بـاب الإيمـان

بـاب الإيمـان

البراءة الرسوليّة التي يعلن فيها قداسة البابا بندكتوس السادس عشر سنة الإيمان

الفاتيكان، الجمعة 11 مايو 2012 (ZENIT.org).

ننشر في ما يلي النص الكامل للبراءة البابوية “باب الإيمان” التي أعلن من خلالها بندكتس السادس عشر سنة الإيمان المزمع الاحتفال بها. عني بتعريبها الأرشمندريت أغناطيوس ديك لـ “المشاريع الرسوليّة البابويّة في سورية”.

* * *

بــاب الإيمــان

1- “باب الإيمان” (أعمال 14/27) الذي يؤدّي إلى حياة الشركة مع الله ويتيح الدخول في كنيسته لا يزال مفتوحاً لنا. ويمكن تخطّي هذه العتبة عندما تكون كلمة الله معلنة والقلب مطاوعاً لعمل النعمة التي تكيّفه وتحوّله. العبور من هذا الباب يقتضي أن نسير على هذا الدرب الذي نلتزم به طول الحياة. يبدأ بالمعموديّة (رومية 6/4) التي تتيح لنا أن ندعو الله باسم الأب وينتهي بالعبور من الموت إلى الحياة الأبديّة ثمرة قيامة الربّ يسوع الذي من خلال موهبته الروح القدس أراد أن يشرك بمجده جميع الذين يؤمنون به (يوحنّا 17/22). المجاهرة بالإيمان بالثالوث، الآب والابن والروح القدس يعني الإيمان بإله واحد هو المحبّة (1 يوحنّا 4/8). الآب الذي عند ملء الزمن أرسل ابنه لأجل خلاصنا، يسوع المسيح الذي بسرّ موته وقيامته فدى العالم، الروح القدس الذي يقود الكنيسة عبر الأزمان في انتظار عودة الربّ المجيدة.

2- منذ بدء خدمتي كخليفة بطرس ذكّرت بضرورة إعادة اكتشاف طريق الإيمان لنبرز بوضوح متزايد الفرح والحماس المتجدّدين للّقاء مع المسيح. في عظتي أثناء قدّاس افتتاح حبريتي قلت: “على الكنيسة بجملتها والرعاة الذين فيها أن ينطلقوا مثل المسيح ليقودوا البشر خارج الصحراء إلى حيث الحياة، إلى الصداقة مع ابن الله إلى من يعطي الحياة والحياة بغزارة”. لقد أخذ المسيحيّون مؤخّراً يهتمّون بالنتائج الاجتماعيّة والثقافيّة والسياسيّة لالتزامهم وهم لا يزالون ينظرون إلى الإيمان كمفترض ثابت للعيش معاً. بيد أنّ هذا المفترض ليس فقط لم يعد يقوم بدوره بل كثيراً ما أصبح مرفوضاً. وبينما كان ممكناً في الماضي اكتشاف نسيج ثقافي متماسك يقبل بشكل واسع مرجعية مضمون الإيمان والقيم المنبثقة عنه، لم يعد الأمر كذلك اليوم في شرائح واسعة من المجتمع من جرّاء أزمة إيمان عميقة انتابت عدداً كبيراً من الأشخاص.

3- لا يمكننا أن نقبل بأنّ الملح يصبح بدون طعم والنور يبقى مخفيّاً (متّى 5/13-16). على مثال السامريّة إنسان اليوم قد يشعر مجدّداً بالحاجة للتوجّه إلى البئر ليسمع يسوع يدعوه إلى الإيمان به وإلى الاستقاء من ينبوعه المفيض الماء الحيّ (يوحنّا 4/14). يجب أن نستعيد تذوّق التغذّي من كلام الله الذي تنقله الكنيسة بأمانة ومن خبز الحياة المقدّمين سنداً لجميع الذين تتلمذوا له. (يوحنّا 6/51) فإنّ تعليم يسوع لا يزال يصدح اليوم بنفس القوّة: “اعملوا لا للطعام الغالي بل للطعام الباقي للحياة الأبديّة (يوحنّا 6/27). والسؤال الذي طرحه مستمعوه لا يزال مطروحاً لنا اليوم: “ماذا يترتب علينا لنعمل أعمال الله؟” (يوحنّا 6/28) نعرف جواب يسوع: “عمل الله أن تؤمنوا بالذي أرسله” (يوحنّا 6/29) الإيمان بيسوع المسيح هو إذاً الطريق لنبلغ بشكل نهائي إلى الخلاص.

