بَيْن وَحْي الله وِإيْمَان الإنْسَان(جزء2)

بقلم: الأب فاضل سيداروس اليسوعي

الفصل الخامس
أبعاد الإختبار الإيمانى

ينـبع فعـل إيمـان المؤمن من الشـخص كلّه، من ” الإنسـان الشامل” بحسـب تعـبير أحـد الفـلاسـفة المسـيحيّين المعـاصـرين:Jacques Maritain: L’Homme intégral فـيتعـلّق الإيمان بجميع أبعـاد الشخـص، بكيانه وحـرّيّته. ولإظهـار ذلك سـنتناول الموضـوع من زاوية الأوقـات الزمـنيّة الثـلاثة التى تكـوّن الشـخص: ماضـيه ومسـتقبله وحاضـره. فسـنبدأ بالمـاضى، لنقـفز منه نحو المسـتقـبل لنعـود إلى الحاضـر، متسـائلين عـن عـلاقة الإنسان مع الله فى كلّ من هـذه الأوقـات الثـلاثة.
الماضى: الله أصل الإنسان

يتعـلّق الإخـتبار الإيمانى بمنـبع الإنسـان كمخـلوق من الله عـلى صـورته كمـثاله وعـلى مـثال صـورة ابنه. هـذا هـو ماضى الإنسـان وهـو مهـد الحاضـر الذى هـو بدوره مهـد المسـتقـبل. فإيمـان المؤمن إعـتراف بأنّ الله أصـل كـيانه وحـياته.

وإنّمـا خطـيئة آدم وحـوّاء هى عـدم إعـترافهما بذلك، فقـد آثـرا ألاّ يعـتبرا الله أصلهما ومنبعـهما. هـذه هى النزعـة الإسـتقـلاليّة التى تعـود إلى حـرّيّة الإنسـان، فـلا يعـترف بأنّ الله أصـله بلّ يعـتبر ذاته أصـل نفسـه. وفى عـالمـنا المعـاصـر، حـيث قـدرة الإنسـان الهائلة من إكتشـافـات وإنجـازات، وتقـدّم وقـوّة… قـد تؤدّى بـه إلى الإسـتقـلال عـن الله أو الإسـتغـناء عـنه أو تشـييد حـياته بـدون الرجـوع إليه، فى عـالمنا هـذا، من المهمّ أنْ يعـود الإنسـان إلى أصـله المطـلق وهـو الله. فليسـت حـرّيّته هى الأصـل والمرجـع، بلّ الله الـذى وهـبه إيّـاها.

وفى عـالمنا المعـاصر، حـيث تحـتلّ الحـياة النفسـيّة بالغ الأهمّـيّة، بسـبب ما يُوليه التحـليل النفسىّ للماضى من مكانة مرموقة فى حـياة الشخـص النفسـيّة، من المهمّ أنْ يعـود الإنسـان إلى ماضـيه المطـلق وهـو الله.

فالماضى ” الوجـودىّ” ـ كما حلّـله فـرويد ـ قـد يشـلّ الإنسـان لأنّه عـنصر الحـتميّة. وأمّـا الماضى ” الأنطولوجى” أى الكـيانىّ ـ كما تعـرضه المسـيحيّة ـ فيحـرّر الإنسـان من أيّة حـتميّة لأنّه عـنصر البنـوّة للآب والأخـوّة ليسـوع المسـيح، كما يساعـده عـلى قـبول ماضـيه النفسىّ فيدمجـه فى ماضـيه الشـامل المطـلق. فـليس البُعـد النفسىّ مرجع حـياة الشـخص ـ فهـذا نسـبىّ كلّ النسـبيّة ـ بـلّ بُعْـده الأنطـولـوجى أى إرتباطـه الـوثـيـق بالله مـن جـرّاء فـعـل الخـلق ـ وهـذا مـطـلق ـ. وإذا عـدْنـا إلى عـقـدة ” أوديـب” / “إليكترا” ـ حـيث الأزمة فى عـلاقة الطفـل أو الطفـلة مع الأب والأم، والمعـروف أنّ هـذه العـلاقـة ” تأسـيسيّة” لحـياة الشـخص ـ إعـتبرنا أنّ المسـيحيّة تعـرض عـلى الإنسـان كـونه ابنًـا للأب وأخًـا ليسـوع المسـيح، كمرجع لحـياته مرجعـًا مطـلقـًا شامـلاً.

هكـذا يربـط الإخـتبار الإيمانىّ الشـخص بأصـله المطـلق بـدون أىّ ضـياع او إغـتراب فى أصتول مزيّفـة أو ثـانويّة تدّعى لنفسها صفـة المطـلق، وهى فى الواقـع نسـبيّة وجزئيّة فـلا تشـمل حـقـيقة الإنسـان وواقعـه برمّـته وإنّمـا الله هـو الأصـل المطـلق، ولا شئ آخـر كالعـنف ( هـيغـل ) أو القـوّة ( نيتشـه ) أو الإقـصـاد ( ماركس ) أو الرغـبة ( فـرويد ) أو الحـرّيّة ( سـارتر )… وكلّها أصـول مزيّفـة(1).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سنعـود إلى ذلك بإسـتفاضة فى حـديثنا عـن ” الإختبار الإيمانى والإرادة” فى الفـصل الثـامن.
المستقبل: الله غاية الإنسان

من الماضى نقفـز إلى المسـتقـبل. فالإنسـان لا يكتفـى بالمـاضى ولا بالحـاضر، بلّ يصـبو نحـو المسـتقـبل. وإنْ ألقـينا نظـرة عـلى الفـلسـفات المعـاصرة ( الوجـوديّة مثـلاً ) أو الأيدلوجيّات ( كالماركسـيّة مثـلاً ) أو العـلوم الإنسـانيّة ( كعـلم النفس وعـلم الإجتماع مثـلاً ) أو اللاهـوت المعـاصر ( كلاهـوت الرجـاء ولاهـوت التحـرير مثـلاً ) أو حتّى التكـنولوجيا… وجـدنا أنّها تُعـير مسـتقـبل الإنسـان بالغ الأهمّـيّة.

ويخـتبر الإيمان المسـيحىّ من جهـه أنّ المسـتقـبل المطـلق هـو الله ـ ملكـوت الآب، مجئ يسـوع المسـيح الثـانى ـ فـيُفهَم الماضى والحاضـر فى ضـوء هـذا المسـتقـبل الذى يُضْـفى معـنى عـلى الماضى والحاضـر، مُعْـتبرًا الواقـع فى صـيرورة مسـتمرّة نحـو هـذا المطـلق، نحـو الحـياة الأفضـل. بهـذا المعـنى يُمْكِنْ القـول بأنّ المسـيحيّة دين المسـتقـبل، وهـذا غـير وارد فى البوذيّة أو الهندوسـيّة أو الديانة الإغـريقـيّة، فهى لا تعـرف التاريخ أو التقـدّم بلّ تؤمن بالدائـرة التى تـدور وتعـود بـلا نهاية، وتؤمن بالتناسـخ أى بإعـادة تجسّـد النفـوس فى أجسـاد أخـرى… ولم تعـرف الديانة اليهـوديّة فى بـداية أمـرها الحـياة الأبـديّة بـلّ ظهـر الإعـتقـاد بهـا مؤخـرًا، قـرنَين قـبل مجئ يسـوع. وأمّـا الإسـلام، فيؤمن كاليهـوديّة والمسـيحيّة بهـذا المعـتقـد.

ففى العـهد القـديم، لا أحـد ولا موسى رأى الله، فيسـوع وحـده رأى الآب:{ اَللَّهُ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ قَطُّ. اَلاِبْنُ الْوَحِيدُ الَّذِي هُوَ فِي حِضْنِ الآبِ هُوَ خَبَّرَ… لَيْسَ أَنَّ أَحَداً رَأَى الآبَ إِلاَّ اَلَّذِي مِنَ اَللَّهِ. هَذَا قَدْ رَأَى الآبَ } [ يوحنا 1: 18، 6: 46 ]. غـير أنّ الاشـتياق إلى رؤية الله يعـبّر عـن أنّ أصـل الإنسـان إنّمـا هـو الله. فما دام عـلى وجه الأرض، يؤمن الإنسـان بالله ولا يـراه يؤمن به الآن فى الظـلّ كفى مـرآة، وحينـذاك فى الرؤيـة وجهًا لوجه { لأَنَّنَا بِالإِيمَانِ نَسْلُكُ لاَ بِالْعَـيَانِ… فَإِنَّنَا نَنْظُـرُ اَلآنَ فِي مِرْآةٍ فِي لُغْـزٍ لَكِنْ حِينَئِذٍ وَجْهاً لِوَجْهٍ… لَكِنَّنَا نَعْـلَمُ أَنَّهُ مَتَى أُظْهِـرَ الْمَسِيحُ، سَنَكُونُ مِثْلَهُ، لأَنَّنَا سَنَرَاهُ عِـنْدَئِذٍ كَمَا هُـوَ!… وَهُـمْ سَيَنْظُـرُونَ وَجْهَهُ، وَاِسْمُهُ عَـلَى جِبَاهِهِمْ } [ 2كورونثوس 5: 7، 12: 1ـ 4، 1كورونثوس 13: 12، 1يوحنا 3: 2، رؤ 22: 4 ]. لذلك خصّص يسـوع تطـويبة للرؤيـة هـذه:
{ طُوبَى لِلأَنْقِيَاءِ الْقَلْبِ لأَنَّهُمْ يُعَايِنُونَ اللَّهَ } [ متى 5: 8 ].

وهـذا ما جعـل إيريناوس يقـول قـوله المـاثـور:
” مجـد الله هـو الإنسـان الحىّ، وحـياة الإنسـان هى رؤيـة الله”.

ويسـتدعى الإشـتياق هـذا حـركة. فالإنسـان يتحـرّك نحـو الله، فيقـوده اشـتياقـه إليه وقـد خُلق ” نحـو” المسـيح و” لأجـل” المسـيح. ويقـول مكسيـموس المعـترف فى هـذا الصـدد إنّنا لا نجـد وضعـنا الحقـيقى إلاّ عـندما نتقـدّم. ويشـبّه غـريغـوريوس النيصىّ الحـياة المسـيحيّة بـ ” الخـروج”، مثـل الشـعب العـبرانىّ الذى خـرج من أرض العـبوديّة ودخـل أرض الميعـاد، وهما حركـتان مسـتمرّتان، بلّ هما ” حركة ثـابتة” ـ عـلى حـدّ تعـبيره ـ أى حركـة تمنح ثـباتًا للمتحـرّك.

ونظـرًا إلى كلّ ذلك ـ من اشـتياق إلى رؤية الله وحـركة نحـوه ـ إنّ المسـيحيّة دين الرجـاء، الرجـاء بتحقـيق المسـتقـبل المطـلق هـذا { فَإِنِّي أَحْسِـبُ أَنَّ آلاَمَ اَلزَّمَانِ اَلْحَاضِرِ لاَ تُقَاسُ بِالْمَجْـدِ اَلْعَـتِيدِ أَنْ يُسْتَعْـلَنَ فـِينَا } [ رومية 8: 18]. وليس الرجـاء أمـلاً أو أمـنية بشـريّة فى الحـياة الآخـرة ـ مثـلما الأمـر فى الديانة الفـرعـونيّة مثـلاً ـ بلّ إنّه يعـتمد أسـاسـًا عـلى قـول الله ووعـده بأنّ هـناك مسـتقـبلاً مطـلقـًا، يسـمّيه الكـتاب المقـدّس ” الحـياة الأبـديّة” و” الوليمة” و” الحصـاد” و” ملكـوت السـماوات”…. ويعـتمد الرجـاء عـلى أنّ المسـيح قـد حـقّـق وعـد الله إذ قـام كباكـورة وعـربون لقـيام البشـريّة كلّهـا [1 كورونثوس15]. فاليهـوديّة والإسـلام يؤمنان بالمسـتقـبل بنـاء عـلى قـول الله ووعـده. ولكن ما تسـتأثر به المسـيحيّة أنّ الوعـد قـد تحـقّـق فعـلاً بيسـوع المسـيح. وهكـذا يتحـوّل الإيمـان المسـيحىّ إلى رجـاء، والإخـتبار الإيمانىّ إلى إخـتبار رجـائىّ.

ولفهم بُعـد المسـتقـبل والرجـاء فهـمـًا حـقـيقيًّا، كى لا يصـبحا ” أفـيون الشعـوب” وهـروبًا من الواقع البشـرىّ ( كما إدّعـاه ماركس ). ينبغى تحـديد معـناها. فيقـول بولس فى إحـدى خطـبه للوثنيّين: { لأَنَّنَا بِهِ نَحْـيَا وَنَتَحَـرَّكُ وَنُوجَـدُ } [ أعـمال الرسل 17: 28].

فالحركة هـذه تدفـع المؤمن إلى أن يعـمل فى واقع مجتمعه. ففى اللاهـوت المعـاصر هـناك تركـيز عـلى أنّ ملكـوت الله يتشـيّد عـلى الأرض ويبدأ عـلى الأرض، كما أنّ المجئ الثـانى المجـيد للمسـيح يسـتعـدّ له الإنسـان بإشـتراكه فى خـلق مجتمع أسـاسـه المحبّة والعـدل والمسـاواة والتفـاهم والحـوار (2)… بهـذا المعـنى يمكن القـول بأنّ المسـتقـبل يبدأ فى الحاضـر: { أَقْبَلَ عَلَيْكُمْ مَلَكُوتُ اَللهِ } [ لوقا 11: 20].

فالإيمان يحـثّ المؤمنين عـلى أنْ يقـوموا بالعـمل البشـرىّ بمجهـود وجـدّيّة، وأنْ يشـيّدوا المجتمع البشـرىّ تشـييدًا أسـاسه الإنجـيل ولا سـيّما التطـويبات وهى تتـلخّـص فى المحـبّة. فخـلاص البشـريّة ( وبالتـالى مـلكـوت الله ) قـد تحـقّـق بيسـوع المسـيح { لأَنَّنَا بِالرَّجَاءِ خَلَصْنَا. وَلَكِنَّ اَلرَّجَاءَ اَلْمَنْظُورَ لَيْسَ رَجَاءً لأَنَّ مَا يَنْظُرُهُ أَحَدٌ كَيْفَ يَرْجُوهُ أَيْضاً؟. وَلَكِنْ إِنْ كُنَّا نَرْجُو مَا لَسْنَا نَنْظُرُهُ فَإِنَّنَا نَتَوَقَّعُهُ بِالصَّبْرِ} [ رومية 8: 24، 25] وهو تحقّـق ولا يزال يتحقّـق فى الأرض، وعـمدة ذلك هى قـيامة يسـوع المسـيح وإنتصـاره عـلى قـوى الشـرّ، عـلى كلّ ألوان الشـرور والحـتمـيّات والمشـاكل الإجتماعـيّة والسـياسـيّة والإقـتصـاديّة… فالمسـيح قـد إنتصـر عـلى كلّ ذلك، ولا يزال إنتصـاره سـارى المفعـول والتحـقـيق عـن طـريق الإنسـان وهـو يتمّم عـمله وخـلاصه بقـوّة الروح القـدس وبنعـمة يسـوع المسـيح تمجـيدًا لله الآب. فالإخـتبار الإيمانىّ بهـذا المعـنى هـو إلـتزام من أجـل عـالم أفـضل، عـالم جـديد، بـدافع المحبّة التى يضعـها الـروح القـدس فى قـلب المؤمن { وَالرَّجَاءُ لاَ يُخْـزِي لأَنَّ مَحَبَّةَ اللهِ قـَدِ اِنْسَكَبَتْ فِي قـُلُوبِنَا بِالرُّوحِ الْقُـدُسِ الْمُعـْطَى لَنَا } [ رومية 5: 5]، وتمثـّلاً بيسـوع المسـيح، وكلّ ذلك لمجـد الله الآب. هكـذا يتحـوّل الإيمـان والرجـاء إلى محـبّة والإخـتبار الإيمانىّ والرجائىّ إلى إخـتبار للمحبّة العـاملة.

وإنْ أصبح التحـقـيق البشـرىّ للخـلاص ولملكـوت الله غـاية فى حـدّ ذاته، بيـدّ أنّه فى الواقع وسـيلة، وإنْ أصبح مطـلقـًا، بيد أنّه نسـبىّ، حينذاك ينـدّد الإيمان بهـذه الأسـاليب والوسـائل والأعـمال التى تـدّعى لنفسـها صفـة المطـلق والهـدف، فإنّما الله هـو المطـلق والهـدف (3).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(2)راجع فى هذا الصدد الوحدة الثالثة من كتابنا: ” المجتمع فى ميزان الكنيسة” سلسلة ” الإيمان والحياة” رقم5 ـ مطبوعات الآباء اليسوعيّين فى مصر ـ 1979.
(3) سنعـود إلى كلّ ذلك ولا سيّما إلى معـنى التاريخ البشرىّ والعـمل البشرىّ فى ” الاختبار الإيمانى والإرادة” فى الفـصل الثامن.
الحاضر: الله مرجع الإنسان

بين الماضى والمسـتقـبل، الأصـل والغـاية، يتـركّـز الإخـتبار الإيمانىّ عـلى الحاضـر، حاضـر الشـخص المؤمن وواقعـه البشـرىّ حـيث الله هـو المرجع.

فالإيمان يخـتصّ بالشـخص كلّه فى كلّ أبعـاده، وإنّه عـنصر توحـيد حـياته، بمعـنى أنّه يجـنّد كلّ طـاقـاته فى إتّجـاه المطـلق. ولتبيان ذلك، يمكننا تحلـيل لفـظة ” دين” باللغـة اللاتينيّة ( Religio) فهى ـ بفـضل غـنى معـناها ـ تُظهـر بوضـوح أنّ الإيمان يتعـلّق بالشـخص الشـامل بكلّيته، فى جميع أبعـاده، ولا سـيّما بقـواه النفـسـيّة الثـلاث: العـقـل والوجـدان والإرادة.

