخ إليه، فيتجلّى في داخلنا ونراه عاملاً فينا. إنه حين بحجب وجهه يريد أن تزداد صلواتنا حرارة وإيمانًا وثقة فيه! ولا يقف الأمر عند الصلاة إنما وسط هذا الضيق يطلب المرتل أن يفتح الله قلبه للتسبيح والاعتراف له. فقد علم أنه مادام الإنسان في الخطيئة، أي هابطًا إلى الهلاك وملتحقًا بالتراب لا ينتفع هو شيئًا ولا يقدر أن يسبح الله.

9. إليك يا رب أصرخ وإلى إلهي أتضرّع

كما سبق وأشرنا فوق دوّن هذا المزمور في وقت متأخّر، فجاء قريبًا جدًا في النص والروح ممّا نجد في إرميا وأيوب. أما موضوع التشكّي فقد أخذ من المزمور السادس “يا رب لا توبخني في غضبك” والمزمور الثامن والثمانين: “إليك صرخت، فدع صلاتي تصل إليك”.

10. أي نفع لك من موتي، من هبوطي إلى الهاوية فهل التراب يسبح بحمدك ويحدث فيخبر بحقك؟

حين يترك الله حبيبه يموت، فهو يخسر مرنمًا ينشد مجده، لأن الجحيم مكان السكوت، والتراب رمز الموت، فأي فائدة لله من موت عبيده، وهو الذي يهتمّ بحياتهم؟  بالمنطق البشري المحض يحاجج النبي الرب ليقنعه كي يسمع شكواه ويلتفت إلى صراخه وألاّ يتخلى عنه ويدعه يموت ويهبط إلى الشيئول. وكأن الله حين يترك “صديقه الأمين” يموت، يحرم نفسه من شخص ينشد أمجاده. فالشيئول هو عالم الصمت والسكوت (مز 115: 17). والتراب لا فم له ليتكلّم. فماذا يربح الله من موت أحبّائه؟ هو يهتمّ بحياة مؤمنيه، فماذا يُنتظر أن يفعل؟ إنه عتاب الحب فيه يستجدي النبي بدالة البنين مراحم الله ويطلب تحقيق مواعيده الإلهية.كان يقول في صراحة الحب: ماذا تنتفعك سفك دمي؟! أما تفقد أحد أحبائك الذين يُسبّحونك ويمجدونك؟، وهكذا نحن بالروح حينما نفقد الطبيعة النورانية السماوية فهل يمكن أن تكون حياتنا اعتراف بحبه وإعلان عن حق الله صانع الخيرات؟!

القسم الرابع: تجديد التسبيح:     (11-13)

11. فاستمع لي يا رب وتحنن، وكن يا رب نصيري

كل هم المرنم هو أن يقنع الرب بحجته وحسن منطقه كي يعود الرب للنظر نحوه ويميل أذنه فيستمع إلى صلاته ويلتفت لصراخه ويصغي الى تضرعه، لأنه الرحيم الحنان الرؤوف بخلائقه الضعيفة الخاطئة، فمهما غضب وحجب وجهه وصم أذنه فحتمًا سيعود ويسمع ويستجيب ينقذهم وينصرهم على جميع أعدائهم ويخلص من كافة ضيقاتهم.

12. حوّل نواحي إلى رقص ومسوحي إلى ثياب الفرح

يوجد وقت للبكاء، ووقت للنوح، ووقت للضحك (جا 3: 4). فقد بكى ربنا يسوع وأذرف الدموع، ذاك الذي هو ينبوع الفرح الأبدي. يلزمنا أن نعرف من نحن الذين نشاركه بكاءه ونوحه. بالتوبة الصادقة والصراخ لأجل خلاص كل نفس، ومع كل تطلع إلى نعمة الله العاملة في حياته وفي حياة الآخرين تتهلل نفسه. هكذا يمتزج الحزن مع الفرح؛ كل حزن يتحول إلى بهجة وفرح في الرب.

وحين سيفعل الرب ذلك فسيتحوّل نواح المؤمن إلى رقص، والمسوح إلى ثياب الفرح. لم يصمت المرتل، إذ أراد أن يعرف كل على مدى الدهر، ما حدث في حياته من تغير، من نوح إلى فرح أو رقص، ومن ارتداء المسوح إلى التمنطق بالبهجة والسرور، ومن الصمت إلى التسبيح.

  • ما هي هذه المسوح؟

قد أبدل داود ثوب التوبة الذي يحوط بجسده مثل مسوح بثوب عرس يتمنطق به؛ صارت له ثياب عيد ليشترك في احتفال بهيج ورقص روحي (مز 118: 27؛ 149: 3). تغيير الملابس الخارجية تكشف عن تغيير داخلي في نفس المرتل، فقد استجيبت صلاته، فتحول من التوبة إلى الشكر والفرح يقول القديس أغسطينوس: ما هي المسوح؟ إنها الإماتة! فقد كانت المسوح تُنسج من شعر الماعز والجداء، كلاهما حُسبا من الخطاة (مت 25: 32). لقد لبس الرب كواحدٍ من جنسنا المسوح لكن ليس كعقاب له… ذاك الذي لم يفعل شيئًا ما يستحق الموت، ارتدى بإرادته جسدًا قابلاً للموت من أجلنا. كما يقول القديس أمبروسيوس: “إنه يترقب مراثينا هنا، أي في هذا الزمن، كي يهبنا الأبديات.إنه يترقب دموعنا لكي يفيض علينا بصلاح”.

