انت من تحبه نفسى (الجزء الاول من سلسلة مقالات للاب د. هانى باخوم

انت من تحبه نفسى (الجزء الاول من سلسلة مقالات للاب د. هانى باخوم

1- نتعدد في الخبرات والسن والجنسيات، نحن مختلفين الواحد عن الأخر،… ولكن هناك شيء يجمعنا، هناك شيء وان اختلفت صورته يوحدنا. شيء يبحث عنه الجميع، الغني والفقير، الرجل والمرأة والطفل، المتعلم والأقل ثقافة .. الجميع يبحث عنه وان لم يدرك ذلك.

الحب. نعم الحب. الكل في العمق يرغب أن يكون محبوبا. الطفل يحيا بحب والديه له، وأي ألم نجده بسبب رفض حصلنا عليه منذ الصغر؟ أو استغلال؟ أو بسبب موقف لم نشعر فيه بالحب؟ تعددت صعوباتنا وفي العمق هي نتيجة تقصير في حب شخص لنا، او توقع منا لم يجد نهاية سعيدة. بل وكم من الإمراض النفسية تنبع من هذا، كم من الصراعات الداخلية وكم من القرارات الخاطئة تؤخذ فقط لان الإنسان مشروط بان يجد حب. الكل يبحث عنه في العمق دون أن يدري.

كم من مرات أمام صعوبات الحياة يهرب الإنسان بقصة رومانسية غير واقعية، نكون أبطالها أو مشاهدين لها. وفقط هذه الفكرة تنعشنا وتجعلنا نتهاوى هربا بعض من الوقت من واقع صعب قد نحياه، ولكن بعدها ما أصعب العودة والرجوع إليه مرة ثانية. كم من مرات نهرب وراء كلمات سمعناها فقط لأننا شعرنا إننا موجودين. احد يفكر في، احد يهتم بي، إذا أنا محبوب. إذا آنا موجود.

حواء تقتنع وتأكل من الشجرة فقط عندما تصدق كلام إبليس “إن الله لا يحبهما”. منعهما من الأكل لأنه يغار منهما. فعندما تصدق بان الله لا يحبها. تفقد معنى حياتها تفقد جذور كيانها، فتتهاوى أمام الخطيئة. تخيل الأثر النفسي لطفل يسمع أن أمه لا تحبه. كم بالأحرى الإنسان عندما يصدق ان الله الذي خلقه والذي يدبر له كل شيء، لا يحبه. ماذا سيفعل؟ سينتحر، هذا اقل شيء، نعم سينتحر، اي يخطئ.

فالإنسان يبحث في كل شي عن الحب فالحب هو مصدر الكيان بل هو أيضا موتور تغييره. فالشخص عندما يحب يتحول، يصبح أكثر سعادة أكثر جمالا أكثر تفهما..

لذلك موضوع هذه المقالات عن سفر الحب “سفر نشيد الأناشيد”. فهل له علاقة بي وبك ؟

– احد الرابيين يقول:”ان الكون كله لا يساوي اليوم الذي أعطي فيه الرب سفر نشيد الأناشيد إلى شعبه”. غريب هذا الكلام، سفر نشيد الأناشيد لدى العبرانين هو السفر الأعظم. فإذا كان كل الكتاب المقدس هو عبارة عن أناشيد وكلمات فهذا هو الأكبر والاهم والأعظم بينهما، الذي يفوق الجميع ويعلوهم. يقرا في أيام الفصح عند اليهود. لاسترجاع خبرة الخروج من العبودية للحرية. من من اللا شيء إلى الحب.

– اسم الكتاب نشيد، اي “شعر”، وهو أسمى مشاعر الكتابة جمالا. كلمة شعر من اليوناني “بويسيس”: وتعنى الخلق، فالشعر يخلق أمامنا ما بداخلنا. يجسده، ويجعله مرئي. كطفل نتج عن حب.

