المزمور السادس والعشرون: السلوك بالاستقامة

المزمور السادس والعشرون: السلوك بالاستقامة

همسات الروح

تأمُّل في سفر المزامير

بقلم الأب/ بولس جرس

المزمور السادس والعشرون

السلوك بالاستقامة

أولاً: تقديم المزمور:

يمكن أن يُعتبر هذا المزمور كمزمور البراءة كما يمكن قراءته كمرثاة شخصية لشخص اتُهم ظلمًا بجريمة خطيرة. كذا يمكن ربطه بالمزمورين السابع وبالمزمور السابع عشر، ويُعتقد أن هذا المزمور قيل بمناسبة اضطهاد شاول لداود، بسبب وشايات أُناس السوء (مجمع الأشرار) والمنافقين (الماكرين) أو إبّان ثورة أبشالوم ضد أبيه داود ففي هاتين المناسبتين صوّر الأعداء داود كإنسان شرير جدًا، واتهموه زورًا بعدّة جرائم، أهمها:

1. خيانة وطنه وأمته، إذ هرب إلى أمم أخرى وترك شعبه.

2. استخفاف بالعبادة الجماعية والتخلّي عن بيت الرب.

3. الاشتراك مع الوثنيين في عبادات وثنية وممارسات خاطئة.

4. تدبير مقتل ايشبوشث بن شاول بيد بعنة وركاب كما ظن البعض (2 صم 4: 5-12).

 لذا وجّه داود هذا النداء للسماء ليعلن براءته من كل تلك الجرائم. كما يرى بعض الدارسين أن هذا المزمور هو مرثاة جماعية، يتحدّث المرنّم فيها بصيغة المفرد، لكن كممثّل للجماعة بكونها وحدة واحدة. ويُحتمل كذلك أن يكون المزمور تسبحة للكهنة قبل تقديمهم الذبائح وهم يغتسلون بحسب الطقس كما جاء في “فعند اقترابهم إلى المذبح للخدمة ليوقدوا وقودًا للرب، يغسلون أيديهم وأرجلهم لئلا يموتوا”(خر30: 20، 21). بل يذهب البعض للقول إن هذا هو صوت الحاج الزائر لبيت الرب، يُعلن أمامه أنه قد حقّق شروط القبول للدخول ببيت الله المقدس، تمامًا كما يُناسب المزمور صلاة كل من ينشد حماية الله أثناء دخوله إلى حضرته في الهيكل. كما يُحسب أيضًا كإحدى الصلوات الجماعية، حيث تعلن الجماعة ككل استعدادها للعبادة المقدّسة فكثير من عباراته يمكن الترنُّم بها باسم الجماعة.

  • مزمور ليتورجي: في النهاية يمكن اعتبار هذا المزمور طقسًا فعّالاً يُمارس قبل الدخول أو على الأقل قبل الشروع في ممارسة الشعائر الدينيّة، وفيه اعتراف يؤهِّل الشخص للاشتراك في العبادة، اذ يُعبّر المرنّم هنا عن المعنى الباطني للطقس، ألا وهو الطهارة والفرح أمام الله الذي لا يُقترب منه إذ يقترب هو إلينا. كما أنّه حلقة في سلسلة المزامير التي تتحدّث عن بيت الرب وهي المزامير: (26-27-28):
  • ففي هذا المزمورال 26 يقترب العابد إلى لله بالنقاوة والتسبيح للتمتُّع بجمال هيكله؛ وفي الأعداد الأخيرة يعلن عن بهجته بالخلاص ويتهلل قلبه لقربه من الرب.
  • وفي المزمور ال 27 يرى المرنّم هذا البيت ملجًا له وملاذًا من مطاردة أعدائه، وفيه يشعر أنه محمي بالحضرة الإلهية، فهو المكان الذي يتراءى فيه الرب، ويلتقي معه المؤمن وجهًا لوجه.
  • أمّا في المزمور ال 28 فيقدّم تضرُّعه متجها نحو قدس الأقداس باسطًا يديه متوسلاً، ليتلقّى إجابة الرب.
  • مزمور مسياني: يرمز داود النبي في هذا المزمور إلى يسوع المسيح نفسه، البار الذي صار عارًا في عيون البشر من أجل البشر، فهو خير من يتلو احتجاج البراءة هذا بكونه “رئيس كهنة… بلا عيب ولا شر ولا دنس، قد انفصل عن الخطاة” (عب 7: 26)، وقد قاسى الرب من ظلم العدالة “لست أرى في هذا الرجل جريمة يستحق الموت”؛ لكنه بكل بساطة يغسل يديه وهو يقول: “إني بريء من دم هذا الرجل” ( ) وهو الحاكم الباطش القادر بكلمة أن يبرأه ويُطلقه. كما عاني يسوع من الاتهام الظالم من قِبَل الكتبة والفريسيّين وعلماء الشريعة ورؤساء الكهنة بينما كان ينبغي أن يكونوا هم في الصفوف الأولى يدافعون عنه ويدعمونه… كما عانى عذاب الرفض والخيانة والنكران بجانب الجلد والحمل الصليب والتكلُّل بالشوك والموت نازفًا دماه على الصليب حتى القطرة الأخيرة “فخرج من جنبه دم وماء” (يو    ) حتى الموت وهو الذي لم يفعل شرًا ولم يوجد في فمه غش ولم يستطع أحد  أن يبكّته على خطيئة واحدة…

كذلك يمكننا نحن أيضًا تلاوة هذا المزمور عندما نكون في حضرة السيد المسيح. يقول القديس أغسطينوس: “داود هنا يمثّل لا الوسيط الإنسان يسوع المسيح فحسب، بل الكنيسة كلها القائمة بالكمال في المسيح”. ينقسم المزمزر إلى ثلاثة أقسام ويدور الموضوع حول ثلاث محاور:

  1. دفاع النبي عن كماله: تصف الآيات الثلاث الأولى إنسانًا يصف نفسه بأنّه كامل يسلك في الكمال؛ ممّا قد يُشعر البعض بالغرابة، ولهذا السبب تبدو لغة هذا المزمور غير جذابة بالنسبة لكثير من المسيحيّين، إذ يظنون أن ثقة المرنّم في نفسه ومدحه لذاته هكذا، قائمة على اتكاله نفسه وتضخُّم الأنا لديه وتنامي شعوره بالبر الذاتي وأعماله الصالحة، فينتقدوه بسبب افتخاره، وقارنوه بالفريسي المذكور في مَثَل الفريسي والعشار (لو 18: 9 الخ).
  2. مضمون هذا الكمال: يجدر بنا ملاحظة أن الكلمة هنا تعني مجرد تبرئة ذاته من الاتهامات السابق الإشارة إليها والموجَّهة إليه شخصيًا. كما يعني أيضًا أنه بصلاح قلبه وبنواياه الصادقة خال من كل نية شريرة، وسالك بنقاوة وبراءة. ولا عجب في ذلك فهكذا قد وصف الله نفسه، سلوك داود عبده عندما ظهر لسليمان ابنه في المرة الثانية، إذ ذكَّره بداود أبيه قائلاً: “وأنت إن سلكت أمامي كما سلك داود أبوك بسلامة قلبه واستقامته، وعملت حسب كل ما أوصيتك، وحفظت فرائضي وأحكامي، فإني أقيم كرسي مُلكك” (1 مل 9: 4-5). ممّا يؤكّد أن داود قد سلك بالكمال كما يصرّح في هذا النص، بالرغم من كونه إنسان خاطئ، بعيد عن أن يكون كاملاً. أمّا سليمان ابنه فقد سقط بائسًا. لكن هناك ابن آخر لداود، هو من أصل داود وذريّته، هو ابن داود وربه، إنّه يسوع المسيح؛ الذي هو بلا خطية وحده، وكما قال بنفسه: “أن رئيس هذا العالم آت وليس له فيّ شيء” (يو 14: 30)، “مَن منكم يبكتّني على خطيئة واحدة”. هو وحده القادر أن يقدِّم هذا الاحتجاج حرفًا ونصًا وروحًا وبطريقة كاملة!
  3. طلب عدل الله: طِلبة المرنّم “احكم لي يا رب” إنّما تعني “دافع عني يا الله”. بمعنى: “احكم لي ودافع عني”؛ كثيرًا ما يُحكَم على المؤمن البار ظلمًا، فيصرخ إلى الله طالبًا عدالته ورحمته، فالله وحده هو المحامي والمدافع عن المسكين والمظلوم والضعيف، إنّه ديّان الجميع ومخلص مَن يصرخون نحوه. وخير ما يؤكّد هذا المعنى هو قول النبي نفسه في نفس المزمور آ 11 “وأنا بدعتي سلكت، فأنقذني وارحمني” ممّا يثبت أنه لم تغب عن ذهن المرنّم حاجته الشخصيّة الملّحة إلى الفداء، واعتماده الكامل على نعمة الله ورحمته، لا على برّه الشخصي. فإن كان داود النبي يطلب من الله أن يفحص قلبه وكليتيه، فهذا لا يعني نوعًا من الكبرياء، إذ يقول: “على الرب توكلّت فلا أضعف”. ولعلدفاع المرنّم عن نفسه يقصد منه رفع العثرة عن الشعب حتى لا يهلكوا بسببه،فكل ما يقوم به الإنسان من أعمال برّ وصلاح   إنّما هو عطية إلهيّة.

بالمثل نرى القديس بولس الذي لم يشأ الدفاع عن نفسه ولا حتى الافتخار بنفسه، إذ يقول: “وأمّا أنا فأقل شيء عندي أن يُحكَم فيّ منكم أو من يوم بشر” (1 كو 4: 3)، “نحن ضعفاء وأمّا أنتم فأقوياء، أنتم مكرّمون وأمّا نحن فبلا كرامة”، لكنه إذ شعر أن الاتهامات الموجّهة ضده  حقه في الرسوليّة وتعاليمه الإنجيليّة قد تمس مصداقيته لدى المؤمنين، ممّا اضطره  للدفاع عن نفسه بقوة، “اقبلوني ولو كغبي لأفتخر أنا أيضًا قليلاً” (2 كو 11: 6).

