بَيْن وَحْي الله وِإيْمَان الإنْسَان(جزء3)

الوحـدة الثالثة
التعابير عن الإيمـان
المقدمة
بعـد أنْ تبحّـرنا فى دراسـة عـلاقة الوحى / الإيمان، نخـوض فى عـالم الإيمان لنسـتشـفّ فـيه مختلف التعـابير عـنه.

وإنّ العـلاقة الإيمان / التعـابير عـن الإيمان تسـتدعـى أنْ نـبرّرها: لماذا ينبغـى للإيمان أنْ يتجسّـد فى تعـابير عـنه؟ لماذا لا يظلّ الإيمان مجـرّدًا خالصًا؟.

ثمّة ثـلاثة أسـباب لذلك: أوّلها أنثروبولوجىّ وثانيها سـوسـيولوجىّ وثالثها روحىّ:

* وأمّا السـبب الأنثروبولوجى، فيعـود إلى أنّ الإنسـان مكـوّن من جسـد وروح، من عـنصر مادّىّ محسـوس ملموس ومن عـنصـر غـير مـرئىّ. فالإيمان هـو من ناحـية الروح يسـتدعـى إذًا تجسّـدًا وتحـقـيقـًا له وتعـبيرًا عـنه، كما أنّ الروح يسـتدعـى الجسـد شـرطـًا لأنّ لا روح بـدون جسـد. فمَنْ إدّعـى أنّ الإيمان لا يحـتاج إلى تعـابير عـنه، وقع فى فخّ ” الروحانيّة غـير المتجسّـدة” désincarnè Spiritualisme وهى لا تمـتّ بصـلة إلى الوضع البشـرىّ والواقـع الإنسـانىّ. ومن جهة أخـرى لا جسـد بدون روح ـ وإلاّ وقعـنا فى فخّ ” الشـكليّة المتطـرّفة” Formalisme ـ فـلا تعـابير إيمانيّة بـدون الإيمان الذى يُحـييها.

* وأمّا السـبب السـوسـيولوجى الذى يفـترض تعـابير عـن الإيمان، فـيعـود إلى أنّ الإيمان بـدون تعـبير عـنه يَضْحى إيمانًا انعـزاليًّا يخُصّ الفـرد وحـده، بيـد أنّنا أظهـرنا دومًا وجـوب الطابع الاجتماعـىّ للإيمان. وهـذا الطـابع الاجتماعـىّ تسـمّيه اليهـوديّة: الشـعـب المخـتار، والمسـيحيّة : الكنيسـة، والإسـلام: الأمّة الإسـلاميّة… فـلا إيمان حقـيقـيًّا إذًا بدون هـذا البعـد الجوهـرىّ الأسـاسىّ. فالتعـبير عـن الإيمان عـبارة عـن تجسـيد اجتماعىّ للإيمان.

* وأمّا السـبب الروحىّ، فيكمن فى أنّ التعـبير عـن الإيمان يغـذّى ويُنمّى الإيمان. فإذا أخـذنا الصـلاة مـثلاً كتعـبير عـن الإيمان، اعـترفـنا بأنّ الصـلاة بدورها تسـاعـد الإيمان عـلى النموّ والنضـوج، فـلولا الصـلاة لإنـدثـر الإيمان.

فالإيمان وتعـابيره مـتلازمان تـلازمًا ضـروريًّا. وسـندرس فى هـذه الوحـدة أهمّ التعـابير الإيمانيّة فى المسـيحيّة.

فيمـيّز عـلماء الأديان وعـلماء الاجتماع أربعـة تعـابير عـن الإيمان فى مخـتلف الديانات: المؤسـّسـة الدينيّة ( رجال الدين، الشـريعـة …) ـ العـقـيدة ـ العـبادة ـ السـلوك الحـياتىّ. فهـذه التعـابير الأربعـة تمـيّز مؤمنى هـذا الدين عـن مؤمنى ذلك الدين.

أمّا نحـن، فـسـنحلّل أربعـة تعـابير، مخـتلفة بعـض الشئ عـمّا توصـلّ إليه العـلماء المذكـورون، تتلائم أكـثر تـلاؤمًا وهـدفـنا اللاهـوتىّ:
· عـلى الصعـيد الاجتماعـىّ: الدين كتعـبير عـن الإيمان.
· عـلى الصعـيد الكنسـىّ والشـخصىّ: العـبادة كتعـبير عـن الإيمان.
· عـلى الصعـيد الكـتابىّ: كلمة الله كتعـبير عـن الإيمان.
· عـلى الصعـيد الفكـرىّ: الحـديث اللاهـوتىّ كتعـبير عـن الإيمان.

لنقْـتفِ إذًا هـذه الخطـوات الأربع بالتتالى:

الفصل التاسع
الدين كتعبير عن الإيمان

نريد أنْ نسـتشـفّ العـلاقة بين الإيمان / الدين من زاويتين متكاملتين:
· طرح إشـكاليّة ” الظاهـرة الدينيّة”، متسـائلين: هـل هـناك ” ظاهـرة دينيّة” فى تاريخ الحضـارات والشـعـوب أمّ لا؟ فسـنبيّن النظـريّات المخـتلفة فى هـذا الموضـوع.
· توضـيح إشـكاليّة الجـدال اللاهـوتىّ الغـربىّ فى هـذا الشـان مـنذ القـرن التاسـع عـشـر. وسـنبيّن مخـتلف المواقـف الممكنة.

الظاهـرة الدينيّة

كما تراءى لنا أنّ شـرط إمكان الوحى / الإيمان هـو اسـتعـداد طـبيعـىّ فطـرىّ فى الإنسـان لمعـرفة الله بعـقله، كذلك يهمّـنا أنْ نـدرك ما إذا كان فى الإنسـان اسـتعـداد دينىّ طـبيعـىّ، أو اسـتعـداد فطـرىّ للتديّن، لتكـوين عـلاقة مع كائن مطـلق ـ أى الله ـ عـلاقة جماعـيّة. وبعـبارة أخـرى، هـل هـناك ” ظاهـرة دينيّة ” ( Phénomène religieux ) فى تاريخ البشـريّة، فى مخـتلف الحضارات والشـعـوب والحـقبات، وإن وُجـدت فما معـناها من حـيث الاستـعـداد الفطـرىّ للدين الاجتماعـىّ والتديّـُن الفـردىّ؟.

وإنّ إلقـاء نظـرة عـابرة عـلى الشـعـوب والحضارات تدلّ عـلى أنّ لجميعـها ديانة فى جميع العـصـور، ممّا يؤكّـد ” الظـاهـرة الدينيّة ” فى الإنسـان. غـير أنّ البعـض لا يسـتنتج من تواجـدها ضـرورة حـتميّة. وهـذا ما ندرسـه الآن.
1ـ المعارضة على الظاهرة الدينيّة:

إذا عـدنا إلى فـلسـفة أوغـسـت كونت مـثلاً، لاح لنـا أنّ ” الظاهـرة الدينيّة” غـير ضـروريّة، إذ توجـد فى مرحـلة واحـدة فقـط من مراحل تاريخ البشـريّة. فـفـلسـفته التاريخيّة تمـيّز بين ثـلاث مـراحل لتاريخ البشـريّة: مرحـلة ” الحـديث اللاهـوتىّ” وهى تنـاسـب مرحـلة الطفـولة لدى الفـرد، ثمّ مرحـلة ” الفـلسـفة” وهى تناسـب المراهـقـة، فمرحـلة ” العـلم” وهى تناسـب مرحـلة الرشـد. فالديـن، الذى لا يسـتند إلى العـقل، قـد تلاشـى فى الفـلسـفة التى تلاشـت بدورها فى العـلم. ومن ثمّ لا ” ظاهـرة دينيّة” كضـرورة بشـريّة.

وأمّا كارل ماركس، فيعـتبر أنّ الدين ” بنية صـوفيّة” غـير ضـروريّة، بل هى وليـدة الظـروف الاقـتصـاديّة والاجتماعـيّة والسـياسـيّة المتدهـورة. وأمّا المحافظة عـليه، فـتقـوم به الرئاسـات الدينيّة تحـذيرًا لشـعـوبها، طبقـًا لقـوله المأثـور:” الدين أفـيون الشـعـوب”، وذلك لأسـباب ثـلاثة: ” لتأييد” نظـام معـيّن فالديـن ضـد ” النقـد”، و” للاندماج” فى النظـام عـينه فالدين ضـد ” القـوّة”، و” للتعـويض” فى الحـياة الآخـرة فالدين ضـدّ ” تغـيير” الأوضـاع. هكـذا لا عـلاقة للدين بواقـع الإنسـان وحقيقته، إنّما ينشـأ وينمـو ويزدهـر عـندما تسـوء الحـالة فى المجتمع، ثمّ يتلاشـى عـندما تتحسّـن الأحـوال والظـروف والأوضـاع.
2ـ نقد المعارضة على الظاهرة الدينيّة:

للـردّ عـلى أوغـسـت كـونت، يمكن إبـراز سـطحـيّة تحليله كمـراحل تاريخ البشـريّة الثـلاث. فيمكن التسـاؤل: إلى ما يسـتند فى تحليله هـذا؟ إنّها نظـرة عـقليّة نظـريّة إيديولوجيّة أكـثر منها واقعـيّة. إذا أخـذنا بعـين الاعـتبار أنّ الـدين يتواجـد إلى اليـوم مع الفـلسفة والعـلم، حتّى فى البلاد المتقـدّمة فـلسفـيًا وعـلميًا. ومن جهة أخـرى، إنّ نظـريّته هـذه وهى تولى العـلم والعـقل هـذه المكانة المرموقة، هى الأخـرى نظـريّة وسـطحيّة إذ تســتبدل بالفعـل الله بهما بل تؤلّههما. ومن جهة ثالثة، ليس الدين عـبارة عـن عـقـائد فحسـب ( فقـد اسـتخدم لفظة ” حـديث لاهـوتىّ ” لتعـريف الدين )، بل هـو مؤسّـسة اجتماعـيّة وعـبادة وحـياة عـمليّة أيضًا، كما يبيّنه عـلماء الأديان وعـلماء الاجتماع وكما تُنادى به الأديان نفسـها.

وأمّا نظـريّة كارل ماركس، فتسـتحقّ انتقـادًا مماثلاً إذا ألقـينا نظـرة عـلى الواقع حـيث يتواجـد الدين مع أوضـاع اقـتصاديّة واجتماعـيّة وسـياسـيّة سـليمة ومتقـدّمة. عـلاوة عـلى أنّ الظـروف السـيّئة التى كانت تمـيّز عـصره ومجتمعه ظـروف سـيّئة نسـبيًا وجـزئيًا، ولا تتّسـم بصـفة الإطـلاق والشـموليّة فى أىّ حالٍ من الأحـوال. فضـلاً عـن أنّ نظـريّته فى أنّ الدين ” بِنْية فـوقـيّة”، اخـتيار فـلسـفىّ أيديولوجىّ لا يفـرض نفسـه بصـفة قاطعـة. وأخـيرًا إنّ ماركس يُؤلّه الإنسـان، مانحًا إيّاه الصـفات التى يسـحبها من الله، فـلا تزال عـقليّته فى الواقـع عـقليّة دينيّة ـ أمـره أمـر أوغـسـت كونت ـ رغـم رفضـه للدين.
3ـ الظاهـرة الدينيّة بين التأييد والمعارضة:

يمكن تأييد ” الظاهـرة الدينيّة” كظاهـرة شـموليّة للبشـريّة بأجمعـها شـموليّة ضـروريّة وحـتميّة، كما يمكن معارضة ذلك. يمكن الإلحاح فى أنّ الدين لا يزال موجـودًا وحـيًا فى كلّ الشـعـوب، كما يمكن إظهـار ظاهـرة اللادين والإلحـاد. فكلتا النظـريّتين ممكنتان.

وفى نهاية الأمـر، هـناك اخـتيار من لدن الإنسـان: إمّا أنْ يُقـرّ بضـرورة الدين، وإمّا بعـدم ضـرورته، أو بضـرورة مناهضـته. هـذا الاخـتيار مبنىّ عـلى الفـلسـفة التى يتبنّاها الإنسـان، فاعـتبار الدين من مقـوّمات الإنسـان الضـروريّة أم لا.

وأمّا نظـرة اليهـوديّة والمسـيحيّة إلى الإنسـان، فهى أنّه أسـاسـًا وجوهـرًا كائن دينىّ، له عـلاقة بكائن أسْـمى ومطـلق اسـمه الله، وإن اخـتلفت درجة هـذه العـلاقة من العـلاقة الحميمة إلى العـلاقة شـبه المعـدومة. ففى الإنسـان هـذا الاسـتعـداد الكـيانىّ النظـرىّ إلى الدين لكـونه مخـلوقًا من الله، عـلى صـورته كمـثاله (1).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) غـير أنّ هـذا ” الاسـتعـداد الكـيانىّ” عـليه أنْ يتحـرّر من ” الاحـتياج إلى الله” إلى ” الرغـبة فى الله”، كما أظهـرناه فى الفصل السـابق.

ظهـر فى الغـرب مـنذ القـرن الماضى جـدال فكـرىّ حـول العـلاقة بين الإيمان والدين، ولقـد تعـدّدت النظـريّات ووجهـات النظـر، نورد البعـض منها فى سـبيل أنْ تلقى لنا ضـوءًا عـلى أوضـاعـنا العـربيّة:
1ـ ” ذوبان” الإيمان فى الدين:

بـدأ ذوبـان الدين المسـيحىّ فى المجتمع مـنذ الهدنة القسـطنطـنيّة عـندما أصبح مُعْـتَرفـًا به سـياسـيًا. واسـتمرّ هـذا الذوبـان فى الفـلسـفة مع كانط مـثلاً الذى اعـتبر ـ بعـقلانيّته ـ أنّ الوحى ما هـو إلاّ تحقيق لـ ” العـقل الأخـلاقى”، فامـتزج الدين بالحضـارة حتّى تلاشـى فـيها إذ أصبح مظهـرًا من مظاهـرها (2).

وفى هـذا الجـوّ، سـاهم اللاهـوت البروتسـتانتىّ ” الليبرالىّ ” فى القـرن التاسـع عـشـر فى أنْ يصبح الدين واقعـًا إنسـانيًا داخـلاً فى الثـقافة الأوروبيّة، ممّا جعـل الدين ينطـوى عـلى الإنسـان عـوضًا عـن ينفـتح عـلى الله.

هكـذا ذاب الدين تدريجـيًا فى الحضـارة، وأصبح جـزءًا منها، لا يسـمو عـنها. فـفقـد الملح ملـوحـته لكـثرة ذوبانه فى الواقـع الحضـارىّ بـدون أنْ ينادى بتسـامى الله وعـثرة الصـليب وبُشـرى الإنجـيل، وبـدون أنْ يكـون خمـيرة للعـجين إذ أصـبح جـزءًا من العـجين. وبناء عـلى ذلك ذاب الإيمان فى الدين، والإيمان الشـخصىّ فى الديانة الاجتماعـيّة. فإذا أصـبح الدين ” دينًا اجتماعـيًا”، لم يعُـد للإيمان قـوّته لا فى الكنيسـة ولا فى الشـخص المؤمن، بل ولا فى المجتمع الدينىّ نفسـه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(2) هـذا وضع شـرقنا العـربىّ. فلم يُعـد التمـييز بين الدين والحضارة واضحًا. ويبنى ” الأصوليّون” إيديولوجيّتهم عـلى هـذا الخلط بين الحقيقتين.
2ـ ” التمايز” بين الإيمان والدين:

وضـدّ هـذا التطـرّف، قـام كارل بارت (Barth Karl) اللاهـوتىّ البروتسـتانتىّ المشـهـور، محاولاً أنْ يُعـيد للإيمـان حـيويّته إذ فقـدها الدين. فيرجـع فضـله إلى التمـايز بين الحقيقـتين والإلحاح فى أهـمّيّة الإيمان، مناديًا بأنّ الوحى يؤسّـس الدين الحقيقىّ، بيد أنّ الدين الطـبيعىّ أو الدين الاجتماعىّ يقـع تحت طائلة الخطـيئة، وما من منقـذ له سـوى الوحى. وتبعـه بعـد ذلك اللاهـوتىّ الروحانىّ ديتريش بونهـوفر ( Dietrich Bonhoeffer ).
3ـ من ” التمايز ” إلى ” الفصل ” بين الإيّمان والدين:

إلاّ أنّ قـصدهما فى ” التمايز” بين الإيّمان والدين قـاد تلامـيذهما إلى ” الفصـل” بينهما، مـندّدين بالتـديّن المزيّف. فـنادوا بتطهـير الإيّمان من العـبادة والأسـرار والعـقائد والمؤسـسـات والشـريعـة والتسـامى…، مسـندين فى ذلك إلى قـول يسـوع إن العـبادة الحقيقيّة { بِاَلْرُوحِ وَ اَلْحَقِّ } [ يوحنا 4: 23].

إلاّ أنّهم ـ لشـدّة رغـبتهم فى تطهـير الإيّمان من التـديّن المزيّف والتطرّف فـيه ـ لم يمـيّزوا بين ما كان يجـب أنْ يزول وما كان يجب أنْ يبقـى من تعـابير الإيّمان الدينيّة.