4- على ضوء هذا كلّه قرّرت إعلان سنةٍ للإيمان ستبدأ في 11 تشرين الأول 2012 في الذكرى الخمسين لافتتاح المجمع الفاتيكاني الثاني وتختم في عيد الربّ يسوع المسيح ملك العالم في 24 تشرين الثاني 2013. ويصادف أيضاً الحادي عشر من تشرين الأول 2012 الذكرى العشرين لنشر كتاب التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكيّة وهو نصّ أعلنه سلفي الطوباوي البابا يوحنا بولس الثاني بغية أن يوضح لجميع المؤمنين قوّة الإيمان وجماله. هذه الوثيقة، الثمرة الأصيلة للمجمع الفاتيكاني الثاني كان تمناها السينودس خارق العادة عام 1985 كوسيلة للتثقيف الديني وتحققت بفضل تعاون مجموعة أساقفة الكنيسة الكاثوليكيّة. وإنّي بالفعل دعوت الجمعية العامة لسينودس الأساقفة للانعقاد في تشرين الأول 2012 ويدور موضوعه حول الإعلان الجديد للبشارة بغية نقل الإيمان المسيحي. وستكون فرصة ملائمة لإدخال البنية الكنسيّة بأكملها في فترة تفكير خاص وإعادة اكتشاف الإيمان. ليست هذه المرّة الأولى التي تدعى فيها الكنيسة للاحتفال بسنة الإيمان، فإنّ سلفي خادم الله بولس السادس دعا إلى مثل ذلك عام 1968 للاحتفال بذكرى استشهاد الرسولين بطرس وبولس بمناسبة المئوية التاسعة عشرة لشهادتهما القصوى. وأرادها كمناسبة رسمية كي تقام في الكنيسة كلّها “مجاهرة أصليّة وصادقة للإيمان نفسه” وأراد أن تتجسّم بشكل فردي وجماعي حرّ وواع وضيع وصريح”. وارتأى أنّ الكنيسة برمّتها ستحظى بوعي أوضح لإيمانها لتحييه وتدعمه وتعلنه”. إنّ التقلّبات الخطيرة التي اندلعت في تلك السنة (1968) أوضحت بجلاء أكبر ضرورة مثل هذا الاحتفال. وقد ختم “بإعلان إيمان شعب الله” ليظهر كيف أنّ المفاهيم الأساسيّة التي تشكّل عبر الأجيال تراث كافة المؤمنين هي بحاجة لأن تُفهم وتُعمّق بشكل دوماً متجدّد كي تؤدّي شهادة متماسكة في ظروف تاريخيّة تختلف عن الماضي.

5- إنّ سلفي المكرّم قد رأى في سنة الإيمان تلك، من بعض النواحي، “حصيلة ما بعد المجمع ومن مستلزماته” إذ شعر بالمشاكل الخطِيرة لذلك العصر لاسيّما في ما يخصّ الاعتراف بالإيمان الصحيح وحسن تأويله. وارتأيت أن جعل بدء سنة الإيمان يتلاءم مع الذكرى الخمسين لافتتاح المجمع الفاتيكاني الثاني سيكون فرصة مناسبة لنفهم أنّ النصوص التي تركها آباء المجمع إرثاً لنا “لا تفقد شيئاً من قيمتها ونصاعتها” حسبما قال الطوباوي يوحنّا بولس الثاني. لا بدّ من أنّ تقرأ بطريقة ملائمة لنتعرّف عليها ونستوعبها كنصوص مميّزة وتوجيهيّة للسلطة التعليمة داخل تقليد الكنيسة… إنّي أشعر أكثر من أي وقت بواجب إظهار المجمع كالنعمة العظيمة التي حظيت بها الكنيسة في القرن العشرين. إنّه يقدّم لنا بوصلة جديرة بالثقة توجّهنا على طريق القرن الذي يبدأ”. وأنا أريد أن أقول مجدّداً بقوّة كلّ ما أتيح لي قوله حول المجمع بضعة أشهر بعد انتخابي كخلف لبطرس، “إذا قرأناه وتقبلناه بقراء تفسيريّة صحيحة بوسعه أن يكون وأن يصبح بشكل متزايد قوّة عظيمة للتجدّد الذي لا يزال دوماً ضروريّاً للكنيسة”.

