المزمور الخامس والعشرون: الرب ملجأ المضطهدين

المزمور الخامس والعشرون: الرب ملجأ المضطهدين

همسات الروح

تأمُّل في سفر المزامير

بقلم الأب/ بولس جرس

أولاً: تقديم المزمور

يمكن تصنيف المزمور الخامس والعشرون مع مزامير الحكمة وأيضًا مع المراثي الشخصيّة، هو مزمور توسُّل ينشده المرنّم متشكّيًا من حالة، رافعًا صلاته بثقة إلى الله، مقرًا أمامه بذنوبه وخطاياه خصوصًا لأنه حزين لشعوره بالعُزلة والاضطهاد، ومع أنّها قصيدة شكوى لكن المحور الأساسي الذي يتضرّع المرنّم طالبًا أن يعرفه ويسلك فيه هو “طريق الرب”. هو أحد المزامير المرتبّة ترتيبًا أبجديًا، حيث تبدأ كل آية بحرف مختلف من الأبجدية العبرية المشتملة على اثنين وعشرين حرفًا، تبدأ الآية الأولى بحرف الألف والثانية بحرف الباء والثالثة بحرف الجيم والرابعة بحرف الدال وهكذا دواليك…، وهي طريقة تساعد الذاكرة على الحفظ والإنشاد، وبالرغم أن الترتيب الهجائي لهذا المزمور ليس كاملاً، حيث يظهر عدم الانتظام في الآيات (2، 5، 18، 22)؛ إلاّ أن لهذه الطريقة معنىً أعمق، إذ إن الأبجدية عطيّة الله للبشر الذين يحتاجون إلى الكلمات والحروف لكي يعرفوا الله وينشدوا بمجده عبر كلمات الأبجديّة المنظّمة التي وهبهم إيّاها؛ حيث يعتبر العبراني الأبجديّة عطيّة من الله، لذا فهو يستعمل الكلمات والحروف ونظامها، ليسبّح بها الله على عطيّته هذه. تتردّد في المزمور كلمة يهوه (الرب) عشر مرات، وكلمة طريق أو سبيل عشر مرات، ويتلخّص هدف المرنّم في نقطتين: الأولى: وهي الهدف العام من المزامير وهو تقديم صلاة لله تظل صالحة لأبناء الله على مدى الأجيال.الثانية: يهي ما يعطي هذه الصلاة شكلاً خاصًا ويجعل كل طِلبة فيها تبدأ بحرف من الحروف الأبجديّة؛ فتردّ البشرية للرب ما سلّمه إليها وتُبارك الله بما منحها من عطيّة.  حيث تهدف مثل هذه المزامير إلى مدح كلمة الله، التوراة، وتميل بعض المرّات إلى التركيز على الحرف، والخوف هنا هو أن نقع في تطويبه ناسين كلام بولس الرسول: “الحرف يقتل أمّا الروح فيحيي” (2 كور 3: 6).

في النهاية يجب تفسير هذا المزمور على أنه مديح لله الذي كلّم البشر وأوحى إليهم كيف يدوّنون هذه الكلمة ويتنقلونها من جيل إلى جيل فيسمعها الآخرون ويفهمون ما يُقال. أخيرًا صلاة هذا المزمور هي مدح لكلمة الله اليوم كما بالأمس، من خلالها نؤكّد القول بأن الله يعلّم الخاطئين طرقه ويُشركهم في عهده عن طريق كلمته المسطّرة في الأبجدية. من الواضح أن داود النبي كتبه في أواخر أيام شيخوخته، لأنه يتحدّث عن خطايا صباه. كما يعتقد بعض الدارسين أنه نظّمه أثناء تمرد ابنه ابشالوم عليه، بينما يرفض آخرون نسبته لداود أصلاً، ويعتقدون أنه يخص حالة الشعب العبراني أثناء الأسر البابلي حيث يجسّد شكوى الأسرى من قهر أعدائهم.

وهكذا يُعتبر هذا المزمور مثالاً طيبًا لكيفية صلاة التضرُّع اليومي، منه نتعلّم:

أولاً- ماهية الصلاة (1، 15):

رفع القلب والعينين إلى الله.

ثانيًا- ما ينبغي أن نصلّي لأجله:

طلب غفران الخطية [6، 7، 18]،

التوجُّه نحو طريق الالتزام [4، 5]،

طلب عطف الله [16]،

الخلاص من أتعابنا [17، 18]،

حفظنا من أعدائنا [20، 21]،

وخلاص شعب الله [22].

ثالثًا- كيفية التضرع لله في الصلاة:

بثقة تامّة في الله [2، 3، 5، 20، 28]،

نعرض مرارتنا وظلم أعدائنا لنا [17، 19]،

نعد إخلاصنا وتمسكّنا[21].

رابعًا- منه نعرف قيمة المواعيد الثمينة :

لتشجيعنا على الصلاة،

لإرشادنا وتوجيهنا [8، 9، 12]:

منافع العهد مع الله [10]

وبهجة الشركة معه [13، 14].

ثانيًا: نص المزمور وتقسيمه: تقديم المزمور

يتكوّن المزمور من اثنتين وعشرين آية وينقسم إلى خمسة أقسام:

استهلال: بداية المزمور                                                   (1)

1 . لداود: إليك يا رب إلهي أبتهل

مقدّمة: الله لا يخيّب ثقة من يؤمن به                    ( 2-3)

2 .  عليك توكلت فلا أخزي ولا يشمت بي أعدائي

3 . كل من يرجوك لا يخزى، بل يخزى الغادرون باطلاً

القسم الأول: تائب ينتظر مغفرة الله المخلّص    (4- 7)

4 .  يا رب عرّفني طرقك وسبلك علمني.

5. بحقك أهدني وعلمني، أنت الله مخلصي، وإياك أرجو نهارًا وليلاً.

6 .  أذكر رأفتك ومراحمك، فهي يا رب منذ الأزل.

7.  لا تذكر معاصيّ وخطايا صباي، بل برحمتك أذكرني، لأنك يا رب صالح.

القسم الثاني: إرشاد أول؛ نداء للثقة بالله   (8- 11)

8 .  الرب صالح ومستقيم ويرشد الخاطئين في الطريق.

9 .  يهدي الودعاء بأحكامه، ويعلم المساكين طرقه.

10.  سبل الرب رحمة لمن يحفظ عهده وفرائضه.

11 . من أجل اسمك يا رب اغفر ذنوبي الكثيرة.

القسم الثالث: إرشاد ثان؛ التوبة والاعتراف (12-15)

12 . مَن خاف الرب أراه أي طريق يختار،

13 .  فتنعم نفسه بالخير، ونسله يرث الأرض.

14.  الرب يرشد أحبّاءه، ولهم يعلن عهده.

15. عيناي إلى الرب كل حين، فهو يخرج من الشرك رجلي.

القسم الرابع: المرنّم يعود يتذكّر خطاياه         (16-19)

16 . تحنن يا رب والتفت إلىّ لأني وحيد ومسكين.

17.  فرّج الضيق عن قلبي، ومن سوء الحال أخرجني.

18 . أنظر إلى عنائي وتعبي، واغفر جميع خطاياي.

19 . ها أعدائي كثروا، وبحماسة يبغضونني.

القسم الخامس: من يرجو الرب لا يخيّب      (20-22)

20 . نجني واحفظ حياتي. بك احتميت فلن أخزى.

21. تشفع لي نزاهتي واستقامتي وأنت يا رب رجائي.

22.  افتد بني إسرائيل يا الله من جميع ضيقاتهم.