هكـذا فَـقَدَ الإيّمان تدريجـًّا طابعـه الداخلىّ من ناحية، والجماعـىّ من ناحية أُخـرى، فالتسـامى من ناحـية ثالثة. وأصبح الإيّمان بدون دين. ومـثلاً عـلى ذلك التيّار اللاهـوتىّ الذى نشـأ وترعـرع فى السـتّينات والسـبعـينات والمعـروف بـ ” لاهـوت موت الله” الذى كان يتصمّنه ” لاهـوت التعـلمُن المتطـرّف” ( Sécularisme ) (3).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(3) كان المقصـود بـ ” موت الله”، من منطلق كلمة نيتشه الشـهيرة، موت ” فكرة” معـيّنة عـن الله: الله الجبّار، الديّان، المتسـلّط، البعـيد عـن الإنسـان…، وإنْ كان هـناك ” التعـلمُن المتطرّف”، إلاّ أنّ هـناك ” العَـلمانيّة Sécularisation ” وهى لا تتّسـم بالتطرّف. وبهذا المعـنى، إنّ حضارتنا العـربيّة بحاجة إلى مـثل هـذا التطهـير قى مفهـومنا عـن الله.
4ـ الدين تعبير ضرورى عن الإيمان:

إنْ في ما سـبق شـيئًـا من الصحّـة، من حـيث أهـمّـيّة تطهـير الإيّمان من التديّـن المـزيّف. إلاّ أنّ ” التطهـير” لا يعـنى إطـلاقـًا ” الإزالة”، فالإيّمان فى مسـيس الحاجة إلى الدين كتعـبير عـنه. وامّا التطهـير، فيجـب أنْ يتمّ بنقـْد الدين بالدين، ونقـْد الدين فى الدين، مـثلما فعـل إسـرائيل بعـد السـبى حـيث إنّه حافـظ عـلى العـبادة وأزال منها الشـوائب، موجّـهًا عـبادته نحـو الإله الحقيقىّ لا نحـو الآلهـة المـزيّفـة، أو بتعـبير المسـيح: { لَيْسَ اَلإنْسَـانَ لِلْسَـبْتِ، بل اَلْسَـبْتِ لِلإنْسَـانِِ }، وحيث إكتسـب إسـرائيل بُعْـد الشـموليّة بعـد أنْ تقـوقع عـلى ذاتـه وعـلى خصـوصيّته (4). فإن أصبح الدين فى حـدّ ذاته هـدفـًا، اسـتعـبد الإنسـان واسـتدعى التطهـير. ولكـنّه إنْ ظـلّ فى حـدوده ـ كتعـبير صـادق عـن الإيّمان ـ وجـب الاحتفـاظ بـه كضـرورة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(4) وإنّ شـرقـنا العـربىّ بحاجة هو أيضًا إلى مـثل هذا التطهـير من حـيث ” الدين المزيّف” و ” الدين الاجتماعىّ” و” الدين الواحد”….
5ـ الإيمان مصدر الدين:

غـير أنّ ضـرورة الدين هـذه لا تعـنى أنّه الهـدف. فليس مصـدر المسـيحيّة الدين وإنّما الإيمان. فقـد أتى المسـيح وحـرّر من الدين وسـطوته وجعـله ” بالروح والحقّ”. وجعـله مبنيًّا عـلى الإيمان به كشـخص يُعـلن الآب ويُخلّص من الخطـيئة ويُرسـل الروح. وهـنا يظهـر الفـرق بين المسـيحيّة والأديان الأخـرى. فالأديان الطـبيعـيّة تعـتمد عـلى الشـرائع الدينيّة التى تأخـذ أهـمّيّة بالغـة، عـلاوة عـلى أنّ العـلاقة مع الآلهـة تتّسـم بشئ من النفعـيّة. وأمّا الدين الاجتماعىّ فى اليهـوديّة والإسـلام فهـو أسـاسىّ بالنسـبة إليهما. وأمّا فى المسـيحيّة، فالإيّمان هـو الذى يؤسّـس الدين ويُضفى عـليه معـنى بل ويمنحـه الوجـود، فالإيّمان هـو الذى يؤسّـس العـلاقة الحقيقيّة بين الله والإنسـان ( Religare ). فالإسـلام مـثلاً يعـتبر أنّ الإنسـان يولـد مسـلمًا، أى مرتبطـًا بالدين الإسـلامى، إلى أنْ يجعـله أهـله يهـوديًّا أو مسـيحيًا.. أمّا المسـيحيّة، فتعـتبر أنّ الإنسـان لا ” يولد” مسـيحيًا، بل ” يصـبح” مسـيحيًا بالإيمان، والإيمان بالله (Deum in Credere)، أكـثر مـنه الإيّمان بعـقـيدة (Deum Credere)، أو الإيّمان بكـتاب (Deo Credere). فالإيمان لا الدين يجعـل الشـخص مؤمـنًا مسـيحيًا، فقـد يولد شـخص فى بيئة مسـيحيّة وقـد تجمـل شـهادة ميـلاده صـفة ” الديانة : مسـيحيّ “، إلاّ انّه يصـبح بالفعـل مسـيحيًا بإيمانه بالله الآب والابن والروح القـدس (5).

وفى سـفر أعـمال الرسـل، شـاعـت تسـمية المسـيحيّين بـ ” المؤمنين” (Pistoi)، أو ” الذين يؤمـنون” ( Pisteusantes) [ راجع أعمال الرسـل 2/44، 4/32، 5/14، 6/7، 10/45… ]، تعـبيرًا عـن الإيمان الشـخصىّ. وقـد لوحظ اسـتخدام صيغة الجمع دائمًا، تعـبيرًا عـن الإيمان الكنسـىّ.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(5) وهـذا ما يحـدث فى العـماد بإيمان الأهل والشـبين، فهم يقدّمون الطفل للمعـموديّة. إلاّ أنّ ذلك يفترض أنّ الطفل نفسـه، عـند بلوغـه، يؤمن إيمانًا شخصـيًا، وإلاّ وقع فى ” الدين” بدون ” الإيمان”، الأمر الذى لا معـنى له إطلاقـًا فى المسـيحيّة.

الخاتمة

فمخـتصر كلامـنا أنّ بين الإيمان والدين صـلة وثـيقـة، يصـعـب الحفـاظ عـليها بالإتّـزان المرجـوّ بينهما، والتاريخ شـاهد عـلى ذلك، فالمصـدر والهـدف إنّما هـو الإيمان، وأمّا الدين فما هـو إلاّ وسـيلة، وسـيلة ضـروريّة بـدون شـكّ إذ تعـبّر عـن الإيمان، غـير أنّها تظلّ وسـيلة وينبغـى ألاّ تصـبح هـدفـًا.

وبحسـب الحضارات والبيئات الاجتماعـيّة والظـروف السـياسـيّة، ينـال أحـد العـنصرين أهـمّيّة عـلى حسـاب الآخـر. ففى الغـرب مـثلاً، اضمحلّت أهـمّيّة الدين لحسـاب إيمان كـثيرًا ما يظهـر مجـرّدًا فـردانيًا. وفى الدول التقـليديّة مـثلاً، ينـال الدين أهـمّيّة عـلى حسـاب الإيمان الشـخصىّ. وفى شـرقـنا العـربىّ بصـفة خاصّة، حـيث المواجهة المسـتمرّة بين الأديان، قـد يكتسـب الدين من الأهـمّيّة ما يجعـله دينـًا اجتماعـيًا أمام الدين الاجتماعىّ الآخـر، ممّا يُفـقـده طابع الإيمان الشـخصىّ الكنسـىّ. فعـلى مختلف الكنائس العـربيّة أن تتنبّه وتتيقـّظ إلى خطـورة مـثل هـذا الموقف.

الفصل العاشر
العبادة كتعبير عن الإيمان

إنّ العـبادة ـ الجماعـيّة والشـخصيّة ـ تعـبير من تعـابير الإيمان. وإنّها ـ كتعـبير ـ مهـمّة وضـروريّة لحـيويّة الإيمان، إيمان الكنيسـة ككنيسـة والمؤمنين كمؤمنين. فبـدون عـبادة، ينازع الإيمان، ويفقـد حـيويّته، كما أنّ الجسـد يفقـد حـياته بـدون الروح.

وفى هـذا الفصـل نسـتهلّ حـديثنا بتحـديد موقع العـبادة من بقـيّة التعـابير الإيمانيّة، ثمّ نتحـدّث عـن أزمة العـبادة فى القـرن العـشـرين، وأخـيرًا نُظهـر مقـوّمات العـبادة فى عـلاقـتها مع الله والشـخص فالكنيسـة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
موقع العـبادة من سائر التعابير الإيمانيّة

لقـد رسـخ فى أذهاننا أنّ للإيمان صـلة بقـوى النفـس الثـلاث: العـقل والوجـدان والإرادة. ولكلّ من هـذه الأبعـاد الثـلاثة تعـبير عـن الإيمان. فالفكـر اللاهـوتىّ يتعـلّق بالعـقل بصـفة خاصّة، والعـمل والنشـاط بالإرادة بصـفة خاصّة، وأمّا العـبادة فبالوجـدان بصـفة خاصّة. وبالطـبع يجـب عـدم الفصـل فـصلاً قاطعـًا بين القـوى الثـلاث. فكلّ من الفكـر اللاهـوتىّ والعـبادة والعـمل يتعـلّق بالقـوى الثـلاث فى آنٍ واحـد، إلاّ أنّ كُلاً منها يختصّ ببُعـد أكـثر من الاثـنين الآخـرين.

وقـد يقـع التعـبير الإيمانىّ فى فخّـىّ الحـديث اللاهـوتىّ والعـمل، فالعـبادة تُخـرجهما من هـذَيْن الفخّـيْن. فقـد يأخـذ الفكـر اللاهـوتىّ أهـمّيّة بالغـة حتّى يَخـال للاهـوتيّين أنّ حاضر الإيمان بل ومسـتقبله بين أيديهم، فـتأتى العـبادة لتصحّح هـذا الوضـع، مذكّـرة أيّاهم أنّ الفكـر اللاهـوتىّ بـدون العـبادة لم يَعُـدْ تعـبيرًا إيمانيًا حقيقيًا. لذلك يَعْـتبر الآباء الشـرقـيّون أنّ اللاهـوتىّ الحقيقىّ روحانىّ أيضًا، أى أنّ الفكـر اللاهـوتىّ يكتمل فى العـبادة، بل ويتحـوّل إلى عـبادة. فاللاهـوتىّ الحقيقىّ هـو الذى يسـجد ويعـبد الله. ونلاحظ بالفـعـل أنّ اللاهـوتيّين العـظماء فى المسـيحيّة ـ ” آباء الكنيسـة” كما نسـمّيهم ـ هم قـدّيسـون يعـبدون ويصـلّون، والكنيسـة تذكـر تعـليمهم لأنّهم دمجـوه فى عـبادتهم.

وأمّا الفخّ الثانى، فهـو العـمل من أجـل العـمل ( Activisme )، فالهـروب من العـبادة والضـياع فى العـمل. هـؤلاء هم الذين، وإنْ خـدموا خـدمة حمـيدة ومخلصة، إلاّ أنّهم يعـيشـون عـلى السـطح بـدون جـذور عـميقـة. فالعـبادة تمنح بُعـد العـمق لخـدمتهم وعـملهم ونشـاطهم، كما أنّها تلهـمها (1).

هكـذا يتجـنّب الإيمان تعـابير مـزيّفـة بفضـل العـبادة وهى تضـع الأمـور فى نصابها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) عـن دائرة الصـلاة والحـياة، راجع كتابنا عن ” مدخل على روحانيّة إغـناطـيوس دى لوبولا ” السـالف الذكـر.

أزمة العـبادة فى القـرن العـشرين

ولكـن أزمة الإيمان اليوم تعـود ـ ممّا تعـود ـ إلى فقـدان روح العـبادة لدى المؤمنين. وترجع هـذه الأزمة إلى عـدّة أسـباب نذكـر أهـمّـها:
1ـ فقدان الروح المجّانيّة وتسلّط الروح النفعيّة:

إنّ المجتمع الإسـتهلاكىّ الذى أوجـدته حضـارة القـرن العـشـرين نمّى الروح النفعـيّة فهى تحـتاج إلى أنْ تجـد منفعة واضحة لكلّ ما يقـوم به الإنسـان، وهى تقـيس كلّ شئ بالإنتاج. فتكمن قـيمة الشئ فى المنفعة الملموسـة بل والماديّة. فضـاعـت بالتالى الروح المجّـانيّة وهى من ركائز العـبادة.

فالعـبادة لا تُجْـدى نفعًا ماديًا، بل إنّها تُضيع الوقـت، هـذا الوقتت الذى يُمكن اسـتخدامه فى دعـم الإنتاج وازدياد إمكانيّات الاسـتهلاك. وبالأخصّ لا منفعة إطـلاقـًا للتسـبيح والشـكر والحمد بالقـياس إلى قـيم المجتمع الإنتاجىّ والاسـتهلاكىّ. وإن كان لصـلاة الطـلب بعـض المشـايعـين لها، فـلأنّها تعـتمد هى الأخـرى عـلى المنفعة والمصلحة. ولأنّ العـبادة اقـترنت كـثيرًا فى أذهـان المؤمنين بصـلاة الطـلب حتّى لا تعـنى إلا الطـلب، ولأنّ القـرن العـشـرين بمنجـزاته الجـبّارة الهائلة لم يعـد يسـتعـين بالله كما كان يفعـله البدائيّون، فـَقَـدَ إنسـان القـرن العـشـرين روح العـبادة أو بالأحـرى لم تَعـُدْ روح العـبادة المجـرّدة أمـرًا طـبيعـيًا وعـفويًا لديه. وأمّا مجتمعـات العـالم الثـالث ـ كبلادنا العـربيّة ـ فلم تفْـقـدْ بعـد تمامًا هـذه الروح، بقـدر ما لم يتوغـّل فيها كاملاً المجتمع الإنتاجىّ الاسـتهلاكىّ. ولكن كلّما سـيّطر هـذا المجتمع عـليها، سـتصبح مثل المجتمعـات المتقـدّمة والمتحضّـرة عُـرضة لفـقدان روح العـبادة المجّانيّة.

لذلك وجـب عـلى الرعـاة أنْ يفصـلوا نهائيًا العـبادة عـن أى روح نفعـيّة أو اسـتهلاكيّة. وسنبيّن فى الفـقـرة الخاصّة بمقـوّمات العـبادة الروح المجّـانيّة المجـرّدة التى يجـب تنميتها لدى المؤمنين.
2ـ فقدان الروح الجماعيّة وتسلّط الروح الفرديّة:

وإنّ المجتمع عـينه ينمّى الروح الانفراديّة والأنانيّة، سـواء أكان عـلى المسـتوى الاقـتصادىّ أم العـائلىّ أم المهنىّ… ولم تسـلم العـبادة من هـذه النزعـة، بل أصـبحـت خاضعـة للسـمة نفسـها، بمعـنى أنّ مـثال الصـلاة ونموذجها الأعـلى وصورتها المـثلى أصـبحت الصـلاة الفـرديّة ـ إذ اكتسـب الشـخص قـيمة مطلقـة ـ وذلك عـلى حسـاب العـبادة الكنسـيّة الجماعـيّة.

وأمّا الروح الجماعـيّة، فإنّها تسـند وتعـضّد العـبادة الشـخصيّة والإيمان الشـخصىّ، وبها يشـعـر المؤمن بانتمائه إلى جماعـة المؤمنين. ولكن بفقدانه هـذه الروح، يفقد الشـخص سـندًا ثمينًا، فـلا يثابر وحـده فى العـبادة الشـخصيّة.

لذلك وجـب عـلى الرعـاة أن ينمّـوا قـدر المسـتطاع الروح الجماعـيّة الكنسـيّة. وأمّا فى مجتمعـاتنا العـربيّة حـيث الروح الجماعـيّة لا تزال قـويّة، فيجـب عـلينا الحفاظ عـليها بل تنميتها، حتّى لا تقع فى نفس ما وقـعـت فيه مجتمعـات متقـدّمة فردانيّة، ولكن بـدون أىّ لون من ألوان التشـدّديّة أو الرجعـيّة أو رفـض التجـديد باسـم التقـليد.
3ـ فقدان الروح الفكريّة والعلميّة وتسلّط الروح العاطفيّة:

إنّ سـببىّ الأزمة السـابقتين يختصّان أكـثر ما يختصَان بالمجتمعات المتقدّمة. وأمّا مجتمعاتنا الشـرقيّة، فتتسـلّط عـليها النزعـة العـاطفيّة والمشـاعـريّة والأحاسـيسـيّة حتّى فى الأمور الإيمانيّة. ولا داعـى لإثبات ذلك إذ إنّه أمـر واضح وجلىّ. وفى الوقت نفسـه، لم يعـد الفكـر اللاهـوتىّ يغـذّى إيماننا، فقد وقع لاهـوتنا الشـرقىّ فى سـبات عـميق بعـد القـرون المسـيحيّة الذهـبيّة ( أى إلى القـرن الخامس، أو بالأكـثر إلى القـرن السـابع فى مصر، والقـرون الوسـطى المسـيحيّة البيزنطيّة )، وبـدأت عـصور الاجـترار عـوضًا عـن الابتكار، والرجعـيّة عـوضًا عـن التقـدّم، بيـد لأنّ الكنائس الشـرقيّة كانت ترفع شـعـار الفكـر اللاهـوتىّ فى المجامع المسـكونيّة والمدارس اللاهـوتيّة فى الإسـكندريّة وأنطاكـيا والقسـطـنطينيّة… ومقـابل جـدارة الفكـر اللاهـوتىّ ومتانته، وقعـت كنائسـنا الشـرقيّة فى روحانيّة عاطفيّة سـاهم فى تأجّجها طـبعـنا الشـرقىّ المائل إلى تسـلّط العاطفة. وليسـت النزعـة العاطفيّة هـذه من مقوّمات العـبادة الحقيقيّة. وإنْ اسـتدعـت العـبادة الوجـدان، فليسـت العـواطف وجـدانًا، وشـتّان ما بينهما.

فالأرثوذكسـيّة ـ بحسـب اللاهـوتيّة الشـرقيّة Behr-Sigel Elisabeth” تفضّل عـلى المقارنة العـقليّة التصوّريّة القاهـرة، الانطباع والتلقـين التدريجـيّين عـن طـريق صـور السـموّ الليتورجىّ ورمـوزه. فالرمـز لا يُعْـرّف بل يوحى ويسـاعـد عـلى التفكـير. وإنّ التعـبير الشـعـرىّ مـناسـب ليشـير إلى حـقـيقة تختصّ أسـاسـًا بالدهـر الآتى … إنّ عـدم شـفافـيّة الرمـز الجـزئيّة تمثـّل غـناه، إذ تفتحـه عـلى التعـدّديّة فى الإدراك الشـخـصىّ، متّجهة نحـو الحـقـيقة الشـاملة”.

هكـذا يقـرّ اللاهـوت الشـرقىّ ـ أكـثر من اللاهـوت الغـربىّ ـ بأهـمّيّة النزعـة الجماليّة وتذوّق الوجـدان لها. ولكن الوجـدان هـذا يختلف تمامًا عـن الأحاسـيس والمشـاعـر والعـواطف.