13. لأرتل لك ولا اسكت، أيُّها الرب إلهي إلى الأبد احمدك

ليس عجيبًا أن يقول: “يرتل لك مجدي”، فإنه إذ يهب الله مجدًا يتمجد هو فينا. تمجيد الله ليس تسبيحًا بالكلمات وإنما هو إعلان عن عمله فينا حيث يرفعنا من المزبلة إلى المجد، أو من جحيم الخطية إلى فردوس ملكوته المفرح. التسبيح هو من صميم عمل المؤمن أيّا كان مركزه في الكنيسة، فإنه حتى في وسط أحزاننا يليق بنا أن نخصص وقتًا للتسبيح يكشف عن حياة الفرح الداخلي وسط الآلام. هذا ما عناه المرتل بقوله “ولا أندم” أو “لا أسكت”، إذ يفيض التسبيح من المؤمن الحقيقي بلا توقف. يختتم المرتل مزموره بالالتزام بالاعتراف بالحمد لله بكونه ربه وإلهه الذي يهتم به شخصيًا. كأنه عوض الموت الذي لحق به والذي من أجله صرخ، صار في حياة جديدة على مستوى سماوي لا تعرف إلاّ التسبيح تحت كل الظروف.

رابعًا: تطبيق المزمور:

  • كيف عاش الرب يسوع هذا المزمور؟

يمكن أن ينطبق المزمور على حياة الرب فمن الآية الأولى: “أعظمك لأنك نشلتني” إلى الآية الرابعة:” أصعدتني من أعماق عالم الأموات وأحييتني من بين الهابطين في الجب” إلى الكثير من آيات هذا المزمور تتحدث عن يسوع نبويا وتنطبق عليه حصريا أكثر من اي شخص آخر فهو الوحيد الذي ارتفع للمجد وحطم بصموده أبواب الجحيم الأبدية وكسر شوكة الموت، فصار هو بالحق والحقيقة ملك المجد، كما يمكن تطبيق كل ما يقوله هذا المزمور عن الله على يسوع المسيح:

  • أعظمك يارب لأنك نشلتني وحرمت أعدائي الشماتة في: مَن كيسوع يستطيع أن يتلو وينشد ويلحن ويعزف هذه الآية! فهو نموذج لكل مراحل الترك والهجر والتغيب والانحجاب وتسليم الإبن إلى حكم الموت والصلب حتى النزول إلى الجحيم بالصليب… ثم النصر والانتشال بالقيامة.
  • استغثت بك فشفيتني أيُّها الرب إلهي: استغاث الرب يسوع بأبيه في كل حين إبان حياته على الأرض وخلال معجزاته وعلى الصليب وكانت استجابة الله له مؤكدة ومباشرة حتى إلى الصليب، حيث بدا كأن الله تركه فصرخ: “إيلي إيلي لما شبقتني” لكن الله سرعان ما تدخل وأنقذه وشفاه من كل جراحاته.
  • أصعدتني من أعماق عالم الأموات: تبدو كنبوءة خاصة بالمسيح وحده فهو فقط من أُصعد من هذا المكان وقام ناقضا أوجاع الموت ومن ثم وهب هذه الخاصية لكل من يؤمن به
  • وأحييتني من بين الهابطين في الجب: أصعدت نفسي من الجحيم وأحييتني”. وعندما تنشد الكنيسة هذا المزمور، فهي تعيش آلام المسيح، وتنتظر القيامة، وتشكر الرب منذ الآن عما سيفعله في قدّيسيه كمقدّمة لقيامة البشريّة ولحياة دائمة مع المسيح، فلا يكون للموت من سلطان.فلم يكتف الله بمجرد إصعاد فتاه يسوع المطيع حتى موت الصليب، بل أحياه وجعله رب الحياة ووهب الحياة لمن يؤمن به ” أَنَا هُوَ الْقِيَامَةُ وَالْحَيَاةُ. مَنْ آمَنَ بِي وَلَوْ مَاتَ فَسَيَحْيَا، (يو 11:25)”.
  • رتلوا للرب يا أتقياءه واحمدوا ذكره المقدس: بهذه الوصية يأمر الرب يسوع تلاميذه والمؤمنين به أن يحمدوا اباهم السماوي ويشكروه ويقدسوا اسمه في كل حال ومن أجل كل حال وعلى كل حال.  
  • غضب الرب للحظة: يقدم لنا يسوع الله بصورة مغايرة لما عرفناه في العهد القديم فهو يعرفنا إياه كآب حنون يحب البنين ويرعاهم بل ومستعد في كل لحظة أن يترك الجميع ليفتش عن الضال منهم ويفرح ويبتهج ويقيم وليمة بعودة الإبن الضال.
  • ورضاه طول الحياة: رضى الله هو محور من محاور كرازة يسوع وهو سعى دومًا لعمل “كل ما يرضيه” “وَالَّذِي أَرْسَلَنِي هُوَ مَعِي، وَلَمْ يَتْرُكْنِي الآبُ وَحْدِي، لأَنِّي فِي كُلِّ حِينٍ أَفْعَلُ مَا يُرْضِيهِ” ويأمرنا أن نفعل ذلك وأن نسير في رضاه ونفعل مسرته ونتمم كل عمله كل أيام حياتنا. (يو 8:29)
  • إذا أبكاني في المساء: عاش يسوع ليلة حزينة في بستان الزيتون وكان عرقه يتصبب دمًا ولكنه كان يصلي وأيقظ التلاميذ فَقَالَ لَهُمْ: «نَفْسِي حَزِينَةٌ جِدًّا حَتَّى الْمَوْتِ. اُمْكُثُوا ههُنَا وَاسْهَرُوا مَعِي».” (مت 26: 38) طالبًا منهم في أن يصلوا فالصلاة هي اتحاد بالآب وهي خير دواء للنفس الحزينة.
  • ففي الصباح أرنم فرحًا: بغلبة القيامة المجيدة فجر الأحد قام يسوع قاهرًا اوجاع الموت منتصرًا على قوى الجحيم مترنمًا بأنشودة النصر الخالد: ” المسيح قام، حقًا قام”.
  • فلا يغلبهم: لم يغلب الموت السيد المسيح بل هو قهره
  • يا رب أقول في طمأنينتي لا أتزعزع إلى الأبد: لم يغلب إيمان يسوع فهو يعلم: ” وَرَفَعَ يَسُوعُ عَيْنَيْهِ إِلَى فَوْقُ، وَقَالَ: أيُّها الآبُ، أَشْكُرُكَ لأَنَّكَ وَأَنَا عَلِمْتُ أَنَّكَ فِي كُلِّ حِينٍ تَسْمَعُ لِي. وَلكِنْ لأَجْلِ هذَا الْجَمْعِ الْوَاقِفِ قُلْتُ، لِيُؤْمِنُوا أَنَّكَ أَرْسَلْتَنِي”، (يو 11: 41-42) وحتى في ساعة الظلمة ظل في سلام استغربه الحكام والولاة لأنه كان يعلم أن أباه لن يتركه فلم يتزعزع ايمانه.
  • برضاك وقفت منيعًا كالجبل: هكذا بإيمانه وطاعته وتسليمه وقف يسوع صامدًا شامخًا مرفوع الرأس حتى وهو طريح الجلد مكلل بالشوك ومعلقًا على الصليب. ظل ” ملكا” هكذا قال لبيلاطس” فَسَأَلَهُ بِيلاَطُسُ: «أَأَنْتَ مَلِكُ الْيَهُودِ؟» فَأَجَابَ وَقَالَ لَهُ: «أَنْتَ تَقُولُ” (مر 15:2) وللص اليمين فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: «الْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: إِنَّكَ الْيَوْمَ تَكُونُ مَعِي فِي الْفِرْدَوْسِ” (لو 23:43).
  • وحين حجبت وجهك ارتعبت: صلي يسوع المزمور الثاني والعشرين وهو على الصليب إليك يا رب أصرخ وإلى إلهي أتضرع، معلقًا على الخشبة صرخ حين استفحلت عليه الآلام ” لم وَنَحْوَ السَّاعَةِ التَّاسِعَةِ صَرَخَ يَسُوعُ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ قَائِلاً: «إِيلِي، إِيلِي، لِمَا شَبَقْتَنِي؟» أَيْ: إِلهِي، إِلهِي، لِمَاذَا تَرَكْتَنِي؟ (مت 26:47) لكنه لم يرتعب ولم يخف بل واجه كل شيء وهو يعلم وشرب الكأس وهو عارف بما ينتظره.
  • اي نفع لك من موتي ومن هبوطي إلى الهاوية: كان يسوع عالما بأن هبوطه إلى الهاوية أمر يجب أن يتم كي يُصعد كل الهابطين منذ الدهر معه لهذا وإن صلى: “فَمَضَى أَيْضًا ثَانِيَةً وَصَلَّى قَائِلاً:«يَا أَبَتَاهُ، إِنْ لَمْ يُمْكِنْ أَنْ تَعْبُرَ عَنِّي هذِهِ الْكَأْسُ إِلاَّ أَنْ أَشْرَبَهَا، فَلْتَكُنْ مَشِيئَتُكَ”. (مت 26:42) “ظل راسخًا لأنه يعلم أهمية الخطوة للماضي والحاضر والمستقبل.
  • فاستمع يا رب وتحنن وكن يا رب نصيري: استمع الله الآب لصلاة الابن واستجاب له ونصره ونجاه من قوات الجحيم ورفعه ملكا إلى الأبد.
  • حول نواحي إلى رقص ومسوحي إلى ثياب فرح: حين لبس يسوع مسوح الصليب وجرد من ملابسه لم يكن ذلك عبثًا فقد أقامه الله منتصرًا وألبسه رداء فرح القيامة وأصعده ممجدًا إلى أعلى السماوات.
  • لأرتل لك ولا أسكت أيُّها الرب إلهي إلى الأبد أحمدك: تلك هي الترنيمة الأبدية ترنيمة المجد والقيامة وهي ما رتلته الملائكة في الميلاد: “المجد لله في الأعالي…” وهي ترنيمة القيامة المجيدة وهو من يسم أتباعه المؤمنين به بوسم المعمودية عبر الروح القدس والبنوة وهو وسم لا يمحى، يتحده به ويحرك خطواته ويقوده ويرعاه.
  • كيف نعيش نحن المسيحيين هذا المزمور

إنه مزمور فرح نعيشه نحن المسيحيون كل يوم لاسيما في أيام الفرح ونترنم به في أوقات السعادة ونستخدمه في طقوس الأعياد الكبرى.