ثانيًا: نَص المزمور وتقسيمه

القسم الأول: دفاع النبي عن كماله                        (1-3)

1.”احكم لي يارب فإني بدعتي سلكت. وعلى الرب توكلت فلا أضعف”.

2.”ابلني (افحصني) يارب وجرّبني، احم قلبي وكليتيَّ”

3.”لأن رحمتك أمام عينيّ هي، وقد أرضيتك بحقك”.

القسم الثاني: دفاعه عن هجره شعبه وبيت الرب        (4-8)

4.”لم أجلس مع محفل باطل، ومع مخالفي الناموس لم أدخل”.

5. أبغضت مجمع الأشرار، ومع المنافقين لم أجلس”.

6.أغسل يدي بالنقاوة فأطهر وأطوف بمذبحك يا رب

7.لأرفع صوت الحمد وأحدّث بجميع عجائبك

8.أُحبّ بيتًا تقيم فيه ومقامًا يسكن فيه مجدك

القسم الثالث: طلب الخلاص والرحمة                        (9-12)

9.  لا تجمعني مع الخاطئين ولا مع سافكي الدماء

10. والذين أعمالهم مذمومه ويمنهم امتلأت رشوة

11.  وأنا في النزاهة أسلك فافتقدني وتحنّن علي

12. لتقف قدماي في أرض آمنة وفي المجامع أبارك الرب.

ثالثًا: تفسير المزمور

القسم الأول: دفاع النبي عن كماله                       (1-3)

  1. “احكم لي يارب فإني بدعتي سلكت. وعلى الرب توكلت فلا أضعف”

لم يكن أمام داود النبي – وقد وجّه إليه الأعداء اتّهامات باطلة تمس إيمانه وحياته وتُعثر شعبه فيه فهو الملك والقائد ومسيح الرب– إلاّ أن يستغيث أمام محكمة العدل الإلهي، حيث يقوم الله نفسه بالفصل في الأمور وهو فاحص القلوب العالم بكل الظروف الخفية والظاهرة. وها المرنّم يقدّم ضميره شاهدًا على نقاوة قلبه وإخلاصه مؤكّدًا أنه ظل ثابتًا رغم المحن، وأنّه حفظ ضميره صالحًا، ووضع رجاءه واتكاله على الرب. لهذا يتوسّل من أجل أن يتفحّص الرب قضيته، طالبًا منه أن يكون قاضيًا بينه وبين الذين يتهمونه. إنه لا يستطيع أن يبرّر نفسه أمام الاتهام بالخطيئة، لكنّه من خلال الحب الإلهي يستطيع الله أن يتبرّر من التهم الباطلة. فالله نفسه هو الشاهد على صدق قلبه وحُسن نواياه.

  • احكم لي يارب “

 تُعَدرغبة النبي في أن يُحاكَم أمام الله أمرًا خطيرًا، فمكتوب “مرهوب ومهيب هو الوقوع في يدي الرب” ومهما كانت ثقة داود النبي من براءته قوية، يظل الوقوف بين يدي الله أمر يستوجب الخوف والرعدة ويبقى الوقوف أمامه في محكمة العدل الإلهي أمر جاد وصعب للغاية، فما هي تلك المحاكمة وذاك الحكم التي يتوق إليها النبي سوى تلك التي تثبت براءته وطهره وانفصاله عن الأشرار…

  • “فإني بدعتي سلكت”

هذا ما يشفع له أمام المحكمة الرهيبة: ليس برّه الشخصي ولا برارته وقداسته، بل وداعته ونزاهته وصدق قلبه… بهذا يقف شامخًا.

  • «              وعلى الرب توكلت”

 يقول القديس أغسطينوس: “من يترنّح بين الأشرار هو إنسان لا يضع ثقته في الرب، فإن مثل هؤلاء يثيرون شقاقات. هل وضعت ثقتك في إنسان؟ إذن، فإنك ستتذبذب كلما يتذبذب هذا الإنسان، وتسقط عندما يسقط الإنسان، لكنك إذ توكّلت على الرب تبقى ثابتًا”.

  • “ابلني (افحصني) يارب وجرّبني، احمِ قلبي وكليتيَّ”

جاءت الكلمة المرادفة للفحص هنا بمعني “الصهر” وهي عملية امتحان المعادن وفحصها بالنار (مز 12: 6؛ 17: 3)؛ فاشتياق المرنّم أن يمتحنه الله مرة ومرات، يعبّر عن ثقته ببراءته فيما نُسب إليه من تهم يعرف أنّها باطلة، لذا فهو يصرخ نحو الرب طالبًا منه محاكمة إلهية عاجلة وعلنية بحيث يثبت أمام الله والناس براءة نفسه ويعلنها، فالمرنّم موقن بأن نتيجة ذلك الفحص الإلهي الدقيق إنما يزيده تزكية وبهاءً ومجدًا.

  • إبلني

 إذ أخشى أن تفلت مني بعض الأخطاء السرية، فامتحني أنت يارب وجرّبني، أي اكشف أعماقي، فليس مثلك مَن يرى كل شيء ويعلم كل الخفايا وما من شيء يختفي، إبلني وامتحنّي أمامك وأمام نفسي وأمام اخوتي البشر العبيد زملائي… بل أعطِ داوءً لرغباتي وأفكاري الدفينة حتى تطهر كما بلهيب.

  • جرّبني

“افحص يا إلهي كل أركان حياتي جسدي وروحي، قلبي وكليتي، تعرّف على رغبات نفسي الدفينة، جرّب خواطر قلبي، امتحن أفكاري بالنار، فأنا واثق ومتأكد أنها لا تحيا في الحطيئة، وأن الشر لا يثيرهاولا يستطيع أن يتملك عليها. أية نيران تفحص قلبي وتجرّبه؟ نار كلمتك، لهيب روحك. هذه هي النار وُصفت في موضع آخر بالكلمات: “لا شيء يختفي من حرها” (مز 19: 7). كما قال الرب بدوره عن هذه النار “قد جئت لألقي نارًا على الأرض” (لو 12: 49)”.

  • “احمِ قلبي وكليتيَّ”   

من أجل هذا التطهير الواهب حياة والمانح الحكم العدل، يُصلّي داود، قائلاً: “جرّبني يا رب وامتحني، افحص كليتي وقلبي.يعلن المرنّم اقتناعه ببراءته التي هي بلا شك ثمرة عمل الله نفسه في حياته، نجده يقصد رحمة الله التي لا تفارق عينيه أبدًا.

القسم الثاني: دفاعه عن ترك الشعب                  (4-8)

4.”لأن رحمتك أمام عينيّ هي، وقد أرضيتك بحقك”

يتذكّر داود النبي مراحم الله في ماض حياته، وهو يُعوّل عليها في حاضره ويعبّر عنها بأفكاره الحاضرة، في صلاته ويترجّاها في مستقبل أيامه بعد أن يمتحنه الله ويصدر حكمًا ببراءته أمام شعبه وينصره على جميع أعداءه الذين يضطهدونه ويطاردونه ويتهمونه بالباطل أيامه.

لا تقوم تقواه أو براءته على قداسته الشخصية، بل ترتكز على أساس سمات الله وعنايته الإلهية نحو شعبه بوجه عام، ونحو شخص داود بوجه خاص، ومن ثم كان الفيض المبهج للتقوى والرحمة والرأفة المملؤة حبًا، لهذا يركّز أفكاره على هذا الجانب من شخصية الله. بقوله “أرضيتك (ابتهج) بحقك” مشيرًا إلى تهمة عبادة الأوثان التي حاول الأعداء إلصاقها به، فإنه وإن كان قد اضطر إلى الهروب من وسط شعبه إلى حضن شعب وثني غريب؛ لكنه لم يحد قط عن الحق الإلهي ولم يتوجّه إلى زيف الأوثان، بل ظل في أعماق قلبه متمسكًا بالله الحق ومستمدًا منه وحده بهجته.

5.” أبغضت مجمع الأشرار، ومع المنافقين لم أجلس”

يُعرف الناس من أصدقائهم الذين يختارونهم، هكذا يتفق الناس في جميع الأمم، “قُل مَن هم أصدقاءك أقول لك مَن أنت”. فإن كان داود النبي قد اضطر إلى الهروب من وسط شعب الله إلى بلد وثني وصار بالتالي مضطرًا أن يخالط ويرافق مَن استقبلوه واستضافوه بينهم، حين طاردوا أعداؤه وهجره أتباعه؛ لكن لم تكن له رفقة مع أعمال الظلمة غير المثمرة ولم يشارك أولئك الأشرار في خطاياهم. فالفكرة السائدة في المزامير هي عدم مسايرة الأشرار ولا الاشتراك معهم في ممارساتهم الوثنية وعباداتهم الباطلة، هذا بجانب اعتبار جميع الوثنيين مجمع أشرار، هم فعلاً محفل باطل، منافقون ومخالفون للناموس ولا يعرفونه، وقد التجأ إليهم داوود مضطرًا، لكن لا شركة له معهم في عمل أو فكر؛ فهو لم يدخل معهم في عهود ولم يجلس معهم في مشوراتهم ولم يتبنّى سلوكياتهم.

هذا أمر واقع في حياة كل مؤمن، فمجرد الوجود في العالم لا يُلزمه أن ينعزل كلية عن أهل العالم، “لَوْ كُنْتُمْ مِنَ الْعَالَمِ لَكَانَ الْعَالَمُ يُحِبُّ خَاصَّتَهُ. وَلكِنْ لأَنَّكُمْ لَسْتُمْ مِنَ الْعَالَمِ، بَلْ أَنَا اخْتَرْتُكُمْ مِنَ الْعَالَمِ، لِذلِكَ يُبْغِضُكُمُ العالم” (يو 15: 19)، وإلاّ كان يلزمنا الخروج من العالم (1 كو 5: 10)، لكن ما يتوجّب على المؤمن حقًا هو ألاّ يشارك أهل العالم أفكارهم الدنسة وتصرُّفاتهم الشريرة. بل يجب أن يُنزع نفسه ويبتعد عن الدنس ليصير في حضن الله، مفضّلاً البقاء معه والاتحاد به والسكنى في بيته، هيكله المقدس، حيث مجّده. وهكذا يلزم اعتزال الأشرار (من جهة شرّهم) للدخول في حضرة الله القدوس. لهذا السبب وُضعت المرحضة بين خيمة الاجتماع والمذبح، ليغسل فيها الكهنة أيديهم وأقدامهم قبل اقترابهم من المذبح والخيمة (خر 40: 30-32).