* فبحسـب الأديب شـيشـرون ( Cicéron )، إنّ أصـل ( Religio)، هـوRe-ligere ( ومنها بالفرنسـيّة Relire )، أى “أعـاد القـراءة “، ” قـرأ ثانية”. فالـدين هـو أن يقـرأ الإنسـان ويفسـّر ويَفْـهم واقع الحـياة ومعـنى الوجـود والقـضايا البشـريّة والعـلاقـات الإنسـانيّة… فى ضـوء إيمانه. أو بتعـبير آخـر، يضئ الإيمان بنـوره الحـياة ويُضْـفى عـليها معـنى. فالإيمان يختصّ بالعـقـل إذًا، ذلك العـقـل الذى يسـعى إلى إكتشـاف معـنى الوجـود ويقـرأ واقع الحـياة قـراءة إيمانيّة.

هكـذا يقـود الإخـتبار الإيمانىّ المؤمن إلى عـمق كـيانه البشـرىّ. فالإيمان يكشـف له عـن معـنى حـياته وإتّجاهها، أى الله. إنّ الإيمان يسـاعـده عـلى ألاّ يظـلّ عـلى الصـعـيد المـادىّ أو السـطحىّ أو الخارجىّ منحـياته، بلّ يدخل حـتّى أعـماق كـيانه.

فالإيمان يفـتح للشـخص آفـاقـًا شـاسـعة غـير الآفـاق التى يحـياها كلّ يوم بنـوع من العـادة والرتابة. إنّه يُضْـفى عـلى الحـياة معـنى، ويمنحها مذاقًـا، فيُجَـدّد دومًـا الحـياة، كما وعـده يسـوع بأنّه يمنح حـياة أفـضل تفـيض فـيه.

ويعـود ذلك إلى كون الله هـو موضـوع الإيمان. فالله هـو المطـلق، هـو القـيمة والهـدف والمعـنى والعـمق والإتّجـاه بالنسبة إلى الإنسـان. ولا يسـتطيع الإنسـان الذى يخـتبر الله إلاّ أنْ يرجع إلى الأمـور المطـلقـة فى حـياته، بلّ إنّها تحـثّه دائمـًا عـلى الخـوض فى عـمق أعـماق حـياته.

فالإيمان يُلقى هكـذا ضـوءًا عـلى القضـايا الإنسـانيّة الكـبيرة ـ كالألم، الحـرّيّة والحـبّ، الحـرب والبغـض، الظـلم والاسـتغلال، السـلام والعـدل، العـمل والبطـالة…ـ فـلا يُلقى عـليها نظـرة سـطحيّة، بلّ يصـل إلى عـمق أعـماقهـا وجـذورها. فإن تعـرّض لمشـكلة ” الشـرّ” فى المجتمع، لا يكتفى بالتحـليل الإجتماعىّ أو السـياسىّ أو الإقـتصـادىّ، بلّ يعـمّق نظـرته حتّى أصـل الشـرّ وجـذوره ومنبعه، أى الخطـيئة، الأنانيّة، الكـبرياء، الطمع فى داخل الإنسـان. فإنْ تعـدّدت اليوم الفلسـفات والأيديولوجيّات التى تحلّـل هـذه القـضايا، إلاّ أنّ للإيمان نظـرته العـميقة والجـذريّة.

* وبحسب الأديب لاكتانس ( Lactance )، إن أصـل كلمة Religio هـو Re-ligare ( ومنها بالفرنسـيّة Relier )، أى” ربط”، ” شـيّد عـلاقة”. فالدين هـو العـلاقة التى تربط الإنسـان بالله ربطـًا مبنيّـًا عـلى المحـبّة، إذ إنّ الله محـبّة والإنسـان مخـلـوق عـلى صـورتـه كمـثـاله. فالإيمـان يخـتصّ بالوجـدان إذًا. وهـذا مـا يوحى بـه لـفـظ ” إيمـان” العــربىّ ومـصـدره ” أمـن”، أى أنّ الإنسـان يشـعـر بالأمـان لأنّه فى عـلاقـة مـع الله، وبالمـثـل تـوحى لـفـظة ” صـلاة” بــ ” الصـلة”، صـلة المؤمن بالله.

* وبحسـب القـدّيس أوغـسطـينس، إنّ أصـل كلمة Religio هـو Re-eligere ( ومنها بالفرنسـيّة Ré-élire )، أى ” أعـاد الإنتخـاب”، ” إخـتار ثانية”. فالدين هـو إخـتيار المؤمن لله إخـتيارًا حـرًّا وإخـتيارًا ثـانيـًا لحـياته وسـلوكه وتصـرّفاته ومعـاملاته، فى ضـوء عـلاقـته مع الله وبموجـب إيمانه به، سـاعـيًا نحـو الله منبع سـعـادته وهـدف عـمله ونشـاطه ومجهـوده ومصـدر حـرّيّته. فالإيمان يخـتصّ بالإرادة الحـرّة إذًا. وهـذا ما يُوحى به اللفـظ اللاتينىّ Fides ـ ” الإيمان” ـ فهـو يُدلى بمعـنى ” الأمانة” ( بالفرنسـيّة Fidélité ) والإلـتزام والإحـترام فى الإخـتبار.

* هكـذا نسـتشـفّ من خـلال كلمة Religioاللاتينيّة غـنىً عـظيمـًا للإيمان، للإخـتبار الإيمانىّ. فالإيمان يسـتقـطب فعـلاً الشـخص كلّه بكلّ فكـره وقـلبه وقـوّته ـ كما توصى به الوصيّة الأولى من وصـايا الله ـ لأنّ موضـوع الإيمان هـو الله المطـلق. ومن هنا أتت الحـروب الدينيّة ـ فى كلّ أديان العـالم ـ غـاية فى العـنف والتعـصّب والشـناعـة، إذ تعـتمد من جهـة عـلى الله المطـلق الذى يدّعى المؤمنون الدفـاع عـنه، ومن جهة أخـرى عـلى كلّيّة الشـخص وهـو يجـنّد كلّ طاقاته وإمكاناته فى فعـل إيمان والدفاع عـن الله.

هـذا لا يعـنى أنّ الإيمان ينبع من العـقـل أو الوجـدان أو الإرادة، كأنّ قـوى النفس الثـلاث تولّـد الإيمان، فيولّـد الإقـناع العـقلىّ أو الانسـجام الوجـدانىّ أو الإلـزام الإرادىّ الإيمان، كلا. ليسـت هى مرجع الإيمان، وإنّمـا الله هـو المرجع، هـو الذى ـ بمبادرته ونعـمته فى داخـل الكنيسـة ـ يهـب الإيمان، فـيستعـين الإيمان بقـوى النفـس الثـلاث ولكنّه لا يعـتمد عـليها، فالإيمـان أعـظم منها ويتجاوزها. فقـد لا يفهم العـقـل، وقـد لا يتعـاطف الوجـدان، وقـد لا تتجانس الإرادة، ورغـم ذلك يؤمن المؤمن إيمانًا حقـيقـيًّا. إنّ الإيمان قـفـزة فى الله تتجاوز القـوى النفـسـيّة وإنْ إسـتعانت بها، أمـرها أمـر بطرس الذى قـفـز فى البحـر بنـاء عـلى دعـوة يسـوع [ متى 14: 29 ]، أو ألقـى الشـباك فى البحـر بنـاء عـلى كلمـة يسـوع [ لوقـا 5: 5]. فالمؤمن ـ بهـذا المعـنى ـ يُدمجها، أى يسـتعـين بها ويتجاوزها فى آن واحـد. فالإيمان إيمان، والنفـس نفـس. ومرجع الإيمان هـو الله نفسـه لا حـياة الإنسـان النفـسـيّة.

الخاتمة
يتناول الإخـتبار الإيمانىّ جميع أبعـاد الشـخص فعـلاً: ماضـيه وحاضـره ومسـتقـبله، عـقله ووجـدانه وإرادته، ما يحـياه من محسـوس ومرئىّ ومن غـير محسـوس وغـير مرئىّ، ما يعـيشـه من زمنىّ وطبيعىّ ومن أبدىّ وفوق طبيعىّ… وقـد يبدو ذلك متناقـضًا، ولكنّه بالفعـل ” إئتلاف مفـارق” (Synthése pradoxqle) بقـدر ما ” الإيمان إئتلافى كلىّ” عـلى حـد قـول الفيلسـوف الشخصانىّ ( Personnaliste ) المعاصر موريس نيدونسيل ( Maurice Nédoncelle ).

ويمكن القـول فى الإخـتبار الإيمانىّ ما قـاله أحـد الروحانيّين من القـرن السابع عـشـر عـلى عـمل اللله:
” بـدونه كلّ شئ لا شئ ( Sans lui tout rien )
ومعـه لا شئ كلّ شئ ( Avec lui rien est tout )”.
[ Jean-Pierre caussade s.j., L’Abandon à la Providence ].

وهـذا الإئتـلاف فى الشـخص نمـوّ مسـتمرّ، ديناميّة مسـتديمة، بقـدر ما لا يتوقّـف الإيمان بلّ ينمو نمـوّ الحـياة نفسها، نمـوًّا لا نهاية له بقـدر ما موضـوعه هـو الله نفسـه وفـاعـله هـو الشـخص نفسـه.

ويظهـر النمـوّ هـذا فى قـوى النفس الثـلاث بصفة خاصّة، لذلك سنخصّص لكلّ من العـقل والوجـدان والإرادة فـصلاً خـاصّـًا لدراسـة عـلاقـتها بالإيمان.

الفصل السادس
الإختبار الإيمانىّ والعقل

إذا وضـعـنا العـقل فى مـيزان الإيمان، إضـطررنا إلى الإقـرار بأنّ العـقل يتمـيّز بأنّه لا نهائىّ ونهائىّ فى آن واحـد. فهـو لا نهائىّ بمعـنى أنّه قـادر عـلى معـرفة الله والحـديث عـنه، هـذا ما نبغـى تبيانه أوّلاً. وهـو نهائىّ بمعـنى أنّه عـاجـز عـن معـرفة الله معـرفـة تامّـة وعـن الحـديث عـنه حـديثـًا مناسـبًا، وهـذا ما نـريد إظهـاره ثانيـًا. وسـتقـودنا هـاتان الخطـوتان على الإقـرار بضـرورة إكـتمال العـقل فى الأبـديّة ثـالثـًا (1).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) فمقاربتنا جدليّة تؤكّد لا نهائيّة العـقل ثمّ تنفى ما تؤكّده فتؤكّد نهائيّته. ولا تكمن حقيقة العـقل فى لا نهائيّته ولا فى نهائيّته، بلّ فى الإثنين معًا. وهذا الإقرار الأخير الذى نتوصّل إليه ننفيه بدوره فى تأكيدنا أنّه يحب تجاوز العـقل فى فعـل الإيمان. فالجدليّة هى إذًا التأكيد عـلى منطوق فننفيه ومن هذين المنطوقين يُولد منطوق ثالث يُنفى بدوره. غـير أنّ النفى لا يعـنى الإلغاء، بلّ إنّه يُدمج المرحلة السابقة فى المرحلة اللاحقة، وهذا ما سَمّاه الفيلسوف هيجل Aufhebung.
لا نهائيّة العـقـل

عـندما نعـترف بأنّ الله قـد خـلق الإنسـان عـلى صـورته كمـثاله، نُقـرّ ـ ضـمن ما نُقـرّ ـ بأنّه خـلقـه كائنًا عـاقـلاً، يتمـيّز بأنّه يتعـقّـل. والمقصـود بذلك عـناصر مختلفة نحـاول إسـتجلاءها:
1ـ القدرة على معرفة لا نهائيّة:

خـلق الله الإنسـان قـادرًا أنْ يعـرفه بعـقله. وكـون الله لا نهـائيًا ولا محـدودًا، يُلى العـقـل المقـدرة عـلى معـرفة اللا نهـائىّ والغـير محـدود، أى الله نفسـه(2).

وإذ أنّ الوحى المسـيحىّ يتمحـور حول أسـرار إلهيّة، ولا سـيّما سـرّ التجسّـد: { اَلْكَلِمَة صَـارَ جَسَـدًا ( بَشّـرًا) } [ يوحنا 1: 14]، فالعـقـل يحـاول فهم هـذا السـرّ والتعـمّـق فـيه، فلفـظة ” كلمة” مثـلاً التى يسـتخدمها يوحنّا تتطلّب شـرحًا وفهـمًا وتوضيحًا وتفسـيرًا. وما يُقـال فى سـرّ التجسّـد، يُقـال فى سـرّ القـيامة أيضًا، ولا سـيّما سـرّ مـوت المسـيح وقـيامته، وبالمـثل سـرّ الثالوث. كذلك وعـد يسـوع بالـروح القـدس الذى ” يُعـلّم” و” يُذكّـر” و “يُرْشـد” المؤمن ويقـوده إلى ” الحـق كلّه”. فالـروح القـدس لا يخاطب الوجـدان فحسـب، بلّ العـقـل أيضًا. والعـقـل من جهـته يسـعى ـ بقـوّة الروح القـدس ـ أنْ يُدْرك السـرّ ويتعـمّـق فـيه فـيدخل فى أعـماقـه. وإذ إنّ السـرّ لا محـدود، فمعـرفة العـقـل لا محـدودة هى الأخـرى، لذلك سـبق لـنا فـقـلّنا إنّ السـرّ لا يعـنى ما لا يسـتطيع الإنسـان أنْ يفهـمه، بلّ يعـنى أنّ الإنسـان كلّما سـعى إلى فهـمه إكتشـف أبعـادًا وأعـماقـًا جـديدة فـيه. فـالسـرّ لا متنـاهٍ والعـقل ـ وهو عـلى صـورة الله كمـثاله ـ لا متنـاهٍ.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(2) لقد دار بين الكاثوليك والبروتستانت جدال حول ” معـرفة الله الطبيعـيّة”. فـنفاها البروتستانت، مبيّنين التضاد بين الإنسـان الطـبيعى / الإنسـان المسـيحى، التعـقّـل / نعـمة الإيمان، اللاهوت الطـبيعىّ / لاهـوت كلمة الله، الثقافة البشـريّة / تعاليم الإنجيل. وأمّا الكنيسـة الكاثوليكيّة، فأكّدت دائمًا معـرفة الله الطـبيعـيّة، وأنّ الإنسـان عـلى صورة الله كمثاله، إذ إنّ غـايته القصوى هى الله ومرجعـه الله بغـضّ النظر عـن الوحى، وإنّها أقرّت فى المجمع التريدانتينىّ، ردًا عـلى البروتستانت: ” إنّ الله ـ وهو منبع كلّ الأشـياء ونهايتها ـ يُقدّر نور العـقل الطـبيعىّ معـرفته معـرفة حقيقيّة، إنطلاقـًا من المخلوقات”.
وقاوم هذا النصّ اتّجاه البروتستانت الذين نفـوا إمكانيّة معـرفة الله بالعـقل معـرفة بشريّة فحصروها فى المعـرفة بالوحى، كما أنّه قاوم اتّجاه الفلسـفة آنذاك التى نفت معـرفة الله اليقينيّة، لذلك أقرّ المجمع بإمكانيّة معرفة الله بالعـقل معرفة يقينيّة.
2ـ القدرة على معرفة موضوعيّة:

ولمّا كان الله نفسـه هـو موضـوع المعـرفة، وجـب إحكام العـقـل لمعـرفته، ولا الاعـتماد عـلى الوجـدان فحسـب، أو الذاتيّة فحسـب، أو الاخـتبار فحسـب. فيُضْـفى العـقـل عـلى معـرفة الله طابعـًا موضـوعـيًّا شامـلاً يعـجـز عـنه الوجـدان والاخـتبار لأنّهما ذاتيّان موضـوعـيّان(3).

فبإسـتطاعـة العـقـل أنْ يتحـدّث عـمّا يخـتبره ذاتيًّا ووجـدانيًّا حـديثًا موضـوعـيًّا له طابع اللانهائيّة، لأنّ أىّ اخـتبار هـو فى حـدّ ذاته محـدود وذاتىّ، أمّا العـقل فيتجاوز هـذه المحـدوديّة والذاتيّة بفضـل طابعـه الموضـوعىّ الشـامل لاخـتبارات كـثيرة مماثلة. أمّا الاخـتبار فهـو خاصّ، وأمّا الحـديث عـنه فهـو شـامل. وبالمـثل إنّ الاخـتبار هـو ذاتىّ والحـديث عـنه هـو موضوعىّ.

فإنْ كان الإصـلاح يعـتبر أنّ الإيمان إلهـام داخلىّ ونور باطنىّ بعـمل الروح القـدس، إلاّ أنّ اللاهـوت الكاثوليكىّ يعـتبر أنّ ذلك لا يسـلب العـقـل دوره فى فهم الإيمان فهمًا موضـوعـيًّا. ولقـد قـال أوغـسـطينس فى هـذا الصـدد” ” أؤمن كى أفهم “، ومن بعـده اشـتهر قول أنسـلموس: ” Fide quaerens intellectum ” أى ” الإيمان طالبًا فهمًا “. فإنْ كان الإيمان يسـبق الفهم، إلاّ أنّ الفهم بالعـقل يتبـع الإيمان ويوضّحه. وهـذه المقاربة مختلفة عـن المقاربة الفـلسـفيّة التى تنطـلق من العـقل فى البحـث عـن الله ـ وهى معـروفة ـ بـ ” الحديث عـن الله” ( Théodicée ) ـ أمّا المقاربة اللاهـوتيّة ( Théologie ) فتنطـلق من الوحى والإيمان. وفى اللاهـوت المسـيحىّ، اشـتهـرت فى المسـيحيّة الأولى الأسـماء الآتية: أوريجانوس وأوغـسـطينس، وفى مسـيحيّة القـرون الوسـطى الغـربيّة: أنسـلموس وتوما الأكوينىّ، وفى العـصور الحديثة الغـربيّة: موريس بلوديل والكاردينال نيومان…

ولقـد درج قـول مأثـور فى الإصـلاح: ” Fide ex auditu ” أى ” الإيمان من الاسـتماع ” إلى كلمة الله. إلاّ أنّ هـذا القـول، مع صحّته، ناقـص لأنّ الاسـتماع ناقـص ما لم يُحكّـم عـليه العـقل، فأمّا الاسـتماع فخارجىّ وأمّا العـقل فباطنىّ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(3) بحسـب الفـلسـفة الأفـلاطونيّة، يتضمن Pistis( أى الإيمان ) إكتسـاب معـرفة ( Apodexis ).

