تأملات في شخصية المسيح -14- المسيح والهيكل مقال جديد لنيافة الانبا يوحنا قلته

تأملات في شخصية المسيح -14- المسيح والهيكل مقال جديد لنيافة الانبا يوحنا قلته

بتصريح خاص من نيافة الانبا يوحنا قلته – ننشر المقال 14 في سلسلة تاملاته في شخصية المسيح عنوان المقال “المسيح والهيكل” ونشكر نيافته على تصريحه الخاص للموقع بنشر مقاله .

1- لنقرأ هذا النص من إنجيل متى ( 21 : 12 – 13 ) : “ودخل يسوع هيكل الله ، وأخرج جميع الذين يبيعون ويشترون في الهيكل وقلب موائد الصيارفة وكراسي باعة الحمام ، وقال لهم مكتوب بيتي بيت صلاة يدعى وأنتم جعلتموه مغارة لصوص ..”
* * * * *
ظاهرة منتشرة في أنحاء العالم كافة وهي التفاف الباعة والتجار والأسواق ، حول الكنائس والمعابد وأمكنة العبادة ، أضف إلى ذلك أنتشار المتسولين وربما بعض اللصوص ، أنها صورة حية لاتزال حتى عصرنا ، صورة التدين من جهة واستغلال التجمعات الراغبة في الصلاة حول هذه الأماكن المقدسة ، فهل من علاقة بين الدين وبين المال ؟ بل لست مسرفاً إذا قلت أن الأمر قد اختلط عند الشعوب وأضحى الدين تجارة ، وأضحت التجارة بعضاً من طقوس الأديان فهذا يبيع التراب المقدس كما في القدس ، وذاك يبيع السبح والأيقونات والصور ، وآخر يتاجر بالكتب الدينية ، أو المياه المباركة ، فإن كان الإنسان كياناً يضم الإيمان بالمطلق والقيم الروحية فأنه لا غنى عن حياة المادة والتجارة وربح المال ، ذلك كله في آن واحد ، فلا عجب أن تتحول الساحات حول اماكن العبادة إلى أسواق .
* * * * *
2 – دخل المسيح – الهيكل – تخطى عتبات الساحة إلى قلب هيكل أورشليم ، الهيكل المقدس الذي تجلى فيه نور الخالق لسليمان الحكيم ( 3 سفر الملوك 3 : 5 ، 9 : 2 ) والذي يجسد رمزاً إلهياً وجغرافية مقدسة ، وبقعة خاصة هي ملك لله هيكل بناه سليمان الحكيم ، “حيث كان الملوك أنفسهم يعظمون المقدس ويكرمون الهيكل بأفخر التقادم ( سفر المكابيين الثاني 3 : 2 ، ولك أن تقرأ من العهد القديم سفر الملوك الثالث من الفصل السادس إلى العاشر) لتدرك عظمة هذا الهيكل وحكاية بنائه ولعل سليمان أراد أن يحاكي عظمة الفراعنة في بناء معابدهم وهو الذي تزوج من أبنه فرعون ، وهذه العقدة لا تزال كامنة في تاريخ إسرائيل ، أن مصر العظيمة هي أم الفن والحضارة والعبادة ولا غنى لإسرائيل عن علاقة مسالمة مع مصر .
في الهيكل أصيب المسيح بما يشبه الصدمة ، لم نقرأ عنه أنه غضب بمثل هذه الحدة ، ولا كان قاسياً امسك بكرباج “سوط” ليطرد الناس المتاجرين في قلب الهيكل ، فما الذي دفع المسيح إلى هذه الشدة والغضب ؟ أمر واحد هو أن تخلط المقدس بالدنس والنجاسة ، أن تخلط الدين بالتجارة والربح والخسارة ، فتلبس الوثنية روح الحق ، ويغيب نور الله في غياهب وظلام عبادة المال والمتعة ، أنها الفوضى الأخلاقية التي يتقنها الأشرار والفاسدون وتجار الدين ، يتخذون من الله كذباً مرجعاً لأعمالهم متبجحين بالقول أنهم يدافعون عن حقوق الله ، ويجعلون من أماكن العبادة أوكاراً لفكر فاسد أو أعمال مشينة ، أو يرتكبون المعاصي ويدعون التقوى والورع ، أو قل ببساطة شهد المسيح الهيكل حيث تجلى نور الله وقد تحول إلى معبد اصنام ، شهد البشر حين يدوسون بأقدامهم الوصايا العشر في معقل ومحراب الصلاة ، وبدلاً من أن يعبد الله في الهيكل يعبد المال ، وبدلاً من لا تسرق ، لا تزن ، لا تشهد بالزور ، تصبح تلك الأمور شائعة بلا حرج وفي قلب الهيكل .
* * * * *
أزعم أن هذا المشهد يذكرنا بمشهد آدم وحواء وقد حمل الملاك سيفه ليطردهما من الجنة بعد أن كسرا شريعة خالقهما وراعيهما ، ويذكرنا بيوم الطوفان حين تدفقت المياه غضباً لأن البشر تركوا شريعة الطاعة لله والمحبة للإنسان والنقاء في الضمير وحولوا الأرض إلى غابة وحوش ، إن أماكن العبادة من المعابد ليست مبان من حجر ، وليست صوراً مذهبة ، وليست شموعاً وبخوراً ، وليست كلمات جوفاء تنشد وصلوات تردد ، إن المعابد أجساد تحمل روح الله الأعظم ، فيها أنفاس القدوس الأبدي ، تطوف بها أرواح الشهداء والقديسين والزهاد ، أنها ساحات ملك خاص بالله العظيم كما سماها المسيح بيتي بيت صلاة .
* * * * *
3 – أتأمل مشهد الهيكل وقد ظل المسيح فيه برهة من الزمن بعد أن أخلاه من الباعة ، أتأمله صامتاً حزيناً وهو كلمة الله القدوس يدرك أن خلط الدين بالمال ، بالتجارة ، بالسياسة ، بالشهوات داء ابتليت به البشرية ، تورثه من جيل إلى جيل ، ويظل الصراع محتدماً في أعماق كل إنسان ، في عقل المجتمعات ، في كثير من انحاء الدنيا ، صراع بين المقدس وبين الدنس ، بين الحق والنور والحب وبين الباطل والظلمة والأنانية ، إن المسيح كما افرغ الهيكل من الباعة والجهلة والدجالين والمرائين أراد أن يفرغ قلب المؤمن من كل عبادة وثنية وعبودية للمال أو للمنصب أو للشهوة ، فكما أن الهيكل بيت وعرش الله ، فقلب الإنسان أيضاً بيته وعرشه ، أزعم أن المسيح أراد أن يعلمنا أن أعظم المعابد وأجمل الهياكل وأسمى العبادات ، قلب طاهر ، وجسد نقي ، وضمير متوهج بالنور كما قال للمرأة السامرية ، العبادة الحقيقية لا في جبل السامرة ولا في هيكل أورشليم ولكنها قبل ذلك هي عبادة الآب بالروح والحق .
د. الأنبا يوحنا قلته