  • ” أبغضت ”

ربما يجد البعض في هذا التعبير نوعًا من القسوة؛ والفعل اليوناني لا يعني إحساس بالكره بل بعدم التفضُّل، “مَن يأتي إليّ ولا يبغض أباه…”(). فالرب يسوع لا يطلب منّا هنا أن نكره والدينا بينما هو مَن يأمرنا بمحبة الأعداء. لكن المرنّم وقد تلامس مع الله الحالّ في الهيكل بين الأبرار من شعبه المختار، يدرك أن الشيطان يحل في مجمع الأشرار، ليستخدمهم كأدوات لعمله وكآلات موت لحساب الشر. وكأن المرنّم يعلن هنا أنه قد اختار البقاء مع شعب الله لينعم بالحضرة الإلهية، مبغضًا مجمع الشيطان، اختار جماعة القديسين لا مجلس الأشرار، اختار أورشليم العليا لا بابل الزانية، اختار نسل المرأة ليرفض نسل الحية… فإنه لا شركة بين النور والظلمة!

  • “لم أجلس مع محفل باطل”

 إلى أي شيء يرمز الجلوس؟ أن يكون الشخص بقلب واحدٍ مع مَن يعاشرهم. إن لم يكن قلبك هناك على الرغم من وجودك معهم، فأنت لا تجلس معهم، أمّا إن كان قلبك هناك فأنت تجلس معهم حتى وإن كنت غائبًا عنهم (بالجسد) يقول القديس أغسطينوس: كان داود النبي محرومًا من شعبه ومن بيت الله بهروبه إلى بلد وثني، لكنه كان بقلبه يجلس مع أتقياء شعبه ويشارك العابدين بالروح والحق. هرب الابن الضال من بيت أبيه يطلب الجلوس في محفل الأشرار، فإذا به يشارك الخنازير خرنوبهم، وإذ رجع بقلبه إلى حضن أبيه تمتع بمحفل بهيج وكريم.

“لنهرب من محافل الأشرار، لأن غضب الله معلَن من السماء على جميع فجور الناس وإثمهم” (رو 1: 18)، ولنعتزل جماعتهم لئلاّ نسقط تحت الضربات معهم (رؤ 18: 4) … ونُحرَم من المحفل السماوي والحضرة الإلهية، كما أن عملية اعتزال الأشرار قد تدفعهم إلى إعادة التفكير والتوبة عن شرورهم والعودة إلى طريق الرب يومًا ما، أمّا الاختلاط بهم في شرورهم والتهاون في عيش وتقديس الحياة مع الله، فبجانب ما قد يسبّبه من ضياع يقود إلى الهلاك، فإنه أيضًا لا يعطيهم فرصة أن يتفكروا فيفطنوا إلى خطورة حالتهم ويتوبوا.

6. “أغسل يديَّ بالنقاوة.وأطوف بمذبحك يارب”

ها هو داود يمر بالمرحضة ليغسل يديه بالنقاوة وقد وُضعت المرحضة بين خيمة الاجتماع والمذبح، ليغسل فيها الكهنة أيديهم وأقدامهم قبل اقترابهم من المذبح والخيمة. وكأنّه يقدّم نفسه ككاهن روحي، فلم يكن داود كاهنًا ولا لاويًا…لكنه وقد اضِّطر للهروب من وسط شعبه، والبعد عن العبادة الجماعية في هيكل الرب المقدس؛ يُعلن أنه وإن تواجد في عالم الأشرار والمنافقين، فلم يشاركهم مخالفة الناموس ولا أعمال حياتهم الشريرة؛ ولم ينغمس مطلقًا في رجسهم، وقد أدرك أنه بالرغم من أنه طريد غريب وسط غرباء في أرض غريبة، إلاّ أنه حاضُر بقلبه ليس فقط وسط شعب الله، وإنّما هيكل الله وها هو يشارك الكهنة خدمتهم المقدّسة. إنه حاضر بالروح في الخيمة، يغسل يديه ويتطهّر كالكهنة، لا بمياه المرحضة وإنما بنقاوة القلب الداخلي. وها هو يطوف حول المذبح، لا بجسده وإنما بشوق قلبه الداخلي وحبه الملتهب، بل لا مبالغة إذ يسمع التسبيح السماوي بأذنيه الروحيتين، ويتحدّث عن عجائب الله… وكأنّه لا توجد قوة ما حتى غيابه الفعلي بالجسد، يمكن أن تمنعه عن التمتُّع بجمال بيت الله. وفي إطار المحاكمة القائمة، تدل هذه العبارة على أنه حفظ نفسه من خطيئة عبادة الأوثان.

  •   “أغسل يديَّ بالنقاوة”

فكأن النبي يغسل يديْ نفسه أمام الله قلبيًا، فقد كان ملاصقًا لمذبح الله روحيًا. فإذا كانت عادة الكهنة أن يطوفوا حول المذبح أثناء تقديم الذبيحة، ومقدموا الذبيحة أيضًا يمارسون الفعل ذاته مشيرين بهذا إلى اجتهادهم وجديتهم بخصوص ما يُفعل (تقديم الذبيحة عن خطاياهم) ومن ثم عن خطايا الشعب، وأنّهم يقومون بخدمة الرب بجدية. فإن داود هنا يفعل نفس الشيء لكن بطريقة روحية رمزية.

ربما عنى داود النبي بغسل يديه بالنقاوة إظهار براءته من الاتهامات الموجّهة ضده، ومن الجرائم التي نُسبت إليه ظلمًا. وإن كان غسل الأيدي عملاً رمزيًا للنقاوة، لكن غالبية اليهود ركّزوا كثيرًا على الفعل في ذاته. فقد قيل بين اليهود: “كل مَن يحتقر غسل الأيدي يُقطَع من المجمع، ويصيبه الفقر، وسوف يُنتزع من العالم!” وفي قول آخر: “كل مَن كان له مقعد في أرض إسرائيل، ويأكل طعامه العام بطهارة وينطق باللغة المقدّسة، ويردّد صلواته صباحًا ومساءً، فليتيقن أنّه سينال حياة الدهر الآتي”. ويخبرنا اليهود أن أحد أفاضلهم R.Aquiba إذ كان في السجن ولم يكن لديه ماء كافٍ ليشرب ويغسل يديه اختار أن يمارس العمل الأخير، قائلاً: “من الأفضل لي أن أموت عطشًا عن أن أتعدّى التقليد”.

وهنا يجب أن ندرك أن النبي لا يتوقّف على الفعل ذاته بل على الرمز وليس بماءٍ منظور. فكأنك تغسل يديك من خلال أفكار مقدّسة ونقية في عينيْ الله، وفي هذا يقول القديس أغسطينوس: “حيث يوجد مذبح روحي قائم أمام عينيْ الله، يدخل إليه الكاهن (المسيح) الذي قدّم نفسه أولاً ذبيحة من أجلنا. هذا المذبح عالٍ، لا يستطيع أحد أن يدركه إلاّ مَن يغسل يديه بالنقاوة”.  

نلاحظ في طقوس ذبيحة اإفخارستيا في جميع الطقوس، أن الشماس يقدّم للكاهن ماءً ليغتسل أمام المذبح الإلهي؛ وهو بالتأكيد لا يقدّمه بسبب افتقاد الكهنة للطهارة الجسدية، إذ يُفترض أن يكون الكاهن بلا دنس جسدي عند دخوله الكنيسة. لكن الغسل هو رمز للنقاوة من كل أعمال خاطئة وتعدّيّات الشرائع الإلهية؛ فاليدان هما رمز وأداة العمل، وبغسلهما يدخل الكاهن طاهرًا بلا لوم. وفي هذا المجال يقول القديس كيرلس الأورشليمي: “ألم تسمعوا تلك الافتتاحية المطوّبة لهذا السرّ ذاته، إذ يقول: “أغسل يدي بالنقاوة وأطوف بمذبحك يارب”؟ فغسيل الأيدي هو من ثم رمز للحصانة ضد الخطية”. إذ يتمتّع المؤمن بنقاوة القلب وطهارة اليدين، أي قداسة الأعماق والأعمال، وهكذا تستطيع أذانه الباطنية أن تسمع صوت التسبيح الملائكي، وأن تتجاوب معه بالفرح الداخلي وتهليل النفس ولهج اللسان بالتسبيح والتمجيد. حيث يعلن الإنسان بحياته الداخلية وسلوكه الخارجي عن عجائب الله معه.

  • كيما أسمع صوت تسبيحك، وأنطق بجميع عجائبك”

إن سماع صوت التسبيح، بعد التطهُّر والاغتسال يعني أن المؤمن يدرك داخليًا أن كل ما كان فاسدًا فيه بالخطأ وبالخطيئة مصدره الذات، وأن كل ما هو جيد وصالح مصدره الله… لعل داود النبي يُريد أن يقول إنه برغم وجوده وسط الأعداء، فإن أُذناه لا تسمع كلماتهم وفكره لا ينشغل بأفكارهم ولا بما ترى عيناه. ولم يعد مشغولاً حتى بالدفاع عن نفسه أمام افتراءات العدو، فصوت التسبيح يملأ كيانه فرحًا وقلبه تهليلاً ويشبع حياته، لدرجة تجعله عوض الشكوى من وجوده بين الأعداء أو التذمُّر مما يحصل من الأهل والأصدقاء، فإنّه يظل بالرب متحدًا يتحدّث عن أعماله العجيبة مما يرفعه كما إلى الحياة السمائية بالروح القدس.

