تاريخ الكنيسة المصرية – الجزء الثالث

ثالثاً: لم يكن بوسع المسيحي أن يكون قاضياً أو حاكماً إذ تتطلب هذه الوظائف قرارات بالإعدام.
رابعاً: يسير المسيحيون في سلوكهم بروح الإنجيل المضاد للعالم: فهم يزدرون الغنى والمجد وينكرون إنكاراً شديداً ألعاب الملاهي الدموية ويؤثمون كل علاقة جنسية خارج الزواج بزوجة واحدة، زواجاً لا يقبل الانحلال، ويستفظعون ما كان يرتضيه لمجتمع القديم ويحبذه من مضاجعة الذكور. وكانت المسيحية بخلاف ذلك تعظم الفقر والحلم وروح السلام والعدل والتواضع والعفاف.
فكان لابد من اعتلان الاختلاف بين المسيحية وبين المجتمع الذي أخذت تنتشر فيه. وكان هذا الاختلاف يتغلغل في داخل الأسر. فمن كان يهتدي إلى المسيحية كان يتعرض لمقاطعة أهله جميعاً لأنه لا يشاركهم في عباداتهم الوثنية. فلا تلبث الأسرة أن تتهمه بالكفر فترتفع الشكوى ضد المسيحيين وتشيع القصص الكاذبة عنهم وعن اجتماعاتهم وآدابهم.
بدء الاضطهادات

بدأت الاضطادات ضد الكنيسة منذ القرن الأول. وأهم هذه الاضطهادات هو اضطهاد نيرون سنة 64م الذي استشهد فيه الرسولان العظيمان بطرس وبولس. إلا أن مصر سلمت نوعاً ما في هذه الفترة من الاضطهاد، مما جعل الكنيسة المصرية تمتد وتنتشر إلى الأقاليم جنوباً وغرباً. ولكن سرعان ما تغيّر الحال في القرن الثالث.
ففي سنة 202 جلس على عرش روما الإمبراطور سبتيم سيفير. الذي تخوّف من انتشار المسيحية في إمبراطوريته وأراد وقف انتشارها . فحرّم التنصّر وأمر بالقبض على المهتدين إلى المسيحية والهادين لهم. وكان لهذا الاضطهاد وقع خاص على كنيسة مصر ولا سيما على مدرسة الإسكندرية التي كانت تقوم بتعليم الموعوظين وتجذب الكثيرين إلى المسيحية، فأغفلت أبوابها بعض الوقت وهرب مديرها إكليمنضس واستشهد الكثير من الموعوظين. وأهم ضحايا هذا الاضطهاد لاوينداس والد أوريجانس والعذراء بوتاميانا التي طرحوها وأمها في الزيت المشتعل.
وسكنت العاصفة بموت سبتيم سيفير سنة 212، وعاشت الكنيسة نحو أربعين سنة في سلام. وقد بدأت الإمبراطورية الرومانية تتبع سبيل المصالحة مع المسيحية في عهد فيليب العربي 244 فالإمبراطور الجديد كان فلسطيني الأصل، وكانت بينه وبين أوريجانس معلم المدرسة الإسكندرية الشهير مراسلات متواصلة. وزعم القديس إيرونيموس أن فيليب العربي كان أول إمبراطور مسيحي ولو أنه لم يعلن ذلك جهراً.
الاضطهادات الكبرى