6- تجدّد الكنيسة يقوم أيضاً من خلال حياة المؤمنين. فالمسيحيّون بتواجدهم في العالم يعملون وفق دعوتهم كي تسطع كلمة الحقّ التي تركها لنا الربّ يسوع. إنّ الدستور العقائدي حول الكنيسة “نور العالم” يصرّح: “بينما المسيح القدّوس والبار والمنزّه عن العيب (عبر7/26) لم يعرف الخطيئة (2كور 5/21) إنما جاء فقط ليكفّر عن خطايا الشعب (عبر 2/17) الكنيسة التي تحتوي خطأة في أحضانها هي قديسة وبالوقت نفسه مدعوّة لأنّ تتطهّر وتتابع باستمرار جهودها في التوبة والتجدّد. الكنيسة تتقدّم في مسيرتها التي تحفّها الاضطهادات وتعزيات الله وهي تعلن صليب الربّ وموته إلى يأتي (1 كور 11/26). إنّ عضد الربّ القائم من الأموات هو قوّتها التي تساعدها على أن تقهر بالصبر والمحبّة النكبات والصعوبات التي تأتيها من الخارج كما من الداخل وأن تكشف بأمانة وسط العالم سرّ الربّ الذي لا يزال ملتحفاً بالظلال إلى أن يتجلّى أخيراً في ملء النور.

وفي هذا المنحى تكون سنة الإيمان دعوة لعودة أصيلة ومتجدّدة إلى الربّ مخلّص العالم الأوحد. ففي سرّ موته وقيامته كشف الله بكمال الوضوح عن الحبّ الذي يخلّص ويدعو البشر لأن يبدّلوا حياتهم بغفران الخطايا. (أعمال 5/31) وفي نظر القديس بولس هذا الحبّ يدخل الإنسان في حياة جديدة: “لقد دفنّا معه بالمعموديّة بالموت لنحيا أيضاً حياة جديدة كما أقيم المسيح من بين الأموات” (رومة 6/4).

وبفضل الإيمان، هذه الحياة الجديدة تطبع حياة الإنسان وفق الجدّة الجذرية للقيامة. وبمقدار طوعية الإنسان الحرّة تتنقّى وتتحوّل شيئاً فشيئاً أفكاره وعواطفه وذهنيته في مسيرة لا تجد تماماً كمالها في هذه الحياة. إنّ الإيمان الذي يعمل بالمحبّة (غلا 5/6) يصبح مقياساً جديداً للتفكير والعمل يحوّل حياة الإنسان كلّها.(رومية 12/2، كولسي3/9-10، أفسس 4/20-29، 2كور5/17)

7- محبّة المسيح تحثّنا (2كور 5/14). محبّة المسيح هي التي تغمر قلوبنا وتدفعنا إلى إعلان البشارة. اليوم كما فعل قبل أن يرسلنا عبر طرق العالم لإعلان إنجيله لكلّ شعوب الأرض (متّى 8/19)، بمحبّته يجذب المسيح جميع البشر عبر كافة الأجيال، وفي كلّ زمن ينادي ويجمع الكنيسة موكلاً إليها بشارة الإنجيل في مهمّة تتجدّد دوماً. ولذا أصبح اليوم من الضرورة قيام التزام كنسي أكثر قناعة في سبيل بشارة جديدة لإعادة اكتشاف فرح الإيمان والحماس للإشراك به. إنّ التزام المؤمنين الإرسالي المستمر يستقي قوّته وعزمه من إعادة اكتشاف حبّه يوميّاً. أجل ينمو الإيمان عندما نعيشه كحبّ نتقبّله وعندما ننقله كخبرة نعمة وفرح. الإيمان يجعلنا نثمر لأنّه يوسّع قلبنا في الرجاء ويتيح لنا أن نقدّم شهادة تنعش الحياة. فإنه تفتح قلب جميع الذين يسمعون وذهنهم كي يتقبّلوا دعوة الربّ ويلتزموا بكلامه ليصبحوا تلاميذه. يقول القديس اغسطينوس: ” إنّ المؤمنين يتقوّون إذ هم يؤمنون”. كان لأسقف بونه القديس أسباب صوابيّة ليتحدث هكذا. فكما نعلم كانت حياته بحثاً متواصلاً عن حقيقة الإيمان إلى أن يجد القلب راحته في الله. إنّ مؤلّفاته التي يوضح فيها أهميّة أن نؤمن وحقيقة الإيمان تبقى إلى اليوم غنى لا يضاهى ولا تزال تتيح إلى الكثيرين من الذين يبحثون عن الله أن يجدوا المسيرة الملائمة ليصلوا إلى “باب الإيمان”.