وبالمـثل، تتنافى النزعـة العـاطفيّة وروح المسـئوليّة. وذلك أيضًا واضح فى مجتمعاتنا الكنسـيّة الشـرقـيّة، أمـرها أمـر مجتمعاتنا الدنيّة عـامّة. فكم من المؤمنين يهـربون من الالتزام الجـدّىّ ومن تحمّل المسـئوليّة ويحـتمون فى العـادة وصتلاة الطـلب. إلاّ أنّ ذلك ليس بالعـبادة الحقيقيّة (2).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(2) إن كان فى تحليلنا شئ من القسـاوة والمبالغة، فلإظهار المشـكلة لا للإدانة، فى سـبيل إيجاد الحلول المناسـبة لا للنقـد الهدّام.
4ـ الخاتمة:

لقـد أرجعـنا أسـباب الأزمة المعـاصرة فى العـبادة إلى أهمّ مظاهـرها، وأردنا من خـلال ذلك التمايز الواضح بين أزمة سـببها الحضارة أو الطبع الوطنىّ، وأزمة الإيمان قى حـدّ ذاتها، ويسـتدعى ذلك بعـض التوضيح.

فمن السـهل إتّهام المؤمنين بأنّ أزمة العـبادة تقـود اليـوم إلى أزمة الإيمان. وفى ذلك شئ من الصحّة. إلاّ أنّه عـلينا أنْ نُحلّـل أيضًا الأسـباب التى تسـبّبها الحضارة نفسـها أو الطبع الوطنىّ نفسـه، والتى تؤثـّر تأثـيرًا بالغـًا فى الإيمان. فإنْ انتقـدْنا قلّـة الإيمان فى مؤمنى اليوم، كان حكمنا قاسـيًا ظالمًا، لأنّ المؤمنون يعـشـون فى عـالم معـيّن وحضارة معـيّنة وثقافة معـيّنة تشكّل شـخصيّتهم برمّتها، بما فيها الشـخصيّة الدينيّة. وبهـذا المعـنى إنّ مسـئوليّتهم فى ذلك أقلّ ممّا نتصـوّره، خاصّة إن أخـذنا بعـين الاعـتبار الضعـف البشـرىّ إذ يتأثـّر بمحيطه بالغ التأثـّر.

ومن جهة أخـرى، إذا اتّهمناهم بقلّـة الإيمان بدون أنْ نقـدّم حـلولاً لمواجهة الموقف، أصبح موقفنا انتقادًا سـلبيًا هـدّامًا. وأمّا تحليلنا السـابق، فيُظهـر المشـاكل عـلى حـقيقتها، مبتغـيًا تقـديم الحـلول المناسـبة.
مقـوّمات العـبادة

فى ضـوء ما سـبق، نحلّل أهـمّ مقـوّمات العـبادة. ولسـهولة التحليل نمـيّز عـلاقة العـبادة بالله، ثم بالمؤمن، فبالكنيسـة:
1ـ العبادة والله:

تعـتمد العـبادة أسـاسـًا عـلى مجّـانيّة عـلاقة الإنسـان مع الله، بـدون أى روح نفعـيّة أو مصـلحة. ولقـد سـبق لنا أنْ بيّنّا اسـتبدال ” الاحـتياج” بـ ” الرغـبة” فى عـلاقة الإنسـان مع الله، فالاحـتياج إلى الله لا يخـلو من المنفعة والمصلحة.، أمّا الرغـبة فهى مجّـانيّة. وعـلى العـبادة أنْ تتّسـم بالسـمة المجّانيّة نفسـها، تعـبيرًا عـن عـمق رغـبة الإنسـان فى الله. فالله يسـتحق عـبادة الإنسـان، هـذا هـو عـمق العـبادة. فليسـت العـبادة واجـبًا تفـرضه عـلى الإنسـان صفـته كمخـلوق، أو أمـرًا من الله نفسـه، أو ما أشـبه ذلك…، لا إنّ الله يسـتحق أنْ يعـبده الإنسـان، والإنسـان يرغـب فى عـبادة ربّه وأبيه. هـذه هى عـبادة التسـبيح والحمد والشـكر بالذات، بـدون أيّة مصلحة أو منفعة. والإنسـان قـد خـلقه الله ليعـبده هـذه العـبادة. وما الحـياة الأبـديّة ـ كما يشـير إليها جليًّا سـفر الرؤيا من أوّله إلى آخـره ـ سـوى عـبادة الله وجهًا لوجه عـبادة مسـتديمة.
2ـ العبادة والمؤمن:

يقـول القـدّيس إيريناوس: ” مجـد الله هـو الإنسـان الحىّ، وحـياة الإنسـان مشـاهـدة الله”.

فمشـاهـدة الله ـ أى عـبادته ـ هى من جوهـر كـيان الإنسـان وعـمق وجـوده وهـدف حـياته الأرضـيّة وغـاية حـياته الأبـديّة. فالعـبادة من مقـوّمات الإنسـان، وفى جوهـره.

ومن جهة أخـرى، إنْ كانت العـبادة تعـبيرًا عـن إيمان المؤمن، إلاّ أنّها فى آنٍ واحـد تقـوية له. فالإيمان ينمو بالعـبادة، والعـبادة تقـود الإيمان إلى { مِلْءِ قَـامَـتَه } [ أفسـس 4: 13]. وتتطلّب العـبادة خـروجًا من الذات وتمحـورًا وانفـتاحًا عـلى الله. فكم من المؤمنين لا يجـدون نفعـًا للعـبادة لأنّهم لا يصلّون بالفعـل، أى لا ينفتحـون عـلى الله ولا يحتجـبون فـيه، بل يظلّـون فى صـلاتهم منغـلقين عـلى أنفسـهم ومشـاكلهم وهمـومهم، فيخـال لهم أنّهم يعـبدون الله، فى حـين أنّهم يعـبدون أنفسـهم بـدون أنْ يعـوا. إذ لم يخـرجوا من ذواتهم.

ولا يعـنى ذلك أنّه يجـب ترك الهـموم والانشـغالات فى العـبادة، بل يجـب تقـديمها وتسـليمها لله. فيأتى المؤمن إلى العـبادة بما هـو عـليه فى حـياته اليوميّة، ولكن ينبغـى ألاّ تكـون حـياته اليوميّة عـائقـًا دون الاتّحـاد بالله، بل حافـزًا له.

وبهـذا المعـنى يمكن القـول بأنّ العـبادة تغـيّر المؤمن تغـييرًا جـذريًا، إذ إنّها تُخـرجه من ذاته وتفتحـه عـلى الله وعـلى الآخـرين. فالعـبادة عـمل خـلاّق، هى عـمل الله فى الإنسـان. فأمّا الرأى العـامّ فـيرى أنّ الإنسـان يعـمل فى العـبادة شيئًا ( يتحـدّث مع الله، ويطلب إليه، ويسـبّحه …)، لكنّ الحقيقة هى أنّ الله أوّلاً هـو الذى يعـمل فى الإنسـان من خـلال العـبادة. هـذه هى نعـمة العـبادة. فالله فى أثناء العـبادة، يغـيّر قـلب المؤمن ويمنحه حـياة أفضل تفـيض فـيه. لذلك ليسـت العـبادة ضـروريّة حـتميّة فى حـياة الإنسـان ـ فكم من البشـر لا يصلّون ـ بل هى تضعه فى قمّة دعـوته وتمنحه الحـياة الأفـضل الفيّاضة. فنجـد هـنا أيضًا أنّنا عـلى مسـتوى ” الرغـبة” لا ” الاحـتياج”.

ولا يعـمل الله وحـده فى الإنسـان، بل يُشـرك الإنسـان فى تغـيير نفسـه. فالله يعـمل فى الإنسـان مع الإنسـان وبالإنسـان، من خـلال العـبادة، فللإنسـان دور مهمّ فى العـبادة. وقـد رأينا أنّه يخـرج من ذاته وينفتح عـلى الله والآخـرين.

ونظـرًا إلى كلّ ذلك، يسـمِّى القـدّيس بندكنس ـ مؤسـس الحـياة الرهـبانيّة فى الغـرب ـ الصـلاة: ” عـمل الله” ( باللاتينيّة: Opus Die ) بمعـنى أنّ الإنسـان يقـوم بعـمل إلهىّ والله نفسـه يعـمل فى الإنسـان.
3ـ العبادة والكنيسة:

ينبغـى لنا أنْ نؤكّـد بُعْـد العـبادة الكنسـىّ، لأنّ الإيمان المسـيحىّ ـ كما رأينا مرارًا ـ إيمان كنسـىّ، ولا يمكن تصـوّره إلاّ عـلى هـذا المنوال.

ويظهـر دور الكنيسـة فى العـبادة بصـفتها امتـدادًا ليسـوع المسـيح عـلى الأرض، ” آيـة” عـنه للمؤمنين وللعـالم. ولمّا كان يسـوع المسـيح الوسـيط الأوحـد بين الله والبشـر، فكلّ عـبادة لا يقـبلها الآب إلاّ لأنّ ابنه المجـيد يقـدّمها له، ولأنّ روحهما يلهم الكنيسـة بأنْ تعـبد ويُدخلها فى حـوار الحـبّ الذى يـدور بين الآب والابن. وبالتالى، إنّ الكنيسـة كامـتداد للمسـيح تقـدّم للآب عـبادة المؤمنين، بل البشـر أجمعهم، عـلى اخـتلاف معـتقـداتهم وأديانهم. إنّ الكنيسـة ـ امـتدادًا للمسـيح ـ تتشفـّع من أجـل البشـر بأسـرهم. هى تقـدّم العـبادة ” بالروح والحق” باسـم العـالم ومن أجـل العـالم.

وإذا دقـّقـنا النظـر فى دور العـبادة فى داخـل الكنيسـة، رأينا أنّ العـبادة عـامّة هى عـلاقة جماعة ممـيّزة، فتُعـبّر عـن شـخصيّة جماعة معـيّنة، فلكلّ دين عـبادة خاصّة تُشـير إلى شـخصيّته وتُعـبّر عـنه. وإنْ كانت العـبادة عـنصر تمـييز بين الأديان، إلاّ أنّها فى الوقـت نفسـه عـنصر وحـدة هـذه الجماعـيّة. فالعـبادة فى الإفخارسـتيّا مـثلاًّ توحّـد الكنيسـة، والعـبادة فى الجماعات الرهـبانيّة وفى العائلات توحـّد أعـضاءها:” كلّما اجتمع اثنان أو ثلاثة باسـمى، فأنا أتوسّطهم” وفى الآن ذاته، إنّ العـبادة تعـبير عـن الوحـدة الكامنة فى الكنيسـة، أو الرعـيّة، أو العائلة، أو الجماعة الرهـبانيّة…، فالوحـدة هى إذًا ثمـرة العـبادة من جهة، وشـرط إمكانها من جهة اخـرى.

وعـند الاحـتفال بهـذا البُعـد الوجـودىّ فى الكنيسـة ـ ومصدره وفاعـله وغـايته إنّما هـو الله نفسـه ـ لا تخـلو العـبادة فى الكنيسـة من طابع الفـرح والعـيد، كما كان يظهـر جليًا فى الكنيسـة الناشـئة [ أعـمال الرسـل 2: 42 ت ]. وإنْ ظلّت واضحة المعالم بعـض الشئ فى طقـوسـنا الشـرقيّة، واسـترجعـتها الكنيسـة الغـربيّة بعـض الشئ بعـد المجمع الفاتيكانىّ الثانىّ.

ويجـدر بنا أنْ نوضّح دور ” الرهـبان المشـاهـدين” ( Contemplatifs ) فى الكنيسـة. فإنّهم يذكّـرون المؤمنين بالأهـمّيّة الحـيويّة للعـبادة. ففى عـصـرنا، قد يُفكّـر البعـض أنّه من الأفـضل أنْ يقـوم هـؤلاء الرهـبان بـدور فعّـال فى الكنيسـة والمجتمع وأنْ يقـوموا بخـدمة المؤمنين وغـير المؤمنين، خاصّة وأنّ الدعـوات الرهـبانيّة تقـلّ. غـير أنّ هـذا التفكـير غـير صـائب ويُدلى بقـلّة إيمان حـيث يتّسـم مؤيّـدو هـذه الفكـرة بالروح النفعـيّة. فهـؤلاء الرهـبان يذكّـرون أولئك الذين فقـدوا معـنى العـبادة والروح المجّانيّة المجـرّدة، بضـرورتها ضـرورة حـيويّة. فهم شـوكة تذكّـر سـائر المؤمنين باسـتمرار ما هـو أسـاسـىّ وجـوهـرىّ فى الكنيسـة.

ومن جهة أخـرى، إنّ هـؤلاء الرهـبان لا يترهّـبون لخـلاص نفـوسـهم فحسـب، بل لخـلاص الكنيسـة والبشـريّة بأجمعها أيضًا. فحـياتهم عـامّة، وعـبادتهم خاصّة، عـبارة عـن تشـفّع من أجـل الكنيسـة والبشـر. ولا معـنى لحـياتهم الرهـبانيّة بـدون هـذا البُعـد. وبالتالى إنّ وجـودهم فعّـال وضـرورىّ لحـياة الكنيسة والعـالم، مـثلما الخـدمة فعّـالة وضـروريّة، ولا تقـلّ عـنها أهـمّيّة وقـيمة.

الخاتمة

لاحـت لنا جليًا العـلاقة العـضـويّة التى تربط الإيمان بالعـبادة والعـبادة بالإيمان. فكنيسـة لا تعـبد، يفـتر إيمانها وتضعـف شـهادتها وتفـقـد ملوحـتها ويضّمحلّ نورها وتتلاشتى فاعـليّة خمـيرتها. وليسـت العـبادة موضـوع تقـوى أو واجـبًا أو مشـاعـر…، بل هى موضـوع حـيويّة الإيمان، إيمان الكنيسـة بوجه عـامّ وإيمان كلّ مؤمن بوجه خاصّ. فإنْ اسـتهلّ حـديثنا عـن العـبادة بالقـول إنّها تعـبّر عـن الإيمان، فيمكننا فى خـتامه التصـريح بأنّها تُحـييه وتقـوّيه وتنمّـيه حتّى لا يفـتر فيزول تدريجـيًا.

الفصل الحادي عشر
كلمة الله كتعبير عن الإيمان

إنّ ” كـلمة الله” خـير تعـبير بشـرىّ عـن الوحى الإلهـىّ المـسـيحىّ. إنّ ” كـلمة الله” هـو الابـن الأزلىّ بصـفة مطـلقـة، إلاّ أنّـه ” صـار بشـرًا” ، وتجسّـد، ” نصـب خـيمته بيننا” { وَالْكَلِمَةُ صَارَ جَسَداً وَحَلَّ بَيْنَنَا وَرَأَيْنَا مَجْدَهُ مَجْداً كَمَا لِوَحِيدٍ مِنَ الآبِ مَمْلُوءاً نِعْمَةً وَحَقّاً } [ يوحنا 1: 14]. وفى ذلك يكمن ما تسـتأثر وتنفـرد به المسـيحيّة.

وبالتالى، إنّ ” كـلمة الله” ـ لا بالمعـنى المطـلق بل النسـبىّ ـ تأخـذ هى الأخـرى شـكلاً وطابعـًا بشـريًا، بناء عـلى ما رأينا مـرارًا من تضـافر بين الله / الإنسـان. لذلك يمكن القـول إنّ كلمة الله هى فى الوقـت نفسـه كلمة الإنسـان. والروح القـدس هـو الذى يضمن أنّ كلمة الإنسـان هـذه تعـبّر تعـبيرًا صحيحًا عـن وحى الله وأمـينًا له، وعـن إيمان الكنيسـة.

وفى هـذا الفصـل نودّ تعـريف كلمة الله اوّلاً، مظهـرين ما هـو مضمونها، واضعـين إيّاها فى إطارها الكـيانىّ والتقليدىّ والكنسـىّ، ثمّ نتناول جـزءًا منها، وهـو العـقيدة لنعـرّف بها، ونضعها فى تاريخ الكنيسـة، محـدّدين موضعها من الإيمان ومظهـرين وظيفتها فى الكنيسـة (1).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) لا نتحدّث فى هذا الفصل عـن ” الكتاب المقّدس” كتعـبير عـن ” كلمة الله”، لأنننا درسـناه فى الفصل الثانى.
كلمة الله بين الكتاب والتقـليد والكنيسـة

تتضمّن ” كلمة الله”، بحسـب المجمع الفاتيكانىّ الثانى، الكـتاب المقـدّس من جهة، والتقـليد المقـدّس من جهة أخـرى. وهى الكنيسـة التى تتداولها وتحفظها وتعلّمها وتنشـرها. وخير توضيح لذلك، ما يلى من نصـوص المجمع:

” إنّ التقـليد المقـدّس والكـتاب المقـدّس يرتبطان ويتصـلان فى ما بينهما بشـكل وثـيق. فكـلاهما ينبعـان من مصـدر إلهىّ واحـد، ويؤلّفـان بصـورة ما وحـدة لا تتجـزّأ ويهـدفان إلى غـاية واحـدة.

فالكـتاب المقـدّس هـو حقًـا كلمة الله من حـيث إنّه مكـتوب بإلهام من الروح القـدس.

والتقـليد المقـدّس ينقـل كلمة الله التى عَـهد بها السـيّد المسـيح والروح القـدس إلى الرسـل، وهـو يبلّغـها كاملة إلى خلفائهم لكى يحفظوها ويعلّموها بها وينشـروها بكلّ أمانة، بواسـطة تبشـيرهم، ينيرهم فى ذلك روح الحقّ.

وبذا يتّضح أنّ الكنيسـة لا تسـتقى يقينها بشـأن حقائق الوحى من الكـتاب المقـدّس وحـده، ومن ثمّ يجـب قـبول كلّ الكـتاب المقـدّس والتقـليد ويجـب تكريمهما بقـدر متسـاوٍ من التقـوى والإجـلال” ( دسـتور عـقائدىّ فى ” الوحى الإلهىّ” رقم 9 ).

إنّ التقـليد المقـدّس والكـتاب المقـدّس وسـلطة الكنيسـة التعـليميّة ترتبط وتتناسـق فى ما بينها، طـبقـًا لتـدبير الله كلّىّ الحكمة، بحـيث لا يقـوم الواحـد بـدون الآخـرين. وجميعها تتعـاون تعـاونًا فعّـالاً فى خـلاص النفـوس، كلّ منها بطـريقـته الخاصّة، وبعـمل الروح الواحـد” ( رقم 10 ).