ثانيًا: نص المزمور وتقسيمه:

استهلال: بداية المزمور                                                   (1)

1– لداود:  إليك يا رب إلهي أبتهل

إليك أرفع صلاتي ومناجاتي يا ربي وإلهي… الابتهال درجة عالية من درجات الصلاة فهي ليست مجرّد صلاة وتوسُّل ورجاء فيها إلحاح وفيها مناجاة وفيها تضرّع يتوجّه النبي المرنّم إلى الرب إلهه في صلاة عميقة مبتهلاً إليه أن يسمع صلاته ويستجيب طلبته التي يرفعها إليه، فما طلبته؟

مقدّمة: الله لا يخيّب ثقة مَن يؤمن به                    ( 2-3)

2 . عليك توكلت فلا أخزي ولا يشمت بي أعدائي

تقديم ذكي لموضوع قضيّته فقد توكّل على الله واعتمد عليه في كل شئون حياته والجميع يعرفون ذلك، وفي حالة رفض الطلبة والابتهال… أي في حالة خذلان الله لقضيته وعدم استجابته لطلبته الملحة، سيكون ذلك مدعاة للسخرية والهزء والشماتة.

  • يشمت بي أعدائي

الشماتة هي السرور والتلذُّذ بما يصيب الآخرين من أذى، وهذا سلوك عدواني يدل على نفس غير سوية تكره الخصم إلى درجة كبيرة وتتمنّى إيقاع الأذى به فإن لم تستطع أن تفعل ذلك بنفسها تقتصر لذتها في الشماتة  بما يحل به من نكبات… والأعداء المتربّصين بالنبي هنا، لم يتمكّنوا أبدًا من الانتصار عليه نصرًا حاسمًا حيث كان الله يظهر فجأة فيبطل كل مؤامراتهم التي سهروا الليالي يخطّطون لها ويفشل كل فخاخهم التي أمضوا السنين يحفرون لها بل وكثيرًا ما كانوا يسقطون في نفس الحفر التي حفروها ليسقطوا النبي البار الذي “توكّل على الله”…   ومن ثم فإذا رأى هؤلاء ما يحل بالنبي من بلايا دون أن يتدخّل الله لينقذه سيكون “فرحهم المَرضيِ هو ببساطة “شماتتهم” الشديدة …

3 . كل من يرجوك لا يخزى، بل يخزى الغادرون باطلاً

يعلن النبي إيمان شعبه وإيمانه الشخصي، فقد اختبر كلاهما كيف نصرهم الرب وحملهم على كفه وخلصهم من بطش أعدائهم وسمع صراخهم واستغاثتهم وقبل صلاتهم وابتهالاتهم بالتالي يعرف داود ويعرف شعبه أن الرجاء لا يخزي أبدًا كما أن المحبة لا تسقط أبدًا لذلك يعتبر الرجاء من الفضائل الإلهية الثلاث: الإيمان – الرجاء – المحبة…

  • بل يخزى الغادرون باطلاً

يؤكّد المعنى السابق فالذي يحفظ عهد الرب وشريعته ويتوكّل عليه لا يخزى خزي مَن يغدر بالعهد مع الله ومع الناس ويحنث اليمين ويخلف الوعود والعهود.

القسم الأول: تائب ينتظر مغفرة الله المخلّص    (4- 7)

4 .  يا رب عرّفني طرقك وسبلك علمني

حين يتذكّر النبي عهد الله معه وأمانته نحو حفظ العهد ويذكر خيانة الأشرار وحنثهم بالعهد… يخشى أن يكون هو أيضًا قد زاغ أو تاه أو ضل عن الطريق ولو للحظة واحدة… فيطلب من الرب نعمة أساسية، تصير هي جوهر صلاته، فبدلاً من نصر على الأعداء وانتقام من الأشرار يعطي النبي الأولوية المطلقة لـ “الأمانة نحو العهد”:

  • عرّفني طرقك  

كتلميذ مبتدئ يضع ذاته أمام الله، وكأنه بكل خبرته وآلامه وآماله لا يعرف طريق الرب الذي طالما سار فيه منذ صباه ونادرًا ما تخطّاه أو تعدّاه.

  •  سُبلك علّمني

ما أروع التكرار، وأعمقه، إنّه لا يريد أن يعرف لمجرّد المعرفة فقط بل يريد أن تتعمّق المعرفة بالتعليم لتصير علمًا ونهجًا وأسلوب حياة. فحين يتعلّم المرء شيئًا يمتلكه ويصير جزءًا منه فالمعرفة وحدها لا تكفي، بل يحتاج إلى تعلُّم حتى يتمكّن من ممارسة وعيش ما يعرفه.

5 .  بحقك اهدني وعلّمني، أنت الله مخلصي، وإيّاك أرجو نهارًا وليلاً

ألم أقل سابقًا، لقد نسى المرنّم قضيته الأساسيّة التي من أجلها وقف يصلّي واكتشف من خلال صلاته أن هناك قضية أهم وأولى يجب أن تنال المكانة الأولى، فلم يعد مهمًا صراعه الشخصي مع أعدائه أيًا كان الموقف… يريد أولاً أن يتمّم في حياته مشيئة الرب في حياته وتاريخ شعبه.

  • اهدني بحقّك

إذا كنت يا رب قد ضللت أو زُغت عن شريعتك وتركت طريقك ولأهملت وصاياك فاهدني، والهداية هي عملية روحية تعني تقويم الطريق المنحرف والعودة إلى الحق والنور والمهتدي هو العائد من الظلال والظلام.

  • أنت الله مخلصي

بالطبع الله المخلص هذا هو اسمه وهذه هي مهمّته اتبعه داود منذ الصبا وتعلّم واختبر خلال مسيرة حياته الحافلة بالأحداث أن الله يخلّص شعبه منذ البداية إلى اليوم فإذا يا رب ما كنت قد:

                جهلت الطريق: فعرّفني طُرقك

                نسيت السبيل: فعلّمني سُبلك

                ضللت الدرب: فاهدني بحقّك

                هلكت في المسير: فخلّصني بحقّك

لا تخيّب يارب أبدًا رجائي الدائم فيك

6 .  اذكر رأفتك ومراحمك، فهي يا رب منذ الأزل

تحوّلت الصلاة نهائيًا من طلب المعونة والاستغاثة من ظلم العدو  إلى فحص متعمّق للضمير ومسح شامل للحياة… وطلب للرحمة لا للعدل: فهو قد اكتشف كل آثامه ومعاصيه أمام بر الله وقداسته وأمانته لعهده وخلاصه الدائم لجميع المتوكلّين عليه بكل قلوبهم… وبالتالي يطلب رأفة ورحمة… مدركًا أن الرأفة والرحمة هما الله نفسه فهو الرؤوف الرحيم فرحمة الله ورأفته هما أزليتان مثل الله ذاته لأنهما من صميم طبيعته وهو تعبير رائع يعبّر عن إيمان المرنّم أنّه مهما عظمت خطاياه فإن الله برأفته ورحمته، الله بطبيعته ومحبته له قادر أن يغفرها.