فالإيمان ينمو ويتقوّى فقط عندما نؤمن. ليس من إمكانية للحصول على بعض القناعة في ما يخصّ حياتنا إلاّ أن نستسلم في حركة متصاعدة في يديّ حبّ يختبر ذاته في نموّ متزايد لأنه يجد مصدره في الله.

8- في هذه المناسبة السعيدة أودّ أن أدعو الأخوة أساقفة العالم أجمع ليتّحدوا مع خليفة بطرس في زمن النعمة الروحيّة التي يقدّمها لنا الربّ لنحيي ذكرى عطية الإيمان الثمينة. نريد أن نحتفل بسنة الإيمان هذه بشكل لائق ومثمر. إنّ التفكير حول شؤون الإيمان يجب أن يتعمّق ليساعد كلّ الذين يؤمنون بالمسيح على أن يكون تقبّلهم للإنجيل أكثر وعياً وقوّة لاسيّما في مثل هذه التحوّلات العميقة التي تعيشها الإنسانيّة اليوم. ستتاح لنا المناسبة الملائمة لأن نعلن إيماننا بالربّ الناهض من الأموات في كاتدرائياتنا وفي كنائس العالم أجمع، في بيوتنا وفي عائلاتنا كي يشعر كلّ واحد بقوّة بضرورة التعرّف بشكل أفضل على الإيمان المستمر عبر الزمن ونقله إلى الأجيال اللاحقة. إن المجموعات الرهبانيّة كما الرعايا والهيئات الكنسيّة القديمة والجديدة ستجد في هذه السنة الطريقة للقيام بمجاهرة علنيّة لقانون الإيمان.

9- نودّ أن تكون هذه السنة حافزاً لكلّ مؤمن يجاهر بالإيمان بكلّ ملئه وبقناعة متجدّدة بالثقة والرجاء. ستكون أيضاً مناسبة ملائمة لنحتفل بالإيمان في الليتورجيا لاسيّما في الأفخارستيا التي هي القمّة التي يتوق إليها عمل الكنيسة وفي الوقت نفسه الينبوع الذي تتدفّق منه كلّ قوتها. كما أنّنا نتمنّى أن تزداد شهادة حياة المؤمنين مصداقيّة. إعادة اكتشاف مضمون الإيمان الذي نعترف به ونحتفل به ونعيشه ونصلّيه والتفكير بالفعل الذي به نؤمن هو التزام يجب أن يتبنّاه كلّ مؤمن لاسيّما في سنة الإيمان هذه.

وليس مجرّد صدفة أن مسيحيّي القرون الأولى كانوا ملزمين بأن يستظهروا قانون الإيمان وكان هذا لهم بمثابة صلاة يوميّة كي لا ينسوا التزام وعود معموديّتهم. والقدّيس اغسطينوس يذكر بذلك بكلمات معبّرة عندما يقول في عظته حول تلقين قانون الإيمان “إنّ قانون الشهادة المقدّسة لقّنتموه جميعاً معاً والذي تلوتموه اليوم كلّ بمفرده هو التعبير عن إيمان الكنيسة أمّنا، الإيمان المثبّت بقوّة على أساس لا يتزعزع، على المسيح يسوع ربّنا… لقد طلبوا منكم أن تتعلّموا وتلوتم ما يجب أن يكون دوماً في نفسكم وقلبكم وما يجب أن يتردّ على شفاهكم وتتأمّلوه في الساحات العامة وأن لا تنسوه عندما تتناولون طعامكم وتتمتموه حتى في داخلكم أثناء النوم”.

10- أودّ الآن أن أرسم المسير الذي يساعد على تفهّم بشكل أعمق ليس فقط مضمون الإيمان بل أيضاً الفعل الذي نقرّر به أن نستسلم لله بملء الحرّية. أجل هناك ارتباط عميق بين الفعل الذي به نؤمن والمضمون الإيماني الذي نعلن تقبّلنا له. الرسول بولس يتيح لنا أن ندخل في قلب هذه الحقيقة عندما يقول:”الإيمان بالقلب يؤدّي إلى البرّ والشهادة بالفمّ تؤدّي إلى الخلاص”. (رومية 10/10) القلب يعني أنّ الفعل الأوّل الذي يأتي به إلى الله هو عطيّة من الله ومن عمل النعمة التي تفعل وتحوّل الشخص الإنساني في أعماق ذاته.