فثمّة أربعـة عـناصر تتضـافر فى ما بينها: كلمة الله ـ الكـتاب المقـدّس ـ التقـليد المقـدّس ـ السـلطة التعـليميّة الكنسـيّة. ويمكن فهم صـلة بعـضها ببعـض عـلى النحـو التالى:

كلمة الله

الكتاب المقدس
التقليد
الكنيسة

فكلمة الله تشـمل الكـتاب المقـدّس والتقـليد المقـدّس. وتقـع عـلى عـاتق السـلطة الكـنسـيّة خـدمة تفسـير كلمة الله هـذه، كما قـامت بإعـلانها وبكـتابتها.

وعـلى وجه المقـارنة، إنّ الكـنائس البروتسـتانتيّة تؤمن بأنّ كلمة الله تطـابق الكـتاب المقـدّس لا غـير، فـلا يمـثّل التقـليد أو سـلطة الكنيسـة التعـليميّة معـيارًا. وفى المجمع الفاتيكانى الثانى، كان المشـروع الأوّل للدسـتور يتحـدّث عـن مصـدرىّ الوحى ـ أى الكـتاب والتقـليد ـ إلاّ أنّ النصّ النهائىّ اعـتبر أنّ هـناك مصـدرًا واحـدًا لا غـير ـ وهـو كلمة الله ـ غـير أنّ تعـبيره مزدوج ـ وهـو الكـتاب والتقـليد ـ وسـلطة تفسـير كلمة الله واحـدة ـ وهى الكنيسـة الممـثّلة فى خلفاء الرسـل ـ.

وتسـتدعى هـذه الألفاظ شيئًا من الشـرح.
· كلمة الله: قـد سـبق وشـرحناها آنفـًا.
· الكـتاب المقـدّس: وقـد سـبق أن شـرحناه فى حـديثنا عـن الوحى.
· التقـليد المقـدّس: نذكـر أنّـه سـابق للكـتاب المقـدّس، بمعـنى أنّ الكـتاب تدوين لروايات شـفهـيّة هى عـبارة عـن تقـاليد الجـماعـات المسـيحيّة الأولى، وما الغـاية من هـذا التدوين سـوى الحفاظ عـلى كلمة الله حتّى نهاية الأزمنة. وأنّ التقـليد يتجاوز الكـتاب إذ يشـمل ما بعـد تدوين الكـتاب، أى تفسـيره عـلى مرّ الأجـيال الكنسـيّة. ويتمثّل هـذا التفسـير فى المجامع الكنسـيّة التى شـهدتها القـرون المسـيحيّة الأولى والتى تسـتمرّ فى الكنيسـة الكاثوليكيّة. وبهـذا المعـنى، يمكن القـول إنّ التقـليد سـابق للكـتاب ولاحـق له، ولا يزال حـيًا فلم يُغـلق التقـليد الكنسـىّ بل تتوارثه الأجـيال الكنسـيّة فـتسْـتلِمِه وتُسَـلّمَه حتّى المجئ الثانى المجـيد. ونذكـر أنّ الوحى ـ بالمعـنى الحصـرىّ له ـ قـد انتهى مع تدويـن الرسـل له، إلاّ انّه ـ بمعـناه الواسـع ـ لا يزال حـيًا.
· السـلطة الكنسـية: تقع عـلى عـاتق خـلفـاء الرسـل ـ أى الأسـاقفة الذين يوحـّدهم البابا ـ خـدمة الحفاظ عـلى كلمة الله بأمانة كاملة، وتفسـيرها تفسـيرًا يجمع بين الأمانة لوديعـة الإيمان والابتكار بحسـب مقـتضـيات العـصر. وكما ضمَن الروح القـدس صحّة التقـليد الكنسـىّ الأول، وتدوينه فى الكـتب المقـدّسـة، ووضع قـانون الكـتب المقـدّسـة هـذه، وتفسـيرها فى المجامع الكنسـيّة، فإنّه يضمن صحّة تفسـير السـلطة التعـليميّة الكنسـيّة لكلمة الله ـ الكـتاب والتقـليد ـ اليوم مـثل الأمس. أو بعـبارة أخـرى، إنّ السـلطة التعـليميّة الكنسـيّة ـ من الرسـل إلى خلفائهم ـ هى الوجه المرئىّ لسـلطان الروح القـدس غـير المرئىّ الذى يلهم ويقـود كنيسـة يسـوع المسـيح. فلقـد أرسـل يسـوع المسـيح الروح القـدس ـ وهـو الوجه غـير المرئىّ ـ وكنيسـته ـ وهى الوجه المرئىّ ـ فى سـبيل رسـالة واحـدة ذات وجهَين منظـور وغـير منظـور، عـلى غـرار إرسـال الآب ابنه ـ مرئيًا ـ وروحهما غـير مرئىّ.

ونـودّ تخصـيص تحليلنا عـلى وجه من وجـوه التقـليد الكنسـىّ، وهـو ” العـقـيدة”. وهـذا ما نقـوم به الآن.
العـقـيدة

نتتبّع الخطـوات الآتية: نبدأ بتعـريف العـقـيدة، ممّا سـيقودنا إلى دراسـتها فى التقـليد الكنسـىّ، ثمّ نتسـاءل عـن عـلاقتها بالإيمان، وأخـيرًا نتحّـرى عـن وظيفتها فى الإيمان.
1ـ تعريف العـقيدة:

إنّ العـقـيدة هى توضيح كنسـىّ لاهـوتىّ لِمَا هـو كامن فى الكـتاب المقـدّس. هـذا هـو أبسـط تعـريف للعـقـيدة. ويسـتدعى بعـض الشـرح:

* توضيح لِمَا هـو كامن: يتضمّـن الكـتاب المقـدّس حقائق لم يفهمها دومًا المؤمنون فهمًا صائبًا، فاضطـرّت الكنيسـة عـلى مـرّ الإجـيال إلى أنْ توضّح هـذه الحقائق عـندما ظهـرت آراء أو معـقـدات مناقـضة للمفهـوم الكنسـىّ. هـذه هى قصّة الهـرطقـات، وقـد ظهـرت مـنذ نشـأة الكنيسـة فـقاومتها الكنيسـة.

* كنسـىّ: ليس هـذا التوضيح اجتهادًا فـرديًا يقـوم به لاهـوتيّون أو مؤمنون، بل هـو اجتهاد كنسـىّ بتمام معـنى الكلمة، أى أنّ الكنيسـة، لأنّها تسـلّمت ” وديعة” كلمة الله، فإذًا ” لها سـلطة التعـليم الحـيّة”، أى ” سـلطة تفسـير كلمة الله المكـتوبة أو المنقـولة تفسـيرًا صحيحًا “. وهـذا ما قامت به المجامع بصـفة عـامّة، والمجامع المسـكونيّة فى القـرون الأولى بصـفة خاصّة.

” غـير أنّ هـذه السـلطة التعـليميّة ليسـت فـوق كلمة الله، وإنّما هى فى خـدمة هـذه الكلمة عـينها، ولا تعـلّم سـوى ما تسـلّمته. فهى تُصـغى إلى كلمة الله بتقـوى، وتحفظها بقـداسـة، وتعـرضها بأمانة وتسـتقى من وديعـة الإيمان الواحـدة هـذه كلّ الحقائق التى تدعـو إلى الإيمان بها بوصـفها موحاة من الله، وهى تعـمل هـذا كلّه بناء عـلى ما كلّفها الله به، وبعـون الروح القـدس” ( فى الوحى الإلهىّ رقم 10 ).

* لاهـوتىّ: إنّ ما تضــيفه العـقـيدة عـلى الكـتاب المقـدّس هـو اسـتخدامها تعـابير فـلسـفيّة ولاهـوتيّة لا توجـد حـرفـيًا فى الكـتاب المقـدّس. هكـذا بالنسـبة إلى الكـلمـات والتعابـير الآتيّـة: ” الثـالوث “، ” الطـبيعـة” ( باليونـانـيّة Phusis )، “الأقـنوم” أو ” الشـخص” ( Hupostasis Prosopon) ” المتسـاوى فى الجوهـر” ( Homoousios )…. فجميعها تعـابير غـير كـتابيّة ولكن مدلولها كتابىّ.

أو بتعـبير آخـر، إنّ العـقل يحاول أن يفهم ويحلـّل ويعـبّر عـن الوحى بمفاهـيم عـصر معـيّن بفـلسـفته وعـقليّته ومتطلّباته (2)، وذلك فى صـيغة إيمانيّة واضحة (3).

ويجـب الإضـافة إلى ما سـبق أنّ العـقـيدة تلهم السـلوك المسـيحىّ. فعـقـيدة ” الثـالوث” مـثلاً نمـوذج أعـلى للحـبّ البشـرىّ، وعـقـيدة ” التجسّـد ” للحـياة المسـيحيّة فى العالم… فلا تظلّ العـقـيدة عـلى المسـتوى الفـكرىّ ( العـقل ) بل تتجاوزه إلى المسـتوى العـملىّ ( الإرادة ).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(2) تعـنى لفظة ” Logos ” اليونانيّة: ” الحـديث عـن”، أو ” العـلم”، فى مثل ” Theologia ” أى ” العـلم / الحـديث عـن الله”.
(3) ” الصيغـة ” الإيمانـيّة من خـصائص ” العـقـيدة ” ( Dogme )، عـلى خـلاف ما سنتحـدّث عـنه فى الفـصل القـادم عـن ” الحديث اللاهـوتىّ” ( Théologie ).
2ـ العـقيدة فى التقليد الكنسىّ:

وهـنا يجـب عـلينا أنْ نتسـاءل: هـل أُغـلق باب الإقـرار بعـقـائد جـديدة، أمّ الكنيسـة لا تزال تكـوّن عـقـائد جـديدة؟.

الحـقّ يُقـال إنّ الكنيسـة فى قـرونها الأولى ـ حتّى القـرن الخامـس ـ أرْسـت قـواعـد الهـيكل العـقـائدىّ فى مجامعها المسـكونيّة ( مـثل نيقـيا، أفسـس، خلقـدونيّة، القسـطنطينيّة…).

إلاّ أنّ تعـمّـق الكنيسـة فى ” كلمة الله”، ولا سـيّما فى الكـتاب المقـدّس من جهة، وتسـاؤلاتها عـنها فى كلّ عـصر من العـصـور من جهة أخـرى، يجعـل باب العـقائد مفـتوحًا. هـذا مافعـلته الكنيسسـة الكاثوليكيّة بالذات إذ اســتمرّت فى تكـوين عـقـائد فى كلّ عـصـور تاريخها… فالهيكل العـقائدىّ، فى المنظـار الكاثوليكىّ، جسـم حىّ ينمـو ويزدهـر ويتعـمّق عـلى مـرّ العـصـور بحسـب مقـتضـيات العـصر وحاجات الإيمان الرعـويّة والروحـيّة والعـقائديّة. أو بتعـبير آخـر، إنّ العـقـيدة قـراءة عـصـريّة لكلمة الله، من كـتاب مقـدّس وتقـليد كنسـىّ.

وأمّا النظـرة الأرثوذكسـيّة، فإنّها تعـتبر القـرون المسـيحيّة الأولى الحـقـبة الذهـبيّة للعـقـيدة المسـيحيّة. وإنْ لم تُغـلق مـبدئيًا باب العـقـائد الجـديدة، إلاّ انّها لم تضـف فعـلاً إلى الهـيكل العـقـائدىّ عـقـائد جـديدة.
3ـ بين الإيمان والعـقيدة:

نتوقّف هـنا عـند المقارنة بين الإيمان وتعـبيره فى العـقائد. وهـناك عـدّة فـروقات بينهما:

* كـون العـقـيدة تعـبير عـن الإيمان، يعـنى أنّ الاخـتبار الإيمانىّ المعـاش يسـبق العـقـيدة، وأنّ الحـياة أقـوى من الصـيغة العـقـائديّة.

* تسـتند العـقيدة إلى شهـادة أشـخاص ألّفـوها، وهى خاصّة بعـقـلهم، فهى بهـذا المعـنى من خارج الشـخص (Deum Credere). وأمّا الإيمان فيعـتمد عـلى شـهادة الله نفسـه فى داخل الشـخص ـ من هـنا التعـبير ” الاخـتبار الإيمانىّ ” ـ لأنّ الله هـو فى الإنسـان ولا سـيّما فى وجـدانه لا خارج عـنه ( Credere in Deum ).

* إنّ العـقـيدة ثابتة فى تعـبيرها، وأمّا الإيمان فهـو قـابل لدرجات مخـتلفة من التعـمّـق، متفـاوت من شـخص إلى آخـر. إنّ الإيمان حـياة وديناميّة، وأمّا العـقـيدة فجـامـدة.

* تتكـوّن العـقـيدة بالعـقـل محـاولاً أنْ يُعـبّر عـن الوحى. وأمّا الإيمان فيخـتصّ بالشـخـص كلّه فى جـميع أبعـاده ـ الأصـل والمرجع والغـاية ـ وبجميع قـواه النفـسـيّة ـ العـقـل والوجـدان والإرادة، كـما ســبق أن اتّـضـح لـنا. ويجـب هـنا الإشـارة إلـى الفـرق بيـن اللاهـوت الغـربىّ واللاهـوت الشـرقىّ، فإنّ الغـرب يـرى فى العـقـيدة محـاولـة ” عـقـلـيّة “، بيـد أن الشــرق يـرى فـيها محـاولـة ” تأمـّليّة” و ” جماليّة” أكـثر منها عـقليّة. وكـلتا النظـرتَيْن متكاملتان ومتلازمتان.

* العـقـيدة إجابة عـن تسـاؤلات العـصر. وأمّا الإيمان فهـو تجاوب مع دعـوة الله، مع الله كاشـفـًا ذاته للإنسـان.

* تخضـع العـقـيدة فى صـيغـتها الإيمانيّة لفـلسـفة العـصر ولتسـاؤلاته وعـقليّته واهتماماته، فهى تعـبير عـصـرىّ عـن الإيمان لذلك يجـب القـول إنّ الإيمان مطـلق، وأمّا العـقـيدة فنسـبيّة. أمّـا الإيمان فـثابت فى مضـمونه، وأمّا العـقـيدة فـتتطـوّر فى صـيغـها بحسـب العـصـور والأماكن. إنّ الإيمان واحـد بسـيط لا يتغـيّر، وأمّا العـقـيدة فـتشـمل عـقـائد مختلفة تنمـو من عـصر إلى آخـر. لـذلك حـقَّ للكنيسـة بل وجـب عـليها أنْ تُعــيد النظـر فى التعـابير العـقائديّة فى كلّ عـصـر. فاليـوم، عـلى سـبيل المـثال، مـا معـنى ” الطـبيعـة” ( فى عـقـيدة ” الطـبيعة الواحـدة أو الطبيعـتين” )، أو معـنى ” من جوهـر واحـد” ( فى وصـف ألوهـيّة يسـوع المسـيح )…؟ أليسـت فـلسـفة القـرن العـشـرين مختلفة عـن فـلسـفة القـرن الخامس؟ يجـب إذًا إبداع مصطلحات ومفاهيم تناسـب العـصر ومقتضـياته وفـلسـفته للتعـبير عـن الإيمان الواحـد.

* المسـيحيّة إيمان لا عـقـيدة. فـليس الإيمان المسـيحىّ إيمانًا بالتـوحـيد أو التـثليث أو التجسّـد أو الفـداء… (Deum Credere)، فهـذه عـقـائد. وأمّا الإيمان المـسـيحىّ فـإيمـان بالآب والابـن والـروح القـدس، أى بالله الحىّ (Deum in Credere). فلا تؤمـن المسـيحيّة بالخـلق وإنّما بالله الخـالق، ولا تؤمـن بالخـلاص وإنّمـا بالله المخـلّص… لـذلك قـبلت الكـنائس الأرثوذكـسـيّة العـقـائد ” بـدون طـيبة خـاطـر” (Clément Olivier). فـإنّ ” العـقـائد تظـلّ رمـزًا للأســرار المسـيحيّة ” (Séraphim Méthropolite). فالعـقـيدة تهـدّد السـرّ المسـيحىّ، فثمّة خطـر ” إدماج السـرّ فى طـريقة تفكـيرنا”، بيـد أنّ المطـلوب هـو ” تحـويل روحـنا تحويلاً داخـليًّا يؤهّـلنا للاخـتبار الصـوفىّ”، ” تغـيير روحـنا لنسـتطيع أنْ نصـل إلى مشـاهـدة الحـقيقة الموحى بها إلينا، ويتمّ ذلك بارتقـائنا نحـو الله” (Lossky Vladimir). فالخطـر هـو فى أنْ يسـتحوز المؤمـن عـلى السـرّ بفضـل صـيغـة عـقائديّة واضحة، فى حـين أنّه عـلى الحـقيقة أنْ تسـتحوزهم وعـلى السـرّ أنْ يمـتلكهم، بحسـب قـول أوغـسـطينس.
4ـ وظيفة العـقيدة:

إذا تسـاءلنا عـن دور العـقـيدة فى المسـيحيذة، لاحـت لنا ثـلاث وظائف إيمانيّة لها:

* كما أنّ الشـخص مكـوّن من جسـد وروح، فـلا جسـد بدون روح ولا روح بـدون جسـد، هكـذا إنّ الإيمان بمـثابة الروح والعـقـائد بمـثابة الجسـد. إنّ المحـور هـو الإيمان، والإيمان يتجسّـد فى العـقائد. أو العـقـائد تعـبّر عـن الإيمان.

* تسـمح العـقائد لجماعة المؤمنين بالاعـتراف بأنّها جماعة واحـدة لها عـقـيدة موحّـدة. فكلّ جماعة محـتاجة إلى تعـبير يجمعها، والعـقـيدة ( كالدين، والعـبادة، والمؤسـسـة الدينيّة ) تعـبير يوحّـدها.