7 .  لا تذكر معاصيّ وخطايا صباي، بل برحمتك اذكرني، لأنك يا رب صالح

ألم أقل إن صلاة الطلب ومزمور التوسُّل قد تحوّلا إلى فحص للضمير. خرجت ذكريات الخطايا وبرزت آثار ما ارتكب النبي من آثام طوال حياته ومنذ صباه فليس غريب على داود هذا الاعتراف فهو القائل “بالآثام وُلدت وبالخطايا حبلت بي أمي” (المزمور الخمسون) وهذا عزيز في عيني الرب إذ يطربه ويشجيه ويستثير لديه كل أحاسيس الرأفة والرحمة والحنان أن يرى أولاده “منكسري القلوب معترفين بخطاياهم” فإذا اعترفوا بخطاياهم “فهو أمين وعادل يغفر لنا” (يوحنا        )

  • لا تذكر خطايا صباي

الصبا وقت النزوات والطيش، يتميّز بانعدام خبرة المرء إثر خروجه من الطفولة وشعوره بالرجولة دون أن يكون رجلاً بالفعل، لذلك فهو يرتكب الكثير والعديد من الحماقات والخطايا لعدم المعرفة وقلة الخبرة … ولذا يطلب النبي من الله ألاّ يتذكر هذه الآثام والخطايا لأنه كان غرًا غريرًا ولم يكن يعرف الله بعد تلك المعرفة الشخصية التي صار الآن يتقنها بعد أن علّمه الرب إيّاها فحفظها عن ظهر قلب…

  • بل برحمتك اذكرني

لا تذكر. اذكر. لا تذكر خطاياي، بل اذكر رحمتك، دلال ما بعده دلال وثقة ما بعدها ثقة… كلمة اذكرني يا رب. فتحت للص اليمين الطريق إلى الملكوت فهل تُستجاب صلاة النبي؟

  • لأنك صالح يارب

كذلك الصلاح من صفات الله “لماذا تدعوني صالحًا ولا صالح غير الله وحده” هكذا أجاب الرب يسوع الشاب الغني الذي ناداه باسم من أسماء الله… الله الصالح الذي لا يعرف سوى الخير والصلاح ولا طريق إلى الشر في قلبه… سيعفو برحمته ورأفته وصلاحه عن آثام النبي وخطايا صباه وجهله لن يذكرها.

القسم الثاني: إرشاد أول؛ نداء للثقة بالله   (8- 11)

8 . الرب صالح ومستقيم ويرشد الخاطئين في الطريق

بعد أن استخدمها كقرينة تجعل الله يبرّره، يعود فيعلنها كعقيدة ومحور إيمان وقاعدة أساسية من قواعد التعامل مع سيده وإلهه وخالقه. إنه صالح وأن إلى الأبد رحمته ولسوف يستمر في التأمُّل في هذه الحقيقة ويخلق منها مزمورًا جديدًا يردّده مع شعبه ليؤكّد في قلوبهم وأذهانهم هذا الإيمان القويم أن الرب لا يعرف الشرور وأنه مستقيم يحب المستقيمين في طريقهم، وأنه بار يحب الأبرار، وأنه قدوس يطلب من أبنائه أن يقتدوا به ويصيروا هم أيضًا قديسين. لذا يقوم بهدايتهم وتقويمهم وإرشادهم إلى طريق الصالحين المستقيمين الذي يوصّل إلى الرب المستقيم الصالح.

9. يهدي الودعاء بأحكامه، ويعلّم المساكين طرقه

الهدى والهداية عملية روحية قلبية تتطلّب معرفة بالخطايا وإقرار بها واعتراف عليها وطلب الرحمة وهذه كلّها تندرج تحت بند الوداعة   فالوديع هو إنسان يعرف قدر نفسه ويرحم غيره كما يرحمه الله… والله في قلبه فهو حتى إن سقط يقوم معترفًا ويطلب من الرب أن يمسك يده ويقوده عائدًا به إلى الطريق المستقيم عائدًا به إليه.

  • الودعاء والمساكين

شعب الله المفضّل، أحبّهم، نزل ليخلّصهم، قاد خُطاهم، دافع عنهم وحفظهم في ظل جناحيه، ظلّل عليهم بيده اليمنى، ومن جميع الأهوال نجّاهم… هم أول مَن طوّبهم الرب يسوع في “طوبى للودعاء لأنهم يرثون الأرض” طوبى للمساكين في الروح لأن لهم ملكوت السموات… ما أجمل اختيارك يارب حتى أنزلت الأقوياء عن الكراسي ورفعت المتواضعين وأشبعت الجياع خيرات وصرفت الأغنياء فارغين… ما أعظمك يا إله المساكين…

10. سبل الرب رحمة لمن يحفظ عهده وفرائضه

وحين يهدي الرب المساكين والودعاء والبسطاء إلى سبيل الحق وطريق النور، فليس ذلك عنوة أو قصرًا أو اغتصابًا بل برأفة وحب وحنان، فيصير سبيل الرب رحمة وحق لذلك لا تستغربن أن ترى الرب يسوع يقول عن نفسه “أنا السبيل والحق والحياة” وهو الرب الرؤوف الحنون الرحيم. هذا التبادل الديناميكي بين هداية الرب لأحبّائه واتباع هؤلاء لهدايته عمل جبار، هو يهديهم فيعيشوا في نور حبه ورحمته ويهتدون بحفظ عهده فيتنعمون بالسرور والفرح والسلام.

11 . من أجل اسمك يا رب اغفر ذنوبي الكثيرة

جال النبي في قلبه واسترجع بعقله كل ذكريات حياته، قام بمراجعة لكل حقائق إيمانه، اكتشف ذنوبه وخطاياه منذ صباه حتى وقفته الحالية أمام الرب.

 فطلب رحمة وغفرانًا لا عن استحقاق وجدارة بل لأن اسمه القدوس قد أطلق على نبيه فهو مسيح الرب وعلى شعب إسرائيل فهو “شعب الله” وبالتالي كل ما يمسهم من خير أو شر يمس اسم الله وعليه يجب على الرب أن يغفر الخطايا ويتجاوز عن عقاب المذنب المعترف حتى يزاد هذا اهتداء واستقامة ويرتفع اسمه لأنه رحيم رؤوف غفور حنون…

12. من خاف الرب أراه أي طريق يختار

عملية الهداية تحتاج ليس فقط إلى توبة واعتراف بل تحتاج أيضًا إلى مخافة فليس معنى الرحمة والرأفة الاستهتار والاستهانة “رأس الحكمة مخافة الرب” وحين يرى الله هذه العناصر متوفرة “يهدي” مختاريه إلى طريق الحياة، وبما أنّها عملية هداية فهي تحتاج الوعي والإرادة الكاملة من المهتدي… لذلك فإن الرب يُظهر له الطريق تاركًا له حرية السير والاهتداء والتنعُّم بالمزايا والمنح والمواهب تاركًا له حرية الاختيار، ما أروعك يا الله… تحترمنا حتى في ضلالنا…

القسم الثالث: إرشاد ثان؛ التوبة والاعتراف (12-15)

13. فتنعم نفسه بالخيرات ونسله يرث الأرض

تريه الاهتداء والاختيار الحر هي المزيد من التنعم بالخيرات الروحية والزمنية ليس فقط على المدى المنظور خلال أيامه على الأرض بل يمتد الخير إلى ما وراء حياته الشخصية الجسدية، إلى نسله الذي سيرث الأرض كما وعد الرب إبراهيم، أي يصير شعبًا لله ويكمّل طريق أباءه “أبونا إبراهيم” وهذا هو إشارة بدائية لمعنى الحياة الأبدية االذي لم يكن قد تعمّق بعد عند الشعب فالبقاء لديهم كان يعني استمرار النسل… والثواب والعقاب كان في بركة هذا النسل أو النقمة عليه ولعنته وإبادته. كما في شرح ما سبق من مزامير … “الرب يبيد نسل الأشرار” أمّا نسل الودعاء الأبرار فيرث الأرض.

14. الرب يرشد أحباءه، ولهم يعلن عهده

إذا استمر المهتدي في الطريق الذي هداه الله إليه، لن يكتفي الله بوصفه عليه فقط بل سيقدّم له كل ما يحتاج من توجيه وإرشاد ليحافظ على نفسه في الطريق المستقيم وبالتالي ينجم عن هذه الصحبة والمسيرة… أن يعلن الله لهؤلاء الأحباء حقيقة جديدة… “أقيم معكم عهدًا أبديًا، أنتم تكونون لي شعبًا وأنا أكون لهم إلهًا” والعهد هو نوع من الوعد القائم على قسم وبشهادة شهود… والله حين أقسم بذاته لإبراهيم أقام معه عهدًا وحين يقيم الله العلي عهدًا مع البشر… معروف أنه أمين لعهده حتى وإن تخاذل البشر فهم من صفاتهم التغيُّر والضعف والنسيان والإهمال والخيانة وهو من صفاته الثبات والقوة وعدم النسيان والأمانة لذا يقول الكتاب “وإن خناه فهو أمين وعادل”.

