الموسيقى الكنسيّة والترانيم

الموسيقى الكنسيّة والترانيم

بقلم: الأب جورج بيروتي

المجمع الفاتيكاني الثاني هو حدث كبير ومهم في حياة الكنيسة, تناول مواضيع عديدة منها: سر الكنيسة، شعب الله والوحي الإلهي، مهمة الأساقفة الرعوية وخدمة الكهنة، رسالة العلمانيين والحركة المسكونية الخ…. وعالج أيضاً موضوع الموسيقى الكنسيّة.

أولاً- نظرة عامة على أصل الموسيقى ونشأتها

إن الموسيقى والغناء هما من أقدم الفنون عهداًً في تاريخ الإنسان، وقد قيل إن الإنسان غنّى قبل أن يتكلم. فكان يقلّد العاصفة في صخبها والجدول في هدوئه. كما كان يعبّر عن عواطف القلب بالألحان الغزلية وعن ورعه بالتراتيل الدينية وعن قوّته بالأناشيد الحماسية.

– اشتقاق كلمة موسيقى:

إن هذه اللفظة مشتقة من أصل يوناني :”موزيس” و ترجع هذه اللفظة بالأصل إلى (ميز) إله من آلهة الفنون عند الإغريق.

– الاحتفالات الدينية والشعبية في العهد القديم:

لقد جاء في سفر التكوين أن يوبال وهو من سلالة قايين ابن آدم الذي عاش قبل الطوفان أي نحو أكثر من أربعة آلاف سنة ق.م. أنه أول من عزف على العود والمزمار(تك 4/19-21) . وكانت الموسيقى عند العبرانيين مزيجاً من الغناء والرقص والمرافقة الآلية، وسُمي الشعر الغنائي عندهم بالمزامير و هي مجموعة أناشيد وقصائد وتسابيح كتبت بوحي من الله . وكان للشعب العبراني ملك يُدعى داود وكان ذا صوت جميل وعازفاً على العود و القيثارة.

– انتشار الألحان الكنسيّة :

في القرن الرابع الميلادي اشتهر القديس امبروسيوس أسقف ميلانو بإيطاليا . فقام بتأسيس نظام للطقوس الدينية المؤلفة من الأناشيد التي ُترنم في المناسبات المختلفة طوال السنة، وقام بكتابة كلمات وموسيقى الأناشيد الدينية. وفي القرن السادس عُني بالإنشاد الكنسي في روما البابا غريغوار الأول بابا روما الذي اهتم بالترانيم الدينية وجعلها وسيلة لتهذيب النفوس، كما كان هو نفسه شغوفاً وعالماً بالموسيقى، وقد انتشرت تلك الألحان التي سميت فيما بعد بالأناشيد الغريغورية.

ثانياً – أهمية وقيمة الموسيقى الكنسيّة

الموسيقى الكنسيّة كنز ذو قيمة لا يثَّمن، يفوق ما سواه من الفنون، لأن الترتيل الكنسي الملازم للألفاظ هو جزء من الطقوس الاحتفالية .

الكتاب المقدس امتدح التراتيل الكنسيّة، نقرأ في رسالة القديس بولس إلى أهل أفسس يقول لهم:” وليكن حديثكم تلاوة مزامير وتسابيح وأناشيد روحية، رتِّلوا وسبحوا للرب من صميم القلب “(اف5/19) ويقول أيضاً للقولوسيين:”رتِّلوا لله من صميم قلوبكم شاكرين بمزامير وتسابيح وأناشيد روحية (قول3/16). والآباء القديسون والأحبار كالقديس بيوس العاشر أوضحوا أهمية وضرورة الموسيقى الكنسيّة في خدمة الطقوس الإلهية والحياة الرعوية، والغاية منها تمجيد الله وتقديس المؤمنين باشتراكهم اشتراكاً فعلياً.

ويتحدث المجمع الفاتيكاني موضحاً على أن الليتورجيا الاحتفالية والمرتّلة تأخذ صيغة أنبل وأكمل عندما يشترك فيها الشعب اشتراكاً فعلياً. ويركّز المجمع على النقاط التالية:

1- – الاهتمام بجوقات الترتيل ورعايتها و تقدمها لا سيما في الكنائس الكاتدرائية والرعوية.

2- – تمكين الشعب من الاشتراك في الأعمال البيعية المرتَّلة .

3- – المحافظة على كنز الموسيقى ورعايته أحسن رعاية.

4- – الاهتمام بالثقافة الموسيقية و توفرها في المدارس الاكليريكية وأديرة الإبتداء في الرهبانيات من الجنسين.