وهـنا ينبغـى لنا أنْ ننـبّه بشـان عـقـيدة ” انبثاق الروح القـدس من الابن”، أنّه ليس من الضـرورىّ ضـرورة حـتميّة أنْ نقـرّ بها فى ” قانون الإيمان”، فـقانون الإيمان لا يقـرّ بجميع العـقائد المسـيحيّة، بل هـو أسـاسـًا تعـبير عـن وحـدة الإيمان بين المسـيحيّين، وبالتالى لا داعى للإقـرار فـيه بعـقـيدة تفصـل بين المسـيحيّين. لذلك فى وسـع المسـيحيّين الكاثوليك الشـرقـيّين ألاّ يقـرّوا بالانبثاق من الابن فى قانون الإيمان، خاصّة فى حضـور الأرثوذكس، تعـبيرًا عـن رغـبتهم الحقيقيّة فى الوحـدة. وفى الروح نفسـها، لم يقـرّ البابا يوحـنّا بولس الثانى به فى الاحتفالات بقانون الإيمان النيقىّ ـ القسـطنطينىّ، ولا يعـنى ذلك تخلّـيه عـن عـقـيدة الانبثاق أو التراجع عـنها ( وهـذا ما فهمه البعـض خطـأ )، بل اعـترافه بضـرورة الوحـدة.

* إنّ العـقـيدة تمـيّز جماعة المؤمنين عـن الخارج، من جماعات مؤمنين آخـرين: فالعـقـيدة المسـيحيّة تمـيّز المسـيحيّين عـن اليهـود والمسـلمين (4). إنّ العـقـيدة إذًا عـنصر تمايز، لذلك تلحّ كلّ الأديان عـلى المؤمنين فى اسـتقامة عـقـائدها، كعـلامة ممـيّزة لها عـن سـائر الأديان.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(4) قضيّة تحتاج إلى دراسـة: لماذا تكثر العـقائد فى المسـيحيّة، لا فى اليهوديّة ولا فى الإسـلام؟ ونحن نسـمع كثيرًا أنّ الإسـلام ينتشـر فى البلاد الأفـريقـيّة بسـرعة بفضل بسـاطته العـقائديّة. يخال لنا أنّ المسـيحيّة مبنيّة عـلى ” سـرّ الله”، ومـا العـقـائد سـوى محـاولة لفهـم هـذا السـرّ. فـعـلى سـبـيل المـثال، إنّ ” عـقـيدة التوحـيد” تزيـل ـ إلى حـدّ ما ـ طـابع ” السـرّ” و ” التسامى” و” التعـالى”، لأنّها تطمئن العـقل. وأمّا كـون الله أبًا وابنًا وروحًا، وكون الله أصبح إنسانً… فذلك يفـوق العـقـل تمامًا، بل هـو عـثرة له، فهـو ” سـرّ” بتمام معـنى الكلمة، ممّا يدفع العـقل إلى فهـمه من خلال الصيغ العـقائديّة. فـفى نهاية الأمـر، تحافـظ المسـيحيّة عـلى تعالى الله وتساميه (Transcendance) رغم تجسّده فكمونه (Immanence )، خلافًا لِمَا يُعـيبه عـليها المسلمون، فليس تعالى الله فى كونه واحدًا ( فهذا يجعل الله فى قبضة العـقل البشرىّ، ممّا يفقده تعاليه ) بل فى كونه أبًا وابنًا وروحًا ( وهـذا يجعـل الله فـوق الإنسان وعـقله مطلقًا، ممّا يؤكّـد تعـاليه ). نعـتقـد أنّ الردّ هـو فى هـذا الاتّجاه ولكنّه يستدعى المـزيد من التفكـير والحـوار بين المسيحيّين والمسلمين.
الخاتمة

إنّ العـقـائد ـ وكذلك الدين والعـبادة ـ تعـبير من تعـابير الإيمان. فـلا إيمان واقـعـيًا بدونها، لأنّ الإنسـان روح متجسـّد، فعـلى الإيمان أنْ يتجسّد فى تعابير إنسـانيّة. والاخـتبار الإيمانىّ يتطلّب تجسـيدًا اجتماعـيًا كى لا يقع فى الفـردانيّة، لأنّ المسـيحيّة جماعة كنسـيّة. وبالتالى إنّ الذين يرفـضـون العـقـائد أو يقلّلون من أهـمّيّتها ـ وعـددهم كـبير اليـوم ـ يظهـرون فـردانيّين لا جماعـيّين، ذاتيّين لا موضـوعـيّين، مـثاليّين لا واقعـيّين، مروحَنين لا متجسّـدين.

الفصل الثانى عشر
الحديث اللاهوتى كتعبير عن الإيمان

إنّ ” الحـديث اللاهـوتىّ ” ( Théologie ) تعـبير من التعـابير الإيمانيّة وله أهـمّـيّة فى الحـياة الكنسـيّة، سـتظهـر لنا فى كلامـنا أوّلاً عـلى وظـيفـته، وثانيًا عـلى ” اللاهـوت الأسـاسىّ ” بصـفة خاصّة، ثالثًا عـلى ممـيّزات ” الحـديث اللاهـوتىّ ” المعاصر.
وظيفة الحديث اللاهـوتى

إنّ الحـديث اللاهـوتىّ حـديث إنسـانىّ عـن كلمة الله ( الكـتاب المقـدّس والتقـليد المقـدسّ ) فى داخـل الكنيسـة. فمن منطلق هـذا المرجع، يـؤدّى الحـديث اللاهـوتىّ دوره عـن كلمة الله فى الكنيسـة. ويمكننا عـدّ أربع وظائف:
1ـ الدور الفكرىّ:

إنّ الحـديث اللاهـوتىّ حـديث العـقـل عـن كلمة الله. فإنّه يعـلّمها بعـد أنْ يبحـث فـيها ويفـسّـرها ويكتشـف أبعـادها العـميقـة. فيفتح للمؤمنين هكـذا آفاقـًا جـديدة فى شـأنها. كما أنّه يعـرض الاخـتبارات الإيمانيّة التى يحـياها المؤمنون من منطـلق مواجهة كلمة الله لحـياتهم. هكـذا نـرى الحـديث اللاهـوتىّ فى عـلاقة مزدوجة: الكلمة الإلهـيّة من جهة والاخـتبار الإيمانىّ البشـرىّ من جهة أخـرى.
2ـ الدور النقدىّ:

وللحـديث اللاهـوتىّ دور إزاء التقـليد الكنسـىّ، ولا سـيّما دور نقـدىّ تجـاه صـيغة وهى ولـيدة حضـارة وثقـافة وفـلسـفة وعـقـليّة معـيّنة، وهى خاضعة لاهـتمامات وإشـكاليّات معـيّنة. ولا يعـنى الدور النقـدىّ الانتقـاد والهـدم، بل التسـاؤل المسـتمرّ فى سـبيل البناء والتطـوّر والتقـدّم فى الفهم. فالحـديث اللاهـوتىّ يذكّـر بأنّ الإيمان ومضـمونه ـ ” وديعة الإيمان” ـ أعـظم وأعـمق وأشـمل من تعابيره وصيَغه، وإنْ كانت صـيغ المجامع. فكلّ صـيغة إيمانيّة بحاجة إلى أنْ تترجَم بلغـة العـصر وتتجسّـد فى عـقـليّة العـصر وفـلسـفـته وثقـافـته ومتطلّباته، بل وعـقـليّة مخـتلف فـئات المؤمنين، أعـلميّة كانت أم عـمّاليّة أم شـبابيّة…. فإنْ كانت العـقـائد ” مَعْـلَمًـا” ( Repère ) للحديث اللاهـوتىّ إذ إنّه يتحـرّك فى داخـل معـالمها ـ إلاّ أنّ الصيَغ العـقـائديّة ليسـت ” مَرْجَعـًا” للحـديث اللاهـوتىّ، إنّمـا كلمة الله كما تفهمها الكنيسـة هى ” المرجع ” ( Référence ). فالحـديث اللاهـوتىّ يمـيّز تمـييزًا جليّـا بين ما هـو ثابت ومطـلق ـ وهـو مرجعه ـ وما هـو متغـيّر ونسـبىّ ـ فيمارس تجاهه دورًا نقـديًا ـ.
3ـ الدور التوحيدىّ:

ورغـم الدور الفكـرىّ والنقـدىّ والانثقافىّ الذى يؤدّيه الحـديث اللاهـوتىّ ـ ممّا يعـنى بالفعـل تعـدّديّة الأحاديث اللاهـوتيّة ـ إلاّ أنّه عـليه أنْ يجـد لغـة مشـتركة وتعـابير مشـتركة بين جميع المؤمنين من حضارات وثقـافات، من شـعـوب وفـئات مخـتلفة. فالتعـدّديّة لا تتنـافى ووحـدة الوحى.
4ـ العلاقة بالسلطة الكنسيّة التعليميّة:

سـبق لنا أنْ رأينا أنّ مـرجع الحـديث اللاهـوتىّ مـزدوج: كلمة الله كما تفهـمهما وتعـلّمهما الكنيسـة. فـفى الكنيسـة، تتمـيّز السـلطة التعـليمـيّة ـ أى الأسـاقـفة يوحّـدهم البابا ـ بأنّها تحكم إذا كان الحـديث اللاهـوتىّ أمينـًا لكلمة الله أم لا، مجـدّدًا التعـبير عـن حاجات المؤمنين أم لا.

لذلك وجـب أنْ توجـد عـلاقة وطـيدة بين اللاهـوتيّين والسـلطة التعـليمـيّة. فالسـلطة التعـليمـيّة بمسـيس الحاجة إلى الدور الفـريد من نوعـه الذى يقـوم به اللاهـوتيّين. وأمّا اللاهـوتيّين، فهم بحاجة إلى أنْ تثّـبتهم وتعـضّدهم السـلطة التعـليمـيّة فى بحـثهم وحـديثهم وتعـليمهم اللاهـوتىّ.

وينبغـى للاهـوتيّين أنْ يتحاشـوا تطـرّفين: النزعـة الاسـتقلاليّة التحـرّريّة إزاء السـلطة التعـليمـيّة من جهة، والنـزعة التبعـيّة والخضـوعـيّة تجاهها من جهة أخـرى. وأمّا السـلطة التعـليمـيّة فعـليها أنْ تتحاشـى تطـرّفين: التسـلّط والتشـدّد من جهة، والتسـيّب والتسـاهـليّة من جهة أخـرى. وكى تتمّ العـلاقة بين الطـرفين بنـور الإنجـيل وبروح الخـدمة ـ خـدمة الإنجـيل والمؤمنين والشـعـوب والمجتمعات ـ ينبغى أنْ تتمّ بالثقة المتبادلة.
وظيفة اللاهـوت الأساسىّ

نخصّص فقـرة للحـديث عـن ” اللاهـوت الأسـاسىّ ” كجـزء من ” الحـديث اللاهـوتىّ “، وذلك لأهـمّيّته (1).

وللاهـوت الأسـاسىّ ثـلاث مهامٍ متكاملة، وقد دقـّق الحـديث اللاهـوتىّ المسـيحىّ فى مختلف عـصـوره عـلى مهمّة أكـثر من اخـرى، ولكن الثـلاث معـًا تحـدّد مضمونه: الدور التأسيسىّ للحديث اللاهـوتىّ ـ الدور الدفاعىّ عـن الوحى ـ الدور التبريرىّ للإيمان.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)الجـدير بالذكـر أنّ المحاضرات المـدوّنة فى هـذا الكتاب هى بالفعـل” لاهـوت أساسىّ” (Théologie fondamentale) بالمعـنى الذى نشـرحه فى هذه الفقرة.
1ـ تأسيس الحديث اللاهوتىّ:

إنّ اللاهـوت الأسـاسىّ شـرط إمكان الحـديث اللاهـوتىّ والعـقائدىّ، بمعـنى أنّه يُرسـى قـواعـده، فيحـدّد معـالمه وأسـاليبه ومفاهـيمه وأطـُره. فليسـت الفـلسـفة، أو العـلوم الإنسـانيّة، أو غـيرها من الأحاديث البشـريّة، أسـاس الحـديث اللاهـوتىّ والعـقـائدىّ ـ وإنْ اسـتعان بها ـ بل اللاهـوت الأسـاسىّ هـو الأسـاس.

ويبيّن اللاهـوت الأسـاسىّ الصـلة الوثيقة التى تربط الـوحى بالإيمان: مبـادرة الله فى الكـشـف عـن ذاتـه وعـن الإنسـان، وتقـبّل الإنسـان لـوحى الله وإيمـانه بالله، فمـحـور اللاهـوت الأسـاسىّ هـو ظـاهـرة الـوحى كأسـاس لكـلّ الأحـاديث اللاهـوتيّة، مـبيّنـًا أوّلاً ” الحـدث” التاريخى للوحى، وثانيًا ” تسـليم” الوحى فى الكـتاب المقـدّس والتقـليد المقـدّس، وثالثًا ” تفـسـير” الوحى بالتعـليم الكنسـىّ. بل إنّ اللاهـوت الأسـاسىّ يُـبرز مفهـوم الوحى كأسـاس لإيمان الإنسـان الذى يسـمع ” كلمة الله” ـ وهى مرادفة للوحى ـ ويقـبلها، مؤمـنًا بالله الذى يُعـلن له ذاته والإنسـان.
2ـ الدفاع عن الوحى:

وللاهـوت الأسـاسىّ دور آخـر، وهـو انّه يدافع عـن الوحى إزاء ” الخارج”، أى تجاه غـير المسيحيّين.

وتلوح مـنذ بداية المسـيحيّة نزعة دفاعـيّة فى عـرض الوحى المسيحىّ:

فأسـفار العـهد الجـديد نفسـها لا تخـلو من هـذه النظـرة:
{ وَأَمَّا هَذِهِ فَقَدْ كُتِبَتْ لِتُؤْمِنُوا أَنَّ يَسُوعَ هُوَ اَلْمَسِيحُ اِبْنُ اَللَّهِ } [ يوحنا20/31].

وبعـد كـتابة أسـفار العـهد الجـديد، اسـتمرّتْ النزعة الدفاعـيّة عـند آباء الكنيسـة ” المدافعـين” ( Pères Apologètes ) عـن الإيمان المسـيحىّ والعـقائد المسـيحيّة، أمـثال يوسـتينس وأكلماندس وترتليانس وإيريناوس وأوغـسـطينس…. سـواء أكان تجاه الوثنيّين أمّ اليهـود أمّ المسـيحيّين الهـراطقة.

ونجـد النزعة الدفاعـيّة نفسـها حتّى القـرون الوسـطى تجـاه اليهـود والفـلاسـفة مع أبيلار ( Abélard ) مـثلاً، وتجاه المسـلمين مع توما الأكوينىّ فى الغـرب، وبالمـثل فى الشـرق.

وتقـليديًا، كان اللاهـوت الأسـاسىّ يبيّن أوّلاً وجـود الله، وثانيًا صحّة المسـيحيّة، وثالثّا صحّة الكنيسـة ، ويُظْهـر أنّ الله كلّم البشـر، ويؤيّد الوحى بالمعـجـزات والنبوءات…، حتّى يتسنّى لغـير المؤمنين أنْ يؤمـنوا بالله وبـالوحى المسـيحىّ وبالكنيسـة.

هـذا وإنْ قـلّت اليـوم هـذه الروح فى اللاهـوت الأسـاسىّ، إلاّ أنّها لم تتلاش تمامًا. وأمّا خطـرها فهـو أنّها تولّد التشـدّد فى الرأى وفى الكـلام، وعـدم الانفتاح عـلى الطـرف الآخـر المعـارض، وعـدم إظهار وجهات التقـارب والتشـابه بل الفـروقات والاخـتلافات فحسـب… وكلّ هـذا يناهـض روح ” الحـوار” التى تبنّاها الحـديث اللاهـوتىّ المعـاصر، خاصّة وقـد كرّسها المجمع الفاتيكانىّ الثانى. فالحـوار مع الأديان الأخـرى والطـوائف الأخـرى بل ومع الإيديولوجـيّات والفـلسـفات والعـالم المعـاصر، أمـرٌ تحـتّمه مقـتضـيات العـصر عـلى اللاهـوت الأسـاسىّ، بل وتفـترضه الروح الإنجـيليّة نفسـها، بقـدر ما تكمن الحقيقة ـ ولو جـزئيًا ـ فى كـلّ فـلسـفة وإيدلوجـيا ودين وطائفة….

فاليـوم لم يعُـد اللاهـوت الأسـاسىّ هجـوميًا مـثل الماضى، بل أصبح دافعـه مخـتلفًا كلّ الاخـتلاف، فأصبح دافعـه الرجـاء كما يصـفه بطـرس: { مُسْتَعِـدِّينَ دَائِماً لِمُجَاوَبَةِ كُلِّ مَنْ يَسْأَلُكُمْ عـَنْ سَبَبِ الرَّجَاءِ الَّذِي فِيكُمْ } [ 1بطرس 3/15].

فليس الوحى بحاجة إلى الدفاع عـنه، بل إلى شـهادة المؤمنين عـن الله الذى يؤمـنون به. والشـهادة أقـوى من الدفاع، إذ يشـهد الروح القـدس مع المؤمنين الشـهادة الحقيقيّة:
{ اَلرُّوحُ نَفْسُهُ أَيْضاً يَشْهَدُ لأَرْوَاحِنَا أَنَّنَا أَوْلاَدُ اَللهِ } [ رومية 8/16].
{ هُوَ يَشْهَدُ لِي وَتَشْهَدُونَ أَنْتُمْ أَيْضاً } [ يوحنا 15/26ـ 27].

وأمّا طـريقة هـذه الشـهادة وأسـلوبها، فـلا يتّسـمان بالتعـصّـب والتشـدّد بل بالحـوار والانفـتاح والأخـذ بعـين الاعـتبار كلّ التسـاؤلات الكامـنة فى مخـتلف الأديـان والطـوائف والفـلسـفات والتيّـارات ألإيديولوجـيّة… وذلك ” بِوَدَاعَـةٍ وَوَقَـارٍ” [ 1بطرس 3/15] وبـدون كـبرياء [ 1كورونثوس 4/9] ولا روح انتصـاريّة إذ نحمـل الإيمان فى آنية خـزفيّة [ 2كورونثوس 4/7]، ولكن بدون حـياء [ 2كورونثوس 4/2] و ” بِوَقـْتِه وَبِغَـيْرِ وَقْـتِه” [ 2 تيموثاوس 4/2] إذ ” وَيْلٌ لِى إنْ لّم أُبشّر” [ 1كورونثوس 9/16]، علمًا بأنّ ذلك قـد يبـوء بفشـل كما حـدث لبولس مع الوثنيّين [ أعـمال الرسـل 17/32]، ولكن بولس اسـتمرّ واثـقـًا بأنّ الله هـو الذى يجـذب ويشـهد لنفسـه. والشهـادة أعـظم من الإقـناع ـ ” تَعَـالُوا وَانْظُـرُوا” [ يوحنا 1/39] ـ إذ تدعـو الشـهادة إلى اختبار الله [ 1يوحنا 1 ت] لا إلى الإيمان بحقـائق عـن الله.