15.عيناي إلى الرب كل حين، فهو يُخرِج من الشرك رجلاي

نستطيع أن نعتبرها كالآية الذهبية لهذا المزمور فهي سهلة التعبير عميقة المعنى تعبّر عن عمق العلاقة بين الله والبشر… لقد قدّم النبي للرب قلبًا منسحقًا نادمًا عن خطاياه وجهالات صباه، وسمع باقي الوصية لذلك ثبّت ناظريه وحدق بعينيه إلى الرب بصفة دائمة لأنه أدرك تلك الحقيقة الإيمانية الصادقة “جعلت الرب أمامي في كل حين”. حين يسير المؤمن وعيناه على الرب يسير الرب يهديه كما المرشد في الجبال والصحاري ويفديه من المخاطر ويقيه من فخاخ العدو، بل حتى إن سقط فإن مرشده وراعيه وقائده قادر أن يخلّص قدميه من الفخ وينقذه من كل شرك.

القسم الرابع: المرنّم يعود يتذكّر خطاياه         (16-19)

16. تحنّن يارب والتفت إلىّ لأني ضعيف ومسكين

يدرك حنان الرب ورأفته، يلمس حبه ورعايته، يفهم أن لا نجاة ولا حياة له بدون معونته، قلبه يثبت على حبه، تتغلغل في نفسه مخافته، تتبع عيناه طرقه وتسير قدماه في دربه وسبله وتلمس يداه رأفته وحنانه فيعرف ويدرك ويؤمن أنه بدون هذا الراعي الأمين لا نجاة له ولا يستطيع أن يتقدّم للأمام ولا خطوة واحدة، فيصرخ كطفل شعر بالوحدة وحيد في الظلام وأحس كم هو مسكين بدون والديه…

17.  فرّج الضيق عن قلبي ومن سوء الحال أخرجني

يبدو أن المرنّم قد تذكّر أخيرًا سبب صلاته أو ما دفعه أولاً للوقوف بين يدي الرب ، لقد كان يشعر بضيق شديد في قلبه ، يجتاح نفسه وينغّص عليه حياته… لقد ساءت حالته الروحية والنفسية والاجتماعية والاقتصادية وقام الأعداء ليقضون عليه ويلتهموه فلم يجد سوى في الرب ملاذًا، ولكن حين وقف بين يدي الله ليصلّي طالبًا المعونة… أنار الله قلبه وهداه إلى أن سبّب كل ضيق القلب وسوء الحال ليس قوة العدو بل سيطرة الخطيئة… حينئذ فحص النبي ضميره واعترف بخطيئته وطلب من الرب أن يعود أبًا وراعيًا ومرشدًا وربًا حنونًا… حتى تنجلي الغيوم وتشرق شمس الفرح في حياته من جديد.

18.  انظر إلى عنائي وتعبي، واغفر خطاياي

هذه هي الخطوة الأولى أن تدرك كما سبق وأدركت أنه كم أنا شقي وبائس بدونك انظر إلى هذه المأساة بنظرة أب رحيم لا يرى المخالفة في نور القانون بل في نور الحب والرحمة والرأفة والتحنُّن وبالتالي يعرف أن يغفر.

19. ها إن أعدائي كثروا وبحماسة يبغضونني

يعود إلى الأرض وينظر حوله فيجد العديد من الخصوم الذين أثارهم بخطاياه ويشعر برغبتهم القوية في التخلّي عنه والقضاء عليه، وبشماتتهم لكل ما يقع به من بلايا وقد هجره الرب “كما فعل لا الفلسطينيون مع شمشون” (قضاة  ) كراهية العدو لا تفتر ولا تتراخى والحرب لديه قائمة وبكل حماسة البداية التي لن تبرد حتى النهاية فليس من منج من هذا الهول سوى الله.

القسم الخامس: مَن يرجو الرب لا يخيّب      (20-22)

20. نجني يا رب واحفظ حياتي، بك احتميت فلن أخزى

أدرك وفهم ووعى مقدار ضعفه وهوانه وقدر العدو وقدراته… ليس له سوى الاستغاثة “نجني يا رب” نفس كلمة بطرس وهو يغرق احفظ حياتي لأنها بدونك لا حياة ولن تستمر لحظة أنا واثق بك وألوذ بك وأعوذ بك وأعرف وأثق أنك أبدًا لن تخذلني ولن تحزنني بل ستخلّصني لأجل اسمك.

21. تشفع لي نزاهتي واستقامتي وأنت يا رب رجائي

لا يتباهى النبي ببراءته ونزاهة سلوكه فهو يعرف أنه بالإثم حُبل به وبالخطايا ولدته أمه، ولكنه يتحدّث هنا عن نزاهة القلب أي الطيبة وحُسن النية، ليس المقصود هنا التنزُّه عن الخطأ أو الخطيئة بل نية التنزُّه عنها، فالنزيه النية، هو مَن لا يقصد الشر والإيذاء وإن ارتكب شرًا فليس عن قصد وسابق إصرار وترصُّد… لذلك فالخطيئة مهما كانت عظيمة كخطيئة بطرس في إنكار سيده، فإن الرب يغفرها، حيث يعرف كم يحبه قلب بطرس وكم هو مستعد أن يفتديه، لكنه يقدّر ضعفه واعتماده على قوته الذاتية. لذا يعلن أنت يا رب رجائي ليست قوتي ولا عقلي ولا فكري، هذا كله جيد لكن بدونك ربي هو لا شيء إذ تظل وحدك رجائي.

  22. افتقد بني إسرائيل يا الله من جميع ضيقاتهم

يعلن طلب أخير يتلخّص في كلمة “افتدي” التي تعني أنه أسير مطلوب دفع فدية ليخلّص، و أن مَن يدفع عنه هذه الفدية سيده وإلا سيظل يرسخ في نير العبودية وستظل نفسه ونفس جميع أبناء شعبه في ضيقة شديدة لا خلاص فيها سوى بالفداء لا تخف يا داود سيجيء يفتديك ويفتدي شعبك.