  •   ” كي ما أسمع صوت التسبحة”

 هكذا يجب عليك أن تسمع صوت التسبيح ولا تمجّد ذاتك قط مهما كانت فضيلتك وإلاّ تصير ملومًا، ويرى القديس أغسطينوس: “أن الآية تعني “أن تسمع الله لا يعني أن تلتقط الأصوات المسموعة. فكم من أُناس صُمّ لا يسمعون الله! يلزمك أن تسمع صوت التمجيد هكذا بأن لا تمجّد ذاتك قط، مهما كُنت صالحًا. “الدعة” والاتضاع يجعلك صالحًا والكبرياء يجعلك خاطئًا”. كثيرون لهم آذان ولا يسمعون، لهذاكان يسوع يردّد: “مَن له أُذنان سامعتان فليسمع” (مت 13: 9) …

  • وأنطق بجميع عجائبك”

 تتقدّس الآذان الداخلية بسماع صوت التسبيح، عندئذ ينفتح لسان القلب ليشترك في تمجيد الله والحديث عن كل عظائمه، فقد وهب الله للإنسان موهبة النطق ليسبّحه ويمجّده، دون أن ينسب مجدًا ما للذات أو الأنا. تتقدّس أيضًا العينان فتعاينان مجد بيت الرب، عندئذ ينفتح القلب بالحب مشتاقًا أن يكون له موضع في مسكن مجده.

  • 8.    “يارب أحببت جمال بيتك، وموضع مسكن مجدك”

نستطيع أن نعتبر هذه الآية ك ” الآية الذهبية” لهذا المزمور فهي تحوي: الحب والجمال والسكنى في كنف الرب في ظلال المجد… يقصد داود النبي بالبيت هنا الخيمة، لأن الهيكل لم يكن قد بُني بعد، فقدبناه سليمان ابنه فيما بعد.ومع أنه رفض أن يسكن قصرًا بينما يقيم الرب في خيمة، وأراد ان يشرع في بناء هيكل للرب، إلاّ أن الرب نفسه أخبره أن تلك ليست مهمته بل هناك من سيكلّف بها ويتمّمها من قِبَل الرب نفسه. لكن برغم الظروف الاستثنائية التي يمر بها الرجل المطرود المطارد، إلاّ أن داود الملك الطريد يشتهي شيئًا واحدًا قد يبدو غريبًا حتى مجرّد التفكير فيه في مثل هذه الظروف…هو يتوق ويشتهي ألاّ يُحرَم من التواجد بحضرة الرب لا سيّما في تلك الخيمة المقدّسة حيث تابوت العهد رمز الحضرة الإلهية! هناك فقط يرى جمال البيت ويستشعر وقع أقدام صاحبه الساكن فيه، فلم يلتفت إلى ملذات القصر ولم يحن إلى ملذات السرايا والخدم والموائد الممتدة…كل ما اشتهت نفسه ألاّ ينفصل عن بيت الله ويُطرَد من بين شعبه، يطلب بيت الله المقدّس والبهي في أعماق قلبه!

  • “يارب أحببت “

  محور العلاقة بين داود وربه هو حب عميق ينطلق من قلب الله فيغمر قلب النبي. بدون هذا الحب لن يقوم أي بنيان روحي، مهما كانت مهارة البنائين؛ ولن يكون هناك وجود لذلك المنزل الجميل الذي اشتاق إليه داود في قلبه، حيث يلتقي بالرب، قائلاً: “يارب أحببت جمال بيتك وموضع مسكن مجدك” فبدون حب لا يمكن أن يقيم الإنسان في قلبه منزلاً يليق بالروح القدس، ولا أن يكون له شرف استقبال الروح القدس الذي يقطن في القلوب لا في الأبنية الحجرية.

  •  “وموضع مسكن مجدك”

 اشتهى شعب الله دومًا أن يسكن الله بينهم فبنوا الهيكل وشيّدوا المذابح، بينما اشتهي الله أن يُقام له مسكنًا في القلوب الطاهرة لمن يؤمنون به ويتقونه واعدًا إيّاهم برؤيته في مقابل ذلك… وفي هذا يقول أثناسيوس الرسولي: “يتجلّى جمال بيت الله في الذين كُللوا بجمال القداسة داخل الكنيسة”. ويقول العلامة أوريجينوس: “أمّا مسكن الرب الذي يُريدنا أن نقيمه فهو القداسة… بهذا يقدر كل إنسان أن يقيم لله خيمة داخل قلبه”.

القسم الثالث: طلب الخلاص والرحمة             (9-12)

  • لا تجمعني مع الخاطئين ولا مع سافكي الدماء

بعد أن قدّم داود النبي البراهين على كماله واستقامة سلوكه والتصاقه بالرب إلهه برغم كل ما مرّ به من ظروف، نراه يُصلي بحرارة حتى لا يُدفع بالقوة ليظل بعيدًا عن جماعة شعب الله، موضع أمانة الله وحبه، فيُحسب كمجرم بين الخطاه وسافكي الدماء، الذين تدّنست أيديهم بالشر وامتلأت يمينهم رشوة، وبالتالي لا يلقى مصير هؤلاء الأشرار. فهو في هذه الآية يتضرّع إلى الرب ويضع رجاؤه في الله ألا يسمح بأن يُعاني طويلاً مرارة البقاء غريبًا بين أهل الشر والوثنيّين، بعيدًا عن وطنه حيث يقيم الله بين شعبه في خيمة مَقِدسه.

  • “فلا تهلك مع المنافقين نفسي”

هو يعرف جيدًا مصير المنافقين، لذا يرفض النبي مجرّد تصوُّر وقوفه في مصاف المنافقين ومحاكمته كواحد منهم، فمصيرهم الهلاك الأبدي لا محالة. وفي هذا المجال يقول القدّيس أغسطينوس لقد اشتهى ألاّ يكون له نصيب مع الأشرار في وجوده ولا حتى في مجرى حياته المؤقته (الزمنية) ولا في نهاية حياته الموقّرة ولا في وجوده بعد القبر!”. وكأن النبي ههنا يتضرّع إلى الله أن ينجيه من ذلك المصير الرهيب لأنّه وحده يعلم براءته فيتوجّه اليه متضرعًا: لا تهلك نفسي التي أحبّتك وعشقت السكنى في كنفك بكل ما فيه من عذوبة وجمال، فلا تفنى حياتي مع رجال الدماء أولئك المنافقين الذين يبغضوك ولا يؤمنون بك، فهم قبلوني حين رفضني شعبي لكني لا أتبنّى مسالكهم الرديئة.

  1. والذين في أيديهم الإثم، يمينهم امتلأت من الرشوة

المنافقون ورجال الدماء هنا هم الذين يتعبّدون للأوثان ولآلهة غريبة. لا يجد المرنّم مسرّته في صحبة الأشرار، إنما في عبادة الله في جماعة شعب الله. إنه يعزل نفسه عن الأشرار وفَعَلة الإثم وعن تجمّعاتهم. ومن الجانب الآخر يؤكّد ولاءه للرب وللعبادة التي تُقدّم لمجده، ويشتهي أن يعود أرض الوطن ليكون عضوًا في جماعة شعب الله. تكمن الأسباب التي تدفعه إلى هذه الصلاة في الاختلاف العميق بين مَن لجأ عندهم فرارًا من اضطهاد شعبه وأقام لديهم مضطرًا، برغم التناقض في السِمات والعادات والتقاليد بل وفي الغايات والمقاصد والأهداف والأخلاقيات، ولا سيّما في اشتياق القلب بين قلوب القدّيسين من شعب الله الذين “يحبون الرب إلههم من كل قلوبهم” وبين قلوب أولئك الخطأة غلاظ الرقاب الذين يفعلون الشر ويضمرونه في نفوسهم. فهم لا يتبنّون فكرًا متشابهًا، ولا يشاركونه شعورًا مماثلاً، ولا حتى يتحدّثون نفس اللغة ولا يستخدمون ذات العبارات في العبادة، وليس لهم ذات السلوك القويم القائم على أساس شريعة الرب التي هي بلا عيب تصلح النفوس، ولا يعيشون بذات النمط المقدّس من العادات والتقاليد، ولا يسيرون في طريق الأبرار. لذلك اشتهى النبي داود أن يذكره الله في زمن غربته كما عاد وذكر نوحًا، وأن يعتني بأمره حتى يعود الى مسكنه وموضع راحته، وألاّ يظل مقيمًا مع الأشرار إلى النهاية.

يُقارن يوحنا الذهبي الفم بين مَن تمتلئ أيديهم بالدنس والرشوة، وبين مَن له يدان طاهرتان يرفعهما إلى السماء فيقول: “لتكن رفع يديَّ ذبيحة مسائية” أخيرًا يرى القديس أغسطينوس أن المرنّم يشترك مع الجماعة المقدّسة في التسبيح للرب، حيث يجمعه حبه لله مع حبه لاخوته!

  1. ” وأنا في النزاهة أسلك فافتدني وتحنّن علي

كأن داود النبي يقول للرب: سيدي وإلهي أنا لا تشغلني اتهامات الأعداء الباطلة والظالمة، إنما ما يشغلني أن تحميني وأنا طريد من الجو الوثني الذي أنا مضطر أن أعيش فيه بجسدي وليس بقلبي. يا رب لا تسمح أن أكون شريكًا للمنافقين والمجرمين والأثمة والمرتشين في حياتهم ولا في مصيرهم الأبدي؛ فحياتهم غير حياتي، وهدفهم غير هدفي. فأنا على النقيض منهم أسلك بدعة، أي أسير في طريقك بروح الوداعة والاتضاع، أتكل على مراحمك وأترجّى خلاصك… رجليّ لا تقدر أن تقفا إلاّ في الاستقامة، في طريقك الملوكي، حتى تدخل بيّ إلى حياة التسبيح والفرح مع الجماعة المقدسة.