  •  أعظمك يارب لأنك نشلتني: حيث هكذا يجب أن تكون صلاة المؤمن المسيحي إذ يعترف بفضل الرب وعظائمه في حياته لا سيما في أوقات الشدة والضيق التي يمر بها كل مؤمن خلال حياته على الأرض وههنا يشعر بيد الرب تلتقطه وتنتشله من الهوة التي يروم العدو دومًا إسقاطه فيها.
  • استغثت بك فشفيتني أيُّها الرب إلهي: يطلب المؤمن معونة الرب ويستغيث بقوته لتسند ضعفه وقت المحن والخوف والإضطراب، ففي وقت الألم والموت ليس من شاف للنفس البشرية سوى الصلاة وطلب المعونة.
  • أصعدتني من أعماق عالم الأموات وأحييتني من بين الهابطين في الجب يترنم المسيحي كل يوم بتلك النصر التي وهبت له عبر اتحاد بيسوع المسيح الذي قام من الموت وانتُشل من هوة الجحيم. فيسوع بقيامته أقامنا معه، وهو من يسم اتباعه المؤمنين به بوسم المعمودية عبر الروح القدس والبنوة كوسم لا يمحى، يتحده به ويحرك خطواته ويقوده ويرعاه كما يشركه في قيامته.
  • رتلوا للرب يا أتقياءه واحمدوا ذكره المقدس: هكذا يحيا المسيحي إيمانه كل يوم صباحًا ومساء، واليوم كله يرنم وينشد ويسبح ويحمد الله على كل نعمه وعطاياه.
  • غضب الرب للحظة: المسيحي أكثر من أي انسان غيره، يعرف أن الله أباه وأنه رحيم غفور سريع العفو والنسيان، وإن غضبه للحظة، لكنه حين يرى ابنه من بعيد مقبلاً يسرع إليه ويلقي بنفسه على عنقه ويقيم وليمة فرح ناسيًا كل غضبه وحزنه لعصيان ولده.
  • ورضاه طول الحياة: بنفس المنوال يحيا المسيحي التائب كابن في بيت أبيه ويعيش البنوة بكامل معانيها ” َأخْرِجُوا الْحُلَّةَ الأُولَى وَأَلْبِسُوهُ، وَاجْعَلُوا خَاتَمًا فِي يَدِهِ، وَحِذَاءً فِي رِجْلَيْهِ، وَقَدِّمُوا الْعِجْلَ الْمُسَمَّنَ وَاذْبَحُوهُ فَنَأْكُلَ وَنَفْرَحَ، لأَنَّ ابْنِي هذَا كَانَ مَيِّتًا فَعَاشَ، وَكَانَ ضَالاً فَوُجِدَ. فَابْتَدَأُوا يَفْرَحُونَ”(لو 15: 23-24).
  • إذا أبكاني في المساء: كالابن الضال يجلس المسيح الخاطيء باكيًا نادبًا حاله في الخطيئة، “في بيت أبي العبيد يفضل الخبز عنهم وانا ههنا أكاد أموت جوعًا…
  • ففي الصباح أرنم فرحًا: الصباح للمسيحي هو وقت إشراق النور فيه يرنم: ” بنورك يا رب نعاين النور” وهو وقت البداية وزمن الترنم وفرح العودة إلى بيت الآب.
  • يا رب أقول في طمأنينتي لا أتزعزع إلى الأبد: مهما بلغت طمأنينة المؤمن فهو يبقى متواضعًا لا يغتر إذ يعيش هذه الطمأنينة وذلك الأمان والشعور بالرضى والسلام ليس بقوته الآتية ولا بعظم ساعده بل بفضل ذلك الراعي الحنون الرب الإله الصخرة الذي من يقف عليه يظل ثابتًا إلى الأبد لا يتزعزع.
  • برضاك وقفت منيعًا كالجبل، وحين حجبت وجهك ارتعبت. يقف المسيحي ويسير في دروب الحياة مطمئنًا بلا خوف ويظل على مدى الأجيال نموذجًا وقدوة على الثبات والرسوخ في الإيمان منذ عصر نيرون إلى زمان الدواعش. لا يخفه شيء حتى حين اختفاء وجه الرب هو يظل موقنًا إنه حاضر لينجيه حتى ولو لم يره.
  •  إليك يا رب أصرخ وإلى إلهي أتضرع: كل ما يفعله حين تشتد الضيقة هو أن يصلي يصرخ نحو إلهه كما فعل يسوع إلهه حين صرخ بصوت عظيم وأسلم الروح بين يدي أبيه.
  • أي نفع لك من موتي ومن هبوطي إلى الهاوية فهل التراب يسبح بحمدك ويحدث فيخبر بحقك تجاوز المسيح يعقليًا وقلبيًا هذا التساؤل فهو يؤمن أن الموت ليس من عند الله ولا هلاك الإنسان من صنع يديه (أيوب) وأنه ليس ثمة موت للمؤمن المتحد بقيامة ابنه بل هو انتقال…وهو بتواضع يعلم أنه تراب وإلى التراب سيعود ولا يتفاخر بتقواه وتسابيحه بل يقر أمام خالقه: “لست أنت المحتاج إلى عبوديتي بل أنا المحتاج إلى ربوبيتك”.
  • فاستمع يا رب وتحنن وكن يا رب نصيري: يسر المسيحي المؤمن الحقيقي أن يظل متحدًا في حوار دائم مع الرب ويسعد كثيرًا حين تستجاب صلواته ويهلل ويمجد ويسبح خالقه حين يهبه نعمة الانتصار في حروبه الشرسة مع الأعداء.
  • حول نواحي إلى رقص ومسوحي إلى ثياب فرح: يعلم المسيحي ويؤمن يقينًا أنه غالب في المسيح ومنتصر على جميع العوائق والعقبات ومتجاوز لكل المحن ومجتاًزا لكل الموانعوناجيًا من كل الفخاخ، وأن آلامه على الأرض مجرد لحظة في عمر الزمن “طوبى لكم إن تألمتم… بطرس وهكذا كان الرسل منذ اللحظة الأولى فرحين بالآلام لأنهم “عدوا أهلاً لأن يتألموا لأجل اسمه.
  • لأرتل لك ولا أسكت أيُّها الرب إلهي إلى الأبد أحمدك: بتلك المشاعر النبوية والروحية يستمر المسيحي في تواصل فريد مع ربه وإلهه وخالقه فحياته كلها نشيد تسبيح وترنيمة مجد:” إن أكلتم أم شربتم أم… فاعملوا كل شيء لمجد الله”