رابعًا: تطبيق المزمور

  • كيف عاش الرب يسوع
  • إليك يا رب أبتهل: ليس غريبًا أن نرى الرب يسوع يختلي للصلاة مرّات عديدة الليل كلّه، وليس غريبًا على الابن أن يخاطب أباه ويبتهل إليه طالبًا تدخُّله وعونه وتمجيده، فالله الآب هو مصدر القوة لابنه المتجسّد الذي حتى وإن قال أنا والآب واحد فهو لا يحتسب اختلاسًا أن يكون مساويًا لله لكنه يخلي ذاته في صورة العبد.
  • عليك توكلّت: كان اتكال يسوع على أبيه السماوي كاملاً ويطلب من أتباعه نفس الاتكال وحين شمت به أعدائه وهو معلّق على الصليب كانوا ينظرون إليه ساخرين ويقولوا “توكل على الرب فلينجيه” (متى 27: 43) ولم يزده هذا إلاّ التصاقًا بأبيه وتسليمًا له حتى النفس الأخير ليستودع روحه بين يدي الله.
  • §        لا يخزى كل مَن يرجوك: حتى وإن ظن أعداءه أن الله قد خذله ونظره مجروحًا عريانًا إلاّ أن الرب نصره نصرًا أبديًا ورفعه على جميع أعداءه، تمامًا كما حدث مع الصدوقيين في مواقف كثيرة ليس آخرها ما نطقت به شفاه اليهود الواقفين أمام صليب الرب يسوع “لقد توكل على الله فلينجيه”.
  • §        أنت الله مخلصي: هكذا صلّى بإيمان وكان خلاص الله عظيمًا فأقامه ناقضًا أوجاع الموت.
  • أنت صالح: عرف أبيه كمصدر كل صلاح وحين ناداه الشاب الغني بهذا اللقب، سأله إن كان يؤمن بصلاحه كمعلّم فقط أم يعترف به شريكًا لله الآب في صلاحه.
  • يرشد الخاطئين في الطريق: كما أن الله صالح أعطى شريعته وناموسه ليسترشد بهما البشر الخاطئين كذلك فالمسيح الراعي الصالح يرشد الخاطئين ويهديهم إلى طريق الرب كما فعل مع زكا، السامرية، العشّار ومتى وهو يعلن أن فرح الله والسماء يكمن في الصلاح أي عودة الأشرار إلى طريق الحق.
  • سبل الرب رحمة: كذلك الطريق الذي رسمه الرب يسوع هو طريق الرحمة والمحبة وهو يقول: “تعالوا إليّ أيها المتعبين وثقيلي الأحمال وأنا أريحكم”(متى11: 28)، وهو إذ يجدُ في طلب الضال لا يعاقبه ولا يؤذيه بل يحمله على منكبيه.
  • من أجل اسمك: قالها يسوع مرارًا: لأجل اسمك، مجّدني بالمجد الذي عندك، (يو 12: 28) وكانت كرازته باسم الله “ما أكلمكم به ليس كلامي بل كلام أبي” (يوحنا 4 :10) قدّس اسم أبيه وطلب أن نقدّسه.
  • §        تنعم نفسه بالخيرات: هكذا فإن الرب يسوع الذي أعطى كل شيء لله أبيه نال منه كل شيء كل مجد وكل خير وكل بركة، وأعطاه سلطانًا أن يدين الأحياء والأموات (يو 5 :27).
  • §        نسله يرث الأرض: وقد ورث نسله الذي هو الكنيسة كل مجد فإن نسله فهو يبقى إلى منتهى الأجيال وقوات الجحيم لن تقوى عليهاوهي أم لكل ورثة الملكوت.
  • §        الرب يرشد أتقياءه: هكذا أرشد يسوع كنيسته إلى طريق الحق وأعطاها مهمة التعليم والتبشير.
  • §        يعلن لهم وعده: أعلن لهم عهدًا أبديًا جديدًا كرّسه بدمه وجسّده في سر الإفخارستيا “من يأكل جسدي ويشرب دمي يحيا للأبد وإن مات فسيحيا” (يو 6: 54) هذا هو العهد الجديد.
  • §        أعدائي كثروا: تكاتفت كل القوى ضد يسوع

خدامه: الكهنة ورؤسائهم تأمروا عليه

الملوك: اتفقوا عليه ليهلكوه منذ كان صبيًا

الرؤساء: حكموا عليه بالموت

شعبه: صرخ ضده اصلبه اصلبه

تلاميذه: هجروه وناموا وخانه واحد منهم

لقد تحالفت عليه قوى الشر جميعًا وأهرقوا دمه الذكي وأتمّوا ذلك بكل حماس وكأنّهم يقومون بعمل مقدّس.

  • نجّني يا رب واحفظ حياتي: صرخ إلى أبيه واستجاب له الرب ونجّاه من شرك الموت وحفظ حياته وأعطاه أن يملك عن يمينه إلى الأبد.
  • §        الرب يسوع معلّم مُشبع: فيه كل الكفاية معلّم قادر أن يغفر الخطايا ويستر بدمه الآثام. معلّم قوي، يحصّن النفس ضد الأعداء الروحيين غير المنظورين. ينزع عنها الشعور بالعُزلة بحلوله داخلها، ويعالج شعورها بالفقر إذ افتقر ليغنيها بذاته فهو كنز الحكمة والمعرفة.
  • كيف نعيش نحن المسيحيّين هذا المزمور

يقول القديس أغسطينوس في هذا المزمور: “يتحدّث المسيح هنا باسم كنيسته، لأن مضمون المزمور ينطبق بالحري على الشعب المسيحي الذي رجع فعلا لله”:

  • اذكر يا رب رأفتك: “لأنك أنت هو الله مخلصي، وإيّاك انتظرت النهار كله”: منذ أن طردتني من الفردوس (تكوين 3: 23)، سافرت إلى كورة بعيدة (لوقا 15: 13)، ولم أستطع العودة إليك ما لم تتقابل أنت مع الشارد.
  • الصلاة هي رفع النفس إلى الرب: هكذا يُعرّفنا داود، فقد اعتاد مع رفع يديه وعينيه، أن يرفع نفسه وقلبه إلى الله. تشترك النفس مع الجسد، والقلب مع الفكر، تقدّم الإنسان بكليّته كحمامة تطير لتستقر في حضن الله. أمّا مَن يرفع يديه وعينيه دون قلبه فيسمع توبيخ الرب له مع شعب إسرائيل: “هوذا الشعب قد اقترب إليّ بفمه، وأكرمني بشفتيه، وأمّا قلبه فقد أبعده عني” (اشعياء 29: 13).
  • الصلاة هي رحلة صعود: كما على سلم يعقوب، حيث نترك كل الهموم والمتاعب لتحلّق النفس على قمّة السلم وتتمتّع بالحضن الإلهيّ.
  • بالصلاة نفهم مشيئة الله ونتقبّلها: يتباهى الخطاة بطرقهم أمّا المتواضعون فيقولون مع السيد المسيح: “ليس كما أريد أنا بل كما تريد أنت” (متى 26: 39). من الحكمة أن نلتجئ إلى الله ليكشف لنا إرادته، ونحسبها رحمة أنّه يهبنا أن نتفهّم مشيئته وندركها، يعلنها في الكتاب المقدس ومن خلال عنايته الإلهية في أحداث الحياة.
  • §        الصلاة ليست واجبًا: نلتزم به ولا رسميات، لكنها تحرير القلب من التراب، ليرتفع من مجد إلى مجد، يبقى الإنسان بجسده على الأرض أمّا قلبه فينطلق بجناحي الروح كحمامة تطير في السماء.
  • بالصلاة: يختبر المؤمن في كل يوم أنّه غريب على الأرض: يعيش تحت الآلام، محاط بالأعداء، لكنه متهلل بالروح، سعيد بعربون السماء، ينعم بخبرات الشركة مع الله.
  • كل شيء مجانيّ من قبله: إقرار التائب بخطيئته، والتماس المغفرة، وتسلّم الذات لرحمة الله لا يعني أنه يلزم على الله أن يغفر لأن الخاطئ فعل، فعطايا تسبق طلباتنا، ومغفرته تسبق ندامتنا. وإن فعل فمن أجل مجد اسمه، وإلاّ كيف نستطيع أن نسمّيه الرحيم إن لم يفعلن. يأتي غفران الله للنفس كالماء على الأرض العطشى، يحرّر الإنسان من شرّه.
  • الصلاة تحول الضيق إلى خبرة شركة مع الله: كان داود في مرارة بسبب اضطهاد الأعداء له لكنه كان في مجد، إذ يتكئ على صدر الله مخلّصه، أمّا الأعداءالذين يخطّطون لقتل داود بلا سبب، “يصنعون الإثم باطلاً” ومع كل إمكانياتهم وسلطانهم فقد كانوا في خزي.
  • §        الرب مخلص ومعلم يهب المعرفة: “اظهر يا رب طرقك” يُصلي المرنّم إلى الله كي يظهر له الطريق ويعلّمه ويدرّبه بروح الحب الأبوي كمخلّص، أمّا من جانبه فهو ينتظر النهار كلّه ليتعرّف على سبله ليسلكها بروح الطاعة، يدعوه المرنّم معلّمه أو مدرّبه الرحيم الأبدي الذي يدخل به إلى سبله المقدّسة.
  • §        الصلاة تجعل الثقة في الربّ كاملة: ينادي المؤمنَ صوتٌ من أعماقه، متى طلب من الرب أن يعلّمه طريق وصاياه مؤكّدًا له أن الرب سيفعل بقدر ما يتجاوب المؤمن بتواضع مع نور الرب، بقدر ما يستعدّ أن يضع موضع التطبيق متطلّبات العهد، وذلك بأمانة وثبات واستمراريّة، فلا تكون عودته كالندى الذي يزول ما إن تطلع الشمس.
  • الصلاة تفتح طريق الله نحو السعادة: بعد أن فرغ من صلاته، ما عاد التائب يهتمّ للأعداء مهما كثروا، ما عاد يهتمّ لبغضهم وهو الذي وعده الرب بأن سمّ الحيّات لا يؤذيه، ما عاد يخشى سطوتهم فلن تؤذيه الشمس في النهار ولا القمر في الليل، تسقط بجانبه الألوف بل عشرات الألوف، أمّا هو فيسير بأمان مثل الشعب وراء موسى وسط البحر واللجج. سيدخل إلى “الهيكل”، مركز حضور الله، ويعيش حياة حميمة معه، ستسير حياته كلها معلّقة بالرب، يسأله في كل لحظة: ماذا تريدني أن أعمل يا رب؟
  • بالصلاة تزداد ثقتنا في الله كلما كثرت متاعبنا: إذ يجب أن تدفعنا المخاطر بعيدًا عن ذواتنا، فنسعى طالبين عون الله، يشهدداود له بأنّه لا يتكل على ذاته ولا على أي مخلوق بل على إلهه، فلا يتزعزع ولا يخزى.
  • بالصلاة نسلّم كل طرقنا لله: حيث نتوسّل إليه ليعلّمنا طريقه، ويأخذ بيدنا ويقودنا بنفسه، نتوسّل إليه أن يعمل كل شيء من أجلنا، فنعيش نحن لأجله، ما أضعفنا بدونه لا نستطيع أن نعرف الطريق ولا أن نجدها أو نسلك فيها.
  • §        الصلاة صرخة قلب الإنسان نحو قلب الله: المزمور كله مزيج من صرخات القلب الخارجة من أعماق المرنّم والوعود الإلهية، فلا أستطيع أن أصرخ إلى إلهي ما لم أكتشفه ككنز وأصدّق وعوده الأمينة، وكما أصرخ من القلب أتمتع بمزيدمن الاستنارة، فاكتشف الوعود الإلهية كوعود شخصية تخص حياتي. إنها سلسلة من صرخات القلب والتعرُّف على وعود الله مع كنيسته التي نحن أعضاء حيّة فيها. في هذا المزمور يتحدّث المرنّم عن الله كمعلّم يقدّم له رأفته ورحمته لا كأمور خارجية، إنما هي من صميم سماته الإلهية.
  • الصلاة نافعة لمن يمارسها: كان المخلص نفسه حريصًا أن يعلّمنا ذلك بتقديم نفسه مثالاً حيًا حتى نجاهد مقتدين به، لأنه كما هو مكتوب أنه قال صلّوا على الدوام ولا تملّوا. (ق.كيرلس الإسكندرى)
  • §        الصلاة لأجل الآخرين: كان داود النبي جادًا جدًا في طلبه أن يخلّصه الرب من ضيقاته، لكنه وسط آلامه لم ينس آلام الجماعة ككل، فقد صلّى كي ينقذ شعب إسرائيل، الذي ليس هو بدولة إسرائيل بل كنيسة العهد الجديد. خلّص شعبك، لا من ضيقات الخارج بل من تلك التي في الداخل، لأنك أنت يا الله قد أعددت شعبك لينعموا برؤيتك. (ق. أغسطينوس)
  • الله هو المعلّم الآب: طبيعته حب، لا يحتاج إلى مَن يذكره بمراحمه، لكن داود النبي يقول: “اذكر يا رب رأفتك” إنه يُسر بأن يطالبه الابن بحقه في المراحم والرأفات، بكونه منبع الحب الأزلي، إذ نصرخ: “اذكرنا يا رب” ينير أعماقنا لنذكر نحن رأفته ورحمته، يعلنها لنا، فنطلبها بروح البنوة الواثقة والمترجية دون يأس.
  • §        الله هو ينبوع الحب الأزلي: مصدر الرأفة والرحمة، يقدّم لنا عهدًا بدأ مع آدم، ووضع عند تجديد العالم بعد الطوفان مع نوح، وتأكّد مع إبراهيم، وأخيرًا تحقّق في أكمل صورة على الصليب، حيث كتب الرب ميثاقه في جسده بالدم الثمين، عهد الرحمة والحق على الصليب تعانق الحب الإلهي مع العدل، برحمة الله التي لا تنفصل قط عن عدله. لذا يقول: “جميع طرق الرب رحمة وحق للذين يبتغون عهده”(مز 25 :10).
  • طرق الرب رحمة وحق: لمؤمنيه الحقيقيّين الذين يطلبون عهده ويحفظونه، أمناء في ارتباطهم، ليصيروا بالحق ملكًا له. هم يبتغون الحياة المقدّسة والطاعة للوصايا، مجاهدين لإدراك ذلك بقوة القدوس. أمّا إذا أخطأوا عن ضعف فهذا لا يحرمهم من تمتُّعهم بمواعيد العهد.

خامسًا: المزمور في فكر وأقوال الآباء         

نستطيع أن نقول إننا استعنا كثيرًا بأقوال الآباء سواء في التفسير أو التطبيق. مع أن هذه القصيدة هي شكوى لكن الفكرة الأساسية فيها هي “طرق الرب” التي يتضرّع المرتل طالبًا أن يتعرّف عليها ويسلك فيها. الكلمات الإرشادية الأخرى هي “إيّاك انتظرت النهار كله”، لأن الذين يعترفون بأن الرب هو معلّمهم ينتظرونه ليرشدهم إلى سبله الملوكية.

يقول القديس أغسطينوس: “يتحدّث المسيح هنا باسم كنيسته، لأن مضمون المزمور ينطبق بالحري على الشعب المسيحي الذي رجع فعلاً، إلى الله”.

يقول القديس أغسطينوس: اذكر يا رب أعمالك خلال رحلة حياتي في الأرض تعتمد عودتي إليك على مراحمك؛ التي تفيض إنعامًا، لأن الناس يتهمونك بأنك نسيتنا! فوق هذا كله لا تنسي أن مراحمك هي منذ الأزل. حقًا إنها لا تنفصل عنك. منذ خضع الخاطئ الساقط للباطل لم تتركه بدون رجاء (رو 8: 20). لقد أغدقت على خليقتك بالكثير من تعزياتك العظيمة.

يقول القديس أغسطينوس عن المسيح المعلّم: لهذا المزمور طابعه الخاص، إذ يتحدّث عن السيد المسيح بكونه المعلّم، وقد ركّز على سمة المعلّم كما كشف لنا عن دور التعليم في حياة المؤمنين. فالمعلّم -في عينيّ داود المتالم -لا يقدّم معلومات عقلانية أو معرفة ذهنية مجرّدة، إنّما هو أولاً وقبل كل شيء مخلّص وأب وراعي وصديق وطبيب. كان داود النبي يعاني من الشعور من العُزلة، إذ صرخ: “انظر إليّ وارحمني، لأني ابن وحيد وفقير أنا”… شعور بالعُزلة مع العوز أو إحساس بالنقص! عانى أيضًا من الخطايا خاصة تلك التي لحقت به أيام صباه: “خطايا شبابي وجهالاتي لا تذكرها”. أدرك أيضًا أنه محاط بأعداء يستهزئون به: “لا تُضحك بي أعدائي”، “انظر أعدائي، فإنهم قد كثروا وبغضًا ظلمًا أبغضوني”. في مرارته شعر بمرارة الشعب ككل: “يا الله أنقذ إسرائيل من جميع شدائده”. بمعنى آخر كان داود محتاجًا إلى المعلّم الحقيقي ابن داود الذي وحده يحل كل مشاكله ومشاكل الشعب:

– فهو معلّم شخصي لكل مؤمن خاصة المتألم، وهو معلّم الجماعة ككل ينقذها من شدائدها.