بعد فترة من السلام للكنيسة دامت أربعين سنة تقريباً تولى العرش الإمبراطور داقيوس سنة 250. وهو سليل أسرة عريقة تقيم على ضفاف نهر الدانوب، راعه ما رآه من انحلال الإمبراطورية فعزم أن يجدد نظمها الوثنية ويوحّد سكان إمبراطوريته الشاسعة الأطراف حول العبادة الإلهية لروما وللإمبراطور. وذلك بقرار إمبراطوري يطبق على الجميع تحت طائلة أقسى العقوبات بالتعذيب والنفي أو الإعدام للمتمردين. فألحق ذلك بالمسيحية كلها ولا سيما في مصر ضروباً من الإرهاب والإكراه لم يسبق لها مثيل “فكان الجنود في الإسكندرية يقطعون رؤوس النساء على مشهد من الجموع، إشباعاً للغرائز ويدفعون البنات المسيحيات إلى أقبح صنوف الهوان والعار، ومن لا يُلقي من المسيحيين إلى الوحوش كان يُحرق حياً في مواقد مستمرة. ومن لم يُحكم عليهم بالموت، يُوثقون بالقيود، اثنين اثنين، ويُرسلون جموعاً كبيرة، كالمواشي إلى المناجم والمحاجر، مع اللصوص والمجرمين، يعيشون تحت الأرض حتى الموت عيشة احتضار مستمر”(1).
وقد استشهد الألوف من المسيحيين بكل بسالة. ولكن أمام هذه العذابات المريعة ضعف البعض لا سيما ذوو المراكز العالية حتى من بين رجال الإكليروس. فكان المرتدون على أنواع منهم الجاحدون الذين قدموا البخور للأوثان ومنهم المتظاهرون الذين قدموا البخور ولكنهم ظلوا متمسكين بالإيمان في قلوبهم ومنهم من حصل على شهادة بتقديم البخور بينما لم يفعلوا وذلك بدفع ثمن معين.
ولكن سرعان ما جمعت الكنيسة في المحنة صفوفها وعرفت كيف تبث روح المسيح في قلوب مؤمنيها، وما أن مرت عدة سنوات حتى احتاج الإمبراطور فاليريان إلى المال فأشار عليه مكربان مستشاره أن يستولي على أموال المسيحيين فأمر باضطهاد أشر من اضطهاد داقيوس، فكان رد فعل المسيحي من النبل والشهامة بحيث تهيبه الشعب الوثني، وبرهن الأساقفة والكهنة والشمامسة ووجهاء المسيحيين وعامة المؤمنين، برهنوا عن بطولة فائقة في تحمسهم وتسابقهم إلى الاستشهاد.
ومن أشهر ضحايا هذا الاضطهاد قبريانوس أسقف قرطاج وديونيسيوس بابا الإسكندرية الذس تحمل عذاب المنفى في ليبيا. ونال فاليريان جزاء جرائمه إذ انهزم هزيمة نكراء ووقع في يد الفرس الذين استعبدوه وأذلوه.
وبعد انتهاء هذا الاضطهاد سنة 259 بموت هذا الامبراطور الطاغي ثارت في الكنيسة مشكلة قبول التائبين الراغبين في الرجوع إلى الكنيسة.. وكان هناك موقف متشدد من مبلسيوس أسقف أسيوط يمنع قبولهم وموقف أكثر اعتدالاً ورحمة يتزعمه كرفليوس أسقف روما وديونيسيوس بابا الإسكندرية.
الصراع الأخير
اضطهاد ديوقلديانوس وغلاريوس من 303-313
لم تظهر على ديوقلديانوس في العشرين سنة الأولى من حكمه أي نزعة دموية بل كان مسالماً وكان عدد المسيحيين يتزايد بين جميع الطبقات حتى في القصر الإمبراطوري نفسه، إذ كانت زوجته بريسكا وابنته فاليريا في عداد الموعوظين. ولكنه انقلب فجأة ضد المسيحيين لأسباب غير واضحة تاريخياً ويُرجح أن ذلك تم تحت تأثير معاونه غلاريوس الذي كان وثنياً متعصباً وحانقاً ضد الجنود المسيحيين لرفضهم تقديم الذبائح للآلهة. وسعى بدهاء عند مولاه للحصول على أمر يقضي بمنع الاجتماعات المسيحية، وهدم الكنائس، وحرق الكتب المقدسة، وإلزام جميع المسيحيين الموظفين في المصالح العمومية بجحد إيمانهم.