3ـ القدرة على معرفة جماعيّة:

وتتّضح لا نهائيّة العـقل فى مجال آخـر، ألاّ وهـو البُعـد الجماعىّ حـيث لا ينحصـر الوحى والإيمان فى ما يخـتبره ويفهـمه الشـخص بمفـرده وبمعـزل عـن الآخـرين، فهما ” وديعـة ” يتسلّمها كلّ جـيل من الجـيل السـابق ويُسـلّمها إلى الجـيل اللاحـق.

فهـذا البُعـد الجماعىّ الكنسـىّ يمنع ” وديعـة الإيمان ” من أنْ تكـون عُـرضة للذاتىّ فتقـع فى فخّ الفـردانيّة. فـتقـع ” وديعـة الإيمان ” عـلى عـاتق الجماعـة الكنسـيّة ولا سـيّما السـلطة الكنسـيّة التعـليميّة بموجـب أمـر المسـيح: { فَاذْهَـبُوا وَتَلْمِـذُوا جَمِيعَ الأُمَمِ وَعَـمِّدُوهُـمْ بِاسْـمِ الآبِ وَالاِبْنِ وَالرُّوحِ الْقُـدُسِ. وَعَـلِّمُوهُمْ أَنْ يَحْفَظُـوا جَمـِيعَ مَا أَوْصَيْتُكُمْ بِهِ } [ متى 28: 19، 20 ].
4ـ القدرة على التعمّق فى مضمون الوحى:

ولأن العـقل يتمـيّز بقـدرة لا نهـائيّة، فإنّه يتفاعـل ومضـمون الوحى الكامن فى الكتاب المقـدّس. فيحـاول المؤمن أنّ يتعـمّق فى فهمه بعـقـله. ومن هـنا ظهـرت الهـرطقـات، وبالتـالى عّـقـدت المجامع للـردّّ عـليها ولتفسـير الكتاب المقـدّس تفسـيرًا كنسـيًّا صـائبـًا. وتاريخ الكنيسـة ـ شـرقًا وغـربًا ـ حافـل بالمجامع وبالعـقائد التى تحـدّدت فيها.

فنذكـر عـلى سـبيل المثال مجمع نيقـيا ( فى السنة 325 ميلاديّة ) وقـد دافـع عـن ألوهيّة يسـوع المسـيح أمام إنكـار آريوس لها. فشـرح المجمع فى صـيغـته العـقـائديّة لفظـًا كـتابيًا بلـفـظ فـلسـفىّ، إذ فسّـر كلمة Monogenés ـ ” المولود الوحـيد ” أى أنّ يسـوع هـو المولود الوحـيد من الآب ـ بكلمة Homoousios ـ ” جوهـر واحـد”، أى أنّ يسـوع المسـيح والآب جوهـر واحـد ـ بيـد أنّ آريوس اسـتخدم كلمة Homoiousios ـ أى ” جوهـر متماثل” ـ لأنّ آبـاء المجمع رأوا ضـرورة التعـبير عـن اللفظـة الكـتابيّة بلفظـة فـلسـفيّة.

ويُبيّن ذلك رغـبة العـقـل فى فهم ” وديعة الإيمان” بحسـب عـقليّة العـصر وفـلسـفـته وإشكاليّته (4). ولا ننسَ أنّ الكـتاب المقـدّس الذى ألهمه الـروح القـدس لا يخـلو من إحكام العـقـل فـيه، ولا سـيّما لدى بولس ويوحـنّا.

واسـتخدمت كلّ المجامع العـقل فى صـياغة العـقائد، وقـد إزداد دور العـقـل فى البعـض منها، مثل المجمع الفاتيكانىّ الأوّل نظرًا إلى إشكاليّة الإصـلاح التى كانت حـذرة تجـاه العـقـل ولاسـيّما فى قـولها المأثور: ” scripta sola ” ( الكتاب وحـده ). وردّ المجمع الفاتيكانىّ الثـانى بعـد التركـيز عـلى العـقل كما فعـله المجمع الفاتيكانىّ الأوّل، مضـيفـًا أبعـادًا أخـرى كأهـمّيّة البُعـد التاريخىّ فى الخـلاص.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(4) للمزيد من الاسـتفسـار، راجع الفصل الخامس من كتابنا:” يسـوع المسـيح فى تقـليد الكنيسـة” المذكور سالفًا.
5ـ لماذا الحذر من العقل ورفضه:

رغـم كلّ ما قُلنا من أهـمّيّة العـقـل ولا سـيّما طابعه اللانهائىّ، نجـد العـديد من الطوائف والروحانيّين حذرين تجاه العـقـل أو رافضـين إيّاه. فلماذا هـذا الحـذر أو هـذا الرفـض؟. يعـود هـذا الموقـف ـ فى رأينا ـ إلى سـبب رئيسـىّ، وهـو الخـوف من هـدم الإيمـان بالعـقلانيّة. فـنرى أرسـطو مـثلاً يُقـرّ بإمكانيّة معـرفة الله بالعـقـل معـرفة شـاملة واحـدة بسـيطة ـ ممّا يهـدّد الإيمـان ـ بيـد أنّ إيماننا يُعـلّمْـنا أنّ مفـاهـيمنا عـن الله جـزئيّة لا شـاملة، متعـدّدة لا واحـدة، جـدليّة لا بسـيطة. وفى المسـيحيّة نفسـها، ظهـرت الفـلسفـات الغـنوصـيّة ( من Gnosis اليونانيّة ومعـناها ” المعـرفة” ) وكانت تدّعـى الوصـول إلى الإيمان عـن طـريق العـقـل فحسـب، ونيل الخـلاص عـن طـريق المعـرفة فحسـب.

فالحـذر فى أنْ يُلغـى العـقلُ السـرّ، خطـر غـير وهـمىّ، يعـود فى نهاية الأمـر إلى لا نهائيّة العـقـل نفسـه إذ يبغـى دائمًا المـزيد من الوضـوح والتنـظـيم، من التسـاؤل والنقـد قـد يقـوده إلى العـقلانيّة المـتطـرّفة ( Intellectualisme ) أو الـروح العـقائـديّـة ( Dogmatisme ) أو الشـكليّة ( Formalisme )… وكلّها تناقـض أنّ الله سـرّ يتجاوز العـقـل وأن كان العـقـل لا نهائيًا. فالخطـر خطـر الكـبرياء والاعـتماد عـلى الذات والـبرّ الذاتىّ، لا عـلى نعـمة الله.

وإنّ هـذا الحـذر تجـاه العـقـل جعـل المسـيحيّين يقـبلون اسـتخـدام الفـلسـفة فى مجمع نيقـيا ، مثلاً، بصـعـوبة بالغـة. وهـذا ما يجعـل الكـنائس التقـليديّة حـذرة تجـاه العـقـل أو رافـضة إيّاه، إحسـاسـًا منها أنّ العـقـل يهـدم النقـل يهـدم التقـليد مع هـدمه الإيمان، ومن هـنا خطـر وقـوعها فى الأصـوليّة والتمسـّك الأعـمى بالـتراث والتطّـرف فى الروحانيّة، بحـثًا منها عـن أمـان إزاء إحـتمال هـدم الإيمان والتقـليد بسـبب إسـتخدام العـقـل.

وإنّ هـذه المواقـف مرفـوضة. ولكنّهـا تـبرز بالحـقيقة وفى العـمق ” نهائيّة” العـقل، وهـذا ما نريـد إظهـاره الآن.
نهائيّة العـقـل

لا يتّسـم العـقل بـلا نهائيّته فحسـب، بلّ بنهائيّته أيضًا، فهـو مـزيج من الإثـنين.
1ـ بين لا نهـائيّة الله ونهائيّة الإنسان:

يخـتبر العـقل نهائيّته أمام كون الله سـرًا لا يحـدّه شئ أو أحـد، يفـوق كلّ شئ وكلّ أحـد بصـفة مطـلقة، ويتجاوز كلّ تصـوّرات البشـر عـنه وكلّ اخـتباراتهم له، فالله أسـمى وأكـبر من تعـابير البشـر عـنه.

وأمام عـظمة الله تعـالى، يخـتبر الإنسـان نهائيّة عـقـله وعـدم مقـدرته عـلى الإحاطة بالله وإدراكه.

وعـبّر بولس خـير تعـبير عـن هاتين الحقـيقتين: عـظـمة الله / نهائيّة الإنسـان فى هـذا الهـتاف:
{ يَا لَعُـمْقِ غِـنَى اللهِ وَحِكْمَتِهِ وَعِـلْمِهِ!
مَا أَبْعَـدَ أَحْكَامَهُ عَـنِ الْفَحْصِ وَطُـرُقَهُ عَـنِ الإِسْتِقْصَاءِ!
لأَنْ مَنْ عَـرَفَ فِكْـرَ الرَّبِّ أَوْ مَنْ صَارَ لَهُ مُشِيراً؟
أَوْ مَنْ سَبَقَ فَأَعْـطَاهُ فَيُكَافَـأَ؟
أَنَّ مِنْهُ وَبِهِ وَلَهُ كُلَّ الأَشْيَاءِ } [ رومية 11: 33ـ 35 ].

ولقـد عـبّر أحـد الأسـاقـفـة المشـتركين فى مجمع نيقـيا عـن الإزدواج عـينه، ونحن نتذكّـر أنّ المجمع قـد إسـتخدم لفظـة فـلسـفيّة ( جوهـر واحـد ) لشـرح لفظـة كـتابيّة ( المولود الوحـيد ):

” إنّ شـرّ الهـراطقـة والمجّـدفين يُرغـمنا عـلى القـيام بأُمـور محـرّمة: أنْ نتسـلّق القمم المحظـور تسـلقها، وأنْ نتكلّم فى موضـيع لا يُنْـطق بها، وأنْ نقـدّم تفـاسـير ممنـوعة. كان عـلينا أنْ نكتفـى بأنْ نتمّم بالإيمان وحـده ما أمـرنا بـه، أعـنى أنْ نسـجد للآب وأنْ نكـرّم الابن معـه وأنْ نمتلئ من الروح القـدس. ولكـنّنا مُرغـمون عـلى أنْ نطـبّق كلمتنا المتواضـعة عـلى الأسـرار الأبعـد من الوصـف. إنّ خطـيئة الآخـرين تقـودنا إلى خطـيئة أعـظـم: التعـبير عـن الأسـرار التى كان يجـب أنْ نحـويها فى ديانة قـلوبنا بقـصـور اللغـة البشـريّة” [ Hilarion, Evèque de Poitiiers ].
2ـ نهائيّة العـقل البشرىّ أمام لا نهائيّة الله:

فـإزاء لا نهائيّة الله، ثمّة موقـفان للعـقل البشـرىّ النهائىّ:
· قـبول الإنسان حـدود عـقـله:

مع إعـترافه بلا نهائيّة الله، يعـترف الإنسـان بنهائيّة عـقـله البشـرىّ:

” ما من شئ أكـثر تطـابقـًا مع العـقـل من العـدول عـن العـقـل”.
. ( Pascal ) ” Rien n’est plus conforme à la raison que le désaveu de la raison ”

فـثمّة فعـل تواضـع، عـلى الإنسـان أنْ يقـوم به، كما فعـله آبـاء الكنيسـة، نذكـر من بينهم مـثل أوغـسـطينس من الغـرب وغـريغـوريوس النيصىّ من الشـرق.

فلقـد إشـتهـر قـول أوغـسـطينس المأثـور، مخاطـبًا الله:
” تبحـث عـمّن يهـرب مـنك ، وتهـرب ممّن يبحـث عـنك”.

فالله يُـبادر دائمـًا تجـاه الإنسـان، ولكـنّه لا يـدع الإنسـان يسـتحوز عـليه، خاصّـة وأنّ الإنسـان يمـيل تلقـائيّـًا نحـو ذلك. ويذكـر أوغـسـطينس نفسـه فى إعـرافـاته كيف أنّه رأى طفـلاً يُحـاول سُـدًى أنْ يضـع مـياه البحـر فى حفـرة، فأيْقـن أوغـسـطينس أنّ العـقـل المحـدود لا يسـتطيع أنْ يسـتحوز عـلى الله غـير المحـدود. فبهـذا المعـنى إنّ الله النهائىّ يهـرب ممّن يبحـث عـنه، فـالله أسـمى وأشـمل من عـقـل الإنسـان النهائىّ.

وأمّا غـريغـوريوس النيصىّ، ففى كـتابه عـن ” حـياة موسـى”، ولا سـيّما تفسـيره للحجـاب الذى وضعـه عـلى وجهه عـندما نزل من الجـبل لبهـاء وجهه من مقـابلته مع الله [ راجع 2 كورونثوس 3: 7ت ]، يتحـدّث غـريغـوريوس عـن ” الظـلام الإلهىّ”، أى عـن ظـلام عـقـل الإنسـان أمام نـور الله البهىّ. ويقـول فى هـذا الصـدد:

” فى الإيمان ننتقـل من النـور إلى الظـلام”.

فأمّـا النـور فنـور الله، وأمّـا الظـلام فظـلام العـقـل. فمـثلما لم يسـتطع بنـو إسـرائيل مشـاهـدة وجه موسى المـنير، لا يسـتطيع الإنسـان أنْ يُشـاهـد نـور الله بـدون أنْ يخـتبر ظـلام عـقـله النهائىّ. فالعـقـل البشــرىّ ظـلام أمام نـور الله الهىّ.

· اللاهـوت التنزيهىّ:

فهـل يعـنى ذلك أنّ العـقـل البشـرىّ عـاجز تمامًا عـن الحـديث عـن الله اللانهائىّ؟ كـلا، فالإنسـان يحاول ، رغم نهائيّة عـقله، أنْ يُعـبّر عـن الله. ولقـد ابتكـر غـريغـوريوس النيصىّ تعـبير ” اللاهـوت التنزيهىّ” ( Théologie apophatique )، حـيث التعـبير عـن الله بالنفى والسـلب، عـلى خـلاف ” اللاهـوت التقـريرىّ” ( cataphatique Théologie) حيث التعـبير عـن الله بالموجـب كما نفعـله عـادة وكما اشـتهر به اللاهـوت المدرسىّ الغـربىّ بصفة خاصّة.

ونجـد نموذجًا عـن ” اللاهـوت التنزيهىّ” فى القـدّاس القـبطى الغـريغـورىّ حـيث التعـابير بالنفى عـن الله الفـائق: غـبر المرئىّ، غـير المائت، غـير الزمنىّ، غـير المحـدود، غـير المفحـوص، غـير المنطـوق، غـير المـدرك… فتصـف هـذه التعـابير بصـيغة النفى تسـامى الله المطـلق.

غـير انّ نهائيّة العـقـل فى التعـبير عـن الله تعـبيرًا مطايقـًا لا تعـنى عـلى الإطـلاق عـجـز العـقـل عـجـزًا كاملاص، كما أنّها لا تعـنى الرضـوخ للإيمان بدون فهمه. فكانت شـيعة اليانسـينيّة ( Jansénisme ) أقـرّت بعـجـز العـقـل، ومن أعـضائها من قـال إنّ الإيمان:
” سـلسـلة من التناقـضات Une série de contradictions”
تسـمح النعـمة بتواجـدها معـًا” ” que lq gràce permet de maintenir ensemble
( Saint-Cyran ).

إلاّ أنّ الإيمان ليس بتناقـضات ولا بغـير المعـقـول، بلّ هـو ما يفـوق العـقـل ويتجاوزه، وهـذا ما نوضّحه الآن.
3ـ نوعـيّة معـرفة الله:

تختلف نوعـيّة معـرفـتنا لله إخـتلافـًا كلّيًّا عـن معـرفـتنا للعـالم الطـبيعىّ أو للإنسـان من خـلال الفـلسـفة أو العـلوم الدقـيقة أو العـلوم الإنسـانيّة.

يؤكّـد ” الحـديث الفـلسـفى عـن الله” (Théodicée) أنّ معـرفـتنا لله ليسـت “ببـداهة حسّـيّة أو عـقـليّة”، وإنّمـا هى “اخـتبار كـيانىّ” يسـمّيه “الحـديث اللاهـوتىّ عـن الله” ( Théologie ) “الإيمـان”(5).

ونـودّ هـنا أنْ نبيّن كـيف لا يصـل الإنسـان إلى معـرفة الله بـ ” براهـين عـقـليّة “، وإنّمـا بـ ” عـلامات” و ” آيات”.

فتعـريف البرهـان أنّه يفـرض نفسـه عـلى العـقل، بحـيث لا يسـتطيع العـقل السـليم ألاّ يسـلّم به. فمـثالاً عـلى ذلك، لا يسـتطيع العـقل السـليم أنْ يُنكـر ” قـانون الجـاذبيّة الأرضـيّة ” من خـلال وقـوع الأجسـام… فالبرهـان يخاطـب إذًا العـقل ويفْـرض نفسـه عـليه حـتمًا وضـرورة، ولا يقـبل أىّ شـكّ فـيه.

ولا تتمّ معـرفة الله بمـثل قـوانين الطـبيعة، وإنّمـا عـن طـريق ” إشـارات” أو ” عـلامات” ( بالفـرنسـيّة Signes ) أى ـ بحسـب تعـبير يوحـنّا الإنجـيلىّ ـ ” آيـات ” ( باليونانيّة Semeia ). فمعـجزات يسـوع ( ويوحـنّا لا يسـتخدم هـذه اللفـظة بلّ لفظـة ” آية” ) تضـع الشـاهد أمام إخـتبار: إمّـا أنْ يقـبل يسـوع، وإمّـا أنْ يرفـضه. فليسـت ” الآيـة” برهـانًـا يخـاطـب العـقـل ويفـرض نفسـه عـليه، بل هى عـلامة تُعـرَض عـلى الشـخص ليؤمن بالله، وللإنسـان مطـلق الحـرّيّة فى قـبولها أو فى رفـضها، فهى تُعـرَض ولا تُفـرّض. وإنّ رفـضها الشـخص، ظـلّ سـليم العـقل لأنّ العـلامة تخاطـب حـرّيّته فى أنْ يؤمن أو لا يؤمن. فالعـلامة، عـلى خـلاف البرهـان، تفـتح مجالاً لحـرّيّة الإنسـان.