– معلّم مُشبع، فيه كل الكفاية ينزع عن النفس شعورها بالعُزلة، بحلوله داخلها، ويعالج شعورها بالفقر إذ افتقر ليغنيها بذاته كنز الحكمة والمعرفة.

– معلّم قادر أن يغفر الخطايا ويستر بدمه الآثام.

– معلّم قوي، يحصّن النفس ضد الأعداء الروحيّين غير المنظورين.  

يقول مار اسحق السرياني: يعلّم الودعاء طرقه: كل خدام الله الحقيقيّين هم مساكين بالروح، متضعون، ودعاء، منسحقوا الفكر والقلب بسبب خطاياهم السابقة، وبسبب ضعفاتهم الحاضرة أيضًا، طالبين من الله عمل نعمته الإلهية التي تحفظهم من الخطيئة. بهذا الروح يتمتّع الودعاء بعمل الله وعطاياه. وتُستعلن الأسرار للودعاء والمتضعين. هذا يعني أنهم يتأهلون لنوال روح الإعلان يفسّر لهم الأسرار. لهذا يقول القدّيسون بأن الوداعة تكمل النفس بالاستعلانات الإلهية.

يقول القديس يوحنا ذهبي الفم: الصلاة هي تحوُّل القلوب اللحمية إلى قلوب روحانية، والقلوب الفاترة إلى قلوب غيورة، والقلوب البشرية إلى قلوب سماوية.

يقول الأب يوحنا كرونستادت: يا مَن وقفت لتصلّي اعط قلبك لله. قلبك الحقيقي الذي به تحب: به تحب أولادك، وبه تحب أباك وأمك، وبه تحب أصدقاءك ومريديك، وبه تحس عذوبة الحب الطاهر بغير رياء.

يضيف القديس: في كل ليتروجيا أفخارستيا يطلب الكاهن من الشعب: “ارفعوا قلوبكم”، فيجيبونه: “هي عند الرب”.  يُطلب منكم أولاً: “ارفعوا قلوبكم”، فإن هذا يليق بأعضاء السيد المسيح. إذ تصيرون أعضاء المسيح، أين هو رأسكم؟ … إنه في السماء! لذلك عندما يُقال لكم: “ارفعوا قلوبكم”، تجيبون: “هي (رُفعت) عند الرب”. رفع القلب عند الرب هي هبة إلهية، فلكي لا تنسوا هذا لقوتكم أو استحقاقكم أو أعمالكم، لهذا بعدما تجيبون: “هي رُفعت عند الرب” يقول الأسقف أو الكاهن الخديم: “فلنشكر الرب”، إذ ارتفعت قلوبنا عنده. فلنشكره، لأنه لو لم يهبنا نعمته لبقيت قلوبنا متشبثة بالأرض. ها أنتم تشهدون بذلك، إذ تقولون: “مستحق وعادل”، أي نشكر ذاك الذي رفع قلوبنا إلى حيث يوجد رأسنا. عمل العدو أن يمزج نفسي في التراب بالشهوات الدنسة؛ لذا فأنا في حاجة إلى العون الإلهي ليرفع نفسي.

القديس أكليمندس الإسكندري: قد يقول قائل بأن اليونانيين اكتشفوا الفلسفة خلال الفهم البشري، لكننى أجد الكتاب المقدس يقول بأن الفهم هو من عند الله، لذلك يصرخ المرتل، قائلاً: “أنا عبدك فهّمني” (مز 119: 125).

القديس بفنوتيوس: الحق أن القديسين لا يقولون بإنهم بلغوا الطريق الذي يسلكونه بتقدم وكمال في الفضيلة بجهادهم الذاتي، وإنما بفضل الله، قائلين: “دربني في حقك”.

الديداكية: المسيحي في نظر مدرسة الإسكندرية هو غنوسي، أي مؤمن صاحب معرفة  gnosis روحية، يشتاق إليها ويطلبها من الله كهبة إلهية. يجب على الغنوسي أن يكون غزير المعرفة. خلال هذا المفهوم ارتبطت دراسة الكتاب المقدس في ذهن آباء الكنيسة الأولى بالعبادة، فلا إدراك لمفاهيم كلمة الله ولا تمتع بمعرفة أسرار الإنجيل دون الصلاة والطلبة مع الشكر والتسبيح. كان كثير من معلمي مدرسة الإسكندرية يقضون أغلب ساعات النهار في التدريس، بينما يقضون أغلب لياليهم يقرأون الكتاب وهم راكعين للصلاة. أحيانًا إذ يجدوا عبارة غامضة أثناء التدريس يطلبون من تلاميذهم الاشتراك معهم في الصلاة لكي يهبهم الله فهمًا واستنارة ومعرفة.

 القديس الأسقف سرابيون: في العبادة، خاصة في الاشتراك في ليتروجيا الأفخارستيا، تشكر الكنيسة الرب من أجل ما يهبها من معرفة: نشكرك يا أبانا، من أجل الحياة، والمعرفة التي أعلنتها لنا بيسوع ابنك، لك المجد إلى الأبد. هَب لأجسادنا نموًا في النقاوة، ولنفوسنا نموًا في الفهم والمعرفة… خلال تناولنا الجسد والدم.

القديس كيرلس الإسكندرى: ينبوع كل بركة هو المسيح، “الذي من الله قد صار لنا حكمة”، لأننا فيه نصير حكماء مملوئين بالمواهب الروحية. الآن كل من هو ذي عقل راجح يؤكّد أن معرفة تلك الأمور التي بها نتقدّم في كل طريق للحياة المقدّسة الفائقة وفي الفضيلة، هو عطية من الله، وقد أعطانا الله للغلبة. الآن، فإن السبل التي تقود أولئك إلى التقدُّم في الحياة التي بلا فساد يتقدّمون فيها بشوق بالغ هي سبل متعدّدة، أهمها: الصلاة، وهي نافعة لمن يمارسها. وكان المخلّص نفسه حريصًا أن يعلّمنا ذلك بتقديم نفسه مثالاً موضوعًا أمامنا، حتى نجاهد مقتدين به. لأنه كما هو مكتوب أنه قال مثلاً كي يصلّي الناس على الدوام ولا يملوا.

يقول مار اسحق السرياني: كل الحكمة والفهم هما منه، ومعرفة كل الخير تأتينا من فوق من العرش العلوي الفائق، كما من ينبوع. وما من إنسان يقدر أن يفعل شيئًا يستحق المديح ما لم ينل قوة منه؛ “بدوني لا تقدرون أن تفعلوا شيئًا”.

الأب دوروثيئوس من غزة: ” كل خدام الله الحقيقيّين هم مساكين بالروح، متضعون، ودعاء، منسحقوا الفكر والقلب بسبب خطاياهم السابقة وجهالاتهم، أيضًا بسبب ضعفاتهم الحاضرة، طالبين من الله عمل نعمته الإلهية التي تحفظهم من الخطية. بهذا الروح الوديع يتمتّع الودعاء بعمل الله وعطاياه”.

وأخيرًا يرى القديس أغسطينوس: أن الذين يبتغون العهد الإلهي ينعمون بالرحمة التي أعلنها ربنا في مجيئة الأول وأيضًا ينعمون بالحق الذي سيعلنه في مجيئه الثاني وإن كان الحق يرافق الرحمة والرحمة تلازم الحق. لأن أولئك الذين في وداعة ولطف يبحثون عن العهد الذي به افتدانا ربنا إلى جدة الحياة بدمه، ويدرسون شهاداته في الأنبياء والإنجيليّين، هؤلاء يدركون رحمته في المجيء الأول وحقّه في مجيئه الثاني.