من الجانب السلبي لم يطق المرنّم مجرّد تصوُّر وقوع شركة له مع الأشرار برغم وجوده بينهم، فهو لا يحتمل ما يسود حياتهم من روح النفاق وسفك الدماء ولا يقبل الرشوة والظلم… فكيف يحتمل أن يكون مصيره الأبدي معهم!

كأنه يقول مصليًا بروح الطهارة خوفًا على مصيره الأبدي، لا تجمعني هناك معهم، ما دمت لم أجتمع معهم، في ظلمهم وإثمهم هنا، بل “لتمت نفسي موت الأبرار، ولتكن آخرتي كآخرتهم” (عد 23: 10).

أمّا من الجانب الإيجابي فرفض شر الأشرار يعلن النبي ثقته في مراحم الرب وخلاصه،  حيث تتقدّس نفسه بالدم الثمين ، ويقف ويسير برجليه في طريق الاستقامة، وهذا هو عنوان المزمور، أي أنه يرغب بكل كيانه أن يبقى ويسير حتى الموت  في برّ الله وعطاياه  ليتمتع بوعوده الإلهية في الأبدية وهكذا ترتفع روحه وتنطلق أعماقه بالتسبيح الداخلي على مستوى الجماعة المقدسة كعضو في جماعة الله الواحدة.

  1. 12.            لتقف قدماي في أرض آمنة وفي المجامع أبارك الرب

يريد النبي في قمة حزنه ويأسه، وهو يحلم بالعودة إلى أرض الوطن، أن يختم مزموره بتلك الأمنية الغالية والوحيدة أي العودة إلى أرض الميعاد، أرض الآباء والأجداد، تلك الأرض الآمنة بحضور الرب نفسه وسط شعبه، يود لو يعود إلى بيت الآب ليقف بين المرنّمين ويرفع صوته مع المسبّحين في المجامع-وهي دور العبادة حيث يتجمّع الناس للصلاة – مقدمًا صلاته معهم صوت الحمد والمجد والتسبيح. 

وإذا كانت عملية العبور في المحنة الواردة في الآية الثانية هي مفتاح المزمور السادس والعشرين، حيث يطلب المرنّم فيها من الله أن يختبره ويجيزه محنة الألم والغربة ليعرف نوايا قلبه، هي محنة حقيقيّة ماديّة وملموسة، فهو يقبلها على أنها حكم من الله يخضع له) المرنّم لتظهر براءتُه. فالله يعرف براءة هذا الرجل، يفحص كليتيه ويعرف قلبه أي أعماق كيانه، وما هذا الاختبار الأليم سوى مرحلة تقود نحو برهان أكيد وملموس على نقاءه، فهو لا يطلب تبريرًا، لأنه متأكّد من براءته أمام كل تلك التهم الجائرة التي هدّدت حياته ووجوده وسط شعبه.ومهما يكن من أمر، فسيرى المرنّم عمل نعمة الله في تبريره.

وهكذا يكون هذا المزمور صرخة ثقة بالرب برغم كل الصعوبات التي تحيط بالإنسان في حياته، لكنه كمؤمن يثق بفداء الرب ورحمته وخلاصه، حينئذ يتأكّد من النجاة، فيبارك الرب في الجماعة ويشكر له إحسانه.

رابعًا: تطبيق المزمور

  • كيف عاش الرب يسوع

يمكن أن ينطبق هذا المزمور على العديد من مراحل حياة الرب يسوع: فالحقيقة أن يسوع ملك المجد، قد سار في طريق الاستقامة حتى صار هو قَالَ لَهُ يَسُوعُ: «أَنَا هُوَ الطَّرِيقُ وَالْحَقُّ وَالْحَيَاةُ. لَيْسَ أَحَدٌ يَأْتِي إِلَى الآبِ إِلاَّ بِي” (بو 14: 6)، والحقيقة تُقال إنه يمكن تطبيق كل ما يقوله هذا المزمور عن الله على يسوع المسيح .

  • إليك يا رب أبتهل: ليس غريبًا أن نرى الرب يسوع يخلو للصلاة مرات عديدة الليل كله، وليس غريبًا على الابن أن يخاطب أباه ويبتهل إليه طالبًا تدخُّله وعونه وتمجيده، فالله الآب هو مصدر القوة لابنه.
  • “احكم لي يارب: حكم اليهود والرومان على يسوع بالموت ظلمًا، وهو لم يتذمّر بل أطاع وتحمّل في صمت وصبر وصلاة. لكن كان حكم الله هو النافذ بأن أقامه من الموت ورفعه إلى السماء وأجلسه عن يمينه.
  • فإني بدعتي سلكت: كان يسوع مثال الوداعة لدرجة تجعله يقول لتلاميذه ولكل مَن يريد أن يتبعه: ” اِحْمِلُوا نِيرِي عَلَيْكُمْ وَتَعَلَّمُوا مِنِّي، لأَنِّي وَدِيعٌ وَمُتَوَاضِعُ الْقَلْبِ، فَتَجِدُوا رَاحَةً لِنُفُوسِكُمْ”(مت 11: 29) وقد جال يصنع خيرا وبشفي كل سقم، “قَصَبَةً مَرْضُوضَةً لاَ يَقْصِفُ، وَفَتِيلَةً مُدَخِّنَةً لاَ يُطْفِئُ، حَتَّى يُخْرِجَ الْحَقَّ إِلَى النُّصْرَةِ. (مت 12:20).
  • §        وعلى الرب توكلت: التوكل على الرب هو عنوان حياة يسوع، كان اتكاله واعتماده الكامل على أبيه في كل لحظات حياته من مولده حتى إسلامه الروح بين يدي أبيه على الصليب لدرجة جعلت أعداؤه يعيرونه بذلك: “قَدِ اتَّكَلَ عَلَى اللهِ، فَلْيُنْقِذْهُ الآنَ إِنْ أَرَادَهُ! لأَنَّهُ قَالَ: أَنَا ابْنُ اللهِ” (مت 23: 47).
  • فلا أضعف: لم يضعف يسوع قط أمام تجارب إبليس واضطهاد الرؤساء ولا حتى آلام الصليب بل حين انتهره التلاميذ لصعوده إلى أورشليم بالرغم أنه عالم بما ينتظره “وَحِينَ تَمَّتِ الأَيَّامُ لارْتِفَاعِهِ ثَبَّتَ وَجْهَهُ لِيَنْطَلِقَ إِلى أورشليم” (لو 9: 51)، وفي لحظة الضعف في بستان الزيتون صلّي وطلب من أتباعه أن يصلّوا معه “اِسْهَرُوا وَصَلُّوا لِئَلاَّ تَدْخُلُوا فِي تَجْرِبَةٍ. أَمَّا الرُّوحُ فَنَشِيطٌ وَأَمَّا الْجَسَدُ فَضَعِيفٌ”(مت 26: 41).
  • §       “لأن رحمتك أمام عينيّ: كانت رحمة الآب السماوي هي محور كرازة يسوع طوال مسيرته ولقد أظهرها بالقول في الموعظة على الجبل وبالأمثال: الابن الضال والدرهم المفقود والخروف الضال، وبالعيش من خلال مسيرة حياته حيث ” يَسُوعُ الَّذِي مِنَ النَّاصِرَةِ كَيْفَ مَسَحَهُ اللهُ بِالرُّوحِ الْقُدُسِ وَالْقُوَّةِ، الَّذِي جَالَ يَصْنَعُ خَيْرًا وَيَشْفِي جَمِيعَ الْمُتَسَلِّطِ عَلَيْهِمْ إبليس، لأَنَّ اللهَ كَانَ مَعَهُ”(أع 10:38).  
  • وقد أرضيتك بحقك”: نال بسوع رضى الآب “هذَا هُوَ ابْنِي الْحَبِيبُ الَّذِي أَنَا سُرِرْتُ بِه” (2 بط 1:17).
  • §       “لم أجلس مع محفل باطل، ومع مخالفي الناموس لم أدخل، أبغضت مجمع الأشرار، ومع المنافقين لم أجلس: يختلف يسوع مع داود ومع منهج العهد القديم عامة في هذه النقطة اختلافًا جوهريًا فهو الذي قال: “فَاذْهَبُوا وَتَعَلَّمُوا مَا هُوَ: إِنِّي أُرِيدُ رَحْمَةً لاَ ذَبِيحَةً، لأَنِّي لَمْ آتِ لأَدْعُوَ أَبْرَارًا بَلْ خُطَاةً إِلَى التَّوْبَة.” (مت 9: 13) وهو المتهم من مجتمعه أنّه يحالس العشارين والخطأة ويدخل بيت زكا العشار ويترك الزانية تلمسه في بيت سمعان دون أن ينتهرها…
  • أغسل يدي بالنقاوة فأطهر: اغتسل يسوع على يد يوحنا المعمدان وبرغم ممانعة ذاك الذي عرفه فصرخ وَلكِنْ يُوحَنَّا مَنَعَهُ قَائِلاً: «أَنَا مُحْتَاجٌ أَنْ أَعْتَمِدَ مِنْكَ، وَأَنْتَ تَأْتِي إِلَيَّ” (مت 3: 14)”وكانت إجابته: فَأَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُ: «اسْمَحِ الآنَ، لأَنَّهُ هكَذَا يَلِيقُ بِنَا أَنْ نُكَمِّلَ كُلَّ بِرّ. حِينَئِذٍ سَمَحَ لَهُ.” (مت 3: 15)
  • وأطوف بمذبحك يا رب، أُحبّ بيتًا تقيم فيه ومقامًا يسكن فيه مجدك: منذ صباه ونعومة أظفاره عرف يسوع بيت الرب وكم طاف بالهيكل في أورشليم وأحبه وهام به عشقًا أنساه للحظة واجب العودة مع الأسرة حيث ظل في الهيكل مع الكتبة وعلماء الناموس. كما كان ذلك الهيكل هو اختياره الأول عِوضًا عن قصر الملك حين استُقبل كملك في أورشليم وللأسف كان الهيكل هو تهمة الحكم عليه بالموت “انْقُضُوا هذَا الْهَيْكَلَ، وَفِي ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ أُقِيمُهُ” (يو 2: 19).
  • لأرفع صوت الحمد: كم مرة وأمام التلاميذ والجموع سمع من يسوع صوت الحمد: وَفِي تِلْكَ السَّاعَةِ تَهَلَّلَ يَسُوعُ بِالرُّوحِ وَقَالَ: «أَحْمَدُكَ أَيُّهَا الآبُ، رَبُّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، لأَنَّكَ أَخْفَيْتَ هذِهِ عَنِ الْحُكَمَاءِ وَالْفُهَمَاءِ وَأَعْلَنْتَهَا لِلأَطْفَالِ. نَعَمْ أَيُّهَا الآبُ، لأَنْ هكَذَا صَارَتِ الْمَسَرَّةُ أَمَامَكَ «( لو 10: 21).
  • §        وأحدّث بجميع عجائبك: كان يسوع نموذجيًا في الحديث عن عجائب الله وبسيطًا لدرجة مذهلة: “اُنْظُرُوا إِلَى طُيُورِ السَّمَاءِ: إِنَّهَا لاَ تَزْرَعُ وَلاَ تَحْصُدُ وَلاَ تَجْمَعُ إِلَى مَخَازِنَ، وَأَبُوكُمُ السَّمَاوِيُّ يَقُوتُهَا. أَلَسْتُمْ أَنْتُمْ بِالْحَرِيِّ أَفْضَلَ مِنْهَا؟”   ( مت 6:  26).
  • لا تجمعني مع الخاطئين ولا مع سافكي الدماء: برغم براءته ونقاءه وطهارة سيرته إلاّ أنهم حكموا عليه ظلمًا و”أحصوه مع الأثمة حَيْثُ صَلَبُوهُ، وَصَلَبُوا اثْنَيْنِ آخَرَيْنِ مَعَهُ مِنْ هُنَا وَمِنْ هُنَا، وَيَسُوعُ فِي الْوَسْطِ” (يو19: 18).
  • فافتدني: صرخ يسوع نحو أبيه وهو معلّق على الصليب حين شعر أنه تركه وتخلّى عنه “وَنَحْوَ السَّاعَةِ التَّاسِعَةِ صَرَخَ يَسُوعُ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ قَائِلاً «إِيلِي، إِيلِي، لِمَا شَبَقْتَنِي؟» أَيْ: إِلهِي، إِلهِي، لِمَاذَا تَرَكْتَنِي؟” (مت 26:47) لكنه كان واثقًا من نصرة الآب لدرجة جعلته يقول للص ” َقَالَ لَهُ يَسُوعُ: «الْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: إِنَّكَ الْيَوْمَ تَكُونُ مَعِي فِي الْفِرْدَوْس» ” (لو 23: 43).
  • في المجامع أبارك الرب: لم يفت يسوع قط الذهاب إلى المجمع في السبت أينما حل حيث كان يقرأ الأسفار ويفسّرها للناس في نور حياته: روح الرب عليّ لذلك مسحني وأرسلني…”فَابْتَدَأَ يَقُولُ لَهُمْ: إِنَّهُ الْيَوْمَ قَدْ تَمَّ هذَا الْمَكْتُوبُ فِي مَسَامِعِكُمْ” (لو 4: 21).
  • كيف نعيشه نحن المسيحيون