لذلك لا توجـد براهـين لإثـبات وجـود الله، خـلافـًا للبراهـين العـقـليّة للأمـور الطـبيعـيّة، وإنّمـا هـناك عـلامات وآبـات تشـير إلى وجـود الله. فالخـليقة عـلامة تشـير إلى وجـود خالقـها، وليسـت برهـانًا لوجـوده. نقـول إنّها ” تشـير” ولا تبرهـن، لأنّها لا تفـرض نـفـسـهـا عـلى العــقـل حـتمًـا وضــرورة. وكـذلـك تـوق الإنـسـان إلـى الله ونـزعـته نـحـوه واشـتـياقـه لـه ورغـبـته فــيه، إنـّمـا هـى ” عـلامات” ـ لا براهـين ـ لوجـوده.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(5) راجع كوستى بندلى: ” السبل إلى الله”، ص 13ـ 59/ ” مدخل إلى العقيدة الأرثوذكسـيّة” ص 11ـ 19، منشـورات النـور ـ بيروت.

وفى المسـيحيّة، إنّ ” العـلامات” و ” الآيـات” لوجـود الله ولحضـوره كـثيرة، نذكـر منها سـتّ ” عـلامات” و” آيات”:
· الخـلـيقة:

إنّ الخليقـة بأسـرها تُنشـد بعـمل الله وعـظمـته، كما يرنّمـه العـديد من المـزامير. فالخـليقة هى ” ظهـور” ( باليونانيّة Epiphania ) لله، فـلا يظهـر الله ظهـورًا ماديّـًا، بل فى خـليقـته. ولذلك رأينا الإنسـان يسـتطيع أنْ يصـل إلى الله ويتعـرّف إليه من خـلالها، بغـضّ النظـر عـن الوحى.
· يسوع المسيح:

إنّ ” العـلامة العـظـمى” التى تحـثّ الإنسـان عـلى الإيمان بالله، هى يسـوع المـسـيح نفـسـه. فهـو { صـُورةُ اَلله غَـيْر اَلْمَـرْئِىّ } [ كولوسى 1: 15]، عـلامة مرئيّة للآب غـير المرئىّ، بحـيث إنّ مَنْ رآه فقـد رأى الآب [ يوحنا 14: 9]، ذلك لأنّه واحد مع الآب [ يوحنا 10: 30] ومطابق له، بحـيث إنّ مَنْ يؤمن به يؤمن بالآب ومَنْ يعـرفه يعـرف الآب [ يوحنا 14: 7] ومَنْ يقـبله يقـبل الآب [ يوحنا 13: 20 ]. بهـذا المعـنى يُمكن القـول إنّ يسـوع المسـيح ” آيـة” للآب(6).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(6) نمـيّز من جهتنا بين ” العلامة”( Signe ) و ” الآية” ( Sacrement ). فالعـلامة تشـير وترمـز إلى شئ آخـر فحسـب. وأمّا الآية فتحقّق ما تشـير وترمز إليه.
· الكنيسة:

إنّ الكنيسـة، لكونها جسـد المسـيح وعـروسـه، ” آية” للمسـيح رأسـها وعـريسـها. فمجـرّد وجـودها فى وسـط البشـر آية لحضـوره هـو للبشـر. لذلك عـليها أنْ تشـهد له بقـداسـتها ومحـبّتها، فتحـقّـق هكـذا حضـوره للبشـر: { بِهَذَا يَعْـرِفُ اَلْجَمِيعُ أَنَّكُمْ تلاَمِيذِي: إِنْ كَانَ لَكُمْ حُبٌّ بَعْـضاً لِبَعْـضٍ } [ يوحنا 13: 35 ].

هـذا ما كان يحـدث فى الكنيسـة الأولى حـيث إنّ ” عـدد الناجـين” كان يزداد بفضـل { وَكَانَتْ عَجَائِبُ وَآيَاتٌ كَثِيرَةٌ تُجْرَى عَلَى أَيْدِي اَلرُّسُلِ …… وَجَمِيعُ اَلَّذِينَ آمَنُوا كَانُوا مَعاً وَكَانَ عِنْدَهُمْ كُلُّ شَيْءٍ مُشْتَرَكاً…… بِنَفْسٍ وَاحِدَةٍ….. بِابْتِهَاجٍ وَبَسَاطَةِ قَلْبٍ … } [ أعمال الرسل 2: 42ـ 47 ]. فليسـت الكنيسـة برهـانًا يخـاطـب العـقـل ويثبت أنّ يسـوع المسـيح هـو ابن الله، وإنّمـا هى ” آيـة” ليسـوع المسـيح أو ـ بحسـب ديونيسـيوس الأريوباجى ـ إنّها ” آية الآيات”.
· الأسرار:
إنّ العـناصر الطـبيعـيّة فى الأسترار ” آيـات” تُشـير إلى الله وتحـقّق حضـوره وعـمله. فالخـبز والخمـر يحـقّقان ما يُشـيران إليه من حضـور حسـد يسـوع المسـيح ودمه، والمـاء يُحـقّق ما يُشـير إليه من عـمل الله الخـلاصىّ لتجـديد حـياة الإنسـان، والزيت قـوّة الروح القـدس.

لذلك سـمّى اللاهـوت الغـربىّ الأسـرار السـبعة ” آية / آيات” ( Sacramentum )(7).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(7) أمّا اللاهـوت الشـرقىّ فقـد سمّاها ( Musterion )، أى ” سـرّ”. فإنّ اللاهـوت الشـرقىّ ينطلق من الله الذى يظهر فى العـناصر الطـبيعـيّة ( فالجسـد يظهـر فى الخـبز، والدم فى الخمر…). وأمّا اللاهـوت الغـربىّ فينطلق من العـناصر الطـبيعـيّة التى تحقّـق ما تشـير إليه ( فالخـبز يشـير إلى الجسـد بل ويحقّـق حضـوره … ). راجع فى هـذا الصـدد الفصـل الأخـير من كتابنا: ” مدخل إلى الأسـرار” ـ سـلسـلة ” الأسـرار والحـياة” رقم1 ـ مطبوعات الآباء اليسوعـيّين فى مصر ـ القاهرة 1981.
· الفقـراء والصغـار:

بناء عـلى وصيّة يسـوع: { } [ متى 25: 40].

يُشـير الفـقـير والصـغـير، المظـلوم والمنبوذ … إلى شـخص يسـوع المسـيح المتألّم، فيصـبحون ” عـلامة” له. لذلك تحـدّث يوحنا فم الذهـب عـن ” سـرّ الأخ” ( Le Sacrement du frére ) من منطـلق ” سـرّ المذبح” (Le Sacrement de l’autel ) مبيّـنًا أنّ الإنسـان المتـألّم ” آيـة” واضحة ليسـوع المسـيح.

ولقـد قـال أكليمندس الإسكـندرىّ من جهـته: ” رؤية إخـوتنا هى رؤية الله”.
· الكـتاب المقـدّس:

يُشـير الكـتاب المقـدّس بأجمعـه إلى الله، إلى كـيان الآب والابن والروح وإلى أعـمالهم، بحـيث إنّ الذى يقـرأه أو يسـمعه بصـدق يجـد نفسـه أمام ” عـلامة” فيخـتار بمحـض حـرّيّته إمّـا مع / إمّـا ضـدّ.
· الخاتمة: بين العـلامة والإيمان:

ولإظهـار الصـلة الوثـيقـة بين العـلامة / الإيمان، يمكـننا الاعـتماد عـلى نصّـين ليوحـنّا الإنجـيلىّ. فـفى ” القـبر الفـارغ” بعـد القـيامة، شـاهـد يوحـنّا الحـبيب الأكفـان والمنـديل: { فَـرَأى وَ آمَـنَ } [ يوحنا 20: 6ـ 8 ]، أى أنّها أصبحـت له ” عـلامة” لقـيامة يسـوع، أسـرع منها لبطـرس مرافـقـه. وبالمـثل عـلى ” بحـيّرة طـبريّا”، لم يقـد التلامـيذ جـذب الشـباك لِما فيها من السـمك، فقال التلمـيذ { اَلتِّلْمِيذُ اَلَّذِي كَانَ يَسُوعُ يُحِبُّهُ لِبُطْرُسَ: هُوَ اَلرَّبُّ } [ يوحنا 21: 6، 7 ]. فـوفـرة السـمك أصـبحـت ليوحـنّا قـبل بطـرس ” عـلامة” تُشـير إلى أنّ يسـوع المسـيح حاضـر فى وسـطهم. هكـذا تُخاطـب العـلامات الإنسـان بـدون أنْ تُفـرَض عـليه، إنّها تُشـير إلى دعـوة الله إليه لأن يؤمن به. والجـدير بالذكـر أنّها لا تُخاطـب عـقـله فقـط، بقـدر ما تُخاطـب وجـدانه وإرادته أيضًا، أى حـرّيّته، فـيؤمن بالله أو لا يومن به.

إكـتمال العـقـل فى الأبـديّة

إنْ كان للعـقـل دور فى الإيمان ما دام الإنسـان عـلى وجه الأرض، إلاّ أنّ الوضـع يخـتلف فى الأبـديّة. ويُعـبّر بولس عـن ذلك:
{ وَلَكِنْ مَتَى جَاءَ اَلْكَامِلُ فَحِينَئِذٍ يُبْطَلُ مَا هُـوَ بَعْـضٌ. لَمَّا كُنْتُ طِفْلاً كَطِفْلٍ كُنْتُ أَتَكَلَّمُ وَكَطِفْلٍ كُنْتُ أَفْطَنُ وَكَطِفْلٍ كُنْتُ أَفْـتَكِـرُ. وَلَكِنْ لَمَّا صِرْتُ رَجُلاً أَبْطَلْتُ مَا لِلطِّفْلِ. فَإِنَّنَا نَنْظُـرُ اَلآنَ فِي مِرْآةٍ فِي لُغْـزٍ لَكِنْ حِينَئِذٍ وَجْهاً لِوَجْهٍ. اَلآنَ أَعْـرِفُ بَعْـضَ اَلْمَعْـرِفَةِ لَكِنْ حِينَئِذٍ سَأَعْـرِفُ كَمَا عُـرِفْتُ } [ 1كورونثوس 13: 10 ـ 12 ].
{ فَإِذاً نَحْنُ وَاثِقُونَ كُلَّ حِينٍ وَعَالِمُونَ أَنَّنَا وَنَحْنُ مُسْتَوْطِنُونَ فِي اَلْجَسَدِ فَنَحْنُ مُتَغَـرِّبُونَ عَـنِ اَلرَّبِّ. لأَنَّنَا بِالإِيمَانِ نَسْلُكُ لاَ بِالْعَـيَانِ. فَنَثِقُ وَنُسَرُّ بِالأَوْلَى أَنْ نَتَغَـرَّبَ عَـنِ اَلْجَسَدِ وَنَسْتَوْطِنَ عِـنْدَ اَلرَّبِّ } [ 2كورونثوس 5: 6ـ 8 ].

هـناك إذًا تكامل بين اليـوم / ذلك اليـوم، بين الرؤيـة فى مـرآة / الرؤيـة وجهًا لوجـه، بين المعـرفة الناقـصة / المعـرفة الكاملة، وفى نهاية الأمـر الإيمان / العـيان، بين العـقـل / الرؤية، وهـو تكملة الناقـص فى الكامل. لذلك يؤكّـد بولس أنّ الإيمان سـيزول مع الرجـاء، لتظـلّ المحـبّة وحـدها { أَمَّا اَلآنَ فَـيَثـْبُتُ اَلإِيمَانُ وَاَلرَّجَاءُ وَاَلْمَحَـبَّةُ هَـذِهِ اَلثَّلاَثَةُ وَلَكِنَّ أَعْـظَمَهُـنَّ اَلْمَحَـبَّةُ } [ 1كورونثوس 13:13 ]. وبالتـالى سـيزول مجهـود العـقـل لتحـلّ الرؤيـة، رؤيـة الله وجهًا لوجه، وهى المعـرفة الكاملة.

ولقـد اسـتفاض اللاهـوت الغـربىّ فى شـرح ذلك. فـيقـول إيريناوس عـلى سـبيل المـثال:
” مجـد الله هـو الإنسـان الحىّ، وحـياة الإنسـان هى رؤيـة الله”.

فإنْ تمجّـد الله فى الإنسـان الحىّ، إلاّ أنّ حـقـيقة الإنسـان الحىّ هى أنْ يرى الله وجهًا لوجه، فتكـتمـل هكـذا معـرفـته لله.

ولقـد سـمّى توما الأكـوينىّ هـذه الحـقـيقة الأبـديّة: ” الرؤية الطـوباويّة” ( Visio beatifica ).

وإنّما هـذه الرؤية رؤية المحـبّة التى لا تزول بلّ تظـلّ، بيـد أنّ الناقـص يكتمل، أى أنّ العـقـل يكتمل فى الرؤية والمعـرفة الكاملة، بل فى تمجـيد الله. فما يعـجـز العـقـل أنْ يُعـبّر عـنه بتعـابيره وتصـوّراته النهائيّة، يُعـبّر عـنه الإنسـان بعـبادته وسـجوده وإعـترافه بعـظمة الله.

فينهى بولس نصّه الذى أشـرنا إليه بتمجـيد يعـوّض عـن عـجـز العـقـل: { أَنَّ مِنْهُ وَبِهِ وَلَهُ كُلَّ الأَشْيَاءِ. لَهُ الْمَجْدُ إِلَى الأَبَدِ. آمِينَ } [ رومية 11: 36 ].

وهـذا ما إقـتفاه محمع القسـطنـطينيّة ( 553 م ) فى حـديثه عـن ألوهـيّة الروح القـدس، خـلافًا لمجمع نيقـيا فى حـديثه عـن ألوهـيّة يسـوع المسـيح: ” أؤمن بالروح القـدس، الرب المحيى، المنبثق من الآب، المسـجود له والممجّـد مع الآب والابن”.
فالتمجـيد من سـمات أفعـال البشـر فى الأبديّة، يحـيوه عـلى وجه الأرض اسـتباقـًا للملكـوت.
الخاتمة

العـقـل فى مـيزان الإيمان؟ وضـع العـقـل بالنسـبة للإيمان؟ إنّ العـقـل ضـرورىّ ـ لأنّه لا نهائىّ ـ ولكـنّه غـير كافٍ ـ لأنّه نهائىّ. فالإيمان يسـتعـين بالعـقـل، ولكـنّه يتجاوزه لأنّه أشـمل مـنه، إذ يشـمل الوجـدان والإرادة أيضًا الللذين سـنتحدّث عـنهما بالتتالى.

وفى الإنجيـل مشهـد يُعـبّر عـن ذلك خـير تعـبير … فعـندما أراد بطـرس أنْ يقتنع بعـقله أنّ يسـوع ـ ولا خـيالاً ـ ماشٍ عـلى البحـر، مشـى بالفعـل عـلى المـاء بأمـر يسـوع. ولكن سـرعـان ما تحـوّل طلب العـقل ـ { يَا سَيِّدُ إِنْ كُنْتَ أَنْتَ هُوَ… } ـ إلى طـلب الإيمان ـ { يَا رَبُّ نَجِّنِي }، { بِالْحَقِيقَةِ أَنْتَ اِبْنُ اَللَّهِ! } [ متى 14: 22 ـ 33 ]. فالإيمان، وإنْ اسـتَخدم العـقل، إلاّ أنّه يتجاوزه. فـلا يتطـابق فعـل الإيمان مع فعـل العـقل. فالإيمان يطـلب فهمًا ـ كما رأينا ـ ولكـنّه أشـمل من الفهم. إنّمـا مرجع الإيمان هـو الإيمان نفسـه، لا العـقل الذى يخـدم الإيمان.

الفصل السابع
الإختبار الإيمانى والوجـدان

إنّ اعـتبار الإيمان المسـيحىّ عـلاقة بين الله والإنسـان، واعـتبار الدين المسـيحىّ دينًا مبنيًّـا عـلى أشـخاص لا عـلى كـتاب، واعـتبار الكـتاب المقـدّس مفسـه تدوينًـا لاخـتبار التـلامـيذ الرسـل لشـخص يسـوع المسـيح وشهـادتهم له …، إنّ هـذه الاعـتبارات تخـوّلنا أن نتعـمّق فى البُعـد الوجـدانىّ للإيمان المسـيحىّ ( ” Re-ligare “، أى ” شـيّد عـلاقة” ).

وسـنتناول الموضـوع من ثلاث زوايا متكاملة:
§ سـنلقى نظـرة عـلى طـبيعـة فعـل الإيمان من زاوية العـلاقة بين الإنسـان والله من جـرّاء فعـل الإيمان.
§ وبناء عـلى ما سـنتوصّـل إليه، سـنبرز نوعـيّة فعـل الإيمان من زاوية دور الوجـدان فى فعـل الإيمان.
§ ثمّ سـنضع كلّ ذلك فى لغـة العـصر بإشكاليّة اليـوم عـن مدى احـتياج الإنسـان إلى الله.
طبيعـة فعـل الإيمان الوجدانيّة

مـيّز أوغـسـطينس ـ ومن بعـده كلّ اللاهـوت الغـربىّ ولا سـيّما المدرسىّ مـنه ـ بين ثلاثة مسـتويات لفعـل الإيمان:
الإيمان بالله ………………….. ( Credere in Deum ).
الإيمان بالحقائق الخاصّة بالله……… ( Credere Deum ).
الإيمان بكلام الله فتصـديقه…………… ( Credere Deo ).