خامسًا: المزمور في فكر وأقوال الآباء

يقول القديس أغسطينوس في الدعوة الاستهلالية لهذا المزمور (1-3)، نلتقي بالاسم الإلهي “يهوه = الرب” ثلاث مرات، ومع كل مرة نجد باعثًا شخصيًا للمرنّم لكي يقدم شكرًا للرب؛ تأتي الآيات (4-5) كدعوة موجّهة نحو الجماعة لكي يشترك الكل معًا في التعبير عن عرفانهم بالجميل. هكذا لا يفصل المرتل عبادته الخاصة عن العبادة الجماعية، وحياته التقوية عن الحياة الكنيسة المقدسة. اختبر داود النبي حياة التسبيح والفرح في الرب، وها هو يدعو قديسي الرب مشاركته هذه الحياة الملائكية بتذكرهم أعماله القدسية عبر التاريخ وفي حياتهم.

إذ يعلن الرب قداسته الفائقه خلال معاملاته معهم.يدعو المرتل المؤمنين قديسين، لأن القداسة تخص الله وحده، يهبها لشعبه. لقد وهبنا يسوع المسيح روحه القدوس كروح التقديس واهب جميع الخيرات الذي يوحدنا معًا كجماعة تسبيح مقدسة! إن كانت الخطيئة تفسد سلام القلب، وتحجب النفس عن الفرح، وتحدر الإنسان عن الشركة مع السمائيين الدائمي التسبيح لله، فإن ثمر الروح القدس الذي يرفعنا إلى الحياة السماوية هو الفرح الداخلي، فيضرب على أوتار حياتنا ليعزف سيمفونية حب مفرحة. إنه يهبنا القداسة فنرتل بالقلب واللسان متذكرين معاملات الله معنا، وممجدين قداسته العاملة فينا. بمعنى آخر لا يفصل بين القداسة وحياة التسبيح. إذ يدعو المرتل الجماعة المقدسة أن تذكر قدس الله أو قداسته أو أعماله المقدسة، يركز على عمل الصليب والقيامة بكونهما عمل خلاصي فائق يُنتزع خلاله سخط غضب الله ليحل رضاه، ويُنتزع الحزن والبكاء ليحل الفرح والسرور.

القديس أغسطينوس: الله هو طبيب النفس والجسد، في يده شفاء كياننا كله، يقول: “إني أنا الرب شافيك” (خر 15: 26). هو صانعنا وطبيبنا، ويقدر أن يرد لنا صحتنا المعتلة. بلمسة هدب ثوبه برئت نازفة الدم، وبكلمة كانت تخرج الأمراض! حمل الرب جراحاتنا ليشفينا منها خلال جسده المجروح، وإذ قام من الموت ابتلع الموت إلى غلبة (1 كو 15: 54). دعوتُك يارب إلهي، ولم أعد بعد مثقلاً بالجسد الوهن الخاضع للمرض والموت. يُستخدم الشفاء للتعبير عن إصلاح القلب الشرير (إش 6: 10)، ومعالجة الكسور (مز 60: 2)، وشفاء الناس من الانحراف الروحي (إر 3: 22)، وعزاء الحزانى (مز 147: 3)، وإصلاح الوعاء الفخاري المكسور (إر 19: 11). وربما يقصد بالشفاء الخلاصي من وباء يصعب توقفه، وذلك كما قال الله للملاك المهلك: “كفى. الآن ردّ يدك” (2 صم 24: 16).

القديس أغسطينوس: “ياربي وإلهي، صرخت إليك فشفيتني”. نحن نرى أن الكتاب يربط بين المرض والصحة بعلاقتنا بالله، وبالخطية والفضيلة. يلخص سفر التثنية ذلك بالقول: “أنا أميت وأحييّ، سحقت وأنا أُشفي” (تث 32: 39). يُستخدم الشفاء للتعبير عن إصلاح القلب الشرير (إش 6: 10)، ومعالجة الكسور (مز 60: 2)، وشفاء الناس من الانحراف الروحي (إر 3: 22)، وعزاء الحزانى (مز 147: 3)، وإصلاح الوعاء الفخاري المكسور (إر 19: 11). وربما يقصد بالشفاء الخلاصي من وباء يصعب توقُّفه، وذلك كما قال الله للملاك المهلك: “كفى. الآن ردّ يدك” (2 صم 24: 16). الله هو طبيب النفس والجسد، في يده شفاء كياننا كله، يقول: “إني أنا الرب شافيك” (خر 15: 26). هو صانعنا وطبيبنا، ويقدر أن يرد لنا صحتنا المعتلة. بلمسة هدب ثوبه برئت نازفة الدم، وبكلمة كانت تخرج الأمراض! حمل الرب جراحاتنا ليشفينا منها خلال جسده المجروح، وإذ قام من الموت أبتلع الموت إلى غلبة (1 كو 15: 54).  دعوتُك يارب إلهي، ولم أعد بعد مثقلاً بالجسد الوهن الخاضع للمرض والموت.