يمكن أن ينطبق هذا المزمور على حياة المسيحي المؤمن الذي يحيا في عالمنا المعاصر كإنسان يعرف الله ويحبه ويحاول السير حسيسًا في طريق الرب، طريق الاستقامة، درب يسوع الذي أعلن لمن يريد اتباعه ” أنا الطريق والحق والحياة” ()، وأوضح منذ البداية أن طريقه ضيق ودربه عسير وعلى كل من يريد أن يتبعه أن يحمل صليبه كل يوم ويسير خلفه وهكذا يصير ممكنًا تطبيق كل ما يقوله هذا المزمور عن الله على حياة كل مؤمن مسيحي:

  • إليك يا رب أبتهل: حين يخلو المسيحي للصلاة، لا سيّما في ساعة الضيق يتضرّع نحو أبيه السماوي، ويبتهل إليه ويخاطبه طالبًا تدخُّله وعونه، فالله الآب هو مصدر القوة لأبنائه.
  • §       “احكم لي يارب: ينتظر المسيحي حكم الله ولا يأبه بأحكام الناس الظالمة وهو لا يتذمّر بل يطيع ويتحمّل في صمت وصبر وصلاة. عالمًا أن حكم الله هو النافذ.
  • فإني بدعتي سلكت: المسيحي على مثال يسوع يسلك بالوداعة والتواضع ويتحاشى العنف ولا يعرف الكبرياء مهما عظم مقداره وسمت درجاته.
  • §        وعلى الرب توكلت: التوكُّل على الرب هو عنوان حياة المسيحي، فاتكاله واعتماده الكامل، من مولده حتى انتقاله، في كل لحظات حياته، على ذلك الآب السماوي الذي يعرف ما هو محتاج إليه قبل حتى أن يطلبه.
  • فلا أضعف: لا يضعف المسيحي قط أمام تجارب إبليس ولا يرهب اضطهاد الرؤساء ولا يهاب الوقوف أمام الولاة والحكام بسبب إيمانه كسيده يسوع والرسل وآلاف الشهداء والقديسين.
  • §       “لأن رحمتك أمام عينيّ: رحمة الآب السماوي وعطفه وعنايته وأمانة العهد هي محور حياة المسيحي، هو مؤمن أن شمس البر سوف تشرق عليه بنورها وعدالتها مهما جار الظلم وطال الظلام.
  • §       “لم أجلس مع محفل باطل، ومع مخالفي الناموس لم أدخل، أبغضت مجمع الأشرار، ومع المنافقين لم أجلس: كما اختلف يسوع مع منهج العهد القديم اختلافا جوهريا، “لم آت لأدعو الصديقين إلى التوبة بل…كذا يختلف موقف المسيحي مع أشرار هذا العالم المعاصر فشعاره هو ” أكره الخطيئة لا الخاطيء وأرفض الشر وأصلّي من أجل الأشرار”.
  • أغسل يدي بالنقاوة فأطهر: يغتسل المسيحي ويتطهّر، لكن تركيزه كسيده على طهارة القلب لا اليدين ونقاوة الضمير من الداخل لا نقاوة القبور المكلّسة”.
  • وأطوف بمذبحك يا رب، أُحبّ بيتًا تقيم فيه ومقامًا يسكن فيه مجدك: يحب المؤمن المسيحي الكنيسة فهي أمه الأرضية السماوية فيها يولد ابنًا لله بالمعمودية ومنها يتعلّم الإيمان وهي من يصاحب كل خطوات تقدُّمه في الحياة وتصحبه في صلاتها حتى الانتقال للحياة الأبدية.
  • لأرفع صوت الحمد: في كل وقت وزمان ومكان وفي كل مرحلة من مراحل حياته يرفع المؤمن مع الكنيسة أصوات الحمد والتسبيح والتمجيد لله في كل حال وعلى كل حال ومن أجل كل حال بل وبالرغم من أصعب الأحوال.
  • وأحدّث بجميع عجائبك: الحديث عن الله وعجائبه في الخليقة والكنيسة وحياته الشخصية يمجّد المسيحي الله بالعمل قبل اللسان عملاً بقول الرب: “يرون أعمالكم الصالحة، فيمجدون أباكم الذي في السماوات”.

خامسًا: المزمور في فكر وأقوال الآباء:

يرى القديس أغسطينوس أن المرنّم يقول: “على الرب توكلت” لأنه أتهم بأنه قد صار في شركة مع الوثنيين، مستهينًا بخدمة بيت الرب الجماعية كأنه يقول: لست أتكل حتى على أي ذراع بشر مؤمن كان أو غير مؤمن، إنما اتكالي هو على الرب وحده. إن كنت أعيش مع الوثنيّين الأشرار بالجسد لكنني بالروح منفصل عنهم، لأني لا أتكل عليهم ولا على غيرهم. من أجل هذا التطهير الواهب الحياة يُصلّي داود، قائلاً: “جرّبني يارب وامتحني، افحص كليتي وقلبي”.

ويضيف القديس أغسطينوس“لم أجلس مع محفل باطل” تعليقًا على الآية الرابعة… إلى أي شيء يرمز الجلوس؟ أن يكون الشخص بقلب واحدٍ مع مَن يعاشرهم. إن لم يكن قلبك هناك على الرغم من وجودك معهم، فأنت لا تجلس معهم، أمّا إن كان قلبك هناك فأنت تجلس معهم حتى وإن كنت غائبًا عنهم (بالجسد). وفي تعليقه على الآية الخامسة: ومع المنافقين لم أجلس” كان داود النبي محرومًا من شعبه ومن بيت الله بهروبه إلى بلد وثني، لكنه كان بقلبه يجلس مع أتقياء شعبه ويشارك العابدين بالروح والحق. “أبغضت مجمع الأشرار”. ربما يجد البعض في هذا التعبير نوعًا من القسوة؛ لكن المرنّم وقد تلامس مع الله الحالّ في مجمع الآلهة (الأبرار) يدرك أن الشيطان يحل في مجمع الأشرار كمجمع خاص به ليستخدمهم أدوات عمله وآلات موت لحساب الشر. وكأنّه يعلن أنه قد اختار كنيسة الله لينعم بالحضرة الإلهية مبغضًا مجمع الشيطان، اختار جماعة القديسين لا مجلس الأشرار، اختار أورشليم العليا لا بابل الزانية، اختار نسل المرأة ليرفض نسل الحية… فإنّه لا شركة بين النور والظلمة!  كهروب الابن الضال من بيت أبيه يطلب الجلوس في محفل الأشرار، فإذا به يشارك الخنازير خرنوبهم، وإذ رجع بقلبه إلى حضن أبيه تمتّع بمحفل بهيج وكريم. “لنهرب من محافل الأشرار، لأن غضب الله مُعلَن من السماء على جميع فجور الناس وإثمهم” (رو 1: 18)، ولنعتزل جماعتهم لئلا نسقط تحت الضربات معهم (رؤ 18: 4) … ونحُرَم من المحفل السماوي أو الوليمة الإلهية. اعتزالنا الأشرار قد يدفعهم إلى التوبة عن شرورهم، أمّا اختلاطنا بهم في شرورهم وتهاوننا في تقديس حياتنا، فبجانب ما يسبّبه لنا من هلاك، لا يعطيهم فرصة أن يفطنوا إلى خطورة حالتهم.