ثم ألصق بالمسيحيين تهمة حرق قصر الإمبراطور. فجُن جنون ديوقلديانوس وأصدر ثلاثة أوامر أخر تُجبر مسيحيي الإمبراطورية بتقديم الذبائح للآلهة الوثنية وبالنفي أو الإعدام للمتمردين على هذه القوانين. وبدأ اضطهاد لم يكن له مثيل واستشهد فيه ألوف ألوف من المسيحيين في أهوال فظيعة يرويها لنا بالتفصيل يوسابيوس القيصري في كتابه “التاريخ الكنسي- الكتاب الثامن الفصل التاسع”.
استمر التعذيب والقتل يوماً بعد يوم، وشهراً بعد شهر، سنة بعد سنة، وكان يستشهد في اليوم الواحد خمسون وثمانون ومائة، حتى كان الجلادون أنفسهم يسأمون ويسقطون إعياءً. وكان الهمجيون من القتلة يرمون النساء والأطفال في السجون بعد جرهم على الأرض في الشوارع إلى أن تجرح أجسامهم وتسيل منها الدماء، فتروي التربة المصرية وتضيف إلى خصبها نعمة.
وعلى الرغم من القسوة والوحشية، وعلى الرغم من أن الوثنيين أنفسهم كان يعتريهم الهلع والاشمئزاز من بطش حكامهم، فإن المصري المسيحي اندفع بشجاعة عجيبة وجرأة نادرة إلى حيث تنتظره الأهوال في رضى وحبور. وكان المحكوم عليهم يسيرون وسط أناشيد التسبيح والتهليل كما لو كانوا ذاهبين إلى عُرس) 2 (.
وظهر في تاريخ الكنيسة لأول مرة أن عذارى مسيحيات آثرن الموت للتخلص مما كانت السلطات تريد أن تسومهن من عار. واستمر ها الاضطهاد عشر سنين تحت حكم ديوقلديانوس ومعاونه ثم خلفه غلاريوس إلى سنة 313 بصدور قرار قسطنطين الذي منح الحرية لجميع الأديان. وإذا كان هذا الاضطهاد قد عمّ كل الإمبراطرية الرومانية إلا أنه أظهر بطشه بالأكثر في الشرق ولا سيما في مصر حيث كان أشهر ضحية هو القديس بطرس بابا الإسكندرية الذي يُلقب بخاتم الشهداء. ولا نستطيع أن نحدد عدد الشهداء الذين سفكوا دماءهم من أجل المسيح إلا أنهم يعدون بالآلاف- وكانت دماؤهم- كما يقول ترتليانوس بذاراً للمسيحيين.
ولم ينس أقباط مصر هذا الاضطهاد الشنيع. وحتى يظل دائماً في الذاكرة ويذكرهم ببسالة أجدادهم الشهداء أسسوا لهم تقويماً خاصاً يبدأ من سنة 284 عام اعتلاء ديوقلديانوس العرش الروماني وسموه تقويم الشهداء.
ومن هذا الزمان بدأ تكريم الشهداء وجمع رفاتهم ووضعها في الأماكن المقدسة والاستشفاع بهم.
وهكذا انتصرت الضحايا على جلاديها وقاومت الكنيسة جبروت الدولة الرومانية الباغية بقوة إيمانها بالرب يسوع الذي غلب الموت بموته وقيامته ووعد كنيسته بأن “أبواب الجحيم لن تقوى عليها” (مت 18:16).

للمقال بقية: أنظر الجزء الرابع
القمص/ إسكندر وديع

الجزء الأول – الجزء الثاني – الجزء الثالث – الجزء الرابع

(1) يوسابيوس القيصري، التاريخ الكنسي، 41:6.
(2) إيريس المصري، قصة الكنيسة القبطية، الجزء الأول، صـ121.