3ـ تبرير الإيمان:

ومن جهة أخـرى، يؤدّى اللاهـوت الأسـاسىّ وظيفة تجـاه المؤمنين أنفسـهم، فى أنّه يـبرّر الإيمان بالعـقل مبيِّـنًّـا أنّ فعـل الإيمان بالله أمـر يقـبله العـقل ويفهمه ويُقـرّ به، وإنْ لم يبرهـنه كما رأينا. فاللاهـوت الأسـاسىّ يُظْهـر أنّ الإيمان لا ينافى العـقل، بل هـو فعـل متعـقـّل مقـبول ومفـهوم لدى العـقل، وإنْ كان يفـوق العـقل تمامًا لأنّه ” سـرّ”.

ولقـد اكـتمل دور اللاهـوت الأسـاسىّ فى القـرون الوسـطى. فقـد عـرض توما الأكـوينىّ الإيمان المسيحىّ والديانة والحقائق المسـيحيّة عـرضًا موضـوعـيًا، جامعًـا ومنظّـمًا إيّاها فى إطـار الفـلسـفة الأرسـطوطاليّة ( فى حـين أنّ الآباء الشـرقيّين وأوغـسـطينس صـاغـوا لاهـوتهم فى إطار الفـلسـفة الأفـلاطونيّة )، مسـتعـينًا بالعـقل الذى يُنظّم الحـديث عـن الله ( Theo-logia )، حتّى أصبح اللاهـوت عـلى يده عـلمًا ( Logos ). وكما قـال من قـبله أنسـلموس: ” الإيمان باحـثًا عـن الفهم”.

فظهـرت النزعة التبريريّة هكـذا، محاولة فهم الإيمان بالعـقل فى النهضة الغـربيّة ( القـرن 16 ) إثر الانفـتاح الثقـافىّ ـ ولا سـيّما عـلى الثقافة اليونانيّة والرومانيّة ـ فى المناظـرات بين الأديان، مبيّنة أفـْضـليّة المسـيحيّة. وفى هـذا الجـوّ، وبينما كانت الكنيسـة الكاثوليكيّة تُظهـر أهـمّيّة العـقل فى اللاهـوت وتُبرّر الإيمان، قامت حـركة الإصـلاح عامّة ولوثر خاصّة ضـدّ التيّار لأنّ العـقل ـ فى نظـرهم ـ ينافى الإيمان، لأنّ المهمّ هـو إظهار عـناصر فعـل الإيمان الذاتيّة أكـثر منها العـناصر الموضـوعـيّة. وكان تركـيز ردّ الفعـل الكاثوليكىّ عـلى دور العـقل فى تبرير الإيمان إزاء حَـذَر الإصـلاح تجاه العـقل، وعـلى دور الكنيسـة إزاء النزعة الفـرديّة فى الإصـلاح، وعـلى دور الحـقائق والعـقائد الموضـوعـيّة إزاء النزعة الذاتيّة فى الإصـلاح.

واسـتمرّ العـقل يأخـذ مكانة مرموقة فى الحـديث اللاهـوتىّ فى القـرن 17، 18، مع سـبينوزا فى القـرن 17، وكانط وروسـو وهـيوم وفـيشته فى القـرن 18 وهـو القـرن المعـروف بـ ” عصر الأنـوار” ( Siècle des Lumières ) فى ألمانيا بصفة خاصّة، حـيث ظهـرت بوادر النزعة ” العـقـلانيّة” ( Rationalisme ) وواجهتها الكنيسـة الكاثوليكيّة بالدفاع عـن الوحى بالنبوءات والمعـجـزات التى تقحـم العـقل، مبيّنة أنّ الله كشـف هكـذا فعـلاً عـن ذاته. ومن المؤسـف أنّ الكنيسـة حـنذاك لم يكن لديها مفكّـرون مسـيحيّون عـلى مسـتوى عـمالقـة الفكـر الفـلسـفىّ.

وفى القـرن 19، ظهـر هـيغـل الذى ركّـز فـلسـفـته ـ بما فيها فـلسـفته الدينيّة ـ عـلى ” الروح المطـلق”. وأمّا فويورباخ وماركس فقد أبرزا أنّ الإنسـان هـو الذى خـلق فكـرة الله، فخـلق الإنسـان الله عـلى صـورته، وما الحـديث اللاهـوتىّ ( Theo-logia ) سـوى حـديث عـن الإنسـان نفسـه ( Anthropo-logia ) وما ” الخـلاص” إلاّ فى تغـيير الأوضاع الإقـتصـاديّة والاجتماعـيّة والسـياسيّة بفضـل البروليتاريا، ولا فى الدين فهـو ” أفـيون الشـعـوب”، كما قـال ماركس.

ونـظـير كـلّ هـذه الفـلسـفـات ونـظـير الإصـلاح، اجـتمعــت الكـنيسـة الكـاثـوليكـيّة فى المـجـمـع الفـاتيكـانـىّ الأوّل، مناهـضـة “العـقـلانيّة” ( أى مـذهـب العـقـل بـدون الإيمان ) من جهـة، و” الإيمانيّـة” ( Fidéisme ، أى مذهـب الإيمان بـدون العـقـل ) من جهـة أخـرى، مقـرّة بأنّ العـقـل باسـتطاعـته اكـتشـاف خـالقـه [ بناء عـلى رومية 1/20] ـ وهـذا عـلى نقـيض ما كان يـدّعـيه ” الإيمانيّون” ـ ولكنّه محـدود ـ وهـذا عـلى نقـيض ما يدّعـيه ” العـقـلانيّون” ـ. ومن ثمّ إنّ الوحى ضـرورىّ لكشـف الحـقائق فـوق الطـبيعـيّة التى يعـجـز العـقـل اكتشـافها [ 1كورونثوس 2/9].

والعـالم المعـاصر، بما فـيه من تيّـارات فـلسـفـيّة وإبديولوجـيّة إلحـاديّة، يفـرض عـلى اللاهـوت الأسـاسىّ أنْ يـُبرّر العـقـل الإيمان وانّ يفهم العـقـل الإيمان، ذلك لأنّ فى داخـل كلّ مؤمن يوجـد غـير المؤمن، وكلّ فعـل إيمانىّ يشـوبه فعـل غـير إيمانىّ، فيتداخـل المؤمن والملحـد، الإيمان والشـكّ فى كلّ إنسـان. لذلك اكـتسـبت هـذه الوظيفة التبريريّة بالغ الأهـمّيّة فى اللاهـوت الأسـاسىّ المعـاصر.
مميّزات الحديث اللاهـوتىّ المعاصر

نُلْقى نظـرة عـلى الحـديث اللاهـوتىّ المعـاصر، فى الغـرب، كنمـوذج لتطـوير الحـديث اللاهـوتىّ بحسـب مقـتضـيات الحـال والحاجات والظـروف والاهتمامات البشـريّة. ولا ندّعـى أنّه نمـوذج يجـب أنْ يَحْـتَذى به اللاهـوت الشـرقىّ التقـليدىّ، بل إنّه نمـوذج يمكن الاسـتعـانة به ولا سـيّما بمنهجه فى سـعـيه نحـو الجمع بين القـديم والجـديد، بين وديعـة الإيمان وتسـاؤلات العـصـر، بين الله والإنسـان، إذ إنّ الحـديث اللاهـوتىّ حىّ دينامىّ.

ويمكننا اعـتبار اللاهـوت الغـربىّ المعاصـر ينطـلق من الحاضـر ليعـود إلى الماضى فيقـفـز إلى المسـتقـبل. وسـنقـتفى إذًا أوقات الزمان الثـلاث هـذه.
1ـ الحاضر أرض الواقع:

إنّ الحاضـر أرض الواقـع، فسـنتحـرّى عـن واقـع الجـوّ الثقـافىّ الذى يؤثّـر فى الحـديث اللاهـوتىّ، ممّا سـيوضّح لنا منطـلق الحـديث اللاهـوتىّ الغـربىّ المعاصـر، الأمـر الذى سـيقـودنا إلى إظهـار بعـض الأحـاديث اللاهـوتيّة المختلفة.
* الجوّ الثقافىّ:

من أبرز ما يؤثـّر فى اللاهـوت الغـربىّ المعاصر ثـلاثة تأثـيرات:
1) مفهوم” العالم المعاصر”:

وقـد ناشـد بـه المفسّـر وفـيلسـوف الأديـان الغـربىّ Loisy فى بـداية هـذا القـرن بتعـبيره “العـصـريّة” (Modernisme)، من حـيث الثقـافة والتطـوّر العـلمىّ والفكـرىّ, وقـد أبرز العـالم (Pierre Teilhard de Chardin ) فى الخمسـينات العـلاقة بين تطـوّر العـلم والدين، فى أنّ كلّ شئ يتّجه نحو ” المسـيح أوميجا”. وإنّ تطوّر التكنولوجيا فى مجال “الوراثة الحيويّة” ( Bio-génétiqu) مـثلاً يطرح عـلى الحديث اللاهـوتى تساؤلات جديدة فى”اللاهـوت الأدبىّ” (Théologie morale )، فـنشـأ فـيه فـرع ” الأخـلاقـيّات الوظـيفـيّة” ( Bio-éthique ). وأمّا الفـلسـفة والعـلوم الإنسـانيّة، فلها تأثـير واضـح كلّ الوضـوح فى الحـديث اللاهـوتىّ، حتّى درَس الفـيلسـوف المسـيحىّ البروتسـتانتىّ هـذا التأثير من منطـلق ” معـلّمىّ الشـكّ الثـلاثة” ( Les trois maitres du soup ): الفيلسـوف Nietzsche، عـالم الاجتماع والاقـتصاد Marx، عـالم النفـسFreud. وقد درس معـنى الشـكّ والنقـد فى الدين من منطـلق الفـلسفة ” العـقـلانيّة” الفـيلسـوف المسـيحىّ الكاثوليكىّ Maurice Blondel.
2) قيمة الإنسـان:

التى اسـتحوزت عـلى الفـلسـفة ” الوجـوديّة” ( Existentialisme ) ولا سـيّما الإلحـاديّة من جهة، وعـلى الفـلسـفة “الشـخصانيّة” ( Personnalisme ) المسـيحيّة التى أبرزت قيمة الشـخص من جهة أخـرى. فممّا أخـذ رواجًا ” البحـث عـن المعـنى” ( Recherche du sens )، أى السـعى وراء معـنى وجـود الإنسـان ومعـنى حـياته وعـمله وعـلاقـاته… لذلك نادى Nietzsche بـ ” مـوت الله”، حتّى يحـيا الإنسـان. إلاّ أنّ نوعًـا من زوال الـوهـم قـد أدّى فى السـتّينات والسـبعـينات إلى المـناداة بـ ” مـوت الإنسـان” فى الفـلسـفة ” البنائـيّة” ( Structuralisme ). وقد ظهـر فى السـتّيـنات تيّار” العَـلْمـانـيّة “( Sécularisation ) وقـد نادى بتمايـز العـقل والعـلم والثـقافـة عـن الدين، والسـلطة الدينيّة، والحـياة الزمـنيّة عـن الأبـديّة، والأخـلاقـيّات عـن الروحـانيّات Cox, Tillich, Bonhoeffer ….. وانبـثق مـنه تيّار متشـدّد ” التعَـلْمُـن” (Sécularisme) مع Robinson,Vahanian,Van Buren…. نـادى هـو الآخـر بـ ” مـوت الله”، ولكن بمعـنى مـوت التصـوّرات الخاطـئة عـن الله: الله القـاضى، الله المعـاقـب، الله البعـيد عـن الإنسـان…
3) الحوار مع الآخـر:

سـواء أكان هـذا ” الآخـر” مخـتلف الكـنائس من كاثوليكيّة وبروتسـتانتيّة وأرثوذكسـي، ـ ” المسـكونيّة ” (Oecuménisme ) ـ، أمّ مخـتلف الأديان كاليهـوديّة والإسـلام أو ديانات أخـرى كالبوذيّـة والهـندوسـيّة…، أمّ مخـتلف الحضـارات غـير الغـربيّة كحضـارات أفـريقيا وآسـيا… فهـذا الحـوار يسـمح بالانفـتاح عـلى ” الآخـر” ويسـاعـد عـلى اكـتشـاف الحقيقة الكامنة فـيه أو عـنده ويطـرح تسـاؤلات عـلى ” الذات”.
* منطلق الحديث اللاهوتىّ:

من واقـع كلّ ما سـبق عـلى المسـتويات الثـلاثة المذكـورة، يبغـى الحـديث اللاهـوتىّ مخاطـبة إنسـان القـرن العـشـرين عـن الله وعـن الإنسـان نفسـه من منطـلق الإنسـان، حـول تسـاؤلاته وتطلّعـاته وتحـدّياته الجـديدة، لا حـول حقـائق إلهـيّة أزليّة مجـرّدة ميتافـيزيقـيّة. وقـد سـاعـد عـلى ذلك نقـد Nietzsche وكذلك Heidegger للمـيتافـيزيقـيا، وبالمـثل حـول حضـوره فى العـالم Heidegger واخـتباراته وواقعـه العـينىّ، كما أظهـرته الفـلسـفة الوجـوديّة. حتّى أنّ اللاهـوتى يركّز عـلى ” الوسـاطات البشـريّة” ( humaines Médiation ) فى عـلاقة الإنسـان مع الله، فيأخـذ بعـين الاعـتبار كلّ الوضـع البشـرىّ والواقـع الإنسـانىّ بكلّ كـثافـته وثقـله وأبعـاده.

وبنـاء عـلى ذلك، يمكن تلخـيص الحـديث اللاهـوتىّ المعـاصر بسِـمَـتَين أسـاسـيّتين: إنّه حـديث إنسـانىّ تعـدّدىّ.
1ـ الحديث اللاهوتى” الإنسـانى”:

فى القـرن 20، تدرّج الحـديث اللاهـوتىّ نحـو النظـرة الإنسـانيّة فى الحـديث عـن الله، مانحًـا للإنسـان مكانته فى الحديث اللاهـوتىّ، غـير مركّـز عـلى الحقائق الإلهـيّة المجـرّدة الميتافـيزيقـيّة فقـط، بل موجّـهًـا إيّاها نحـو الإنسـان.

وقـد شـدّد Rousselot Pierre عـلى أنّ الإيمان لا يتضمّن المعـرفة العـقـليّة فحسـب، بل الحـبّ أيضًا، فهـما بُعـدان لا يتجـزآن، وهـذا ما كان أظهـره جليّـًا من قـبله Pascal فى القـرن 17، وهـذا ما كان قـد ركّـز عـليه الآباء الشـرقـيّون عـامّة، وبالمثل أوغـسـطينس بتمايزه: Deum Credere ( أى الإيمان بالعـقل )Credere in Deum ( أى الإيمان بالوجـدان).

وأظهـر Paul Riceur أنّ الإيمان معـنى للوجـود، وانّ البُعـد الوجـدانىّ فـيه ـ كما الأمـر هـو فى الحـياة الإنسـانيّة عـامّـة ـ وإسـتنادًا لِمَا وصـل إليه التحـليل النفـسـانىّ مع فـرويـد، أقـرّ ـ خـلافـًا له ـ بأنّ مصـدر عـلاقـة الشـخص بأبيه عـلاقـة الإنسـان بالله الآب.

وبصـفة عـامّة، يمكن القـول إنّ الحـديث اللاهـوتى المعـاصـر يعـيد أهـمّيّة بالغـة إلى الإنسـان عـامّة و ” الإنسـان الشـامل” خاصّة ( Jacques Maritain : L’Homme intégral )، أى الإنسـان عـلى جميع مسـتوياته وجميع أبعـاده، منها البُعـد الزمنىّ ( من ماضٍ وحاضر ومسـتقـبل ) والبُعـد الشـخصىّ ( من عـقل ووجـدان وإرادة )، والبُعـد الاجتماعىّ والسـياسىّ والتاريخىّ والعـملىّ… أى بمخـتصـر العـبارة البُعـد الواقعىّ الوجـودىّ، مع تركـيز واضح عـلى قـيمة الشـخص المطـلقـة.

فإذا ألقـينا نظـرة عـابرة عـلى ” اللاهـوت الأسـاسىّ” التقـليدىّ، ولا سـيّما عـلى نزعـته الدفاعـيّة والتـبريريّة، اسـتنتجـنا أنّه كان حـديثًا لاهـوتيًا متّسـمًـا بالنظـرة المجـرّدة والنظـريّة والعـقـليّة، فلم يُـبرز بالقـدر الكافى بُعـد الوحى التاريخىّ. وقـد بـدأ الوحى باخـتيار الله الشـعـب الإسـرائيلىّ، بل وبـذوره فى الأديان الطـبيعـيّة حـيث كان الإنسـان يبحـث عـن الله، وبالفعـل كان الله حـينذاك يبحـث عـن الإنسـان. فأرادت النظـرة التقـليديّة ان تـبرّر الوحى بالعـقل ـ هـل هـو ممكن أم لائق أم ضـرورىّ ـ فى حـين أنّ النزعـة الحـديثة تقـرّ أوّلاً بالوحى كحـدث تاريخىّ اكـتمل بيسـوع المسـيح وبالروح القـدس فى الكنيسـة، ثمّ تحـاول أنْ تبحـث عـن معـنى الوحى للمؤمنين، متسـائلة هـل له معـنى للإنسـان، وما هـو هـذا المعـنى، وهـل هـذا المعـنى معـقـول ومقـبول لدى العـقل البشـرىّ؟ ثمّ إنّ النظـرة الدفاعـيّة التـبريريّة تُظهـر الوحى كمجموعة من الحقـائق الإلهـيّة يجـب الإيمان بها والتعـقّـل فيها، فى حـين أنّ الوحى والإيمان لا يمسّـان العـقـل البشـرىّ فقـط بل الوجـود الإنسـانىّ بكامله، بما فـيه نزعـته الأصـليّة إلى الحـبّ وإلى الجمال، إلى العـمل وإلى الالتزام… فليس الإيمان فعـلاً عـقـليًا مجـرّدًا، بل هـو فعـل ” ما قـبل الفهـم” ( Pré-compréhension ) و” ما قـبل العـقل”، كما أظهـره المفـسّـر الألمانى البروتسـتانتىّ Bultmann بناء عـلى الفـلسـفة الوجـوديّة ولا سـيّما فـلسـفة الفـيلسـوف الفـرنسـىّ Maurice Merleau-Ponty.