خاتمة المزمور

مع أن هذه المزمور ُيصنف كقصيدة شكوى وتوسُّل، لكن الفكرة الأساسية فيه هي “طرق الرب”، التي يتضرّع المرنّم طالبًا التعرُّف عليها وتعلُّمها والسلوك فيها. لذا فلهذا المزمور طابع خاص، إذ يتحدّث عن السيد المسيح بكونه المعلّم. وقد ركّز على سمة المعلّم كما كشف لنا عن دور التعليم في حياة المؤمنين؛ فالمعلّم في عينيّ داود المتألم لا يقدّم معلومات عقلانية أو معرفة ذهنية مجرّدة، إنما هو أولاً وقبل كل شيء مخلّص وأب وراعي وصديق وطبيب.

عمل المعلّم القدوس هو أن يهب الحياة الكاملة، فيقدّم ناموسًا وشريعة وطريقًا ملوكيًا ووصية مقدّسة تقود وتحفظ وتقدّس، وتهب استقرارًا في الله الخير الأعظم. ويمنح ميراثًا مقدّسًا ثم كشفًا عن الأسرار الإلهيّة حيث يكشف الرب الحق لخائفيه ويقدّسهم.

هكذا تتحوّل المعرفة الإلهيّة إلى تدريب حيّ في كيفية الحياة مع الله ومن ثم إلى حياة مُعاشة، وليست مجالاً للحوار والمناقشة النظرية البحتة فقط؛ بل يدربنا الرب نفسه في الحق، فنجد في تعاليمه العملية   أسلوب الحياة التي ترضيه وننال نحن هذه الحياة بدخولنا معه في عهد نعمته، متقبلين إرشاده الإلهي ومتمتّعين بنعمته.

يقول أحد الآباء ما أسهل أن يدرّب الإنسان الطيور لتتكلّم والحيوانات المفترسة لتصير أليفة، أمّا النفس البشرية فلا يقدر أحد أن يدرّبها إلاّ الله وحده، مدرّب النفوس، ومقدّس الأجساد، وضابط الفكر بروحه القدوس.كل الحكمة والفهم هما منه، ومعرفة الخير من فوق تأتينا، كما من ينبوع صاف يهب ماء الحياة. وما من إنسان يقدر أن يفعل شيئًا يستحق المديح ما لم ينل قوة منه؛ وهو يعلّمنا ذلك بنفسه، قائلاً: “بدوني لا تقدرون أن تفعلوا شيئًا” فمن جانب المعلّم الإلهي بفيض العطاء ليهب الاستنارة والفهم مع الإرشاد والتدريب للتمتُّع بمعرفة وممارسٍة حياة الله؛ ومن جانبنا الالتزام بروح الوداعة والاتضاع، فتتهيأ نفوسنا لقبول عطايا روحه القدوس.

كم نستشعر في هذا المزمور الألم الناتج عن الخطيئة، ونفهم أن الغفران المنتظَر ما هو سوى علامة الخلاص المرجو، لأن الله غفور رحيم. وهذا ما سيتعلّمه المؤمن بصلاته هذا المزمور حيث سيعرف أن الله محبّة وأساسها الغفران، وأنه المطلوب هو الإيمان أي الثقة العمياء بالله وبرحمته.

كما يعبّر هذا المزمور عن الروح التي دفعت يسوع إلى أن يتأنس، فيربط مصيره بمصير الخطأة (مت 9: 11) ليقودهم نحو القداسة التي يتوق اليها صاحب المزامير (ا تيم 1: 15) فقد مات يسوع من أجل الخطأة (رو 5: 8) وما استحى أن يدعوهم إخوته (عب 2: 11)، بل أراد لهم أن يسيروا في حياة جديدة (رو 6: 4) لتكون لهم الحياة وتكون لهم أوفر غير خائفين من مغبة الجهاد ضد القوات المعادية (أف 6: 10-12) لأن نعمة الرب وقدرته سلاحهم، ولأن رجاءهم أبدًا لن يخيب. هكذا تظهر رحمة الله التي يحتفظ بها للخطأة. ويبقى علينا أن نفسّر هذا المزمور على أنه مديح لله الذي كلّم البشر وأوحى لهم كيف يدوّنون هذه الكلمة وينقلونها فيسمعهم الآخرون ويفهمون ما يقولونه لهم. ثم نصلّي هذا المزمور فنمدح كلمة الله اليوم كما بالأمس ونقول: يعلّم الخاطئين طريقه ويُشركهم في عهده.

صلاة بروح المزمور

أيها المعلّم عرّفني طريقك

ربي وإلهي، أيها الآب القدوس،

 أيها الكلمة الإلهي والمعلم،

أيها الروح القدس المتكلّم في الأنبياء والرسل

إليك يا رب وإلهي أبتهل وعليك توكلت فلا أخزى

 كل مَن يرجوك لا يخزى، ولا يذهب صراخه باطلاً

علّمني يا رب طريقك وسبلك عرّفني.

 اهدني بحقك وعلّمني، فأنت الله مرشدي ومخلّصي،

وإيّاك أرجو نهارًا وليلاً.

 اذكر رأفتك ومراحمك، فهي يا رب منذ الأزل وإلى الأبد

 لا تذكر معاصيّ وخطايا صباي،

بل برحمتك اذكرني، وتغاضى عن آثامي

من أجل اسمك يا رب اغفر ذنوبي الكثيرة

لأنك يا رب صالح ومستقيم  

سبلك يا رب رحمة، لمن يحفظ عهدك وفرائضك

أنت تهدي الخاطئين إلى الحق وتعلّم المساكين طرقك

أنت ترشد أحبائك، ولهم تعلن عهدك

 أنت تعلّم مَن يخافك طريق الروح والحق والحياة،

وأنا عيناي ترنوان إليك كل حين،

وقد حفظت طرقك منذ حداثتي

 فتحنّن يا رب والتفت إليّ لأني وحيد ومسكين.

 انظر إلى عنائي وتعبي، واغفر جميع خطاياي.

خلّصني يا إلهي واحفظ حياتي.

نجني يا رب من التجارب وافتدني من جميع الضيقات

فرّج الضيق عن قلبي، ومن كل شر نجني

أنت من يخرج من الشرك رجلي.

أيها الرب فخلّصني من عُزلتي وانزع عني بؤسي،

بك احتميت فلن أخزى، فأنت شبعي وكنزي

لست بارًا ولا قديسَا بل خطيئتي أمامي في كل حين

لكن تشفع لي نزاهتي وأنت أيها الرحيم رجائي.

احملني إلى صليبك فأتمتّع بعهدك الأبدي!

احملني إليك أيها الخيّر الأعظم.

 ثبّت نظراتي فيك، ولتتطلّع أنت إليّ

فأتعلّم وأعرف… آمين

فهرس المزمور الخامس والعشرين

الرب ملجأ المضطهدين

أولاً: تقديم المزمور   

ثانيًا: نص المزمور وتقسيمه   

ثالثًا: تفسير المزمور

استهلال: بداية المزمور (1)

مقدّمة: الله لا يخيّب ثقة من يؤمن به (2-3)

القسم الأول: تائب ينتظر مغفرة الله المخلّص (4-7)  

القسم الثاني: إرشاد أول؛ نداء للثقة بالله (8-11)

القسم الثالث: إرشاد ثان؛ التوبة والاعتراف (12-15)

القسم الرابع: المرنّم يعود يتذكّر خطاياه (16-19)

 القسم الخامس: من يرجو الرب لا يخيّب (20-22)

رابعًا: تطبيق المزمور 

كيف عاش الرب يسوع هذا المزمور

كيف نعيش نحن المسيحين هذا المزمور 

خامسًا المزمور في فكر واقوال الآباء

خاتمة المزمور  

صلاة بروح المزمور

فهرس المزمور الخامس والعشرين