في هذا يقول القديس يوحنا الذهبي الفم أنا قلت في نعيمي إني لا أحوَّل (أتزعزع) إلى الدهرالذين يظنون أنهم في طمأنينة أو في نعيم، متكلين على قوتهم وكرامتهم وثروتهم، يحسبون أنفسهم أنهم لن يتزعزعوا، لكنهم في الواقع يبنون حصونهم على رمال فتنهار.

القديس أغسطينوس: في النص العبري: “لأن للخطيئة غضبه”؛ غضب الله إنما هو للخطة، حيث مقاصده التعليم لا الهلاك، دافعه في الغضب لا الانتقام الشخصي وإنما تقديم نعمته للتأديب لكي تعينهم على ترك طرقهم المعوجة والسير في طريق البرلأن سخطًا في غضبه”، لقد نزع عنكم عقوبة الخطية الأصلية التي كفرتم عنها بالموت؛ “لكن حياة في إرادته”، فقد وهبكم الحياة الأبدية التي نلتموها دون أدنى مجهود ذاتي من جانبكم، إذ صارت حسب مسرته الصالحة (في رضائه).

يقول هينجستن برج Hengstenberg: في النصف الثاني للآية الخامسة تشخيص للبكاء وتشبيه بشخص يتجول، يترك المسكن الذي جاء إليه في العشاء ليرحل في الصباح ويحل محله ضيف آخر يصل إلى المسكن هو الفرح. إذ تحجب الخطيئة النور عن قلوبنا لتحل ظلمة الغروب يقتحم البكاء خيمتنا ليقطن فيها، حاسبًا نفسه صاحب موضع، يقطن خيمتنا على الدوام ولا يفارقها، لكن شكرًا لشمس البر الذي أشرق على حياتنا ليبدّد ظلمتها، محوّلاً غروبنا إلى نهار منير، فيرحل البكاء ويحل الفرح الداخلي في قلوبنا أبديًا. هكذا قيل للعروس: “إلى أن يفيح النهار وتنهزم الظلال أذهب إلى جبل المُرّ وتل اللبان” (نش 4: 6). لقد حطّم عريسنا المشرق ظلمة العشاء بنعمته، ليحوِّل حياتنا إلى عُرس مفرح وعيد غير منقطع وأفراح مجيدة! في الغروب حلَّ البكاء حيث أعلن الرب بصليبه مرارة الخطية التي حملها عنّا، وفي الصباح قام من الأموات ليهبنا برّه المفرح وحياته المقامة. في الغروب هدّد ربشاقي حزقيال أنه سيدمر أورشليم. “وكان في تلك الليلة أن ملاك الرب خرج وضرب من جيش أشور مئة ألف وخمسة وثمانين ألفًا؛ ولما بكروا صباحًا إذ هم جميعًا جثث ميتة” (2 مل 19: 35). في المساء كان الشعب يبكي، وفي الصباح فرحوا بخلاص الله. إنها نبوءة عن العمل الخلاصي، ففي المساء مات، وفي الصباح قام من الأموات يهبنا فرحه.

يقول أنثيموس أسقف أورشليم: إن ربنا يسوع المسيح هو ابن البر الذي رفضه اليهود، فصاروا كمن هم في مساء محرومين من النور الإلهي والفرح، أمّا المسيحيون فيؤمنون بالمسيح، صاروا كمن في صباح مملوئين بالفرح. كلمة “مساء” في العبرية لا تعني “المساء المظلم”، “مساء مستمر”، وإنما يعني “الغروب.”بالعشاء ينصب البكاء خيمته” حلَّ هذا المساء.

يقول القديس أغسطينوس: عندما انطفأ نور الحكمة في الإنسان الخاطئ وسقط تحت حكم الموت؛ منذ ذلك المساء المحتوم، التزَم شعب الله بسكب الدموع وسط التعب والتجارب، مترقبًا حلول نهار الرب. يليق بالإنسان أن ينتظر حتى الصباح ليشهد لفرح قيامته التي أنبعث نورها في باكورتها الأولى عندما قام ربنا عند شق الفجر.

ويضيف القديس أغسطينوس: بالنسبة لربنا كان العشاء هو وقت دفنه، وشاهد صباح اليوم الثالث قيامته. أنتم أيضًا قد دفنتم في العشاء في الفردوس، وفي اليوم الثالث أيضًا قمتم. كيف تم ذلك في اليوم الثالث؟ نلخص الزمان كله هكذا: كان هناك يوم واحد قبل الناموس؛ ثم جاء يوم ثانٍ تحت الناموس، فيوم ثالث تحت النعمة. ذاك اليوم الذي عينه وأظهره رأسنا نفسه خلال الثلاثة أيام، يجب إعادة تطبيقه أيضًا بالنسبة لكم…والصباح هو زمن الرجاء والفرح؛ أمّا الوقت الحاضر فهو زمن الاحتمال والمحن.

القديس يوحنا الذهبي الفم: لنأخذ مثلاً أحد القديسين، ولننظر ماذا كان حاله حينما كان في نعيمه وأيضًا حين صار في ضيق؟ هل ننظر إلى داود نفسه؟ حينما كان في نعيم وفرح بسبب انتصارات عِدّة وغلبته وأكاليله وبذخ حياته وثقته، انظر ماذا قال؟ وماذا فعل؟ “إني لا أحوّل إلى الدهر”. لكنه حينما حلّت به الضيقة، قال: “وإن قال هكذا إني لم أسرَّ بك فهانذا فليفعل بي حسبما يحسن في عينيه” (2 صم 15: 26).