وسـنتناول كلّ مسـتوى عـلى حـدة:
1ـ الإيمان بالله ( Credere in Deum ):

إنّ أسـاس الإيمان المسـيحىّ إيمان بشـخـص، إيمـان يربط الله كشـخص ـ الآب والابن والروح القـدس ـ بالإنسـان كشـخص مـؤمـن به. فـإنّ العـلاقـة الشـخـصـيّة هـذه هى منبع المسـتويين الآخـرين، أى بالإيمان بـوجـود الله وبأنّـه يثّـصـف بصـفـات معـيّنة ( Credere Deum ). والثقة بكـلامه ( Credere Deo )، وذلك عـلى خـلاف ديانات أخـرى لا تُعِـير العـلاقة الشـخصيّة الأهَـمّيّة عـينها، مُكْتفـية بالمُسْـتَويَين الأخـيريْن. وإنّ الحـرف اللاتينى ” in ” ( أى ” فى” ) يُدلى بمعـنى الصـلة بين الطـرفـَين.

وتعـتمد هـذه النظـرة الشـخصيّة عـلى الكـتاب المقـدّس. ففى العـهد القـديم، اخـتار الله شـعـبًا وقطع معـه عـهدًا وخلّصه من العـبوديّة وخاطـبه بالأنبياء….

ولقـد أبرز يسـوع هـذه العـلاقة الشـخصيّة عـلى أكمل وجه فى حـديثه مع ” أصـدقائه” ـ لا ” عـبيده” ـ الذين ” إخـتارهم” اخـتيارًا شـخصـيًّا [يوحنا15: 15، 16]. وكان التلمـيذان أنـدراوس ويوحـنّا قـد سألا يسـوع : { أَيْنَ تُقِـيمُ؟ }، فأجابهم: { تَعَـالَيَا وَاُنْظـرَا } [ يوحنا 1: 38، 39]، ممّا يُشـير إلى العـشـرة والإلفـة والسُـكنى والاخـتبار الشـخصىّ، عـلى خـلاف اليهـود الذين سـألوه: { مَنْ أنْتَ؟ } ـ { أَيْنَ أَبُوك؟ } [ يوحنا 8: 25، 19]، بعـجـرفة العـقل الذى يريد أنْ يعـرف، أكـثر منه بتواضع الوجـدان الذى يريد أن يخـتبر. ويصـوّر يسـوع عـلاقـته مع المؤمنين فى داخل عـلاقـته الشـخصيّة مع الآب، فالمؤمنون بمـثابة هـبة متبادلة بين الآب ويسـوع المسـيح:
{ لاَ يَقْدِرُ أَحَـدٌ أَنْ يُقْبِلَ إِلَيَّ إِنْ لَمْ يَجْتَذِبْهُ الآبُ اَلَّذِي أَرْسَلَنِي …. فَكُلُّ مَنْ سَمِعَ مِنَ الآبِ وَتَعَـلَّمَ يُقْبِلُ إِلَيَّ…. لِهَذَا قُلْتُ لَكُمْ إِنَّهُ لاَ يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَأْتِيَ إِلَيَّ إِنْ لَمْ يُعْـطَ مِنْ أَبِي } [ يوحنا 6: 44، 45، 65].
{ أَبِي اَلَّذِي أَعْـطَانِي إِيَّاهَا ( الخراف ) } [ يوحنا 10: 29].
{ مِنْ أَجْلِهِمْ أَنَا أَسْأَلُ. لَسْتُ أَسْأَلُ مِنْ أَجْلِ اَلْعَالَمِ بَلْ مِنْ أَجْلِ اَلَّذِينَ أَعْـطَيْتَنِي لأَنَّهُمْ لَكَ. وَكُلُّ مَا هُوَ لِي فَهُوَ لَكَ وَمَا هُوَ لَكَ فَهُوَ لِي وَأَنَا مُمَجَّدٌ فِيهِمْ… أَيُّهَا اَلآبُ أُرِيدُ أَنَّ هَـؤُلاَءِ اَلَّذِينَ أَعْـطَيْتَنِي يَكُونُونَ مَعِي حَيْثُ أَكُونُ أَنَا لِيَنْظُرُوا مَجْدِي اَلَّذِي أَعْـطَيْتَنِي لأَنَّكَ أَحْبَبْتَنِي قََبْلَ إِِنْشَاءِ اَلْعَالَمِ } [ يوحنا 17: 9، 10، 24].

والمؤمنون مَسْـكَن للآب والابن والروح، فالآب والابن يَسْكُـنان فى المؤمن:
{ إِنْ أَحَبَّنِي أَحَدٌ يَحْفَظْ كلاَمِي وَيُحِبُّهُ أَبِي وَإِلَيْهِ نَأْتِي وَعِـنْدَهُ نَصْنَعُ مَنْزِلاً } [ يوحنا 14: 23].

والروح القـدس أيضًا يَسْـكُن فـيه:
{ رُوحُ الْحَقِّ الَّذِي لاَ يَسْتَطِيعُ الْعَالَمُ أَنْ يَقْبَلَهُ لأَنَّهُ لاَ يَرَاهُ وَلاَ يَعْـرِفُهُ وَأَمَّا أَنْتُمْ فَتَعْـرِفُونَهُ لأَنَّهُ مَاكِثٌ مَعَـكُمْ وَيَكُونُ فِيكُمْ } [ يوحنا 14: 17].

فالله فى المؤمنين والمؤمنون فى الله. لذلك قال أوغـسطينس: ” صـنعـتنا نحـوك، يا الله”، معـبّرًا عـن تَـوْق الإنسـان إلى الله وعـدم ارتياحه إلاّ بلـُقياه وسـُكْناه.

ودعـا يسـوع لإتـّباعِـه إتـّباعـًا شـخصيًّا [ راجع مثلاً متى 16: 24…] فى وحـدة المصـير، فيحـدث لهم ما حـدث له [ يوحنا 15: 18ـ 21]. وتتأسّـس هـذه العـلاقة بين الثالوث والمؤمنين عـلى المحـبّة: فـالآب { أَحَـبَّ اَلْعَـألَمَ } [ يوحنا 3: 16] ويسـوع المسـيح { أَحَـبَّ خّـاصّـتَهُ } [ يوحنا 13: 1]، والروح القـدس روح المحـبّة [ رومية 5:5]، فإنّ { اَلله مَحَـبَّة } [ 1يوحنا 4: 8، 16]، ويُطـالب الإنسـان بأنّ تكـون عـلاقـته معه عـلاقة محـبّة: { إِذَا أَحَـبَّنِى أَحـَدٌ… } [ يوحنا 14: 21ـ 23].

فيسـتأثر الإيمان المسـيحىّ بأنّه مبنىّ عـلى عـلاقة شـخصيّة وثيقـة بالله، هى الأسـاس وإنْ كانت فى العـهد القـديم جـذور لها.
2ـ الإيمان بالحقائق الخاصّة بالله ( Credere Deum ):

ويترتّب عـلى العـلاقة الشـخصيّة هـذه، إيمان بحقـائق خاصّة بالله، أى أنّ الله موجـود وخالق ومخلّص، وأنّ الله رحـيم وعـادل وديّـان… فليس الإيمان المسـيحىّ إيمانًا بحقـائق متعـلّقة بالله، بلّ إنّ هـذه الحقـائق تسـتقى معـناها من العـلاقة التى هى عـمدة الإيمان، لا العـكس.

فيمكن القـول إنّ الشـيطان ” يؤمن بأنّ الله ” موجـود وخالق وديّان… ولكـنّنا لا نستتطيع أنْ نقـول إنّه ” يؤمن بالله”، أى أنّه يدخل فى عـلاقة معـه، فهـو يرفـضها.

ونجـد قـانون الإيمان المسـيحىّ يبنى الحـقائق الإلهـيّة عـلى أسـاس العـلاقة مع الله:

الإيمان بالله
( Credere in Deum ).

الإيمان بالحقائق الإلهيّة…
( Credere Deum ).

أؤمن بالله
بالآب
بالربّ يسـوع المسـيح

بالروح القـدس(1)

الواحـد
القـدير الخالق…
المولود من الآب …. ـ نـور …. المسـاوى للآب فى الجوهـر ـ الذى به كان كلّ شئ ـ من اجلنا … تجسّـد وصُلب … وقـام … وصعـد… ويدين…

الربّ المحيى ـ المنبثق… ـ المسجود له والممجّد… ـ الناطق بالأنبياء.

فمرجع جميع الحقائق المتعـلّقة بالله ـ كـيانه وصـفاته وأفعـاله تجـاه البشـر ـ هـو الله نفسـه كشـخص يدخل المؤمنون فى عـلاقة معـه. فليس الإيمان المسـيحىّ أوّلاً بأنّ الله موجـود أو واحـد أو خـالق….، بل إيمان بالله ـ الآب والابن والروح القـدس ـ، ومن صـفات هـذا الإله أنّه واحـد وخـالق ومخلّص…
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الجـدير بالذكـر أنّ النصّ اللاتينىّ لا يقـول: ( Credo in Ecclesiam أى:” أؤمن بكنيسـة” )، بل (Credo Ecclesiam )، بدون الحرف in ، أى ” أؤمن بأنّ الكنيسـة…”. فالإيمان هـو بالله لا بالكنيسـة. عـن كلّ ذلك، راجع كتابنا عـن الكنيسـة السـالف الذكـر.
3ـ الإيمان بكـلام الله (Credere Deo ):

ويقـود الإيمان بالله المبنى عـلى عـلاقة شـخصيّة معه إلى الثقـة بكـلامه وتصـديقه. فبسـبب الرباط هـذا، يثـق المؤمنون بما يقـوله لهم وبتعـاليمه. فعـلاقة الله الشـخصيّة مع المؤمنين أسـاس مصـداقيّته. فـلأنّ الله اخـتار شـعـبًا وقطع عـهدًا معه وحـرّره من أرض العـبوديّة، يصـدّق الشـعب كـلامه. ولأنّ الله أحَـبّ العـالم حتّى بـذل ابنه وهـو بـذل حـياته إلى أقـصى حـدود المحـبّة، يصـدّق المؤمنون كـلامه وتعاليمه وإنْ كانت صـعـبة. فمتطـلّبات يسـوع صـعـبة التحـقيق: الزهـد فى النفس، حمـل الصـليب، تفضـيله عـلى الأهـل ( وعـد ” الذريّة” فى العـهد القـديم ) وعـلى العـمل والممتلكات ( ” وعـد الأرض ” )، الحـياة بموجـب التطـويبات [ لوقا 9: 23 / 14: 15ـ 33]. لذلك تذمّـر عـليه العـديد من أتباعه : { إِنَّ هَذَا اَلْكلاَمَ صَعْبٌ! مَنْ يَقْدِرُ أَنْ يَسْمَعَهُ؟ }، وبالتالى { مِنْ هَذَا اَلْوَقْتِ رَجَعَ كَثِيرُونَ مِنْ تلاَمِيذِهِ إِلَى اَلْوَرَاءِ وَلَمْ يَعُـودُوا يَمْشُـونَ مَعَهُ } وإنْ اسـتمرّ الاثنا عـشـر معه واعـتبروا أنّ كلامه ـ وإنْ كان عـسـيرًا ـ { كلاَمُ اَلْحَيَاةِ الأَبَدِيَّةِ } [ يوحنا 6: 60 ـ 69]. فبفـضل عـلاقـتهم الشـخصيّة معه ـ { يَا رَبُّ إِلَى مَنْ نَذْهَبُ؟ } وقـد أولت لكـلامه مصـداقيّة كاملة.

وكانت المصـداقيّة هـذه تولى ” سـلطانًا” لكـلام يسـوع، فقـد { كَانَ يُعَلِّمُهُمْ كَمَنْ لَهُ سُلْطَانٌ } [ مرقس 1: 22]. فلم يخـاطـب يسـوع العـقل لإقـناع الجمـوع بأقـواله وأفعـاله، بل خاطـب وجـدانهم فأثـّر فـيه بسـلطانه، فدعـاهم إلى الإيمان بشـخصه وإتّـباعه ومرافـقـته.
4ـ الخاتمة: بين الإيمان المسيحىّ والإيمان اليهودىّ والإسلامىّ:

إذا حاولّنا أنْ نقـارن ما توصّلنا إليه ـ من تأسـيس الإيمان المسـيحىّ عـلى العـلاقة مع الله عـلاقة شـخصيّة ـ بالإيمان الإسـلامىّ، وجـدنا أنّ هـذا الأخـير متعـلّق ـ أكـثر ما يكـون متعـلّقـًا ـ بالإيمان بحـقـائق خاصّة بالله ـ ألله واحـد، خـالق، ديّان، له 99 صـفـة… أكـثر منه متعـلّقـًا بالله فى حـدّ ذاته بُغـية العـلاقة الشـخصيّة معه. كما أنّه متعـلّق بما يقـوله ويأمـر به الله بمحـض سـلطانه أكـثر منه العـلاقة الشـخصيّة التى تجعـل أقـواله وأوامـره مفـبولة. فعـندما يتلفّـظ المسـلمون بالشـهادة يقـولون: ” أشـهد أنّ …” أى أنّهم يؤمنون بحقائق خاصّة بالله، ولا سـيّما أنّه واحـد ( ” لا إله إلا الله” ) وأنّه أرسـل رسـوله ( ” ومحمد رسـول الله”). كما أنّهم يعـتبرون التوحـيد أوّل ركـن من أركان إيمانهم، أى الحـقـيقة بأنّ الله واحـد. فإنّمـا أسـاس إيمانهم وحـدانيّة الله، لا الله فى حـدّ ذاته، وقـد تضخّمـت إشـكاليّة التوحـيد فى معـتقدهم ـ نظـرًا إلى إشـراك الوثنيّين وإدّعـائهم بإشـراك المسـيحيّين ـ حتّى نـالت نصـيب الأسـد سـواء فى وحـيهم أم فى إيمانهم وفى مناظـراتهم مع المسـيحيّين.

والأمـر شـبيه لـدى اليهـود وقـد واجهـوا إشـراك الوثنيّين المحـيطين بهم، غـير أنّ العـلاقة الشـخصيّة بإلههم ـ الاخـتيار، العـهد، الخـروج… ـ أضـفـت عـلى إشـكاليّة التوحـيد صـبغة شـخصيّة، فالله شـبّه شعـبه بالعـروس، وشـبّه نفسـه بالأب ويالأم وبالعـريس…

ويلخّص أحـد اللاهـوتيّين معـانى الإيمان المسـيحىّ الثلاثة عـلى النحـو التالى:
” يلاحـظ أنّ ………………………………….. ‘’Attende quia
الإيمان ( بحـقيقة ) الله متعـلّق بالعـقل ………….. Credere Deum rationis est
الإيمان ( بكلام ) الله متعـلّق بالجهـد…………….. Credere in Deum industriae
الإيمان بالله متعـلّق بالحـياة”……………………. Credere in Deum vita est’’
(Hugues de Rouen)

أى بتعـبيرنا الشـخصىّ: إنّ الإيمان متعـلّق بالعـقل والإرادة والوجـدان، وأمّـا الأسـاس فإنّمـا هـو العـلاقة الوجـدانيّة.
نوعـيّة فعـل الإيمان الوجـدانيّة

بناء عـلى جميع ماسـبق، يمكننا القـول إنّ فعـل الإيمان فعـل وجـدانىّ إذا اعـتبرنا أنّه بمثـابة عـلاقة، وإتّصـال بين الله والمؤمنين. وقـد قال أوغـسـطينس فى هـذا الصـدد: ” إنّ الإيمان فى القـلب”. كما قـال غـريغـوريوس البلماسى:” إنّ الإيمان رؤية تفـوق العـقل” ، معـبّرًا هكـذا عـن نظـرة الآباء الشـرقيّين. وأمّا توما الأكـوينىّ فـيقـول:” نعـرف بالحـبّ أكـثر منه بالمعـرفة”، معـتبرًا أنّ الإيمان عـبارة عـن ” غـريزة باطـنيّة” و ” انجـذاب باطنىّ” و ” مـيل” منبعه ” دعـوة باطـنيّة”(2). وهـذا هـو معـنى حـرف ” in ” اللاتينىّ فى التعـبير Credere in Deum والحرف eis ( نحـو ) فى اليونانيّة، فالحـرفان يوحـيان بمعـنى حركة النفـس واندفاعـها وديناميّتها وإتّجاهها نحـو الله.

هـذا وقـد أكّـد المجمعان التريدانتينىّ والفاتيكانىّ الأوّل دور الوجـدان هـذا، وإنْ ألحّ مجمع الفاتيكان الأوّل أكـثر فى دور العـقل نظـرًا إلى ” فلسـفة الأنوار” و ” العـقلانيّة” السـائدتَين حينـذاك، وإلى حـذر الإصلاح تجـاه العـقل، وإلى مدرسـة توما الأكوينىّ وقد أبرزت أكـثر من توما الأكوينىّ نفسـه دور العـقل.

وتخاطـب الكنيسـة الوجـدان، لا العـقل فحسـب، عـندما تُعـلن الوحى، معـتبرة أنّ الوجـدان عـنصر أسـاسىّ من مقـوّمات الإنسـان الذى تُوَجِّـه إليه البشـارة.