إن مثال ليديا بليغ جداً في هذا المجال. يروي القدّيس لوقا أنّ بولس أثناء تواجده في فيليبي انطلق أحد الثبوت ليعلن الإنجيل لبعض النساء وبينهنّ ليديا “الذي فتح الربّ قلبها بحيث أصغت لكلام بولس” (أعمال 16/14). إنّ المعنى الذي تتضمّنه العبارة هام. يعلّم القدّيس لوقا أنّ معرفة مضمون حقائق الإيمان ليست كافية إن لم يكن القلب المركز المقدّس للشخص، قد انفتح بفضل النعمة التي تتيح للعيون أن تنظر بعمق وتفهم إن ما أعلن هو كلام الله.

الاعتراف بالفمّ يظهر بدوره أنّ الإيمان يقتضي الشهادة والالتزام العلني. لا مجال للمسيحي أن يفكّر بأن الإيمان أمر فردي. الإيمان هو القرار بأن نكون مع الربّ لنعيش معه. وهذا “الكيان معه” يدخلنا في تفهّم الأسباب التي من جرائها نؤمن. الكنيسة يوم العنصرة تظهر بوضوح البعد العلني لقرار الإيمان وللقيام بجرأة بإعلان إيماننا الذاتي لكلّ إنسان. إنّ موهبة الروح القدس هي التي تؤهّل للرسالة وتقوّي شهادتنا بجعلها صريحة وشجاعة.

وإعلان الإيمان هو في الوقت نفسه فعل شخصي وفعل جماعي. فالكنيسة هي الفاعل الأوّل في فعل الإيمان. فضمن إيمان الجماعة المسيحيّة يتقبّل كلّ واحد المعموديّة، العلامة الفعّالة للدخول في شعب المؤمنين بغية الحصول على الخلاص. وكما يصرّح التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكيّة (بند 167) “أومن” إنّه إيمان الكنيسة يعترف به كلّ مؤمن شخصيّاً ولاسيّما إبان المعموديّة. “نؤمن” إنه إيمان الكنيسة يعترف به الأساقفة المجتمعون في مجمع، أو على وجه أعمّ يعترف به مجلس المؤمنين الليتورجي. “أومن” إنها أيضاً الكنيسة أمّنا تجيب الله بإيمانها وتعلّمنا أن نقول: “أومن، نؤمن”.

وكما يُلاحظ معرفة مضمون الإيمان أساسيّة كي نعطي إذعاننا الشخصي أي كي نتقبّل بشكل كامل بالعقل والإرادة ما تعرضه الكنيسة. إنّ معرفة الإيمان مدخل إلى مجمل السرّ الخلاصي الذي أوحاه الله. إنّ الإذعان الذي نقوم به يقتضي عندما نؤمن أننا نقبل سرّ الإيمان بمجمله لأن الله نفسه الذي يوحي ويتيح لنا معرفة سرّ محبّته هو الضامن لحقيقته.

ومن جهة أخرى لا يمكن أن ننسى أنه في إطارنا الثقافي الحالي هناك العديد من الأشخاص الذين مع كونهم لا يقرّون بوجود بموهبة الإيمان فيهم هم في بحث صادق عن المعنى الأسمى والحقيقة النهائية حول وجودهم وحول الكون. هذا البحث هو تمهيد أصيل للإيمان لأنّه يدفع الأشخاص إلى الأمام على الطريق الذي يقود إلى سرّ الله. إن عقل الإنسان بطبيعته يتطلّب ما هو ذو قيمة وما هو ثابت. هذا التطلّب يشكلّ دعوة مستمرّة محفورة بشكل لا يمحى في قلب الإنسان لأن ينطلق في المسير ليجد “من لم نكن بحثنا عنه لو لم يكن هو قد جاء قبلاً للقائنا”. الإيمان يدعونا إلى هذه الملاقاة ويهيّئنا له تماماً.

11- للتوصّل إلى معرفة منسّقة لمضمون الإيمان بوسع الجميع أن يجدوا في التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكيّة عوناً ثميناً لا غنى عنه. إنّه يمثّل أحد أهمّ ثمار المجمع الفاتيكاني الثاني. في البراءة الرسوليّة”وديعة الإيمان” التي وُقعت – وليس هذا صدفة – في الذكرى الثلاثين لافتتاح المجمع الفاتيكاني الثاني كتب الطوباوي يوحنّا بولس الثاني: “كتاب التعليم هذا سيؤدّي مساهمة مهمّة جداً في عمل تجدّد الحياة الكنسيّة برمّتها… أرى فيه وسيلة قيّمة موثوق بها في خدمة الشركة الكنسيّة وقاعدة صحيحة لتعليم شؤون الإيمان”.