يقول الأب ثيؤدور: في الوقت الذي فيه يعلن اقتناعه ببرائته التي بلا شك هي ثمرة عمل الله في حياته نجده يطلب رحمة الله التي لا تفارق عينيه. ويعلّق القديس اغسطينوس على هذه الآية بقوله: “لأن رحمتك أمام عينيّ هي، وقد أرضيتك بحقك” أي ” ابتهج بحقك” ربما يشير المرنّم إلى اتهامه بعبادة الأوثان، فيعلن أنه وإن كان قد اضطر إلى الهروب من وسط شعبه إلى شعب وثني لكنه لم يحد قط عن الحق الإلهي إلى زيف الأوثان، علاوة على أنه يبتهج من أعماق قلبه بالله الحقيقي.

ككاهن روحي: يفسّر القديس أغسطينوس: لم يكن داود النبي كاهنًا ولا لاويًا. لكنه وقد التزم بالهروب من وسط شعبه ومن العبادة الجماعية في بيت الرب المقدس يُعلن من الجانب السلبي أنه لا يشترك مع الأشرار مخالفي الناموس المنافقين حياتهم الشريرة؛ وأمّا من الجانب الإيجابي فقد أدرك أنه وهو أشبه بالطريد يحضر بقلبه ليس فقط وسط شعب الله وإنما يشارك الكهنة خدمتهم المقدّسة، إنه حاضر بالروح في الخيمة يغسل يديه مع الكهنة لا بمياه المرحضة وإنما بنقاوة القلب الداخلي، ويطوف حول المذبح لا بجسده وإنما بشوقه الداخلي وحبه الناري الملتهب، يسمع التسبيح السماوي بأذنيه الروحيتين، ويتحدّث عن عجائب الله… وكأنه لا توجد قوة ما أن تمنعه من التمتُّع بجمال بيت الله والوجود في موضع مسكن مجد الله. هذا ما عبّر عنه بقوله:

يؤكّد القدّيس أغسطينوس“أغسل يديَّ بالنقاوة.وأطوف بمذبحك يارب.كيما أسمع صوت تسبيحك وأنطق بجميع عجائبك يارب أحببت جمال بيتك وموضع مسكن مجدك: تدل هذه العبارة على أنه حفظ نفسه من خطية عبادة الأوثان. كان داود النبي يغسل يديْ نفسه أمام الله قلبيًا، كما كان ملاصقًا لمذبح الله الروحي.ويضيف “أغسل يديَّ بالنقاوة”، وليس بماءٍ منظور. إنك تغسل يديك عندما تنجز أعمالك خلال أفكار مقدّسة ونقية في عينيْ الله، فإنه يوجد مذبح أمام عينيْ الله، الذي يدخل إليه الكاهن (المسيح) الذي قدّم نفسه أولاً ذبيحة من أجلنا. هذا المذبح عالٍ، لا يستطيع أحد أن يدركه إلا ّمَن يغسل يديه بالنقاوة.

إذ يتمتّع المؤمن بنقاوة القلب وطهارة اليدين، أي قداسة الأعماق والأعمال، تستطيع أذناه الداخليتان أن تسمعا صوت التسبيح الملائكي وتتجاوب معه بالفرح الداخلي وتهليل النفس ولهج اللسان بالتسبيح والتماجيد حيث يعلن الإنسان بحياته الداخلية وسلوكه عن عجائب الله معه، فيقول:

يرى القديس أغسطينوس “لكيما أسمع صوت تسبيحك، لعل داود النبي يُريد أن يقول بأنه وسط كل افتراءات الأعداء لا تميل أذناه إلى كلماتهم ولا ينشغل فكره حتى بالدفاع عن نفسه أمامهم، لأن صوت التسبيح المفرح يملأ كل كيانه ويشبع حياته، فعوض الشكوى ضد الأعداء أو التذمُّر على ما يحل به، يتحدّث عن كل أعمال الله العجيبة التي ترفعه كما إلى الحياة السمائية بالروح القدس.

ويرى القديس أغسطينوس أن الآية “لكيما أسمع صوت تسبيحك” تعني أن صوت الروح القدس في تماجيد الكنيسة يعلّمني كيف أُمجّدك. كما يقول أيضًا: “أن تسمع الله لا يعني أن تلتقط الأصوات المسموعة. كم من أُناس صُمّ لا يسمعون الله! يلزمك أن تسمع صوت التمجيد هكذا بأنك لا تمجّد ذاتك قط، مهما كُنت صالحًا. الاتضاع يجعلك صالحًا والكبرياء يجعلك خاطئًا لكيما أسمع صوت التسبحة”… كثيرون لهم آذان، لكنهم ليست تلك الآذان التي تحدّث عنها يسوع عندما صرخ قائلاً: “مَن له أذان للسمع فليسمع” (مت 13: 9) …

أن تسمع صوت التسبحة يعني أن تدرك داخليًا أن كل ما كان فاسدًا فيك بالخطية مصدره ذاتك، وأن كل ما هو جيد، كل ما يُعمل للصلاح مصدره الله. هكذا يجب عليك أن تسمع صوت التسبيح بأن لا تمجّد ذاتك قط، مهما كانت فضيلتك وإلاّ تصير ملومًا…تتقدّس الآذان الداخلية فتسمع صوت التسبيح، عندئذ ينفتح لسان القلب ليشترك في تمجيد الله والحديث عن كل عظائمه دون أن ينسب مجدًا ما للذات أو الأنا. وأيضًا تتقدّس البصيرة فتعاين مجد بيت الرب، عندئذ ينفتح القلب بالحب مشتاقًا أن يكون له موضع في مسكن مجده، إذ يقول المرنّم: “يارب أحببت جمال بيتك، وموضع مسكن مجدك”. يقصد داود النبي بالبيت هنا الخيمة، لأن الهيكل لم يكن قد بُني بعد. وكأن داود الطريد يشتهي ألاّ يُحرَم من الخيمة المقدسة وتابوت العهد رمز الحضرة الإلهية، وألاّ يُطرد من بين شعب الله، وفي نفس الوقت يطلب بيت الله المقدس والبهي في أعماق قلبه! يتجلّى جمال بيت الله في الذين كُللوا بجمال القداسة داخل الكنيسة.

يقول القديس كيرلس الأورشليمي: تلاحظون أن الشماس يقدّم ماءً للكاهن ليغتسل كما أيضًا للكهنة الذين هم حول المذبح الإلهي؛ وهو بالتأكيد لا يقدّمه بسبب افتقادهم للطهارة الجسدانية، فليس هذا هو السبب، إذ نحن بلا دنس جسدي عند دخولنا الكنيسة. لكن الغسل هو رمز للنقاوة من كل أعمال خاطئة وتعديات؛ فاليدان هما رمز للعمل، وبغسلهما ندخل إلى الطهارة والسلوك بلا لوم. ألم تسمعوا تلك الافتتاحية المطوّبة لهذا السرّ ذاته، إذ يقول: “أغسل يدي وسط الأبرياء فأطوف بمذبحك يارب”؟ فغسيل الأيدي هو من ثم رمز للحصانة ضد الخطيئة.

أمّا القديس أثناسيوس الرسولي فيقول: هذا الحب (حبنا لله) بدونه لن يقوم التركيب الخاص بالبناء الروحي الذي مهندسه بولس، مهما كانت المهارة ممتازة؛ ولا نستطيع أن يكون لنا المنزل الجميل الذي اشتاق إليه الطوباوي داود في قلبه لكي يُنقيه للرب، قائلاً: “يارب أحببت جمال بيتك وموضع مسكن مجدك”.

أمّا الأب إبراهيم فيقول: بدون الحب يقيم الإنسان في قلبه – بغير بصيرة – منزلاً غير جميل لا يليق بالروح القدس، ولا يكون له شرف استقبال القدوس الذي يقطن (في القلب)، إنما يسقط في الحال وينهدم البناء في بؤس.

                ويضيف العلامة أوريجينوس: يشتهي الله أن نصنع له مسكنًا، واعدًا إيّانا برؤيته كمقابل لذلك… أمّا مسكن الرب الذي يُريدنا أن نقيمه فهو القداسة… بهذا يقدر كل إنسان أن يقيم لله خيمة داخل قلبه.