يرى القديس باسيليوس الكبير: أن سقوط داود في الخطية جاء نتيجة كبريائه، إذ ظن أنه في طمأنينةٍ. داود الذي اعتاد أن ينسب طمأنينته الكبرى ونعيمه إلى قوة الله ومحبته سقط في ضعفه في المجد الباطل حين أحصى شعبه. رآه يوآب على وشك السقوط فحذره بأمانة من ذلك (2 صم 24: 3)، لكنه لم يصغ له. عمل الإحصاء في ذاته لم يكن شرًا، كما هو واضح من الكتاب المقدس ذاته (خر 30: 12)، لكن إجراءه بدافع الكبرياء والمجد الباطل كريه جدًا لدى الله.

يقول العلامة أوريجانوس: إن النفس التي في طمأنينة حقيقية لا يمكن أن تتزعزع؛ ربنا هو طمأنينتنا، فيه لن نتزعزع قط، بل نشاركه مجده إلى الأبد. هو يهبنا نجاحًا في كل أوجه حياتنا، وبدونه لا ننعم بقوة ولا حكمة ولا فرح ولا ثبات. من يجد طمأنينة ونعيمه في الأمور الزمنية يمتلئ كبرياءً فيتزعزع ويهلك، أما من يجد في مسيحه فرحه ونعيمه فبالحق يثبت فيه ولا يتزعزع إلى الدهر.وما نقوله عن داود تحقق بالنسبة للبشرية أيضًا، فقد وهبها الله قوة وصلاحًا وسلطانًا وجمالاً، وإذ ظن الإنسان ألاّ يتزعزع، كسر الوصية، ففقد كل جمال داخلي وانهار بروح القلق والاضطراب.

يوضّح القديس باسيليوس الكبير: مع أنني كنت جميلاً بالطبيعة، لكنني مُت بالخطية، بخداع الحية. لقد أضفت إلى الجمال الذي أعطيتني إياه حينما خلقتني أولاً قوة كي أتمّم مشيئتك.هذا الجمال الروحي بكوننا على صورة الله ومثاله، وهذه القوة التي وهبتنا لطاعة وصيتك، قد ضاعا بكبرياء قلبنا… لقد صرفت وجهك عنّا فدخلنا في حالة قلق!

يتحدّث الأب دوروثيؤس من غزة: عن هذا الجمال الذي يهبه الله للنفس، قائلاً: [لننقِ ولننظف الشَّبَه (الله) الذي نلناه. لننزع عنه تراب الخطية ليظهر بكل جماله بالفضائل… فإن الله يريد منّا ما أعطاه إيّانا بلا دنس ولا غضب أو عيب (أف 5: 27).

يرى القديس أثناسيوس الرسولي: في هذا القول نبوءة عن السيد المسيح الذي نزل إلى القبر لكن ليس بلا منفعة، لأنه ربح العالم كله. بنزوله ردّ لنا بهجة الخلاص إنه عتاب الحب فيه يستجدي بدالة مراحم الله ويطلب تحقيق مواعيده الإلهية.

بهذا المنظار يرى القديس أمبروسيوس: “سمع الرب فرحمني، الرب مخلصًا لمؤمنيه لا ديّانًا مرعبًا لهم، إذ يقول: [هل يمكن للمسيح أن يدينك وقد خلّصك من الموت وقدّم نفسه (ذبيحة) لأجلك عندما عرف أن حياتك هي ما تقتنيه بموته؟ أما يقول: “أية منفعة في دمي” إن كنت أدين ذاك الإنسان الذي أنا أخلصه؟ علاوة على هذا فإنك تفكر فيه كديّان ولم تفكر فيه كشفيع، هل يمكن أن يُصدر حكمًا عنيفًا وهو ذاك الذي يطلب دائمًا أن تُهب لنا نعمة المصالحة مع الآب؟

 يتساءل القديس أغسطينوس: ما هي هذه المسوح؟ إنها الإماتة! فقد كانت المسوح تُنسج من شعر الماعز والجداء، كلاهما حُسبا من الخطاة (مت 25: 32). لقد لبس الرب كواحدٍ من جنسنا المسوح لكن ليس كعقاب له… ذاك الذي لم يفعل شيئًا ما يستحق الموت، ارتدى بإرادته جسدًا قابلاً للموت من أجلنا. يوجد وقت للبكاء، ووقت للنوح، ووقت للضحك (جا 3: 4). فقد بكى ربنا يسوع وأذرف الدموع، ذاك الذي هو ينبوع الفرح الأبدي. يلزمنا أن نعرف مَن نحن الذين نشاركه بكاءه ونوحه. بالتوبة الصادقة والصراخ لأجل خلاص كل نفس، ومع كل تطلُّع إلى نعمة الله العاملة في حياته وفي حياة الآخرين تتهلل نفسه. هكذا يمتزج الحزن مع الفرح؛ كل حزن يتحوّل إلى بهجة وفرح في الرب.

يكتب القديس أمبروسيوس: إنه يترقّب مراثينا هنا، أي في هذا الزمن، كي يهبنا الأبديات. إنه يترقّب دموعنا لكي يفيض علينا بصلاحه عطية السرور هي المسيح (نفسه) الشكر لك أيُّها المسيح، فإنه لا سفير ولا رسول، بل أنت بنفسك خلصت شعبك. نزعت عني مسحي ومنطقتني سرورًا.