غـير أنَّ الوجـدان لا يعـنى العـواطـف والمشـاعـر والأحاسـيس عـلى الإطـلاق. فلقـد عـرّفـنا الوجـدان بما سـبق فى التراث الشـرقىّ والغـربىّ. وأمّـا العـواطف والمشـاعـر والأحاسـيس فهى ولـيدة الوجـدان ولا تخـتلط به. فقـد تكـون معـدومة فى فعـل الإيمان، فـلا يشـعـر المؤمن ـ بعـاطـفته وشـعـوره وإحسـاسه ـ أنّ الله موجـود أو حاضـر له أو عـامل لأجله… مِـثل يسـوع المسـيح وهو عـلى الصـليب، ولكـنّه رغـم ذلك يؤمن بالله إيمانًا عُـمدته الله نفسـه لا العـوامل النفـسـيّة. فمـثلما رأينا أنّ مرجع الإيمان ليس العـقل ـ وإنْ سـاعـد العـقـل عـلى الإيمان ـ بل الإيمان نفسـه، هكـذا يمكن اعـتبار العـناصر النفـسـيّة ـ من عـواطف ومشـاعـر وأحاسـيس ـ عـاملاً مسـاعـدًا عـلى الإيمان، وقـد تكـون عـلى عـكس ذلك عـائقـًا له. فالإيمان يتجاوز العـناصر النفـسـيّة بل ويتجاوز الوجـدان نفسـه وإنْ اسـتخدمتها(3). فثمّة فـرق بين اسـتخدامها والاعـتماد عـليها. فالإيمان يعـتمد عـلى الإيمان.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(2) لقـد قال الأديب الفرنسىّ: Antoine de saint-Exupéry
” لا يرى المـرْ رؤية صحيحة إلاّ بقـلبه، فإنّ العـيون لا تُدرك جوهـر الأشـياء”.
(3) لقد درسـنا ” التعـزية” / ” الوحشـة” فى ” مدخل إلى روحانيّة إغـناطيوس دى لوبولا” ـ سـلسلة ” الحياة الروحيّة” رقم 6 ـ دار المشـرق ـ بيروت 1991، وهما حالتان روحيّتان مبنيّتان عـلى الوجـدان، يمـرّ بهما المؤمن فى حياته الروحيّة ويتجاوزهما فى حياة الإيمان.
وضـع الوجـدان اليـوم

تُطـرح اليوم إشـكاليّة الوجـدان عـلى النحـو الآتى: هـل فى الإنسـان نزعـة على الله حقـًا، وتَـوْق أصـيل إليه، واحـتياج أصـلىّ إليه…؟ أمّ إنّ جميع هـذه الأمـور مصـطنعـة وتعـود إلى حالات نفسـيّة أو إلى ظـروف اجتماعـيّة أو اقـتصـاديّة أو سـياسـيّة أو حضـاريّة… عـرضيّة وسـطحـيّة، فتتلاشـى مع تغـيير الحالات والظـروف؟(4).

يتسـاءل اليـوم لفـيف من عـلماء النفس إنْ لم يكن سـبب الصـراع العـميق الذى يحـياه إنسـان القـرن العـشـرين فى الغـرب هـو ابتعاده عـن الله وتركـه إيّاه وعـدم لجـوئه إليه. فلقـد حاول إنسـان القـرن العـشـرين الغـربىّ التعـويض عـن الله بالمـال والجـنس والشـهـرة وإرادة القـوّة والترفـيه… ولكنّهـا لم تمـلا فـراغ فقـدان الله لأنّ الله أعـمق ما فى عـمق الإنسـان وأقـرب إليه من ذاته، عـلى حـدّ تعـبير أوغـسـطينس.

ولا يمنع ذلك انّ الإحسـاس بالاحـتياج الدينىّ يخـتلف من شـخص إلى آخـر، من عـصر إلى آخـر… وهـو يتأثـّر بالظـروف النفـسيّة والاجتماعـيّة والاقـتصـاديّة والسـياسـيّة…. فقـد يكـون إحسـاسـًا مرهـفـًا أو فـاترًا، متيقـّظـًا أو شـبه منعـدم… وذلك بسـبب مسـئوليّة الشـخص والمجتمع معـًا. ولكن، مهما كانت الأوضـاع، وفى كلّ الحالات، لا يخـلو الإنسـان من هـذه النزعـة إلى الله، لأنّها من صميم كـيانه كمخـلوق من الله عـلى صـورته كمـثاله.

ويتجسّـد هـذا الاحـتياج إلى الله فى الدين كمؤسـسة اجـتماعـيّة، وعـقـيدة، وعـبادة، وحـياة عـمليّة يومـيّة. تلك هى العـناصر الأربعـة التى تعـبّر ظاهـريًّا عـن الاحـتياج الدينىّ، بحسـب عـلماء الاجـتماع والديانات. وقـد يظهـر عـنصر منها أكـثر من الأخـرى فى بيئة معـيّنة، أو فى ظـروف معـيّنة، أو فى عـصور معـيّنة… فمـثلاً فى أوقـات الاضـطهادات أو التعـدّديّة اللاهـوتيّة تبرز العـقـيدة، وفى بعـض البـلاد المتديّنة تمـثّل العـبادة دورًا مهمًـا… إلاّ أنّها كلّها تعـابير متكاملة ومتلازمة عـن الاحـتياج الدينىّ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(4) عن هـذه التسـاؤلات، راجع كوسـتى بندلى: إله الإلحاد المعاصر ـ منشتورات النور ـ بيروت 1968.
ـ من ” الإحتياج” إلى ” الرغـبة”:

واليـوم، تقـودنـا معـطـيات عـلم النفـس إلى تفـضيل مـفهـوم آخـر عـوضًـا عـن ” الاحـتـياج” ( besion )، وهـى ” الـرغـبة” ( désir ). فمفهـوم ” الاحـتياج” يتضمّن المنفـعـة والمصـلحة والضـرورة، بيـد أنّ مفهـوم ” الرغـبة” يتضمّن مجّـانيّة الحـبّ وحـرّيّة الاخـتيار. إنّ ” الاحـتياج” يضـع الله فى ” حـدود” الإنسـان ـ فى ضعـفه ونقـصه، فى آلامه ونكـباته، فى طفـولته وعـدم نضجه… ـ بيد أنّ ” الرغـبة” تَعْـتبر الله ” مـلء ” قـامة الإنسـان وفـيض حـياته. فالله أسْـمى من احـتياج الإنسـان النهائىّ، هـو من جهة لا نهائيّته ولا محـدوديّته.

فيعـلّمنا عـلم النفـس انّ ” الاحـتياج” من سـمات الطفـل الذى يحـتاج إلى أمّه احـتياجًا حـيويًّا أنّها بالنسـبة إليه ثـدى عـندما يرضع، كما هى تقـوم بالإهـتـمام به فى الأكل والنظافة والعـناية اليوميّة…، فالطفل محـتاج إليها ولا يسـتغـنى عـنها عـلى الإطـلاق. ولكـنّه، كلّما نمـا، قـلّ احـتياجه الحـيوىّ إليها واسـتقلّ عـنها ( يأكل ويمشـى … وحـده )، ونما فـيه شـعـور بالحـبّ ـ لا الاحـتياج ـ تجاهها، أو ـ بعـبارة تحـليل النفـس ـ ” الرغـبة” فـيها. وتظهـر هـذه الرغـبة فى مرحـلة أوديب / إليكـترا ( ما بين 3 و 5 سـنوات ) حـيث ” يرغـب” الطفل الذكـر فى أمّه والطفلة الأنثى فى أبيها. إلاّ أنّ هـذه المرحلة من تطـوّر الشـخص لا تزال تمـركزًا عـلى الذات، لذلك تأتى ” الرغـبة ” فتجعـل الشـخص يتمركز تدريجيًا لا عـلى ذاته بل عـلى الشـخص المرغـوب فـيه، عـلى الشـخص فى حـدّ ذاته، عـلى ” الآخـر”. فإنّ ” الرغـبة” الحقـيقيّة هى تحـويل من ” الأنـانيّة” ـ ( Egotisme ) حـيث ” الأنـا” هى المحـور ـ إلى ” الغـيريّة” ( Altérité ) حـيث ” الغـير”، أو ” الآخـر” هـو المحـور ـ. هى تـبديل من الانطـلاق من الذات حتّى الانفـتاح عـلى الآخـر، لتكتمل الرغـبة فى الحـبّ والعـطاء المتبادلَيْن.

ويُمكن الاسـتعانة بهـذه المعـطيات والمفاهيم النفـسـيّة فى عـلاقة الإنسـان مع الله. فكانت عـصـور الإنسـانيّة الطفـوليّة تتمـيّز بالاحـتياج إلى الله وعـدم الإسـتغـناء عـنه فى العـيش وفى ظـروف الحـياة من مأكل ومشـرب، من مرض ومـوت، من أمطـار وكـوارث… كما إتّضح لنا ذلك فى ” الأديان الطـبيعـيّة” مثلاً. أمّـا اليـوم، وقـد نضجـت الإنسـانيّة وتقـدّمت العـلوم وأمّـنت الإنسـانيّة لنفـسـها قـوّتها وكافحـت المـرض…، فإنّ الإنسـان أصبح لا يحـتاج إلى الله بتمـام معـنى الكلمة، إنّمـا أصـبح يرغـب فى الله رغـبة مجّـانيّة لا نفعـيّة، حـرّة لا ضـروريّة، مخـتارة لا حـتمـيّة، لا من أجـل الحاجة إليه وإنّمـا من أجـل العـلاقة المجـرّدة معه، من أجـل الحـبّ له، من أجـل الرغـبة فـيه.
2ـ من الله المرغـوب فـيه إلى الله المتسامىّ:

إنْ كان الإنسـان ” يرغـب” فى الله، وذلك بفضـل نعـمة الله، إلاّ أنّ الله متسـامٍ عـن الإنسـان، فـلا يسـتطيع الإنسـان أنْ يحْـويه ويحْـتجـزه. فتتّـسـم عـلاقـة الله مع البشـر بأنّ الله يظهـر فيخـتفى، بـدون أنْ يسـتحـوذ عـليه الإنسـان. ففى سـفر الأناشـيد صـدىً لذلك التصـرّف الإلهىّ:
{ فَتَحْتُ لِحَبِيبِي لَكِنَّ حَبِيبِي تَحَـوَّلَ وَعَـبَرَ. نَفْسِي خَرَجَتْ عِـنْدَمَا أَدْبَرَ. طَـلَبْتُهُ فَمَا وَجَـدْتُهُ. دَعَـوْتُهُ فَمَا أَجَابَنِي } [ نشـيد الأناشـيد 5: 6].

ولقـد عـامل يسـوع تلامـيذه بالمـثل. فعـندما رغـب بطـرس أنْ ينصب خـيمًا عـلى جـبل التجـلّى ليتنعّـم ببهـاء المسـيح المتجلّى، غـاب يسـوع البهىّ عـن الأنظـار [ مرقس 9: 8 ]. وعـندما عـرف تلمـيذا عـمّـاوس يسـوع القـائم عـند كسـر الخـبز، غـاب عـنهما [ لوقا 24: 31، 32]. وعـندما أرادت مريم المجـدليّة أنْ تمسـك يسـوع القائم، رفـض أنْ تلمسـه [ يوحنا 20: 16، 17 ]. وبهـذا المعـنى قال أوغـسـطينس مخاطـبًا الله:
” تبحـث عـمّن يهـرب منك، وتهـرب ممّن يبحـث عـنك”.

فكما أنّ الله أكـبر من الكلمات والتصـوّرات البشـريّة عـنه، هكـذا إنّ الله أعـظم من اخـتبار الإنسـان له. فرغـم أنّ التجسّـد قـد ردم الهـوّة الفاصـلة بين الله والإنسـان، إلاّ أنّ التجسّـد لم يُزل تسـامى الله عـن الإنسـان والفجـوة والمسـافة بينهما. فالله هـو الله، والإنسـان هـو الإنسـان. إنّ الله والإنسـان ـ فى عـلاقـتهما ـ يتّحـدان بفضـل التجسّـد والفـداء ولكن بغـير اخـتلاط ولا امـتزاج، بغـير امتصاص أحـدهما للآخـر ولا تلاشى أحـدهما فى الآخـر.

هكـذا، إنْ قـال أوغـسـطينس إنّ الله أعـمق ما فى عـمق الإنسـان، فإنّه قـال أيضًا إنّه أسْـمى ما فى الإنسـان.

الخاتمة

الوجـدان فى مـيزان الإيمان؟ وضـع الوجـدان بالنسـبة إلى الإيمان؟ إنّ الوجـدان ـ كالعـقل ـ ضـرورىّ ولكـنّه غـير كافٍ. فالإيمان يسـتعـين بالوجـدان ـ كما يسـتعـين بالعـقل ـ ولكـنّه يتجاوزهما لأنّ مرجع الإيمان إنّمـا هـو الإيمان نفـسـه، وأمّـا الوجـدان ـ والعـقل ـ فهما فى خـدمته، فضـلاً عـن أنّ الإيمان أشـمل من الوجـدان والعـقل إذ يشـمل الإرادة أيضًا فنتحـدّث عـنها الآن.

الفصل الثامن
الإختبار الإيمانى والإرادة

لا يمـتّ الإيمان بصـلة إلى العـقل والوجـدان فحسـب، بل إلى الإرادة الحـرّة أيضًا. فالعـقل والوجـدان يدفعـان المؤمن إلى أنْ يحـيا حـياته اليوميّة بموجـب إيمانه بالله، إلى أنْ يخـتار الله فى كلّ كـبيرة وصغـيرة من حـياته، إلى أنْ يُلزم إيمانُه حـياتَه. فنذكـر أنّ فى تحـليلنا لشهـادة بطـرس، قـاده ” إيمانه” بيسـوع المسـيح إلى ” إتّـباعه” يسـوع المسـيح، هـذا ما لم يتوقـّعه. كما لم تتوقـّعه أمّ يسـوع وإخـوته عـندما طـلبوه، فقـال إنّ أمّـه وإخـوته { هُمُ اَلَّذِينَ يَسْمَعُـونَ كَلِمَةَ اَللهِ وَيَعْـمَلُونَ بِهَا } [ لوقا 8: 19ـ 21]. فالإيمان إلـتزام حـياتىّ، هـذا ما نبيّنه أوّلاً، ثمّ نحلّـل قـضايا معـاصرة متعـلّقة بالالتزام المسـيحى.

الإيمان الملتزم
إنّ أوغـسـطينس ـ الذى يـرى أنّ لفظة Religio متعـلّقة بالإخـتيار ( Re-eligere )، أى ” أعـاد الاخـتيار” يحلّل لفظة Fides اللاتينيّة ـ أى ” إيمان” ـ عـلى أنّها مكـوّنه لغـويًّا من أصـلين: Fieri ـ أى ” عـمل” ـ و Dicere ـ أى ” قـال” ـ فيقـرّ بأنّ الإيمان هـو العـمل بما يُقـال، العـمل بمـوجـب القـول:
” افعـل ما تقـول…………….. Fac quod dici,”
يتمّ الإيمان”……………………..”et fides est

ويربط الإيمان بالمحـبّة ـ والمحـبّة هى قمّـة قِـيَم الإنجـيل ـ قائلاً:
” يعـمل الإيمان من خـلال المحـبّة”.

ومن هـنا قـوله المأثـور:
” أحـببّ وافعـل ما تشـاء……………. Ama et fac quod vis”.

وإنّ أولى خطـوات العـمل بموجـب الإيمان هى التوبة التى تتعـلّق بـ ” تغـيير الفكـر” كما يرى اليونانيّون فيسـمّونها Metanoia، كما تتعـلّق بـ ” تغـيير القـلب” كما يراه اليهـود من قـلب حجـرىّ إلى قـلب من لحـم. لذلك نادى جميع الأنبياء بالتوبة أمانة للعـهد، كما أنّ يسـوع بـدأ رسـالته بالدعـوة إليها [ مرقس 1: 15]. فالتـوبة النابعـة من تغـيير العـقل والوجـدان تقـود المؤمن إلى إعـمال إرادته الحـرّة بموجـب إيمانه بالله وبتعـاليمه. وإنّ التوبة عـمليّة مسـتمرّة، إذ يخـتبر المؤمن باسـتمرار ضعـفه:
{ لأَنِّي لَسْتُ أَفْعَـلُ اَلصَّالِحَ اَلَّذِي أُرِيدُهُ بَلِ اَلشَّـرَّ اَلَّذِي لَسْـتُ أُرِيدُهُ فَإِيَّـاهُ أَفْعَـلُ } [ رومية 7: 19].

وأمّا هـدف عـمل الإرادة الحـرّة، فهـو الاشـتراك مع الله فى مقـاومة الشـرّ فى العـالم بقـوّة الإيمان:
{ ذَلِكَ لأَنَّ الْمَوْلُودَ مِنَ اللهِ يَنْتَصِرُ عَـلَى الْعَالَمِ. فَالإِيمَانُ هُـوَ الَّذِي يَجْعَـلُنَا نَنْتَصِرُ عَـلَى الْعَالَمِ. وَمَنْ يَنْتَصِرُ عَـلَى الْعَالَمِ إِلاَّ الَّذِي يُؤْمِنُ أَنَّ يَسُوعَ هُـوَ ابْنُ اللهِ؟ } [ 1يوحنا 5: 4، 5].

وفى سـبيل الاشـتراك مع المسـيح، يناشـد بولس المؤمنين بأنْ: { …احْمِلُوا سِلاَحَ اَللهِ الْكَامِلَ لِكَيْ تَقْدِرُوا أَنْ تُقَاوِمُوا فِي الْيَوْمِ الشِّرِّيرِ، وَبَعْدَ أَنْ تُتَمِّمُوا كُلَّ شَيْءٍ أَنْ تَثْبُتُوا… } [ أفسـس 6: 10 ـ 18 ].

وسـواء أكان العـمل أو التوبة أو الغـلبة، فالإيمان يُحـرّك ويدفع المؤمن فى حـركة قـد وصـفها أوغـسـطينس بفعـل ” البحـث” (Quaerere)، ومن بعـده اللاهـوت المدرسـىّ ولا سـيّما ألبيرتس الكـبير أسـتاذ توما الأكـوينىّ بفعـل ” السـعى” (Tendere ) فتحـدّث عـن ” سعى الإيمان” ( Tensio fidei ). وأمّا اللاهـوت المعاصر، فـلا يقـتصر اهـتمامه عـلى ” التعـليم المسـتقيم” Orthodoxia كما كان الأمر فى الماضى، بل يسـعى إلى الاهـتمام بـ ” العـمل المسـتقيم” ( Orthopraxia ) الذى يلهمه الإيمان، وقـد سـبقه فى ذلك ماركس الذى ناشـد بتغـيير العـالم لا بالتـأمل فـيه، وكما نادى بذلك نيتشـه أيضًا.