ففي هذا الأفق يترتّب على سنة الإيمان أن تنمّ عن التزام شامل في شأن إعادة اكتشاف والتعمّق في حقائق الإيمان الأساسيّة التي تجد في “التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكيّة تنسيقها الموثق والعضوي” فهنا يبرز غنى التعليم الذي تقبّلته الكنيسة وحافظت عليه وقدّمته خلال الألفي سنة من تاريخها. فانطلاقاً من الكتاب المقدّس إلى آباء الكنيسة ومن المعلّمين اللاهوتيين إلى القدّيسين الذي عبروا الأجيال يقدّم كتاب التعليم ذكرى مستمرّة للطرق العديدة التي تأمّلت فيها الكنيسة إيمانها وحقّقت تقدّماً في التعبير الإيماني بغية أن توصل المؤمنين إلى اليقين في حياتهم الإيمانيّة.

كتاب التعليم المسيحي في بنيته نفسها يوضح نموّ العقيدة إلى أن يتطرّق إلى المواضيع الهامة التي تمسّ الحياة اليوميّة… صفحة بعد صفحة نكتشف أن كلّ ما يعرض ليس نظريات بل لقاء مع شخص يحيى في الكنيسة. فبعد الاعتراف بالإيمان يأتي تفسير الحياة الأسراريّة حيث المسيح حاضر يعمل ويواصل بناء الكنيسة.. من دون الليتورجيا والأسرار لن يكون من فاعليّة للاعتراف بالإيمان إذ تنقصه النعمة التي تعضد شهادة المسيحيّين، وفي الوقت نفسه ما يعلّمه كتاب التعليم في شأن الحياة الأخلاقيّة يكتسب كلّ معناه إذا ربط بالإيمان الليتورجيا والصلاة.

12- وبالتالي بوسع كتاب التعليم أن يكون في سنة الإيمان هذه وسيلة ناجعة لمساندة الإيمان، لاسيّما لمن يحرصون على تنشئة المسيحيّين، ذات الأهمية القصوى في الإطار الثقافي الذي نعيشه. ولهذه الغاية دعوت مجمع عقيدة الإيمان ليصيغ بالتنسيق مع الدوائر الرومانيّة تعليمات يقدّمون فيها للكنيسة وللمؤمنين بعض التوجيهات كي تعاش سنة الإيمان هذه بشكل فعّال وملائم في خدمة الإقدام على الإيمان والتبشير.

ذلك أنّ الإيمان أصبح أكثر من الماضي عرضة لتساؤلات ناجمة عن عقليّة أخذت تحصر مجال القناعات العقليّة في المكتسبات العلميّة والتكنولوجيّة. بيد أن الكنيسة لم تخشَ قط في أن تظهر أنه لا يمكن أن يكون صراع بين الإيمان والعلم الأصيل لأنّ كلاهما وإن يكن بطرق مختلفة يتوقان إلى الحقيقة.

13- ومن الجدير خلال هذه السنة أن نستعرض مجدّداً تاريخ إيماننا الذي يبرز السرّ الفائق الإدراك للتشابك بين القداسة والخطيئة. وبينما الأولى توضح المساهمة الكبرى التي قدّمها الرجال والنساء لنمو وازدهار الجماعة بشهادة حياتهم، يترتب على الثانية أن تثير في كلّ منا نزعة صادقة وثابتة للتوبة بغية اختبار رحمة الآب الذي يأتي لملاقاة الجميع.

في هذا الزمن سنشخص نظرنا إلى يسوع رأس الإيمان ومتممه (عبر 12/2). فيه يجد اكتماله كلّه ألم ونزعة في قلب الإنسان، فرح الحبّ والجواب على معضلة الألم والعذاب، قوّة المسامحة تجاه الإهانة وانتصار الحياة إزاء فراغ الموت. كلّ شيء يجد اكتماله في سرّ تجسّده كونه أصبح إنساناً وشاركنا الضعف البشري ليحوّله بقوّة قيامته. فيه هو المائت والقائم لأجل خلاصنا تضيء بوضوح أمثلة الإيمان التي طبعت الألفي سنة هذه من تاريخ خلاصنا.

