تأمل في شخصية المسيح – 8 – مقال لنيافة الانبا يوحنا قلته

تأمل في شخصية المسيح – 8 – مقال لنيافة الانبا يوحنا قلته

بتصريح خاص من نيافة الانبا يوحنا قلته للموقع وقد تم نشر هذا المقال بجريدة الميساجى بتاريخ الاحد 15 نوفمبر

المنشور بجريدة ليمساجي الأحد 15 نوفمبر 2015

1 – لم تكن صدفة أن يأتي المسيح وأمه مريم لحضور عرس أحد الأقرباء ذلك لأننا ندرك تماماً أن كلمة “صدفة” أو حظ ، ليس لها حقيقة في الفلسفة أو العلوم أو الحياة الروحية ، لا على الأرض ولا في الفضاء ، بل تمضي الأمور وفق سنن قد لا نعرفها ، قال بعض المؤرخين أن العرس كان حفل زواج الرسول أندراوس وربما كانت العروس تمتد إلى نسب مريم العذراء أو يوسف النجار فحضور يسوع وأمه ( يوحنا 2 ) ومشاركتهما فرحة العائلة تدل على ارتباط بين العائلتين ، وتعرف الأعراس في الشرق بأمرين لا يخلو عرس منهما ، شرب الخمر من جهة والرقص والطبل من جهة أخرى ، ولازال الشرق في كل حوض البحر المتوسط يعرف ويمارس هذه الطقوس .
* * * * *
2 – تأمل المشهد برؤية إنسانية وتاريخية ، عرس شرقي فيه ضجة وصخب ورقص وشرب خمر ، صورة حية من حياة المجتمع الإنساني في كل زمان وكل مكان ، وتأمل في وجود المسيح وأمه مريم ، وأرجع إلى مشهد الخلق عندما شهد الخالق على العرس الأول بين آدم وحواء ، ألا تلمس هذا الخيط الإلهي الذي يربط “سر الزواج” ويعطي له صبغة مقدسة ، رجل وامرأة يبارك الله زواجهما في الفردوس وعريس وعروس يبارك المسيح بوجوده هذا الارتباط ، في البدء خلقنا جميعاً من رجل واحد امرأة واحدة ، فما الذي حدث للإنسان وقد استبدت به شهواته ، وأذلته نزواته ، فأطلق العنان للعلاقة بين الرجل والمرأة فكان لموسى امرأتان ، ولإبراهيم امرأتان ، ثم اندفعت البشرية ليكون لسليمان الحكين مئات النساء ، وانتشرت سوق الجواري حتى أن هولاكو عندما دخل بغداد منتصراً وجد في قصر الخليفة كما ذكر المؤرخون العرب أربعة آلاف من الجواري ، وقال القائد المنتصر لخصمه المهزوم لو كنت بذلت أموالك على إعداد جيشك بدلاً من امتلاك الجواري لما انتصرت عليك ، وتصل بنا حضارة العصر الذي نعيش فيه إلى انفلات كامل حتى سمعنا عن الزواج الحر بلا أية طقوس أو عقود أو التزامات وذكرت المجلة الكاثوليكية “الحياة Lavie” أن 75% من الزواج الأوروبي يتم دون تسجيل في الكنيسة أو الدولة ، ناهيك عن الانفلات في الطلاق دون إحساس بذنب ، وليذهب الأطفال ، وقيمة الرجل أو المرأة إلى الجحيم ، بل سمعنا عن زواج الرجل بالرجل والمرأة بالمرأة ، كما تتردد أصداء التحدي للكنيسة وقوانينها بل وللمسيحية وأخلاقها ، فحضور الخالق في العرس الأول ، وحضور المسيح الله – الكلمة – في عرس قانا الجليل هو أقوى دليل على أن العلاقة الزوجية إنما هي ثمرة لمحبة الله للإنسان ، ورمز للسمة المقدسة الدينية التي لا يصبح بدونها الزواج صحيحاً سليماً ، لذلك رفع المسيح “الزواج” إلى درجة سامية إلى قدسية الأسرار ، كسر القربان ، والاعتراف ، وليس مجرد علاقة جسدية بين رجل وامرأة ، إن الزواج إبداع إلهي ، لا يقل سمواً على خلق السماء والأرض ، فما بال الإنسان قد نزل به إلى مجرد شهوة وعبادة للأنانية .
* * * * *
3 – تواجد المسيح وسط الزغاريد والرقص والخمر لا يعني أنه يوافق على كل التقاليد والأعراف وإنما هو الله المحبة يحترم الإنسان ولم يأت ليعلنها ثورة أو يشعل فتنة بين الناس ، فالله الخالق يشرق شمسه على الأخيار والأشرار ، طويل البال ، صبور على الملحدين والأثمة والقتلة ، خلق للإنسان إرادة وأعطاه حرية ، وهو تبارك لا يخون قوانينه أو يغير شرائعه ، وعبارته لأمه مريم “مالي ولك يا امرأة” ليس فيها انقاص من كرامة أمه والدليل أنه حقق لها ما أرادته ، بل عبارته تشرح لنا ولكل متأمل أن المسيح له ملء اللاهوت ، فلا ينبغي أن نخلط بين رؤيته الإلهية وهو إنسان كامل ولإنسانيته رؤيتها وحدودها أنه بهذه العبارة أوضح حريته الإلهية المطلقة وأن إنسانيته لا تجرح لاهوته ولا تؤثر في شرائعها ، وستبقى العذراء مريم بعد حدث عرس قانا الجليل رمز الشفاعة العظيمة لمن يلجأ إليها لا عن سلطان وإنما عن حب لا يدركه أحد بينها وبين الحبيب ، ويظلم المسيحية ظلماً بيناً من قال أن المسيحية تحتقر الجسد وتنظر إلى الجنس نظرتها إلى أمر نجس ، فالمسيحية تقدس الكون كله كما تقدس الجسد ، أنه هيكل أقامه الخالق وأبدعه مكاناً تسكن فيه الروح ويقوم يوم الدينونة مع قيامة الأموات ، ليس فيه جزء نجس أو عضو نجس ، بل الجسد سيمفونية إلهية يعزف بها الله ليتصل الخلق ويستمر الجنس البشري ، إنما النجاسة في الضمير والإرادة ، يقول المسيح من نظر إلى امرأة واشتهاها فقد زنى ، لم يقل المسيح أن المرأة عورة ، تنجس من ينظر إليها بل قال أن النجاسة تنطلق من “الإرادة” والشهوة والخضوع للنزوة ، ليس في المسيحية مادة نجسة ، أو طعام نجس ، ليس في الكون كله شيء نجس هذا ميراث ثقافات العصور المظلمة والشعوب المتخلفة ، جسد الإنسان رجلاً كان أو امرأة هو لحن إلهي ، أنشودة سمائية ، وعرس قانا ووجود المسيح أعاد إلى العرس الأول بين آدم وحواء معناه الحقيقي ، فالله موجود في كل حدث وكل مكان ، أما مبادئ العالم المعاصر وتمرده على المسيحية وأخلاقها فلن يغير من عظمة المسيح وقدسية شرائعه ، إن نجوم السماء تتوهج منذ بداية الخلق ، لم تطفئها الزلازل والبراكين والعواصف ، والمسيحية هي الإيمان الحق ستظل متوهجة لتنير للبشرية طريقها .
د. الأنبا يوحنا قلته