خاتمة المزمور

منطلقًا من اختباره الشخصيّ مع الربّ الذي انتشله من الوهدة العميقة. طبّق المرنم كل ما عاشه من خبرة روحية على خلاص شعب إسرائيل، في حاضر حياته وفي المستقبل الآتي في زمن المسيح المنتظر، فمدح الرب لأجل عظمته.

 لقد وصل إلى حافة القبر، فنجّاه الربّ من موت مؤكّد! أيكون قد مرض مرضًا خطيرًا، أو أن أعداءه أرادوا قتله؟ فوجد في نجاته رمزًا لنجاة شعبه. يقول أشعيا (54: 8): “في ثورة غضبي حجبت وجهي عنك لحظة، وبرحمة أبدية أرحمك”. كما يقول في مكان آخر (51: 11): “الذين افتداهم الرب سيرجعون ويأتون إلى صهيون بترنيم ويتبعهم السرور والفرح”.

يتحدّث هذا المزمور عن الموت، فيتذكّر الجحيم والجبّ والدم المسفوك، وفساد القبر والتراب الذي يصير إليه الإنسان، والندب والمسح الذي يرافق الميت إلى مثواه الأخير. ولكن المرنم لم يصل إلى الموت، بل كان له الخلاص وهو الذي أنعشه الرب، وشفاه، وأصعده من الجحيم، وأحياه. ولهذا فاض قلبه فرحًا، فأخذ ينشد ويرنّم للرب، وسوف يعترف بمراحمه إلى الأبد ولن يسكت.

موضوع هذا المزمور هو الخلاص والانتصار على الهاوية “يارب أصعدت من الجحيم نفسي وخلصتني من الهابطين في الجب” هذا ما حقّقه وصنعه الله بشخص يسوع المسيح ابنه الكلمة المتجسّد. الذي كما قبل آلامه صلَّى يسوع لتعبر عنه هذه الكأس (لو 22: 24). وعند موته قال: “إلهي إلهي، لماذا تركتني” (مر 15: 34)؟ ولكن قيامته أعطت معنىً جديدًا لهذا المزمور.

لقد نزل يسوع المسيح إلى الجحيم وهبط كما في جب لكي ينقذنا من سلطان الظلمة، ويدخل بنا إلى مملكة النور، هكذا يحملنا الله كمخلص من وهدة الخطيئة، وينتزعنا من هوة اليأس، يرفعنا من المزبلة، ويدخل بنا بنعمته إلى عرش نعمته، “شفيتني”، “أصعدت من الجحيم نفسي”، “خلصتني من الهابطين في الجب”. هذا هو عمل الله الخلاصي. ولعل لغة اليقين المبنية على أساس الخبرة الواقعية الحياتية المُعاشة تجعلنا نردّد قول الرسول بولس: “أقامنا معه وأجلسنا معه في السمويات” (أف 2: 6).

صلاة بحسب روح المزمور

يا مَن أعاد لي الحياة

 أعظمك يا إلهي لأنك نشلتني من سقطتي

وحين استغثت بك شفيتني أيُّها الرب إلهي

بموتك أصعدتني من أعماق عالم الأموات

وبقيامتك أحييتني من بين الهابطين في الجب

أرتل لك يا رب مع جميع يا اتقياءك

واحمدوا ذكرك المقدس من جيل إلى جيل

أعرف يا رب واختبرت أن غضبك مجرد لحظة

وأن رضاك عني هو الحياة بطول أيامها

فأنت يا سيدي إذا أبكيتني في المساء

توقظني في الصباح وتنهضني لأرنم لك فرحًا

لذا أعيش في طمأنينة ولا أتزعزع إلى الأبد

فأنا بعونك ورضاك أقف منيعًا كالجبل،

لكني سرعان ما أرتعب حين تحجب وجهك عني

نحوك أرفع عيني وإليك يا رب أصرخ وأتضرّع

تسبحك شفتاي منذ حداثتي 

وعند هبوطي الهاوية أسلم روحي بين يديك

فحوّل يا رب قبري الداخلي إلى مقدس لك!

يا من دخل الحزن بالصليب ليهبني الفرح بقيامته

ونزل إلى الجحيم كي بنشلني من الهوة إلى الفردوس

يا مانح الحياة وواهب القيامة أقم حياتي من الموت،

انزع عني مسوح المرارة، ولتعطني ثوب بر ك

استمع يا رب وتحنن وكن يا رب ناصري

حول نواحي إلى رقص ومسوحي إلى ثياب فرح

وحوّل بمجدك صراخي إلى تسبيح بلا انقطاع.

لأرتل لك ولا أسكت أيُّها الرب إلهي إلى الأبد أحمدك

قدّس قلبي مسكنًا لك.لتكون أنت سرّ جمالي وقوتي

أذكر أعمالك معي ومع كل شعبك،

فينفتح قلبي بالتهليل ولساني ينطق بالتمجيدلك

آمين

فهرس المزمور الثلاثين

يا رب أعدت لي الحياة

أولاً: تقديم المزمور

ثانيًا: نص المزمور وتقسيمه

ثالثًا: تفسير المزمور

القسم الأول: تسبحة شفاء (1-3)

القسم الثاني: دعوة للتذكر (4-5)

القسم الثالث: طلب الرحمة والخلاص (6-10)

القسم الرابع: تجديد التسبيح (11-13)

رابعًا: تطبيق المزمور

كيف عاش الرب يسوع هذا المزمور

كيف نعيش نحن المسيحيين هذا المزمور  

خامسًا: المزمور في فكر وأقوال الآباء  

 خاتمة المزمور

صلاة حسب روح المزمور

الفهرس