هكـذا لاحـت تدريجـيًا النظـرة الإنسـانيّة فى الحـديث اللاهـوتىّ، وقـد صـاغـها Karle Rahner sj إذ بيّن دور الإنسـان فى تجـاوبه مع الله، كطـرف كامل مع الله فى الوحى. فما الحـديث اللاهـوتىّ فى نهاية الأمـر سـوى تفسـير العـلاقة بين كلمة الله / وجـود الإنسـان. فالله لا يكشـف للإنسـان عـن ذات الله فقـط بل عـن الإنسـان أيضًا. فإنّ فهم المسـيحيّة هـو فى آنٍ واحـد فهم للإنسـان، وللعـقـائد المرتبطة بوجـود الإنسـان والتى لها أثـر فـيه كالخـلاص مـثلاً… وبقـصير العـبارة، يصـبح هكـذا الحـديث اللاهـوتىّ حـديثًا إنسـانيًا عـن الله وعـن الإنسـان. فإنّ الحـديث عـن الله هـو حـديثًا إنسـانيًا عـن الله وعـن الإنسـان. فما يُقـال فى الله يمسّ الإنسـان ويكشـف بُعـد الحقـائق الإلهيّة الإنسـانيّة. فثمّة تناسـق وتناسـب بين وحى الله / الوجـود الإنسـانىّ.

ولا نخفى أنّ هـذه النظـرة الإنسـانيّة فى الحـديث اللاهـوتىّ توقـع البعـض فى تطـرّف التمركـز حـول الإنسـان، عـوضًا عـن التمركـز عـلى الله وعـلى مجّانيّة الوحى والعـهد الخـلاصىّ. فالخطـر فى أن يكـون الإنسـان مقـياسـًا لكلمة الله خطـر غـير وهمىّ، بيـد أنّ الحقيقة هى أنّ الله هـو مقـياس الإنسـان. لذلك عـلى الحـديث اللاهـوتىّ فى هـذه النظـرة أنْ يتيقـّظ ويتنبّـه تمامًا إلى هـذا الخطـر، سـاعـيًا دومـًا نحـو التآلف العـميق بين الله / الإنسـان، فى ” تآزر” و ” تلاحم” كما قـال الآباء الشـرقـيّون. وذلك عـلى خـلاف ما وقـع فـيه فـويرباخ عـندما ادّعـى أنّ الحـديث الوحـيد هـو ” الأنثربولوجىّ” لا ” الثـيولوجىّ”. فأمّا المسـيحيّة، فتؤمن أنّ حقيقة الإنسـان نابعـة من الله، إذ إنّ الله أصـل الإنسـان ومرجعـه وغـايته، وحـيث إنّ الله يوحى للإنسـان من هـو الإنسـان ـ كما رأينا مـرارًا ـ. أو بتعـبير آخـر، أنّ ” الثـيولوجى ” هـو أسـاس ” الأنتربولوجى”، ” الحـديث اللاهـوتىّ” ( Théo-logie ) هـو أسـاس ” اللاهـوت الإنسـانىّ” ( Anthropo-logie ). لذلك نرى أنّ خـير تعـبير لا يـزال ” الحـديث اللاهـوتىّ الإنسـانىّ” (Anthropologique Théologie ) فهـو يدمج ما بين القطـبَين غـير المتجـزّئَين وغـير المنفصـلَين أبـدًا.
2ـ الحديث اللاهوتى ” التعـدّدى”:

ومن سـمات الحـديث اللاهـوتىّ المعـاصر، طابعه ” التعـدّدىّ” ( Pluraliste )، لا ” الوحـدوىّ” ( Monolithique ).

إنّ قضيّة ” التعـدّديّة” فى المسـيحيّة قـديمة وحـديثة فى آنٍ واحـد. فنبغـى إرجاعـها إلى مصـدرها، أى الكـتاب المقـدّس، وإظهـار تطـوّرها فى تاريخ الكنيسـة، فعـرض إشـكاليّتها فى كنيسـة اليوم.
+ مصدر التعـدّديّة : الكتاب المقدّس:

إنّ الكـتاب المقـدّس نفسـه مبنىّ عـلى تعـدّديّة الأحـاديث اللاهـوتيّة. فهـناك العـهدان القـديم والجـديد، وهما وجهـا الوحى الإلهىّ والإيمان البشـرىّ المتكاملان، بـدون أى انفصـال بينهما، بل فى تكامل كلّىّ:
{ لاَ تَظُنُّوا أَنِّي جِئْتُ لأَنْقُضَ النَّامُوسَ أَوِ الأَنْبِيَاءَ. مَا جِئْتُ لأَنْقُضَ بَلْ لأُكَمِّلَ } [ متى 5/17].

وإذا ألقـيْنا نظـرة ولو عـابرة عـلى العـهد الجـديد، رأينا أنّ هـناك أربعـة أناجـيل، لكلّ واحـد منها نظـرة لاهـوتيّة ممـيّزة. وبالمـثل، بين الأناجـيل والرسـائل المخـتلفة وسـفرَى أعـمال الرسـل والرؤيـا هـناك تعـدّديّة فى النظـرة اللاهـوتيّة، بل إنّ لبولس نفسـه أحـاديث لاهـوتيّة متنـوّعـة بين رسـائله الكـبرى ( رومية وكورونثوس ) ورسـالتَيْه فى أيّام أسْـره ( أفسـس وكولوسـى ) ورسـائله الرعـويّة ( تيموثاوس وتيطس )… فالأحـاديث اللاهـوتيّة المتعـدّدة كلّها تعـبّر عـن الوحى الواحـد والإيمان الواحـد تعـبيرًا متكامـلاً من زوايا مخـتلفة.

فإنْ كان أىّ حـديث بشـرىّ عـاجـزًا عـن الإحاطة بموضـوعه، فكم بالأحـرى إذا كان الموضـوع ” سـرًا”. فـفى ” الفـلسـفة الظـاهـرتيّة” ( Phénoménologie )، قـال Maurice Merleau-Ponty: ” كلّ نظـرة إلى هى وجهة نظـر إلى ” (Toute vue sur est un point de vue sur ). وقـد قـال من قـبله Nietzsche إنّ أىّ حـديث إنّما هـو محـدود، وتحـدّث بالتالى عـن ” المنظـور الجـزئىّ” ( Prespectivisme ).

فيمكن القـول إنّ الكـتاب المقـدّس شـرط إمكان تعـدّديّة الأحـاديث اللاهـوتيّة التى تخـدم كلّها الوحى الواحـد والإيمان الواحـد. فثمّة فـرق شـاسـع بين الحـديث الكـتابىّ اليهـودى ّـ المسـيحىّ التعـدّدىّ والحـديث القـرآنىّ الوحـدوىّ. ويمكن أنْ يخـرج المسـلمون من اتّهـام المسـيحيّين بـ ” تحـريف” الكـتاب المقـدّس من منطـلق قـبولهم ” تعـدّديّة ” أحـاديث، فما يعـتبرونه ” تحـريفـًا” إنّمـا هـو بالفعـل ” تعــدّديّة” فى التعـبير عـن الوحى الواحـد والإيمان الواحـد، بـدون أىّ تناقـض بين تعــدّديّة الأحـاديث.

+ تطوّر فكـرة التعـدّديّة فى تاريخ الكنيسـة:

وبناء عـلى التعـدّديّة الكامنة فى الكـتاب المقـدّس، نجـد مـنذ بـداية المسـيحيّة ” مـدارس لاهـوتيّة” متعـدّدة. فعـلى سـبيل المـثال، ركّـزت مدرسـة الإسـكـندريّة عـلى وحـدة شـخـص يسـوع المسـيح اعـتمادًا منها عـلى يوحـنّا الإنجـيلىّ حـيث إنّ لاهـوته “لاهـوت انحـدارىّ” ( ” الكَلِمَةُ صَـارَ جَسَـدًا” : يوحنا 1/14 )، بيـد أنّ مدرسـة أنطـاكـيا ركّـزت عـلى النظـرة التاريخـيّة إلى الوحى ولا سـيّما إلى تمـايز اللاهـوت والناسـوت فى شـخص يسـوع المسـيح اعـتمادًا منها عـلى الأناجـيل الإزائيّة حـيث إنّ لاهـوتها ” لاهـوت ارتقـائىّ” ( ” كَانَ هَـذَا اَلْرَجُل اِبْنُ اَلله حَقًّـا ” مرقس 15/39 ). هـذا بالإضـافة إلى مدرسـة القسـطنطينيّة ومدرسـة أورشـليم ومدرسـة روما.

وكان آبـاء الكنيسـة يركّـزون فى فكـرهم اللاهـوتىّ عـلى تفسـير الكـتاب المقـدّس وقـاموا بهـذا العـمل الفكـرىّ الشـامخ بروح ابتـكار لا مـثيل له إذ اسـتعـانوا بالفـلسـفة. وقـد اسـتعانوا هم عـامّة والآباء الشـرقـيّون خاصّة بالفـلسـفة الأفـلاطـونيّة والأفـلاطـونيّة الجـديدة، فى حـين أنّ اللاهـوت الغـربىّ المـتأخّـر قـد اسـتعـان بالفـلسـفة الأرسـطوطاليّة وكان الآباء يطـالبون بالتعـدّديّة مـنذ أوغـسـطينس لِمَا فيها من إثـراء للفكـر اللاهـوتىّ.

وأمّا فى اللاهـوت المدرسـىّ الغـربىّ، وقـد اسـتعـان بالفـلسـفة الأرسـطوطاليّة، فظهـرت بين صفوفه مـدارس لاهـوتيّة متناقـضة، إمّا بين الرهـبانيّات ـ الفرنسيسـكان والدومنيكان واليسـوعـيّين ـ وإمّا بين الجامعات ـ باريس وبولونيا وأوكسـفورد … ـ، حتّى إنّ البابا Benoit xiv قـد شـجّع فى القـرن 18 ” حـرّيّة المـدارس” هـذه.

إلاّ أنّ لاهـوت روما أخـذ رواجًـا وفـرض نفسـه تدريجـيًا فى القـرن التاسـع عـشـر، كـردّ فعـل تجاه ” الإصـلاح” من جهة اللاهـوت، و” عـصر التنويـر” من جهة الفـلسـفة.
+ إشـكاليّة التعـدّديّة فى كنيسـة اليوم:

وحـوّل المجمع الفاتيكانىّ الثانى الوحـدويّة هـذه على التعـدّديّة اللاهـوتيّة التقـليديّة، مشـجّعـًا التقـاليد الشـرقيّة العـريقـة، والحـوار المسـكونىّ مع الكـنائس الأرثوذكسـيّة، والجماعات الكنسـيّة البروتسـتانتيّة، والحـوار بين الأديان المخـتلفة، والحـوار مع العـالم المعـاصر ( من خـلال الفـلسـفة والعـلوم الإنسـانيّة والعـلوم الدقـيقة والتطـبيقـيّة… )، حـيث اعـترف المجمع باخـتلاف المواقـف والأوضـاع والأنظمة السـياسـيّة والاجتماعـيّة والاقـتصـاديّة فى العـالم المعـاصر… فضـلاً عـن أنّه اعـترف بتعـدّديّة ثـقافات العـالم. فإذ كانت المـدارس اللاهـوتيّة السـابقة قـد نشـأت فى داخـل ثقافـة واحـدة ـ أو اثـنتين منها مـيّزنا بين الشـرق والغـرب ـ فاليوم تعـدّدت الثقـافات، حاملة كلّ منها تسـاؤلات واهتمامات وقـضـايا وإشـكاليّات جـديدة فى داخـل الكنيسـة، فهـناك الثقافات الأفـريقيّة والأسـيويّة واللاتينيّة، والرأسـماليّة والاشـتراكـيّة، وهـناك ثقافة العـالم الأوّل والثانى والثالث بل والرابع، وهـناك الثقافات التقـليديّة والتقـدّمـيّة …. وبالتالى عـلى الحـديث اللاهـوتىّ أنْ يدمجها ويصـوغـها صـيغة جـديدة أمينة لوديعة الإيمان من جهة ومتفاعـلة مع الجـديد الذى يطـرأ بشـكل مسـتمرّ من جهة أخـرى. فأصـبح الحـديث اللاهـوتىّ بمسـيس الحاجة إلى ترك المركـزيّة الوحـدويّة الماضـية ـ من حـيث سـيطرة فـلسـفة أفـلاطـون وسـلطة حـديث القسـطنطينيّة اللاهـوتى الشـرقىّ ـ فاعـتبار الحـديث اللاهـوتىّ جسـدًا حـيًا دينامـيًا ينمـو ويترعـرع ويتطـوّر بفضل حـواره مع كلّ ما هـو فى داخـل الكنيسـة وما فى خارجها، فى أمـانة كاملة لوديعـة الإيمان، وفى إبـداع مسـتمرّ بحسـب العـصـور والظـروف والأماكن.

هكـذا أصـبحـت الأحاديث اللاهـوتيّة اليوم ” مموقَـفـة” ( Théologie située ) فى مخـتلف الثقافات والشـعـوب والبيئات والفـئات، كما كان يسـوع الناصـرىّ نفسـه ” مموقّـفـًا” فى بيئة معـيّنة، وفى ثقـافة معـيّنة، وفى شـعـب معـيّن، وذلك بموجـب فعـل تجسّـده.

ليس مفهـوم : التموقف” هـذا مجـرّد ” تأقـلم” ( Adaptation ) الحـديث اللاهـوتىّ بالمعـطـيات الجـديدة كما كانت الكنيسـة الغـربيّة تظنّه فى القـرن 19 وبداية القـرن 20ـ أى تفهّم خصائص الموقف الجـديد والتقارب منها ـ ولا هو مجرّد تمايز بين ما هو ثابت ـ و ” وديعة الإيمان” ـ وما هو متغـيّرـ الشكل والتعابيرـ ، بل إن ” التمـوقـف” الحـقيقىّ هـو ” انتـقـاف” ( Inculturation ) (2)، أى دخـول فى عـمق ثقـافة معـيّنة وفهمها والتأثـّر بها فى سـبيل التأثـير فيها عـند إعـلان إنجـيل يسـوع المسـيح لها بخصائصها الممـيّزة ـ من عـقـليّة وفـلسـفة ولغـة، من اهتمامات وتطـلّعـات وإشـكاليّات… ـ. هـذا هـو تحـدّى الحـديث اللاهـوتىّ المعاصـر. فتقـع عـلى عـاتقـه مسـاعـدة الكنيسـة عـلى ” الانثقـاف ” فى مخـتلف الثـقافات من حضـارات وبيئات وفـئات ومجتمعات… وبما أنّه ” مـنبر نقـدىّ” يمارس دورًا فكـريًا فى الكنيسـة، فباسـتطاعـته أنْ يقـدّم لها تعابير لاهـوتيّة مخـتلفة تكـون أمينة لوديعة الإيمان ومتأقلمة مع مخـتلف الثقافات.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(2) إنّ المصطلح الفلسفىّ والاجتماعىّ هو ” التأثّر الثقافىّ” ( Acculturation ). فاسـتعان به الحديث اللاهـوتىّ وصبغه صـبغة لاهـوتيّة مسـيحيّة. ولقد ظهر حديثًا فى الهند مصطلح مشـتقّ آخـر: ” تفاعـل الثقافات” ( interculturation ) وهو خاصّ بالحوار بين الأديان، فتأثيره فى الحديث اللاهوتىّ يتفاعل وهذا الحوار.
* الأحاديث اللاهوتيّة المختلفة:

وتطـبيقـًا لكّ ما سـبق من تجـديد فى الحـديث اللاهـوتىّ، ظهـرت عـدّة أحـاديث لاهـوتيّة، فى هـذا القـرن، منها ” لاهـوت التحـرير” وهـو يسـاهم فى تحـرّر أمريكا اللاتينيّة سـياسـيًا واقـتصـاديًا واجتماعـيًا…فى ضـوء الإنجـيل، وذلك بتقـديم السـند الكـتابىّ واللاهـوتىّ والكنسـىّ لمـثل هـذا التحـرّر. وقـد اشـتهر فى هـذا التيّار اسـمان: Gustavo Guttierez – Leonardo Boff.

وظهـر ” اللاهـوت السـياسىّ” و ” لاهـوت العـمل” أيضًا، وقـد لمع فيهما اللاهـوتىّ الألمانىّ الكاثوليكىّ Jean-Baptiste Metz، وكذلك ” لاهـوت التنمـية” والعـدالة وحقـوق الإنسـان، والتاريخ، والمـرأة… وكلّها تصـبو إلى إضـفاء المعـنى الإنجيلىّ عـلى الأنشـطة والعـلاقات البشـريّة.

كما اشـتهر فى ” لاهـوت الثقـافـة” Dietrich Bonhoeffer القـسّ البروتسـتانتىّ الألمانىّ، وكذلك Paul tillich الأمـريكىّ وقـد درس العـلاقـة بين الثقـافـة والـدين واسـتنبط ثـلاث عـلاقـات ممكـنة بينهما: ” التعارض” ( Hétéronomie )، و” الاسـتقـلال” ( Autonomie )، ” والتداخل” ( Théonomie ).