                يعلّل القديس أغسطينوس طلب الخلاص والرحمة: بعد أن قدّم داود النبي البراهين على كماله، يُصلّي بحرارة حتى لا يُدفع بقوة ليكون بعيدًا عن جماعة شعب الله الذين هم موضع أمانة الله وحبه، فيُحسب كمجرم بين الخطاه وسافكي الدماء الذين تدنّست أيديهم بالشر وامتلأت رشوة، وبالتالي لا يكون مصيره مع الأشرار. رجاؤه في الله ألاّ يسمح له أن يُعاني مع الذين انفصل عن مجتمعهم. لقد اشتهى ألاّ يكون له نصيب مع الأشرار في وجوده ولا حتى في مجرى حياته المؤقتة (الزمنية) ولا في نهاية حياته الموقّرة ولا في وجوده بعد القبر! الأسباب التي دفعته إلى مثل هذه الصلاة تكمن في الاختلاف من جهة السِمات والطلبات والاشتياقات والعادات والغايات والمقاصد والأهداف بين القديسين والخطاة. فهم لا يحملون فكرًا متشابهًا، ولا شعورًا مماثلاً، ولا يتحدّثون بذات الكلمات، وليس لهم ذات السلوك، ولا يعيشون بذات النمط، ولا يمشون بنفس الطريقة، أو يرتحلون في نفس الطريق، لذلك اشتاق داود أن يكون موضوع تذكر الله وعنايته ولكن ألاّ يجتمع مع الأشرار. “فلا تهلك مع المنافقين نفسي”. لا تهلك نفسي التي أحببت بيتك بكل جماله مع أولئك الذين يبغضوك. ولا تفنى حياتي مع رجال الدماء مع مَن يحتقر جاره، فإنه بكلا الوصيتين يتجمّل بيتك (في داخلي). المنافقون ورجال الدماء هنا هم الذين يتعبّدون لآلهة كثيرة وللأوثان. لا يجد المرنّم مسرّته في صحبة الأشرار، إنما في عبادة الله في اجتماعات شعب الله. إنه يعزل نفسه عن الأشرار وفعلة الإثم وعن تجمعاتهم، ومن الجانب الآخر يؤكّد ولاءه للرب وللعبادة التي تُقدّم لمجده وأن يكون عضوًا في شعب الله، إذ يقول:

يعلّق القديس أغسطينوس على تعبير “يمينهم امتلأت من الرشوة” قائلاً: “الله وحده هو الذي يرى من يقبل الرشوة أو يرفضها”، مقدّمًا مثلاً لذلك أنه أحيانًا تمتد يد القاضي لتمتلئ رشوة لا من الغني بل ومن الفقير، كأن ينتهك حُرمة العدالة وينطق بحكم ظالم مخالف للحق لحساب الفقير، لا لشيء إلاّ لخوفه من لوم الناس له. فالرشوة هنا هي حبه للمديح والكرامة لا للمال، على حساب الحق.

وأخيرًا يُقارن القديس يوحنا الذهبي الفم بين مَن تمتلئ أيديهم بالدنس والرشوة وبين مَن له يدان طاهرتان يرفعهما إلى السماء فيقول: “لتكن رفع يديَّ ذبيحة مسائية”. فالمرنّم يشترك مع الجماعة المقدّسة في التسبيح للرب يجمعه حبه لإخوته مع حبه لله! وهناك الكثير من مثل هذه الأقوال والتفاسير يمكن اللجوء إليها في كتب الآباء وما نقدّمه هو مجرّد عينات لفتح شهية القاريء للبحث والتنقيب للاستزادة من مثل هذه الكنوز الثمينة التي تعج بها المكتبة المسيحية.

خاتمة المزمور

الرب عون الأبرياء هذا هو عنوان المزمور في الترجمة اليسوعية، والسلوك بالاستقامه هو العنوان الذي اخترته للمزمور وبين العنوانين تبرز البراءة والاستقامة كمنهج للحياة يقرب صاحبه إلى الرب، لكنه لا يمنع عنه أضرار الحياة ولا يحميه من نكباتها إنما يتعهّد، حسب إيمان النبي، أن ينجّيه من جميع النكبات وأن يكون له رفيقًا ومعينًا أثناء وقوعها بشرط أن يظل المؤمن وفيًا للعهد متمسكًا بوعود الله صابرًا على ما ابتلاه وموقنًا بتدخُّله القوي وفي الوقت المناسب الذي يراه هو، ليخلّصه من جميع أعداءه وينجّيه من كافة بلاياه.

يمر النبي بظروف قهرية صعبة تفوق طاقاته الشخصية فقد اتَّهموه كذبًا فالتجأ إلى الهيكل طالبًا من الرب أن يعلن براءته على الحاضرين وأن ينجّيه من حكم الموت. وهو حين دخل أتمّ الشروط اللازمة التي تسمح له بالدخول إلى الهيكل (على غرار ما قرأنا في المزمور الرابع والعشرين: “مَن يصعد إلى جبل الرب؟” لقد أتمّ وصايا الله وعمل بها، وهو يعرف أنّه في الهيكل بحضرة الله يدافع عنه تجاه عدالة البشر.

لقد وضع ثقته في الله منذ القدم، وفي هذه الساعة يتذكّر أن مَن يتوكّل على الرب ينجو نجاة وتكون له نفسه مغنمًا (إر 39: 18). هو أمين لعهد الرب وواثق برحمته، فلذلك لا يخاف أن يمتحنه ذاك الذي يعرف ما في داخل الانسان، الذي يفحص الكلى والقلوب (إر 11: 20). وإن أجبر على عبور النار، فسيكون كالفضّة التي يُنزع عنها خبثها. هكذا ينتظر حكم الله لإظهار براءته، فالله يعرفه، ولكنه يمتحنه لتظهر براءته أمام الناس. الناس يبحثون عن الحقيقة، ولكنهم يفشلون في بحثهم (تث 21: 1). أمّا الله فيعطي براءة للمؤمن الملتجئ اليه. هكذا يبدأ الاحتفال، بعد أن استعدّ للاقتراب من الله وأُعلنت براءته. فيقترب من المذبح وينشد نشيد الشكر، لأن الرب لم ينبذه، ولم يطُرده من الهيكل. فيغسل المؤمن يديه علامة طهارته، ويطوف حوله المذبح منشدًا للرب نشيد شكر.

هكذا تحوّلت الشكوى إلى شكر لأن إيمانه وتمسُّكه ينجيانه من كل الشدائد فهو وإن اضطر للهرب إلى حضن الأعداء مستجيرًا من ظلم الأهل والأصدقاء، لكنه حافظ على العهد وراعي ضميره واحتفظ بثبات بإيمانه وسط عالم فاسد. ما أحرانا أن نتمسّك بإيماننا القويم وسط عالمنا الفاسد الذي نحن جزء منه إبان حياتنا لا لنتمثّل به بل لننيره ونهديه إلى سبيل الخلاص. وجود داود المؤقت في وسط هذا العالم رمز لوجودنا نحن وتمسُّكه وحبه وشوقه للعودة إلى الرب والتسبيح في هيكله من جديد رمز لشوق المسيحي للعودة إلى بيت الآب، والمؤمن الحقيقي لا يجب أن يتوقّف كثيرًا أمام ما يقوله الناس ويذيعونه عنه، بل يجب أن يضع قلبه وضميره أمام الرب فاحص القلوب والكلى الذي يعرف مدى النقاء والاستقامة دون ما حاجة إلى دفاع، فبالرغم أننا كلنا خطأة، ويسوع وحده يستطيع أن ينشد هذا المزمور، لأنه قدّوس بريء لا عيب فيه ولا صلة له بالخاطئين (عب 7: 26). هو الذي ما استطاع أعداؤه أن يثبتوا عليه خطيئة (يو 8: 46)، رغم أنهم جعلوه مع الأثمة (مر 15: 27). ولكن الآب برّر ابنه، ونقله من الموت إلى الحياة.فنحن عندما ننشد: أغسل يديّ بالنقاوة، تكون صلاتُنا تمنيًا لطهارة يعطيها الرب كما أعطاها لأشعيا النبي في الفصل السادس، لنستطيع أن ندخل بيت الرب ونقيم حيث سكنى مجده. فالرب هو مَن يطهّرنا من كل شرّ (1 يو 1: 9). ونحن نصلّي هذا المزمور باسمنا وباسم الكنيسة، طالبين من الرب المسيح الذي ضحّى بنفسه من أجلها، “أن يقدّسها ويطهّرها بماء الاغتسال، فيزفّها إلى نفسه كنيسة مجيدة لا عيب فيها ولا تجعّد ولا ما أشبه ذلك، بل مقدّسة لا عيب فيها” (أف 5: 25-27).

يبدو أن الآية الثانية هي مفتاح هذا المزمور، وفيها يطلب المرتّل من الله أن يجيزه في المحنة ليعرف نوايا قلبه،
فالله يعلم براءة الإنسان، يعرف كليتيه وقلبه أي أعماقه، وإن هو اختبرها فلكي يعطي برهانًا ملموسًا وبشريًا عن نقاوتها. ومهما يكن من أمر، فسيرى المؤمن في تبريره نعمة من عند الرب.

لقد احتمى في الهيكل قرب الربّ، والربّ سيحميه ويدافع عنه ولا يسمح بالظلم في بيته لئلا ينجَّس.
وهكذا يكون هذا المزمور صرخة ثقة بالرب رغم كل الصعوبات التي تحيط بالمرتّل. إذا افتداه الرب ورحمه، حينئذ يتأكّد أنه نجا، فيبارك الرب في الجماعة ويشكر له إحسانه.

احكم ليّ يارب…

احكم لي يارب

فإني بوداعة أسلك، وعليك توكلت

أنت ربي وإلهي فافعل بي ما تشاء

ابلني وافحص قلبي وكليتيَّ وجربني

ليحكم العالم ضدي، أمّا أنت فتفديني!

لأن رحمتك ربي قائمة دومًا أمام عينيّ، 

وأنا أسعى كل حين لأتمم مشيئتك.

تعرف يارب طرقي وليس شيء عنك بخفي

أحب يارب طريقك وفي نور حقك ودروبك أتلمّس

بدم صليبك طهرتني وبالنقاوة في جرن معموديتك غسلتني

حرّرتني وأطلقتني لأكون نورًا في العالم وملحًا لأرضك

أُحبّ بيتك وأعشق الكنيسة مسكن مجدك

إلى هناك تسير قدماي ونحو مذبحك ترنو عيناي

كم يهفو قلبي إلى هيكل قدسك لأرفع صوت الحمد

وفي مجمع القدّيسين أباركك وأمجّد أسمك يا رب.

أنت هو برّي، أنت هو مكافأتي…آمين

فهرس المزمور السادس والعشرين

السلوك بالاستقامة

أولاً: تقديم المزمور

ثانيًا: نص المزمور وتقسيمه

ثالثًا: تفسير المزمور

القسم الأول: دفاع النبي عن براءته (1-3)

القسم الثاني: دفاع النبي عن فراره (4-8)

القسم الثالث: طلب الرحمة والخلاص (9-12)

رابعًا: تطبيق المزمور

كيف عاش الرب يسوع هذا المزمور

كيف نعيش نحن المسيحيّين هذا المزمور

خامسًا: المزمور في فكر الآباء  

خاتمة المزمور

صلاة حسب روح المزمور

الفهرس