وها هو نشيد الأناشيد، يخلق فينا أيضا ما نسمعه منه. يستغوينا إلى ما فيه، يأسرنا وراءه، لكن بحريتنا. نعم نحن أمام عمل خلق، خلق فينا ولنا وبنا. فماذا يريد أن يخلق في هذا النشيد؟ من أي عدم يريد أن يخلق شيء؟ أيريد أن يخلق فينا الحب؟ أيريد أن يخلق فينا نفس المشاعر التي يحكي عنها؟ أيريد ان يستغويني، كي اخرج من غرفتي المظلمة وابحث عن الحبيب؟ كي اخرج من تلك الوحدة القاتمة والتي فيها قد اكتفيت بصور عقيمة عن الحب والحبيب، كي أجد ” مَن تُحِبّه نَفْسي”، حتى إن كنت لا أدركه ولا اعرفه جيدا؟

2-من جديد نتوجه لنشيد الحب، لشعر الخلق، الذي يخلق فينا ما نسمعه منه. يستغوينا فنستغوى، يأسرنا فنستسلم له ومعه أجد من تحبه نفسي.

يقول الكتاب أنه لسليمان الحكيم، وان كان الجميع لا يتفقوا على ذلك. لكن لماذا تم نسبه إلى سليمان؟ كي يمنحه قوى؟ صحيح. ولكن لماذا لم ينسبه لداود أو لأي شخص أخر؟ لماذا سليمان؟ لأنه هو رمز الحكمة. هل يريد الكاتب ان يربط الحكمة بالحب؟

كثير ما نعتقد أن الحب هو مشاعر. اشعر بانجذاب تجاه شخص، أتمتع في الجلوس معه والسماع إليه. يكفي أن أفكر فيه، هذا يكفيني. فالحب هو ما يحرك في مشاعر تجعلني بشكل أو بأخر أتفوق على ما أنا عليه فيدفعني للراحة، للمتعة. يفتح باب للمستقبل وأمل في الغد. بل ويمنح سبب للحياة. أحيانا يكفي أن يذكر اسم الشخص الذي نحبه فنشعر ببرودة تلك النسمة الساخنة التي تهب من القلب، وها هي توحدني تجاهه.

هذا مظهر وجانب من الحب. لكن ليس كل الحب. فالمشاعر قد تنقص في أوقات، لكن يبقى الحب. إن أسمى أنواع الحب هو حب الأم. فعندما يقول الرب لشعبة انه أبدا لن ينساه: يستخدم صورة مستحيلة، يقول هل تنسى الأم رضيعها؟ وان تم أنا لن أنساك. فإذا كانت هذه هي صورة الحب الأسمى، فهل هي مشاعر وأحاسيس فقط؟ أي مشاعر لام تستيقظ يوميا في منتصف الليل كي تطعم ابنها، يوم وراء يوم؟ محطمة، متعبة وها هي دموعها تتساقط من الإجهاد وذراعيها تخذلها وفقط حضنها يمنع ابنها من السقوط، اي أحاسيس هناك؟ اي متعة؟ لا توجد ولكن يستمر الحب.

ونعتقد ايضا ان الحب قرار ويجب الالتزام به: فعل إرادة. انا أقرر ويجب على ان أحافظ عليه. هذا حقيقي جداً ولكن ليس كل الحب. بطرس كان يحب المسيح بالفعل. ولكن في لحظة يجد نفسه ينكره. هل هناك بطرس لم يكن يحب المسيح؟ بالتأكيد لا. كان يحب المسيح، لكن كان ينقص شيء لهذا الحب فالحب ليس فقط قرار. لان الإرادة مثل المشاعر قد تغيب في لحظات ولكن يبقى الحب.

الحب ليس فقط مشاعر وليس فقط قرار، هما حدود النهر ولكنهما ليسا النهر فالنهر يسير بينهما يتمايل مرة على هذا وأخرى على ذاك كي يستمر في السريان .

كلمة حب باليونانية تعني “اجابيو”: “أجا” وتعني الكثير و “ابي” تعني من والى و “ايو” الحالة. نعم هذا هو الحب: هو حالة الكثير من شخص إلى أخر. هو هذا الكثير الدائم والذي لا ينقص مني إليك. هو كل ما لي وأسلمه لك. واهم ما عندي هو أنا هو حياتي. فالحب هو حياتي المستمرة لك في كل وقت. وقت المتعة أو وقت التعب، وقت الفرح او وقت الحزن، وقت أمانتك أو حتى خيانتك. وقت الإرادة القوية ووقت ضعفها. هذا هو الحب هو أن يمنح الشخص ذاته للآخر في كل وقت ولكل الوقت. هذا هو الحب الذي يتحدث عنه نشيد الأناشيد. هذا ما يريد خلقه فينا.