ونودّ الآن أنْ نلقى نظـرة الإيمان المسـيحى العـامل بالمحـبّة إلى ثـلاث قـضايا معـاصرة متكاملة خاصّة بما نحن فى صدده: العـمل البشـرىّ ـ التاريخ البشـرىّ ـ الحـرّيّة البشـريّة. فالعـمل البشـرىّ يصـنع التاريخ البشـرىّ وهـو يفـترض الحـرّيّة البشـريّة، فنـودّ ربط هـذه القـضايا البشـريّة بالإيمان المسـيحىّ كى يُلقى عـليها ضـوءه.
معـنى العـمل البشرىّ

فى ” الأديان الطـبيعـيّة”، كانت الطـبيعـة تمـثّل لغـزًا للإنسـان، يتأمّـل فيها ويهابها ويحـترمها. وكان الله يتجلّى فيها للإنسـان البـدائىّ.

أمّا وقـد حـرّر الوحى الإنسـان من هـيمنة الطـبيعـة عـليه ومن تأليهه إيّاها، فقـد سـخّـرها الإنسـان وأخضعـها له، تحكّم فيها وطوّعـها لمصالحه، وسـيّطر عـليها واسـتغـلّها، بموجـب وصـيّة الله وتكليفه للإنسـان أن: { أَثْمِرُوا وَاَكْثُرُوا وَاِمْلأُوا اَلأَرْضَ وَأَخْضِعُوهَا وَتَسَلَّطُوا عَلَى سَمَكِ اَلْبَحْرِ وَعَلَى طَيْرِ اَلسَّمَاءِ وَعَلَى كُلِّ حَيَوَانٍ يَدِبُّ عَلَى اَلأَرْضِ } [ تكوين 1: 28]. وفى الإتّجـاه ذاته، يعـتبر الإسـلام الإنسـان ” خليفة الله” عـلى الأرض.

وأيقـن الإنسـان تدريجـيًا أنّه سـيّد البحـر والأرض والسـماء بل وسـيّد الخليقة. وحسـبنا أنْ نثبت كلّ اكتشـافاته العـلميّة، واخـتراعاته التطـبيقـيّة فى عـالم الفـيزياء والكيمياء والأحـياء والفـضاء…، وفى عـلم العـلوم الدقـيقة والإنسـانيّة…

وفى العـهد القـديم تقـليدان يذكّـران الإنسـان الذى يُخضع الخليقة بحسـب وصيّة الله، بأنّها هـبة مجانيّة من الله، فعـليه أنْ يُعـيد لله ما لله. وهـذان التقـليدان هما ” السـبت” و ” البواكـير”.

أمّا السـبت فهـو يُذكّـر الإنسـان بأنّ عـمله ـ مدة سـبعة أيّام ـ عـليه أن يوقـفه فى اليوم السـابع، مُكَـرِّسـًا إيَِّـاه للـربّ سـيّد الخليقة، كى لا يظن أنّه هـو السـيّد إذ سـخّر الطـبيعـة، إنّما الله هـو السـيّد المطـلق، بل وأنّ منبع عـمله البشـرىّ وتسـخيره للطـبيعة إنّما هـو الله بصـفة مطلقة، وهـذا هـو الفارق الشـاسـع بين نظـرة الوحى إلى العـمل البشـرىّ، ونظـرة بعـض الأيديولوجيّات ـ الماركسـيّة أو الرأسـماليّة ـ المدّعـيّة ـ إلى كـون الإنسـان هـو المنبع المطـلق لعـمله وهـدفه المطـلق بـدون الرجـوع إلى الله الخالق والموصى بوصيّة العـمل والمكلّف الإنسـان بهـذه الرسـالة.

وأمّـا البواكـير من الذرّيّة ومن الحـيوان والزرع ـ وهما ما وعـد الله به إبراهـيم والشـعب المخـتار ـ فتذكّـره هى الأخـرى بسـيادة الله المطـلقة عـلى الخـليقة وبتكليفه الإنسـان بتسـخيرها. فعـندما يقـدّم الإنسـان بواكـيره، إنّه يعـترف ويُقـرّ بأنّ كلّ شئ من الله وبه وإليه، من ذرّيّة(1) وحـيوان(2).

وإذا اعـترف المؤمنون بأنّ الله أصـل عـملهم ومرجعـه وغـايته، تعـاونوا حقـًا مع الله فى خـلق مجتمع مبنىّ عـلى الالتزام فى مجتمعاتهم بعـملهم. وقـد قـدّس يسـوع الناصـرىّ العـمل البشـرىّ طـوال ثلاثين عـامًا من الحـياة المخـفـيّة المتواضعة، حـيث شـارك مواطنيه العـمل اليومىّ المتكـرّر الرتيب وهـو نصـيب جميع البشـر فى جميع العـصور والأماكن. فـلا يختلف عـمل المؤمنين عـن عـمل سـائر البشـر، إلاّ بالمعـنى الذى يضـيفه الإيمان والهـدف الذى يمنحه، وهـذا ما نراه الآن فى تحليلنا قـضيّة ” التاريخ البشـرىّ”.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) تدخل تقـدمة يسـوع الطفل فى الهيكل [ لوقا 2: 21 ت ] ضمن هذا الإطار. ومثل هـذه التقدمة تخـفيف لذبيحة الأطفال التى قضى عـليها الله نهائيًا عـندما منع إبراهيم من ذبح ابنه إسـحق طـبقـًا للتقـاليد الشـائعة آنذاك [ تكوين 22].
(2) هـذا هـو الفـرق بين هابيل وقـد قـدّم تقـدمته من كلّ قـلبه فـقـبلها الله، وقايين لم يقرّ بها من كلّ قلبه [ تكوين 4].
معـنى التاريخ البشرىّ

مـنذ القـرن التاسـع عـشـر، اكتسـب التاريخ بـالغ الأهمّـيّة فى الفكـر الفلسـفىّ واللاهـوتىّ، ولاسـيّما لدى أبى الفلسـفة الحـديثة هـيغـل. ولقـد أقـرّ هـذا المفكّـر بمعـنى التاريخ البشـرىّ، فللإنسـان ولتاريخه معـنى، وهـو الإنسـان الذى يُضـفى عـلى تاريخه معـنى، فى الفـلسـفات الإلحـاديّة، ممّا قـادها فى نهاية الأمـر إلى الإقـرار فى رأى بنقـيض ذلك، فأظهـرت مـظـاهر الـ ” لا ـ معـنى”( Non-sense ) بمـا فـيه مـن ” القئ”( La Nausée: Jean-Paul Sarter ) ومـن ” العـبث” ( L’Absurde ) و” التمـرّد” (La Révolte: Albert Camus )… وبالمـثل أكّـدت ” الفـلسـفة البِنـائيّة” ( Structuralisme ) فى أواخـر السـتّينات وفى السـبعـينات ” مـوت الإنسـان”، بعـد أنْ أعـلن نيتشـه فى أواخـر القـرن الماضى ” موت الله”.

وأمّـا الفكـر المسـيحىّ ( واليهـودىّ )، فإنّه يشـيد بأنّ تاريـخ البشـريّة مـزيج مـن المعـنى / اللامعـنى معـًا، لأنّ الإنسـان نفـسـه مـزيج من النهـائيّة / اللانهـائيّة فى آن واحـد، حامـلاً فى داخـله عـلامات المـوت / الحـياة، المحـدوديّة / اللامحـدوديّة. وأمّـا التاريخ البشـرىّ فليس من صـنع البشـر فحسـب ـ كما تدّعـيه الفـلسـفات الإلحـاديّة ـ ولا من صُنع الآلهـة ـ كما تدّعـيه الأسـاطير اليونانيّة والرومانيّة ـ بل هـو من صُنع الله والإنسـان معـًا: فالله هـو سـيّد التاريخ البشـرىّ، والإنسـان هـو صـانع التاريخ مع الله. فالإنسـان يعـمل مع الله فى إضـفاء معـنى لتاريخه. ولقـد ادّعـى الفـيلسـوف اليونانىّ بروتاغـوراس أنّ ” الإنسـان مقـياس كلّ شئ”، كما أنّ كارل ماركس بنى نظـريّته الاقـتصاديّة والاجتماعـيّة عـلى أنّ الإنسـان يحقّق نفسـه بنفسـه مضـفيـًا معـنى عـلى حـياته وتاريخه بعـمله وحـده فحسـب. وأمّا النظـرة المسـيحيّة فتجمع ـ فى وحـدة لا تقـبل أيّة تجـزئة ـ بين عـمل الله والإنستان، وفى ” تلاحم” و ” تآزر” بينهما ـ عـلى حـدّ قـول الآباء الشـرقيّين ـ بحـيث كلّما ازدادت نعـمة الله ازدادت حـرّيّة الإنسـان، وكلّما ازدادت حـرّيّة الإنسـان، ازدادت نعـمة الله (3). هـذا وقـد عـبّر القـدّيس إيريناوس عـن هـذه الدائرة بقـوله المأثـور:
” مجـد الله هـو الإنسـان الحىّ، وحـياة الإنسـان هى رؤية الله”.

فليس الطـرفان ـ الله / الإنسـان، مجـد الله / حـياة الإنسـان، حـياة الإنسـان / رؤية الله ـ فى نسـبة عـكسـيّة، بل، عـلى عـكس ذلك تمامًا، كلّما نَمَـا وعَـظـُم طـرف نَمَا وعَـظـُم الطـرف الآخـر. هـناك إذًا جـدليّة الله / الإنسـان، عـمل الله / عـمل الإنسـان، نعـمة الله / حـرّيّة الإنسـان، إضـفاء المعـنى عـلى التاريخ من الله / من الإنسـان، وكلّ ذلك فى جـدليّة مسـتمرّة وتفاعـل مثمـر.

وتعـود هـذه الجـدليّة على أنّ الله تجسّـد، فـوحـّد يسـوع المسـيح الله بالإنسـان، وحّـد إرادتهما وحـرّيّتهما، عـملهما وتارخهما. ويجْـدر بنا هـنا أنْ نرسـم الحـركة التى إقـتفاها يسـوع المسـيح إذ جـاء من الآب وعـاد إليه، مارًا بالمـوت عـلى الصـليب فـفـدى البشـر

وإنّه أدخـل الإنسـان فى هـذه الحـركة وأشـركه فى هـذا الاتّجـاه من الله وإليه، إذ إنّه ” الطـريق” الذى يقـود إلى الآب [ يوحنا 14: 6].

فإتّجـاه التاريخ البشـرىّ هـو ملكـوت الآب (4)، إذ يأتى كلّ شئ من الآب ويعـود كلّ شئ إليه. ولا يتحقّـق هـذا الملكوت إلاّ بيسـوع المسـيح الـذى هـو { اَلأَلِفُ وَ اَلْيَـاء، اَلْبـِداَيَة وَاَلْنِهَـايَة } [ سفـر الرؤيا 21: 6 ] لتاريخ البشـريّة. وهـو يسـوع المسـيح الـذى { ِيَفْتَحَ اَلسِّفْرَ وَيَفُكَّ خُتُومَهُ اَلسَّبْعَةَ } [ سـفر الرؤيا 5: 1ـ 5 ]. وهـذا هـو معـنى مجـيئه الثـانى المجـيد وهـو يرادف ملكـوت الآب. ويكتمـل اتّجـاه تاريخ البشـريّة عـندما ِيَجْـمَعَ ويدمج تحـت رأس واحـد ( باليونانيّة Anakèphalaio ) الله الآب ” كُلَّ شَيْءٍ” ( Panta ) فِي يسـوع الْمَسِيحِ [ أفسـس 1: 10] سـيّدًا للتاريخ. والمسـيح بدوره يُخضـع كلّ شئ للآب ليصـبح الآب { كَيْ يَكُونَ اللهُ الْكُلَّ فِي الْكُلِّ } [ 1كورونثوس 15: 28 ]. وهـو الروح القـدس الذى يُحقّـق اتّجـاه تاريخ البشـريّة هـذا فيُعـدّ تجـلّى أبنـاء الله والخـليـقـة بأســرها لـ { أَنَّ اِنْتِظَـارَ اَلْخَـلِيقَةِ يَتَوَقّـَعُ اِسْـتِعْـلاَنَ أَبْنَاءِ اَللهِ } [ رومية 8: 19 ]، ويعـمـل لأجـل { قِيَاسِ قَامَةِ مِلْءِ اَلْمَسِيحِ } [ أفسس 4: 5ـ 16 و كولوسى 2: 19 ]. هـذا هـو المعـنى المطـلق الكامن فى تاريخ البشـريّة والنابع من اتّجاهه نحـو الله. فالمسـتقـبل هـو معـنى الماضى والحاضر. ولا يعـنى عـمل الله هـذا فى تاريخ البشـريّة تنحّى الإنسـان عـن مسـئوليّته أو تخلّيه عـن رسـالته ـ كما عـاتبته الفـلسـفات الإلحـاديّة عـلى المسـيحيّة ـ بل يعـمل مع الله والله مع الإنسـان.

ونجـد جـدليّة مماثلة فيما يتعـلّق بـلا ـ معـنى تاريخ البشـريّة، فلا يخـلو التاريخ من الشـرّ والخطـيئة، الألم والعـذاب، الفشـل والإخـفاق، العـنف والحـروب… أى من اللا ـ معـنى. فحـقـيقة التاريخ أنّه مـزيج من المعـنى / اللا ـ معـنى. فلو اعـتبرناه ذا معـنى فحسـب، لوقـعـنا فى التفـاؤل المـثالىّ والأمـل الخـيالىّ الللذين لا يمـتّان إلى الواقـع بصـلة. ولو اعـتبرناه بدون معـنى فحسـب، لوقـعـنا فى التشـاؤم واليأس والعـبث ولأبعـدنا هـذا أيضًا عـن الواقـع. فليسـت النظـرة الإيمانيّة المسـيحيّة متفائلة ولا هى متشـائمة. كما انّها ليسـت مبنيّة عـلى الأمـل ولا اليأس، وإنّمـا هى نظـرة رجـاء. والرجـاء المسـيحىّ ـ كما يعـرّفه بولس ـ هـو تحقـيق الشئ / عـدم تحقـيقه فى آن واحـد: ” لأَنَّنَا بِالرَّجَاءِ خَلَصْنَا، وَلَكِنَّ اَلرَّجَاءَ اَلْمَنْظُورَ “. فيشـرح قائلاً: { لَيْسَ رَجَاءً لأَنَّ مَا يَنْظُرُهُ أَحَدٌ كَيْفَ يَرْجُوهُ أَيْضاً؟ } [ رومية 8: 24 ].

فالمعـنى المطـلق لتاريخ البشـريّة قـد تحـقّق بقـيامة يسـوع المسـيح / لم يتحقـّق بعـد نهائيًّا، أو بالأحـرى هـو عـمليّة تحقـيق مسـتمرّة. فـلا التفـاؤل واقعىّ ولا التشـاؤم واقعىّ، إنّما الرجـاء وحـده واقعىّ، لأنّه يشـمل المعـنى / اللا ـ معنى، الخـير / الشـرّ، المحـبّة / اليغـض، الماضى / الحاضر / المسـتقـبل… يرجـو الرجـاء أنْ ينتصـر فى النهاية المعـنى المطـلق، الخـير المطـلق، المحـبّة المطـلقة. وأنّه رجـاء ثـابت إذ وعـد يسـوع بالانتصـار بل وحـقـّقه فعـلاً بموته وقـيامته تحـقيقًا فى الرجـاء: { ثِـقـُوا، فقـد غَلَبْتُ اَلْعَـالَمِ } [ يوحنا 16: 33 ].

وهـذا الرجـاء هـو الذى يدفـع الإنسـان إلى أنْ يشـترك مع الله فى إضـفاء التاريخ معـناه فى اتّجـاه الله، هـو الذى يحـوّل الروح الانهـزاميّة إلى روح الانتصـار، والروح المـثاليّة إلى روح الواقـع.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(3) فى الإنجيل مشهد رائع يفيد بتلاحم نعـمة الله / حـرّيّة الإنسـان، وهـو مشهد الأكل الذى أكله يسـوع القائم مع تلاميذه عـلى شـاطئ بحيرة طـبريا [ يوحنا 21: 1ت] حيث أتى يسـوع بأكل من عـنده وأتى التلاميذ بثمار صيدهم.
(4) إنّ “الاتّجاه” هـذا هـو “معـنى” التاريخ البشـرىّ المطلق. فالجدير بالذكر أنّ اللفظة الفرنسيّة( Sens ) تعـنى ” المعـنى” و” الاتّجاه” فى آن واحـد.

معـنى الحريّة البشريّة

ويقـودنا كلّ ما سـبق إلى نظـرات متباينة إلى حـرّيّة الإنسـان ولا سـيّما فى عـلاقـته مع الله من جهة وعـلاقـته مع أخيه الإنسـان.

* الإنسان يخضع لله خضوع العـبد، الإنسـان يخضع لله خضـوع العـبد ويتبع له تبعـيّة المخـلوق الخائف منه، وهى نظـرة بعـض الأديان ولا سـيّما الأديان الطـبيعـيّة. وقد توحى لفظـة ” دين” بالعـربيّة بمـثل هـذا المعـنى: فثمّة ثتلاثة معـانٍ لهذه اللفظـة:
ـ ” الدين” هـو عـلاقة الإنسـان المخـلوق مع الله الخـالق، فما يربطهما هـو فعـل الخـلق.
ـ وفى لفظـة ” دين” معـنى ” الدَيْن” و” المديون”، بمعـنى أنّ الإنسـان مديون لله الذى خـلقه.
ـ وفى كلمة ” دين” مدلول ” الديْنونة”، فالله هـو الخـالق ” الديّان” الذى يدين مخلوقاته بالثـواب والعـقاب.

وقـد ضـرب يسـوع مـثلاً يصف التبعـيّة هـذه وقـد شـخّصها فى الابن البكـر من مَـثَل ” الأب الرحـيم”. فيقـول الابن البكـر لأبيه:
{ هَا أَنَا أَخْدِمُكَ سِنِينَ هَـذَا عَـدَدُهَا وَقَطُّ لَمْ أَتَجَاوَزْ وَصِيَّتَكَ وَجَدْياً لَمْ تُعْـطِنِي قَطُّ لأَفْـرَحَ مَعَ أَصْدِقَائِي } فهذا الابن يخـدم ويطيع أباه، غـير أنّ خدمته هـذه وطاعـته هـذه عـاشـها كعـبد لا كابن، ولذلك لم يعِ أنّ ما لأبيه فهـو له [ لوقا 15: 29ـ 31 ].