بالإيمان تقبّلت مريم كلمة الملاك وآمنت بالبشارة بأنها تصبح أمّ الله في طاعتها واستسلامها. (لوقا1/38) ولمّا زارت اليصابات رفعت نشيد تسبحتها إلى العليّ للعظائم التي يحقّقها في من يستسلمون له (لوقا 1/46-55) وبفرح وانذهال وضعت ابنها الوحيد وقد صانت بكارتها (لوقا 2/6-7). وباعتمادها على يوسف قرينها حملت يسوع إلى مصر لتنقذه من اضطهاد هيرودس. (متّى 2/13-15) وبالإيمان نفسه تبعت الربّ أثناء تبشيره ورافقته حتى الجلجلة (يوحنا 19/25-27). وبالفرح تذوّقت ثمار قيامة يسوع وإذ حملت كلّ ذكرياتها في قلبها نقلتها للرسل الاثني عشر الملتئمين معها في العلّية لتقبّل الروح القدس (أعمال 1/14، 2/1-4).

بالإيمان ترك الرسل كلّ شيء ليتبعوا المعلّم (مرقس 10/28). آمنوا بكلامه إذ بشّر بملكوت الله الحاضر والمتحقّق في شخصه (لوقا 11/20). عاشوا في شركة حياة مع يسوع الذي كان يثقّفهم بتعليمه تاركاً لهم قاعدة حياة سيُعرفون من خلالها بعد مماته أنهم تلاميذه. (يوحنّا 13/34-35). بالإيمان انطلقوا إلى العالم أجمع محقّقين مهمّة نقل الإنجيل إلى كلّ خليقة (مرقس 16/15) ومن دون خوف بشّروا الجميع بفرح القيامة التي كانوا لها شهوداً أمناء.

بالإيمان شكّل التلاميذ الجماعة الأولى الملتئمة حول تعليم الرسل خلال الصلاة والأفخارستيا جاعلين مشتركاً بينهم كلّ ما يملكون ليسدّوا حاجات الأخوة (أعمال 2/42-47).

بالإيمان بذل الشهداء حياتهم ليشهدوا لحقيقة الإنجيل الذي بدّلهم وجعلهم أهلاً للبلوغ إلى ذروة عطاء الحبّ وإلى مسامحة مضطهديهم.

بالإيمان كرّس العديد من الرجال والنساء حياتهم للمسيح تاركين كلّ شيء ليعيشوا في البساطة الإنجيليّة الطاعة والفقر والعفّة، العلامات الحسيّة لانتظار الربّ الذي لا يبطئ في قدومه.

بالإيمان قام العديد من المسيحيين بنشاط فعّال في سبيل العدالة لتجسيم كلمة الربّ الذي جاء ليعلن التحرّر من القمع وسنة نعمة للجميع (لوقا 4/18-19).

بالإيمان قام عبر الأجيال رجال ونساء من كافة الأعمار سُجّلت أسماؤهم في سفر الحياة (رؤيا 7/49-13/8) واعترفوا بجمال أتباع يسوع حيث دعوا ليشهدوا لكيانهم المسيحي في الأسرة، في المهنة، في الحياة العامة، في ممارسة المواهب والخدم التي دعوا إليها.

بالإيمان نحيا نحن أيضاً بتعرّفنا الحيّ على الربّ يسوع الحاضر في وجودنا وفي التاريخ.

14- سنة الإيمان ستكون أيضاً مناسبة سانحة لتعزيز شهادة المحبّة. يذكّرنا القديس بولس: “الآن تبقى هذه الأمور الثلاثة، الإيمان والرجاء والمحبّة، ولكن أعظمها المحبّة”. (1كور13/13). وبكلمات أقوى – تدفع المسيحيّين دوماً للالتزام – يؤكّد الرسول يعقوب: “ماذا ينفع يا أخوتي أن يقول أحد إنه يؤمن إن لم يعمل؟ أبوسع الإيمان أن يخلّصه؟ فإن كان فيكم أخ عريان أو أخت عريانة ينقصهما قوت يومهما وقال لهما أحدكم: “أذهبا بسلام فاستدفئا واشبعا”، ولم تعطوهما ما يحتاج إليه جسدهما فماذا ينفع قولكم؟ وكذلك الإيمان فإن لم يقترن بالأعمال كان ميّتاً في حدّ ذاته. وربّ قائل يقول: “أنت لك الإيمان وأنا لي الأعمال فأرني إيمانك من غير أعمال، أريك أنا إيماني بأعمالي” (يعقوب 2/14-18).