الموسيقى الكنسية المقدسة

تزداد الموسيقى الكنسية قداسة كلما توطدت علاقتها بالعمل الطقسي سواء أكان بإعرابها عن الصلاة إعراباً أوقع في النفوس أم بتشجيعها على الإجماع ، أو بإضفائها على الرتب المقدسة مزيداً من الجلال. وإن الكنيسة لتُقرّ جميع صيغ الفن الأصيل، المتصفة بالميزات المطلوبة، وتفسح لها مجالاً في العبادة الإلهية.

الألحان والتراتيل الكنسية

إن الموسيقيين المشبعين بالروح المسيحية مدعوون للتمرس بالموسيقى الكنسية و تنمية كنزها. وليؤلفوا ألحاناً تحمل طابع الموسيقى الكنسية الأصيلة، ويستطيع إنشادها لا الجوقات الكبيرة وحسب، بل الصغيرة. فتساعد جماعة المؤمنين بأجمعهم على الاشتراك اشتراكاً فعلياً.

ثالثاً – الترانيم عامل ضروري في احتفالاتنا الليتورجية

يقول قداسة البابا يوحنا بولس الثاني في رسالته الرسولية الصادرة سنة 1999 : يوم الأحد هو يوم القيامة ، ليس هو ذكر حدث ماضي، بل هو احتفال بحضور القائم من القبر حضوراً حياً وسط اتباعه. لذلك لا يكفي أن يصلي اتباع المسيح فردياً ويتذكروا باطنياً في سر قلبهم، موت المسيح و قيامته، وذلك بأن الذين قبلوا نعمة المعمودية ، لم يخلَّصوا فردياً وحسب بل بوصفهم أعضاء في الجسد السري، ينتمون إلى شعب الله.

لهذه الغاية، لا بدَّ أن نهتم بترنيم الجماعة. فالترنيم يعكس بهجة القلب ويوهِّج الاحتفال ويساعد في تقاسم الإيمان الواحد والحب الواحد. وبالتالي، لا بدَّ من الاهتمام بنوعية الترنيم على صعيد النصوص كما على صعيد الألحان. وقد أشار المجمع الفاتيكاني بقوله: ولتكن النصوص الموضوعة للتلحين الكنسي مطابقة للعقيدة الكاثوليكية، ولتنهل، على الأفضل، من معين الكتاب المقدس ومن الينابيع الطقسية.

ويشير قداسة البابا أيضاً في رسالته “إلى أهل الفن” الصادرة سنة1999 بقوله:”إن الأيقونة هي سر طقسي بمعنى ما: فهي على مثال ما يتحقق في الأسرار الطقسية، تستحضر سر التجسد بوجه أو بآخر من وجوهه”. هكذا إذا جاز التعبير، الترنيمة هي سر طقسي لها ذات المفعول .

نقرأ أيضاً في رسالة قداسة البابا “الإفخارستيا حياة الكنيسة “: لقد وجدت فنون الهندسة والنحت والرسم والموسيقى، في الإفخارستيا، مباشرة أو لا مباشرةً، حافزا ً لوحي عظيم، بتوجيه من السر المسيحي. وبالنسبة إلى الموسيقى ، هناك العديد من الملحنين, و في غالب الأحيان من عظماء الملحنين الذين تنافسوا بفنهم مع نصوص القداسة الليتورجية. وهذا ما حمل هؤلاء الفنانين على توجيه جهدهم في إنتاج الجمال ليس فقط كتعبير عن عبقريتهم، بل أيضاً كخدمة حقيقية يؤدونها للإيمان، ويضيف قداسته قائلاً :” في أثناء رحلاتي الرعوية العديدة، تسنّى لي أن ألاحظ في أنحاء العالم كله ما يمكن أن يعتلن من حيوية في الاحتفالات الإفخارستية..”

خاتمة

الكنيسة تحتاج إلى الفن والفن في خدمة الكنيسة:

من أجل نشر البشارة التي عهد المسيح بها إلى الكنيسة فإن الكنيسة تحتاج إلى الفن كما أن الفن هو في خدمة الكنيسة. وبالفعل، فإن عليها أن تجعل عالم الروح، وعالم اللامنظور، وعالم الله محسوساً، لا بل قدر المستطاع، أخَّاذاً. المسيح بذاته استعان إلى حدٍ بعيد بالصور والتشابيه وذلك في تناغم كامل مع اختياره أن يصبح هو ذاته بالتجسد أيقونة الله اللامنظور .

الكنيسة تحتاج أيضاً إلى موسيقيين. كم من المقطوعات المقدسة كانت، وعلى مر العصور, من تأليف أشخاص تشَّربوا بعمق معنى السر ! أعداد لا تحصى من المؤمنين غذّت إيمانها بفضل الترانيم وأصبحت جزءاً لا يتجزأ من الليتورجيا . ومن خلال الترانيم يُختبر الإيمان لصرخة تنفجر بالفرح والحب.

عن موقع جمعية التعليم المسيحي بحلب