وقـبل أنْ يترك يسـوع تلاميذه، صـرّح لهم: { لاَ أَعُـودُ أُسَمّـِيكُمْ عَبِيداً… لَكِنِّي قَـدْ سَمَّـيْتُكُمْ أَحِـبَّاءَ … أَنَا اِخْـتَرْتُـكُمْ…. } [ يوحنا 15: 15، 16].

حـرّ ومسـتقـلّ لا عـن الطـبيعـة فحسـب، بل عـن الله أيضًا. وهى النظـرة الإلحـاديّة التى تفشّـت فى الغـرب منـذ القـرن التاسـع عـشـر من خـلال الفـلسـفـات والأيديولوجـيّات الوجـوديّة:

ـ نيتشـه:
أقـرّ هـذا الفـيلسـوف بأنّ الدين واقـع مـرير لجـبين الإنسـان وتخلّيه عـن مسـئوليّته. وقـد مَحْـوَر فـلسـفـته حـول ” الإنستان الفـائق” ( Super- Homme ) و” إرادة القـوّة” ( Volonté de Puissance ) ـ وقـد طـبّـقها هـتلر فى النازيّة ـ لذلك أعـلن ” مـوت الله” ( Mort de Dieu ) باسـم الإنسـان الحـرّ.

ـ فـويـورباخ وماركس:
لقـد حكم الفـيلستوف فـويوباخ والعـالم الإقـتصادى ماركس أنّ ” الدين أفـيون الشـعـوب” إذ يسـتخـدمه رجـال الدين للوصـول على مآربهم. فلم يخـلق الله الإنسـان عـلى صـورته كمـثاله، بل إنّ الحـقـيقة هى أنّ الإنسـان هـو الذى خـلق الله عـلى صتورته كمـثاله.

ـ أوغـسـت كونت:
مـيّز هـذا العـالم الاجـتماعى ثـلاث مراحـل للبشـريّة: الأولى مرحـلة ” الحـديث اللاهـوتىّ” وهى تناسـب عـصر طفـولة البشـريّة، فـتلاشـت فى مرحـلة ” الفـلسـفة” المـناسـبة لعـصر مراهـقـتها، فـتلاشـت بدورها فى مرحـلة ” العـلم” المـناسـبة لعـصر نضـوجها.

ـ فـرويد:
اعـتبر هـذا العـالم النفـسـانىّ أنّ الدين والعـلاقة مع الله هما ” الوهم الكـبير”( La grand illusion ) الذى يقـع فـيه المـرضى النفـسـانيّون فى عـمليّة تعـويض عـن ” النزعـة الجنسـيّة” ( Libido ).

ـ سـارتر:
أرجـع هـذا الفـيلسـوف الوجـودىّ حقـيقة الإنسـان إلى أنّه ” حـرّيّة” و ” مشـروع”، وهـو مرجـع نفسـه المطـلق والوحـيد، وهـو كـائن مسـتقـلّ، لا كائن أعـلى فـوقـه.

هـذه النزعـات الاسـتقـلاليّة هى بالفعـل قصّة آدم وحوّاء الللذيْن أرادا أنْ يكـونا كالله، ويسـتقلاّ عـنه ويَبْـنِـيا حـياتهما بـدونه. وقـد صـوّر يسـوع فى مَـثـَل ” الأب الرحـيم” هـذا الوجـه الاسـتقـلالىّ من الإنسـان فى شـخص الابن الأصغـر وقـد طـالب أبـاه بحقـّه ثمّ { سَـافَرَ إِلَى بَلَدٍ بَعِـيدٍ } [ لوقا 15: 21]. فكـون الإنسـان حـرًا، يدفعـه إلى الاسـتقـلال عـن الله لأنّ الله يظهـر له كمـنافس لحـرّيّته.

وهى نظـرة الوحى المسـيحىّ الذى لا يعـتبر الإنسـان عـبدًا لله بل ابنًا للآب وأخّـًا وصـديقـًا للمسـيح وهـيكلاً للـروح، ولا حـرًّا حـرّيّة مطـلقـة بل مخـلوقًا من الله، وبالتالى حـرّ ” حـرّيّة مشـروطة” كما يقـول الفـلاسـفة الوجـوديّون المسـيحيّون. إنّ الإنسـان ـ فى نظـرة الوحى المسـيحىّ ـ حـرّ { حُـرّيّة أَبْـنَاء اَلله } [ رومية 8: 31 ]، وقـد { حَـرّرَه اَلابْن } [ يوحنا 8: 36] ولم يَنـلْ روح العـبوديّة بل روح البنـوّة [ رومية 8: 14ـ 17]. فـيضع كلّ معـنى حـرّيّته وثقـلها فى أنْ يكـون فى عـلاقة البنوّة، مـتمثلاً فى ذلك بيسـوع نفسـه:
{ طَعَامِي أَنْ أَعْمَلَ مَشِيئَةَ الَّذِي أَرْسَلَنِي وَأُتَمِّمَ عَمَلَهُ } [ يوحنا 4: 34, 6: 38ـ 40].

فكما عـاش يسـوع ملء حـرّيّته فى أن يطـيع الآب، هكـذا تكمن حـرّيّة الإنسـان فى أنْ يتصـرّف بحسـب إرادة الله وفى ألاّ يسـتقلّ عـنه كما فعـل آدم وحـوّاء والابن الضـال، فالله ـ بسـابق تدبيره ـ قد خلقه واختاره ابنًا له فى القـداسـة والمحـبّة بـلا عـيب { مُبَارَكٌ اللهُ أَبُو رَبِّنَا يَسُـوعَ الْمَسِـيحِ، الَّذِي بَارَكَنَا بِكُلِّ بَرَكَةٍ رُوحِيَّةٍ فِي السَّـمَاوِيَّاتِ فِي الْمَسِـيحِ، كَمَا اخْتَارَنَا فِيهِ قَبْلَ تَأْسِـيسِ الْعَالَمِ، لِنَكُونَ قِدِّيسِـينَ وَبِلاَ لَوْمٍ قُـدَّامَهُ فِي الْمَحَبَّةِ، إِذْ سَـبَقَ فَعَـيَّنَنَا لِلتَّبَنِّي بِيَسُـوعَ الْمَسِـيحِ لِنَفْسِـهِ، حَسَـبَ مَسَـرَّةِ مَشِـيئَتِهِ، لِمَدْحِ مَجْـدِ نِعْـمَتِهِ الَّتِي أَنْعَـمَ بِهَا عَـلَيْنَا فِي الْمَحْبُوبِ } [ أفسـس 1: 3ـ 6]. فالإنسـان يخـتبر نزعـة اسـتقـلاليّة ( Autonomie ) لكـونه كائنًا حـرًّا، فـينزع إلى الاكـتفـاء الذاتىّ بـدون الرجـوع إلى الله، وهـو يخـتبر نزعـة طـاعـة وخضـوع لله ( Théonomie ) لكـونه مخـلوقًا عـلى صـورة الله كمـثاله فيتوق إليه ويرغـب فـيه. فالإنسـان فى حقيقـته مزيج من الحـرّيّة / إتمام لمشـيئة الله. ولا يسـلب الله حـرّيّته، لأنّ الله نفسـه خـلقه حـرًّا وتبنّـاه فى الابن بالروح، فليس الله طاغـيًا أو وصـيًا، حاكمًا أو قـاضـيًا، بل إنّه يحـترم كلّ الاحـترام حـرّيّة الإنسـان، ولولا هـذا الاحـترام لما قـبل خطـيئته وعـصـيانه وتمـرّده، بل لأزاله من الوجـود والحـياة، ولكنّنا نراه يدبّـر خـلاصه محـترمًا إلى النهاية حـرّيّته وعـارضًا عـليه عـهده الخـلاصىّ: { إذا أرَدْتَ…}.

ويترتّـب عـلى النظـرة إلى عـلاقة الإنسـان الحـرّ مع الله، نظـرة إلى عـلاقـته مع أخـيه الإنسـان. وثمّة هـنا أيضًا ثـلاث نظـرات إليها متباينة:

وهى العـلاقة التى فـلسـفها هـيغـل فى القـرن التاسـع عـشـر وتأثـّر بها ماركس كلّ التأثـير. فقد حلّل هـيغـل صـميم العـلاقة بين البشـر عـلى أنّها مبنيّة عـلى ” العـنف” ، فكلّ فئة اجتماعـيّة أو سـياسـيّة أو اقـتصـاديّة، بل وكلّ إنسـان يرتبط بغـيره عـلى أسـاس أنّه إمّا سـيّد / إمّا عـبد ـ بإسـتثناء عـلاقة الرجل / المرأة ـ والعـبد يصـبو إلى أنْ يصـبح سـيّدًا ويخضع له سـيّده. وهـذا هـو تاريخ البشـريّة ولا سـيّما تاريخ الحـروب والثـورات، أى ـ بتعـبير ماركس ـ ” الجـدليّة التاريخيّة” ( Dialectique histirique ) حيث يتقـدّم التاريخ عـن طـريق الصـراعـات ( ولا سـيّما ” صـراع الطـبقـات” ) والتقـلّبات والثـورات والأزمات بالعـنف.

ولا شـكّ فى أنّ العـلاقة التى يصـفها هـيغـل تقـتصر عـلى مسـتوى ” الظاهـرتيّة” ( Phénoménologie ) ـ أى وصـف مـا ” يظهـر” خـارجـيًا فـى المجـتمع ـ بـدون التـطـرّق إلـى ” أصـل” الظـاهـرة. أمّـا والإيمـان يتجـاوز ” الظـاهـرة” للـوصـول إلـى ” أصـل” الظاهـرة وإلى ” عـمـق” الظـواهـر، فإنّه يتسـاءل عـن سـبب هـذا ” العـنف ” وهـذه العـلاقة ” السـيّد / العـبد”. ويردّه الوحى اليهـودىّ ـ المسـيحىّ إلى الخطـيئة فى الإنسـان، خطـيئة النزعـة الاسـتقـلاليّة عـن الله التى سـبّبت النزاع بين الإنسـان وأخـيه الإنسـان، إذ أراد الإنسـان أنْ يكـون إلهـًا عـلى أخـيه الإنسـان، سـيّدًا عـليه. فـلأنّ آدم وحـوّاء قـد خطـئا تجـاه الله، خطئ قـايين ابنهما تجـاه هـابيل أخـيه، فأصـبح ” الإنسـان ذئبًا لأخـيه الإنسـان” Homo homini lupus: Thomas Hobbes.

وهى العـلاقة التى تعـتمد عـلها الفـلسـفة الذاتيّة والفكـر الليبرالىّ والنظام الرأسـمالى مـثلاً، وهى تمنح الفـرد كلّ الامـتيازات (5). فنـوعـيّة هـذه العـلاقة تسـبّب هى الأخـرى صـراعـًا بين الأفـراد. وان كان الأفـراد يعـيشـون فى نـوع من التراضى والوفـاق، فعـلى أسـاس حقـوقهم وواجـباتهم التى يحـترمونها. وتصـبح القـاعـدة فى مـثل هـذا المجتمع العـدالة والمسـاواة: ” العـين بالعـين والسـنّ بالسـنّ “. وإنّ هـذا المـبدأ ـ اليهـودىّ ـ بمـثابة خطـوة جـريئة إذ حـدّد العـلاقة بين الأفـراد عـلى مسـتوى إنسـانىّ أفضـل من مسـتوى ” العـنف” حـيث سـيطرة القـوىّ عـلى الضـعـيف.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(5) ثمّة فـرق شـاسـع بين ” الفـرد” / ” الشـخـص”. أمّا ” الفـرد، فأمـام المجـتمع وبالنسـبة إليه. وأمّـا ” الشـخـص”، فهـو الكائن البشـرىّ فى حـدّ ذاتـه بكلّ أبعـاده الإنسـانيّة بما فيها بُعـده الاجتماعى. ولقـد توسّـعـت فى هـذا الموضـوع الفـلسـفة ” الشـخصانيّة” المسـيحيّة ( Personnalisme ).

علاقة حضارة المحبة

، وهى العـلاقة التى أسّـسـها نهائيًّا يسـوع عـندما جمع فى وحـدة تامّة الوصـيّة الأولى والثانية، محـبّة الله والإنسـان. وتصـل هـذه المحـبّة إلى حـدّ تجاوز العـدالة والمسـاواة حتّى محـبّة الأعـداء ومسـامحتهم والصـلاة لأجلهم، تمـثّلاً بمحـبّة الله الذى يحـبّ جميع البشـر بدون محـاباة الأشـخاص، ويُشـرق شـمسـه عـلى الأبرار والأشـرار. المحـبّة هى المحـرّك والدافـع بين الشـرّ، لا ” العـنف” ( هـيغـل ) أو ” الصـراع ” ( ماركس )، ولا ” إرادة القـوّة” ( نيتشـه )، لأنّ الله محـبّة وجميع البشـر عـلى صـورة الله ومـثاله، أبناء للآب، إخـوة وأصـدقاء للمسـيح، هـياكل للـروح. وقد عـبّر عـنها بصـورة عـصـريّة البابا بولس السـادس عـندما ناشـد الأمم المتّحـدة بالسـعى نحـو ” حضـارة المحـبّة” بين البشـر.

الخاتمة

فى نهـاية مطافـنا، بوسـعـنا أنْ نؤكّـد أنّ الإيمان المسـيحىّ لا يؤلّه الطـبيعـة ولا الإنسـان وإنّمـا يؤلّه الله وحـده، بل الله مشـركًا الإنسـان لا فى طـبيعـته الإلهـيّة فحسـب، بل فى عـمله أيضًا إشـراكًا وثـيقـًا:
{ أَثْمِرُوا وَاَكْثُرُوا وَاِمْلأُوا اَلأَرْضَ وَأَخْضِعُوهَا وَتَسَلَّطُوا… } [ تكوين 1: 28].

وفى هـذه النظـرة يصـبح يسـوع المسـيح نمـوذجًا وصـورة ومـثالاً لتعـاون الإنسـان مع الله:
{ أَبِي يَعْـمَلُ حَتَّى الآنَ وَأَنَا أَعْـمَلُ
لاَ يَقْدِرُ الابْنُ أَنْ يَعْـمَلَ مِنْ نَفْسِهِ شَيْئاً
إِلاَّ مَا يَنْظُرُ الآبَ يَعْـمَلُ.
لأَنْ مَهْمَا عَـمِلَ ذَاكَ فَهَذَا يَعْـمَلُهُ الاِبْنُ كَذَلِكَ.
لأَنَّ الآبَ يُحِبُّ الاِبْنَ وَيُرِيهِ جَمِيعَ مَا هُوَ يَعْـمَلُهُ… } [ يوحنا 5: 17 ـ 20].

وفى هـذه الجـدليّة الله / الإنسـان، يظهـر الله فى عـظمته وتواضـعـه معًـا، فى ” رفعـه” و” إفـراغـه” [ فيليبى 2: 6 ـ 11] معـًا، فى لاهـوته وناسـوته معـًا. وأمّـا الإنسـان فـفى نهائيّته ولا نهائيّته معـًا، فى طاعـه لله وحـرّيّته معـًا، فى آدميّته وبـنوّته الإلهـيّة معـًا. وإنّ الله والإنسـان أصـبحا واحـدًا فى يسـوع المسـيح، فمـنذ الصـعـود يصـبح كلّ ما يتعـلّق بالإنسـان يمسّ الله، وكلّ ما هـو إنسـانىّ إلهـيًا، لأنّ شـخص المسـيح الممجّـد أصـبح بعـد قـيامـته يمـثـّل البشـريّة ويدمجهـا ويجمعـها فى شـخصه [ فيليبى 1: 10]، وأصـبحـت الإنسـانيّة بشـموليّتها محـتجَـبة فى الله مع يسـوع [ كولوسى 3:3 ]. وهـذا هـو المعـنى / الاتّجـاه المطـلق للإنسـان ولعـمله ولتاريخه ولحـريّته.

وهـذه النظـرة هى نظـرة الإيمان والرجاء والمحـبّة. فالإيمان يتحـوّل إلى رجاء فى أنْ تتحقـّق هـذه الجـدليّة الله / الإنسـان، تحقـيقـًا منبعـه ومحـرّكه وغـايته المحـبّة.

خاتمة الوحدة الثانية

لقـد رأينا الإيمان مرتبطـًا ارتباطـًا وثـيقـًا بالمؤمنين، بحـياتهم وأبعـادهم الزمنيّة والشـخصيّة. إلاّ أنّه يتجاوز كلّ ذلك، فمـرجع الإيمان يظـلّ الإيمان المبنىّ أسـاسـًا عـلى نعـمة الله الممنوحـة من خـلال الكنيسـة، فيتجـاوب معها المؤمنون بجميع أبعادهم الزمنيّة والشـخصيّة. والله يتجاوز جميع كلماتهم وتعـابيرهم وتصوّراتهم العـقليّة، وجميع اخـتباراتهم الوجـدانيّة، وجميع أفعـالهم الإراديّة الحـرّة. فـفى الإيمان دور وظـلام العـقل، عـلاقة ومسـافة للوجـدان، تطـابق وتباين فى الإرادة. وإنْ كان الوجـدان يوجّه العـقل للرضى بالله، ويدفـع الإرادة إلى إكـرام الله، إلاّ أنّ الإيمان قـد يُعـجـزه سـند الوجـدان أو العـقل أو الإرادة، ومع ذلك يظلّ إيمانًـا بالله، عُـمدته الله، أصـله ومرجعـه وغـايته الله.

وبوسـعـنا الآن، وقـد حـدّدنا معـنى الإيمان، أنْ نتحـرّى عـن تعـابير الإيمان المخـتلفة. فالإيمان واحـد، ولكن المؤمنين يُعـبّرون عـنه بطـرق متعـدّدة سـندرسـها فى الوحـدة الثالثة.
علاقة الانفرادية بين البشر
علاقة سيد و عبد
2- الحرية بين الانسان و اخيه الانسان
الانسان مزيج من الخضوع/ الاستقلال، من الطاعة/ الحرية
الانسان سيد نفسه

1- بين حرية الانسان و اتمامه مشيئة الله