وهـناك ” اللاهـوت الزنجىّ” و ” اللاهـوت الأصـفر” أيضًا، وقـد رفع رايتهما اللاهـوتيّون الأفريقـيّون والأسـيويّون، فى محاولة منهم لـ ” انتقـاف” الحـديث اللاهـوتىّ فى ثقـافـة قـارتّهم. فعـلى سـبيل المـثال، إنّ عـلاقـة الأفـريقـىّ الطـبيعـيّة بالحـياة وبالجـدود وبالله تخـتلف اخـتلافًـا كلـيًا عـن العـلاقة الغـربيّة أو الشـرقـيّة. ممّا فى وسـعه أنْ يجـذب الأفـريقىّ فى شـخصيّة يسـوع المسـيح: يسـوع ” الشـافى”، يسـوع ” سـيّد الحـياة والمـوت”، يسـوع ” الوسـيط” بين الله والبشـر الذين يصبحـون أعـضاء من أسـرته ( راجع فى هـذا الصدد اجتماع أسـاقفة أفريقيا ومدغـشـقر فى السـنة 1974 ).

وكلّ ذلك يُظهـر لنا إلى ايّة درجة لم يعُـد الشـغل الشـاغل فى الحـديث اللاهـوتىّ ” صحّة التعـليم” ( Orthodoxia ) فحسـب، بل ” صحّة الالتزام” ( Orthopraxia ) أيضًا، لأنّ الحـديث اللاهـوتىّ ” مـنبر نقـدىّ” ( Instance critique ) يوجّه ويقـود إلى العـمل والالتزام لتغـيير أوضـاع جميع البشـر بـدون أيّة تفـرقة بينهم، أيّة كانت معـتقـداتهم أو جنسـيّاتهم، وذلك بنـور الإنجـيل. فالحـديث اللاهـوتىّ قـد تطـوّر فعـلاً من ” التأمّل فى العـالم” إلى ” تغـيير العالم” كما يناشـد به Marx.

هـذه بعـض الأمـثلة عـن نزعـة الحـديث اللاهـوتىّ ” الإنسـانيّة” و ” التعـدّديّة”، وإنّها تعـتمد عـلى تجسّـد الله وتتأصّل فـيه إذ قـد أصبح إنسـانًا كاملاً وعـاش الوضـع البشـرىّ برمّـته وحـياة كلّ إنسـان فى كلّ شئ ما عـدا الخطـيئة.
2ـ الماضى مرجع الحاضر:

من الحاضر وهـو أرض الواقع الذى يتطلّب الإبـداع والابتكار، نعـود إلى الماضى وهـو مرجع الحاضر وأسـاسـه ويتطلّب الأمانة ولا سـيّما لكلمة الله كما شـرحـناه.

فما هى العـلاقة بين ” كلمة الله” و” حـياة الإنسـان؟.

يركّـز الحـديث اللاهـوتىّ المعاصر، مع المفسّـر البروتسـتانتىّ الألمانىّ Bultmann عـلى ” دائرة تفسـيريّة” (Cercle herméneutique ) هى بمـثابة الجـدليّة بين القطـبين. فكلمة الله هى كلمة الإنسـان أيضًا، فهى كلمة الله عـن الله والإنسـان وكلمة الإنسـان عـن الله والإنسـان، وهى كلمة ظهـرت وترعـرعـت فى التاريخ كما بيّنه اللاهـوتى البروتسـتانتىّ الألمانىّ Wolfhart Pannenberg ، وكما أظهـرناه فى حـديثنا عـن الوحى. وإنّها كلمة تخاطب الإنسـان فتُـضْـفى معـنى عـلى حـياته لأنّ الله معـنى الإنسـان المطلق، كما أنّها كلمة تنطلق من فهم الإنسـان لنفسـه ولعـلاقـته بالعالم وبالحـياة والمـوت وبالحـب والحـرّيّة…، حـيث يحـيا ويعـمل الإنسـان ليصل من خـلالها إلى الله، وحـيث يكلّمه الله من خـلالها. فهـناك ” دائرة” و” جـدليّة” حقـًا بين الله والإنسـان، بين كلمة الله وكلمة الإنسـان.

وفى سـبيل أنْ يُدرك إنسـان القـرن العـشترين كلمة الله، يجـب ” إزالة الطابع الأسـطورىّ” من بعـض تعـابير الكـتاب المقـدّس وتصتوّراته وتشـابيهه، كما دعـا إلى ذلك وقـام به بشئ من التطـرّف Bultmann وكذلك Ebeling. فلكى تصل كلمة الله إلى الإنسـان بعـقليّته وثـقافـته فيتفاعـل معها، من الضـرورىّ التمايز بين ” الأسـطورة” ( Mythe ) و” الرسـالة” ( Message ) التى تحملها الإسـطورة. وليسـت ” الأسطورة” خـرافة، بل هى تعـبير بشـرىّ رمـزىّ عـميق وغـنىّ ” يعـطى مادّة التفكـير”:
“ Le mythe donne à penser ‘’ Paul Ricoeur ‘’

ويتولّى التاريخ أهـمّيّة بالغة فى عـلاقة الإنسـان بالماضى. وليس ذلك بجـديد، إذ كان مـدار اهـتمام أوغـسـطينس. إلاّ أنّ القـرن الحالىّ دقّق النظـر عـليه، ولا سـيّما فى ” تاريخ” الوحى والخـلاص والقـصد الإلهىّ، عـمّا أظهـره Pannenberg مـثلاّ من الناحـية الروتسـتانتيّة، والمجمع الفاتيكانىّ الثانى من الناحـية الكاثوليكيّة ( وقـد كان البُعـد التاريخىّ غـائبًا فى المجمع الفاتيكانىّ الأوّل الذى اتّسـم أكـثر بالنزعـة العـقـلانيّة ) وهـذا ما أوردناه فى حـديثنا عـن الوحى حـيث أظهـرنا تطـوّر الوحى من اليهـوديّة إلى يسـوع المسـيح متمّمه، إلى الروح القـدس محقّـقه فى الكنيسـة.
3ـ المسـتقـبل حافـز للحاضر:

من الماضى ـ مرجع الحاضرـ نقـفـز إلى المسـتقـبل، إلى ” نهاية الأزمـنة” ( Eschatologia )، كغـاية للحاضر ومعـناه المطلق وحافـزه. وإنّ هـذا المسـتقبل بلغـة الكتاب المقـدّس هـو ” ملكـوت الآب” و ” مجئ يسـوع المسـيح ” الثانى المجـيد. والقضـيّة هى كيف التعـبير عـن هـذه الحقـيقة.

فالمستقبل يُضفى معـنى عـلى ماضى البشـريّة وهـذا ما يطلق عـليه Pannenberg اسـم ” Prolepse “، أى أنّ المسـتقـبل يعـمل فى الحاضـر، فليس هـو حـدثًا مسـتقـبليًا فى نهاية الـزمـن البشـرىّ فحسـب وإلاّ وقـع فى ” الـزمن الأسـطـورىّ” (mysthique Temps)، بل إنّ المسـتقـبل ” عـملية” ( Processus ) فى تاريخ البشـريّة: عـمليّة ” اسـتباق” (Anticipation ) المسـتقـبل فى الحاضر، بحسـب قـول يسـوع: ” إِنَّ مَلَكـُوت اَلله بَيْنَكُم” [ لوقا 17/21] وبحسـب قـول بولس إنّنا ” قـُـمْنَا” و” صَـعِـدْنَا” مع المسـيح، وحـياتنا ” مُحْتَجِبَةٌ مَعْ اَلْمَسِـيحِ فِى اَلله” [ كولوسى 3/3].

ويولى ذلك أهـمّيّة بالغة لـ ” الرجـاء” كما أظهـره الفـيلسـوف الوجـودىّ الشـخصانىّ الكاثوليكىّ Gabriel Marcel واللاهـوتىّ البروتسـتانتىّ Jurgen Moltmann.

وإنّ ” الرجـاء” مختلف كلّ الاخـتلاف عـن ” الأمل” فى الإنسـانيّة وفى التقـدّم البشـرىّ. فقـد رأينا ما فى “أمـل” K.Marx وفى تقـدّم A.Comte من تفاؤل سـاذج ومـثالىّ وخـيالىّ. وأمّا ” الرجاء ” فمبنىّ لا عـلى ” عـمل” الإنسـان فـحسـب، بل عـلى ” وعـد” الله أيضًا، وعـده بأنّه سيصبح فعـلاً ” كُلّ شَئٍ فِى كُلّ شَئ ” [1كورونثوس 15/28]. من خـلال تاريخ البشـريّة وصـنع البشـر لها، ووعـده الذى حـقّقه بقـيامة يسـوع المسـيح من بين الأمـوات كباكورة لقـيامة البشـر أجمعـين وكسـيّد لتاريخ البشـريّة. فليس هـناك وعـد فحسـب، بل تحقـيق أيضًا له، اسـتباقًـا للمسـتقبل فى الحاضر، للحـياة الأبديّة فى الحـياة الدنيا، لملكـوت الآب بين البشـر، للمجئ الثانى فى تاريخهم.

وفى الرجـاء ـ وعـدًا وتحقيقًا ـ دور فعّـال للإنسـان. فـلا ينتظـر الإنسـان انتظـارًا سـلبيًا، بل يعـمل ويتعاون مع الله، كما رأينا مـرارًا.

فإنّما الله سـيّد التاريخ، والإنسـان صـانع التاريخ حقًا. لذلك، حقّ القـول إنّ المسـتقـبل ” حافـز” للحاضر وملهم له ودافع إليه، إنّه ـ بحسـب ما تعـنيه كلمة Sens الفرنسـيّة ـ ” معـنى” و” اتّجـاه” للحاضر فى الآن ذاته.
4ـ الخاتمة:

بين الماضى والمسـتقـبل من جهة، والحاضر من جهة اخـرى، ثمّة جـدليّة الأمانة / الإبـداع فى كلّ حـديث لاهـوتىّ، أو بالأحـرى فى كلّ الأحـاديث اللاهـوتيّة ” الإنسـانيّة” و ” التعـدّديّة”.

وأمّا الأمانة، فللوحى، أو لكلمة الله، لأو لوديعة الإيمان ـ وكلّها واحـد ـ أى فى نهاية الأمـر الأمانة لشـخص يسـوع المسـيح نفسـه ” هُـو هُـو اَلأمْـسُ وَاليـَوْمُ ولِلأبـَدِ ” [ عـبرانيين 13/8].

وأمّا الإبـداع، ففى حاضر البشر فى ضوء ماضيهم ومستقبلهم، فى مواقف حياتهم وثقافة حضاراتهم وإشكاليّات عـالمهم وتساؤلات اهتماماتهم، أى فى نهاية الأمر الإبداع للإنسان نفسـه.

وهو الروح القدس الذى يجعل اللاهوتيّين والسلطة التعـليميّة الكنسيّة أمناء مبدعـين، أمناء لشخص يسـوع المسـيح وللبشـر الذين يخـدمـونهم، ومبدعـين فى فهمهم متطلّبات الوحى ونداءات البشـر. فالـروح يضـمـن الأمانة فى الإبـداع والإبـداع فى الأمانة.

فبحسـب اللاهـوتىّ الألمانىّ الكاثوليكىّ Kasper Walter، ليس هـناك وحى أو ايمان ” آخـر” ( باللاتينيّة: aliud، بالفرنسـيّة auter )، بل هـناك ” طريقة أخـرى” ( aliter أو autrement ) فى التعـابير اللاهـوتيّة عـن الوحى والإيمان.

الخاتمة

الإيمان الواحـد / التعـابير المتعـدّدة.

بعـد جولتنا فى التعابير الإيمانية، بوسـعـنا أنْ نفهم لماذا ثمّة وحى واحد وإيمان واحد ولكن تعابير متعـدّدة. فالإيمان النابع من الوحى ومن نعـمته تعالى ومن تجاوب الإنسان تجاوبًا حيًا ديناميًا ينمو نمو الإنسان نفسه، لا يمكنه، وهو اللامتناهى، أن ينحصر فى تعـبير واحد متناهٍ، بل يستدعى حتمًا، نظرًا إلى لا محـدوديّته، العـديد والعـديد من التعابير. فالدين نفسه تعـبير عـن الإيمان، والصلاة تعـبير آخـر، والحديث اللاهـوتىّ أيضًا… فكلّ تعـبير لا يسـتوفى كلّيّة الإيمان، بل يُعـبّر عـن جانب من جوانب الإيمان المتعـدّدة.

وبالمثل، إنّ كلّ تعـبير عـن الإيمان يغـذّى ويُنمّى بدوره الإيمان. فالصلاة تغـذّيه، والحديث اللاهوتىّ أيضًا…، ذلك لأنّ الإيمان حىّ والحـياة تستدعى غـذاء.

فثمّة جـدليّة بين الإيمان وتعابيره ضروريّة كى لا تتصلّب التعابير الإيمانيّة بل تستقى حيويّتها من الإيمان نفسه، كى لا يفقد الإيمان من جهته حـيويّته. هـذه الدائرة الجدليّة قـد ظهـرت لنا فى هذه الوحدة من دراسـتنا.

الخاتمة العامّة

فى نهاية جولتنا، بمقدورنا أنْ نستخلص النقاط التى ركّزنا عليها طوال بحثنا، اقتناعًا منّا ببالغ أهمّيّتها فى أىّ حديث لاهوتىّ.

*أبرزنا فى كلّ خطوة من خطواتنا الوحدة المتلاحمة بين الله / الإنسان: بين وحى الله / إيمان الإنسان، بين كلمة الله / كلمة الإنسـان، بين بحث الله عـن الإنسـان / بحـث الإنسـان عـن الله… فمصير الله قد ارتبط بمصير الإنسان منذ الخلق واخـتيار شـعـب إسـرائيل والعـهد معه، حتّى أصبح مصيرًا واحدًا نهائيًا بفـضل تجسّـد الابن كلمة الله الأزلىّ، وبفضل صعـود يسـوع المسـيح القائم المجيد إلى أحضان الثالوث وقـد أصعـد معه البشـريّة. فكلّ حـديث لاهـوتىّ مسـيحىّ ينطـلق من ذلك ويتكلّل به. وكلّ ” حديث لاهـوتىّ” (Théologie ) هـو فى الآن ” حديث إنسـانىّ” ( Anthropologie ). هـذا لا يتعارض وكـون الله المطـلق، المتعالى كلّ التعالى عـلى الإنسان، أصـل الإنسـان ومرجعـه وغـايته، ولا يعـنى أنّ الله والإنسـان عـلى مسـتوى واحد، لأنّ تسامى الله لا يقلّ عـندما يتواضع الله ليُشـرك الإنسان معه فى كلّ شئ، فى طـبيعـته الإلهـيّة وفى الوحى…

*وأظهـرنا العـلاقة العـضويّة بين المؤمن / الكنيسة، بين فعـل الإيمان الشـخصىّ والكنسـىّ. فالمسـيحىّ شـخص كنسـىّ أسـاسـًا، ولا يمكن اعـتباره مؤمنًا إلاّ بارتباطه الجوهـرىّ بالكنيسـة، فإنّه يولَد لله وللحـياة الإلهـيّة بنعـمة الله فى داخل الكنيسـة وبها، وهـو يتلقّى الوحى من الكنيسـة، فأىّ حـديث لاهـوتىّ مسـيحىّ لا يسـتطيع أنْ يتغاضى عـن البُعـد الكنسـىّ للوحى والإيمان.

*وبيّنا العـلاقـة الوثيقة بين الدنيوىّ / الأبدىّ، بين الجسـدىّ / الروحىّ، بين المدنىّ / الدينىّ، بين الزمنىّ / الإيمانىّ… فكـثيرًا ما وقعـت الأحاديث اللاهـوتيّة فى ” ثنائيّة” ( Dualisme ) بين هذه الأبعـاد المخـتلفة ـ خاصّة فى الشـرق ـ فى حـين أنّ حقيقة الإنسـان هى ” ازدواج” ( Dualité ) بين هذه العـناصر. فكلّ حديث لاهـوتىّ يأخـذ بعـين الاعـتبار بل ويُعـبّر عـن ” الإنسـان الشـامل” ( intégral L’Homme) فى ماضيه وحاضره ومسـتقبله، فى واقعه المرئىّ وغـير المرئىّ، بعـقله وجـدانه وإرادته، بجسـده وعـلاقاته الاجتماعـيّة، فى جوهـره ووجـوده…

*وجمعـنا بين القـديم / الجـديد، لا العـهد القـديم والعـهد الجديد فحسـب، بل أيضًا الكنيسة فى ماضيها / حاضرها / مستقبلها، الحديث اللاهوتىّ / الماضى / الحديث، التقليدى / العصرىّ، الشرقىّ / الغـربىّ… فثمّة دينامـيّة يتمـيّز بها التاريخ إذ أنّ الوحى اليهودىّ ـ المسيحىّ ” حـدث تاريخىّ” (historique Evénement). وتتّسـم بهـذه الديناميّة العـودة إلى الماضى فى سـبيل فهم الحاضر وإعـداد المستقبل. فليس الوحى أو التقليد او الحديث اللاهـوتىّ ” عـقـائديّا” فحسـب ـ أى خاصًا بحقائق أزليّة ثابتة ـ بل لإنّه ” تاريخىّ” أيضًا ـ أى ” مموقف” فى تاريخ الكنيسة والبشـر. وهـذه النظـرة الديناميّة تنافى الوقـوع فى الرجعـيّة والأصـوليّة والسـلفيّة التى تؤلّه الماضى، وفى التساهليّة والتقدّميّة اللتين تؤلّهان الحاضر، وفى الغـيبيّة التى تؤلّه المستقبل. فكلّ حيث لاهوتىّ يُدمج الأوقات الزمنيّة الإنسانيّة الثـلاثة فى ائتلاف متوافق، كما أنّه يسمح بتعـدّديّة الأحاديث اللاهـوتيّة.

*وحاولّنا انْ نُظهـر بعض نقاط الالتقاء والفوارق بين الوحى والإيمان اليهودىّ ـ المسيحى / الإسـلام، اقتناعًـا منّا بضـرورة المقارنة بين الأديان فى منطقتنا العـربيّة وفى ظروفنا الراهنة. هـذا هـو طـريق المستقبل، طريق الحوار الفكرىّ الموضوعىّ البعـيد عـن التعـصّب والحسـاسـيّة. وما الملامح التى رسمناها سوى خطوة متواضعة وناقصة تستدعى المزيد والمزيد.

هـذه هى أهمّ المعالم التى قـادت دراسـتنا فى وحى الله وإيمان الإنسـان.
الجدال اللاهوتي