أحبائي هذا الحب هو ثمرة الروح القدس يقول بولس في رسالته إلى أهل غلاطية. والروح القدس هو عطية من الرب فلنطلبها كي نتمكن من ان نحب وليس فقط ان نقرر أو ان نشعر. نحن خلقنا على صورة الله الذي هو حب. فكياننا لا يتحقق وسعادتنا لا تتحقق إلا عندما نحب. أن نفهم هذا ونحيا هكذا اسمه: حكمة. ألهذا تم نسب السفر الى سليمان، رمز الحكمة؟

3-الحب ليس مشاعر او قرار فقط ، كما ذكرنا من قبل، بل كياني الذي امنحه للأخر بدون شروط، في كل وقت وكل الوقت، هذا الحب هو ثمرة الروح القدس.

نشيد الأناشيد، هو قصيدة حب بين حبيب وحبيبة. حوار، وفي نفس الوقت، حوار ذهني فردي. على سبيل المثال: تبدأ القصيدة “لِيُقَبِّلْني بِقُبَلِ فَمِه، فإِنَّ حبَكَ أَطيَبُ مِنَ الخَمْر”. تقول الحبيبة: فليقبلني بقبل فمه، مع انه أمامها. هي لم تقل له “قبلني”. لكن في ذهنها رددت هذه الجملة وبعدها قالت ” فإن حبك أطيب من الخمر”. لماذا هل خجلت منه؟ خجلت منه وهو أمامها أن تصرح له بحبها وتعترف له باشتياقها له؟ لا اعلم. لكن اعلم أنها تعبر له عما تشعر به والباقي تقوله بينها وبين ذاتها.

فبماذا شعرت تلك الحبيبة؟

تقول: ” أَنا سوداءُ لَكِنَّني جَميلَةٌ يا بَنَاتِ أورَشَليم”

الحبيبة بفضل هذا الحب تجد نفسها سوداء. ولكن تشعر في نفس الوقت بأنها جميلة. لقائها بالحبيب جعلها ترى نفسها على حقيقتها بدون تزين، فهو يراها كما هي. بعيوبها وماضيها، وها هي ترى سوادها، رمز الضعف والخطيئة والسقوط في الكتاب المقدس، وترى حب الحبيب والذي يجعلها تشعر إنها جميلة. وبالفعل أصبحت جميلة.

مثل بطرس عندما يختبر المسيح على السفينة، يقول اخرج من هنا يارب فانا رجل خاطئ. لقاء الحبيب يجعلنا أولا ندرك واقعنا. انا سوداء (فلا تخافوا من هذا – لا تخافوا اذا ابتدأنا نرى خطايانا أمامنا وضعفنا، لا تخف، لا تفقد الأمل، هذه أول خطوة في المسيرة). كثيرا مننا نتشكك من الخطايا فنخبئها ولا نواجهها. الحبيبة تذكره ولا تخجل، تعلنه ولا تخشي، لأنها اغتسلت ووجدت من يطهرها.

ونحن أيضا مدعوين مثل هذه الحبيبة أن نرى أنفسنا بدون خوف، نرى أنفسنا ونرى حب الله المجاني. حب الحبيب. نرى هذا السواد ونرى الجمال الذي يضيفه حبه لنا. فكل مواقف حياتنا، كل الصعوبات، الآخرين ومشاكلهم، كل شي… كل شي… هو دعوة لي كي ارى كم انا اسود وكم هو يحبني.. وفقط هذا الحب قادر ان يجعل منى شعر حب.

غريب هذا الحب، لم أجد احد يحبني بهذا الطريقة، قال لي شخص بالأمس: “من يعرف ضعفي وخطيئتي يعايرني بها، يرجمني” لذا انا اخبي ذاتي”. هذا صحيح، هذا واقع، ولكن هنا يوجد شخص أخر، يوجد المسيح، هذا الحبيب الذي يجعلنا نرى أنفسنا كما هي ونرى حبه، فنعود ونرى أنفسنا على ضوء حبه.

هنيئا لمن وجد شخص يستطيع ان يقول له” أنا سوداء ولكني جميلة” كتلك الحبيبة التى وجدت حبيبها…نعم هنيئا لمن وجد الحبيب.

هذا هو الحب، ان يرى كل منا ذاته أمام الأخر ويرى من الأخر قبول وتفهم وبداية جديدة، كل يوم….نعم أنا سوداء ولكني جميلة….

إلى مقالات أخرى.