الإيمان بدون المحبّة لا يأتي بثمار والمحبّة بدون الإيمان تكون مجرّد عاطفة معرّضة دوماً للتشكيك. الإيمان والمحبّة مرتبطان وكلّ منهما يتيح للآخر تحقيق مسيرته. وبالفعل كثير من المسيحيّين يكرّسون حياتهم بمحبّة للمنعزل والمهمّش والمنبوذ كأنّه أول من يجب التوجّه إليه وأبدى من يجب مساندته لأنه فيه ينعكس وجه المسيح نفسه. بفضل الإيمان بوسعنا أن نكتشف في جميع من يلتمسون حبّنا وجه الربّ القائم من الأموات. “مهما فعلتم بأحد أخوتي هؤلاء الصغار فبي فعلتموه” (متّى 15/40). كلمات الربّ هذه تنبيه يجب أن لا ننساه ودعوة مستمرة لأن نردّ الحبّ الذي به يعتني بنا. إنّ الإيمان هو الذي يتيح اكتشاف المسيح ومحبّته، هو الذي يحثّنا على إسعافه كلّ مرّة يصبح قريبنا على طريق الحياة. وبمساندة الإيمان فلننظر بعين الرجاء إلى التزامنا في العالم بانتظار سموات جديدة وأرضاً جديدة يقيم فيها البرّ (2بطرس 3/13، رؤيا 21/1).

15- ولمّا بلغ إلى خاتمة حياته، طلب الرسول بولس من تلميذه تيموثاوس أن يطلب الإيمان” (2تيم 2/22) بنفس الاندفاع الذي كان عليه في حداثته(2تيم3/15). لنستمع إلى هذه الدعوة الموجّهة لكلّ منّا كي لا نكون خمولين في شأن الإيمان. فالإيمان رفيق حياتنا يتيح لنا أن نلحظ بنظرة متجدّدة دوماً العظائم التي يحقّقها الله من أجلنا. وإذ يحرص على اكتشاف علامات الأزمنة في حاضر التاريخ يدعو الإيمان كلّ واحد لأن يصبح علامة حيّة لحضور القائم من الأموات في العالم. إنّ ما يحتاج إليه عالم اليوم بشكل خاص هو مصداقية شهادة الذين أنارت كلمة الربّ ذهنهم وقلبهم فأصبح بوسعهم أن يفتحوا أذهان وقلوب الكثيرين على الاشتياق إلى الله وإلى الحياة الحقيقيّة التي لا نهاية لها.

لتتابع كلمة الربّ جريها وتُكرّم (2تسالونيكي 3/1). ليت سنة الإيمان هذه تجعل العلاقة مع المسيح الربّ أكثر متانة دوماً، إذ أنه فيه وحده يكمن اليقين للتطلّع إلى المستقبل والضمانة لحبّ أصيل ومستمرّ. وكلمات الرسول بطرس تلقي ضوءاً أخيراً على الإيمان: “إنكم تهتزّون له فرحاً مع أنه لا بدّ لكم من الاغتمام حيناً بما يصيبكم من مختلف المحن، فيُمتحن بها إيمانكم وهو أثمن من الذهب الفاني الذي مع ذلك يُمتحن بالنار فيؤول إلى الحمد والمجد والتكرمة عند ظهور يسوع المسيح، ذلك الذي لا ترونه وتحبّونه وإلى الآن لم تروه وتؤمنون به فيهزّكم فرح لا يوصف ملؤه المجد لبلوغكم غاية الإيمان وهي خلاص نفوسكم. (1بطرس 1/6-9) حياة المسيحيّين تعرف اختبار الفرح واختبار الألم. كم من القدّيسين عرفوا الوحدة. كم من المؤمنين حتى في أيامنا هذه، يعانون محنة صمت الله مع أنهم يودّون سماع صوته المعزّي. إن محن الحياة وهي تساعد على تفهّم سرّ الصليب وعلى المشاركة بآلام المسيح هي مدخل إلى الفرح وإلى الرجاء الذي يقود إلى الإيمان: “عندما أكون ضعيفاً أكون قويّاً” (2كور 12/10) . إننا نؤمن بيقين ثابت أن الربّ يسوع قهر الشرّ والموت. فبهذه الثقة الثابتة نستسلم إليه: بحضوره بيننا يقهر شوكة الشرير (لوقا 11/20). والكنيسة الجماعة المنظورة التي تجسّم رحمته تثبت فيه كعلامة للمصالحة النهائية مع الآب.

إننا نكل زمن النعمة هذا إلى أمّ الله التي “حظيت بالطوبى لأنها آمنت” (لوقا1/45).

أعطي في رومة قرب ضريح القديس بطرس في 11 تشرين الأول 2011، السنة السابعة لحبريتنا

بندكتوس السادس عشر