تامل في شخصية المسيح (2) مقال للانبا يوحنا قلته

بتصريح خاص من نيافة الانبا يوحنا قلته المعاون البطريركي  للموقع

أمر يثير الانتباه والتأمل وهو إنجيل يوحنا الذي لم يذكر شيئاً عن ميلاد المسيح ، لا تبشير الملاك لمريم العذراء ، أو ميلاده في بيت لحم ، أو هروبه إلى مصر ، فلماذا تعمد الوحي عند يوحنا ألا يذكر الميلاد المعجز ؟ ذلك لأن الوحي عند يوحنا اكتفى بما ذكرته الأناجيل من قبله وقد كتب إنجيله في أواخر عمره ، وكان في النفي في جزيرة بطمس ، وقبل بل في أفسس في أواخر القرن الأول للميلاد ، كما لا يذكر أسم مريم العذراء بل يسميها دوماً أم يسوع ، لقد رأي المفسرون أن يوحنا الإنجيلي ، التلميذ الحبيب للرب يسوع عبر مرحلة الميلاد البشري للمسيح مكتفياً بما كتب قبله ، وحاول اختراق علم اللاهوت مباشرة بالكلام عن الميلاد الإلهي في الذات الإلهية منذ الأبد ، وأوجز ذلك في أجمل عبارات سامية لقد حلق هذا الرسول كاتب الوحي في أعالي السماء وكتب عن سر لاهوت المسيح بأبسط العبارات ليرد على كل البدع والهرطقات التي نشأت في بداية المسيحية ومنها بدعة تسمى الدوكيتيون ومعها الاغنستيون وأصحابها يقولون أن جسد المسيح لم يكن جسداً حقيقياً مادياً ، وبدعة الكيرنتيون التي ينكر أصحابها لاهوت المسيح ، وبدعة الأبيونيين التي تقول أن المسيح لم يوجد إلا بعد ولادته من العذراء ، كما أصر تلاميذ المعمدان تفضيل معلمهم على المسيح ، لذلك أنبرى الرسول يوحنا الإنجيلي للرد على هذه الترهات ، وأخترق تحت إلهام روح القدوس عالم اللاهوت وخاطب أهل عصره وفلاسفته كما خاطب سائر البدع التي تطلع علينا بين الحين والحين ، تأمل معي فاتحة إنجيل يوحنا وما حملت من أعظم المعاني والحقائق الإلهية يقول : “في البدء كان الكلمة ، والكلمة كان عند الله وكان الكلمة الله” شرح لنا بهذه الكلمات النورانية أن الله والمسيح واحد في الطبيعة والذات والجوهر والقدرة والحكمة ، وبرغم هذه الوحدة الإلهية يقول : “الكلمة كان عند الله” أي أن الكلمة منبثقة أو مولودة في الله ومنه ، فمصدر الكلمة نسميه الآب والكلمة المولودة من الله نسميها الأبن والروح القدس هو روح الآب والأبن ، ونتساءل كيف تجاسر يوحنا الإنجيلي تحت نور الوحي أن يكشف سر الله الواحد ، الأحد وهو ثالوث في ذاته وقداسته ، وأبديته ، بلا شرك ، أو تعدد ، أو انقسام ، هذه هي عظمة الإيمان المسيحي ، التي ولدت مع تجلي الكلمة الإلهي ، أخلى ذاته أمام حواسنا وصار في طبيعتنا إنساناً حقيقياً سوياً ذلك كله ليضم المؤمنين به إلى وحدة الثالوث في مجده ويجمعهم في محبة الله ومجده اللامتناهي ، فالثالوث ليس بمعنى ثلاثة آلهة حاشا لله ، واستغفر الله ، وإنما الثالوث هو شرح لوحدانية الله ، تقدم للإنسان بعض عناصر الإيمان التي بها يستحق أن يكون في موكب القدوس.
* * * * *
2 – قل يا من تقرأ كلماتي ، إن لم يكن المسيح – كلمة الله – الذي تجسد بشراً سوياً ، المنبثق من الله ، أو المولود ولادة روحية في الذات الإلهي ، إن لم يكن هو ملء اللاهوت وملء الناسوت فماذا عساه أن يكون ؟! نبياً من الأنبياء ، وهو الذي برئ من خطايا الأنبياء فمنهم من قتل أو زنا أو بنى معابد وثنية ، أو علم الناس الكراهية والعنف ، هل يكون فيلسوفاً وما قيمة حكمة الفراعنة ، وفلسفة اليونان ، وقوانين الرومان وقبلهم شريعة حمورابي ، ما قيمة هذا كله أمام قيمة عظة الجبل ، وإنجيل يوحنا ، هل يكون قائداً انتصر على أعدائه ، أباد مدناً وشعوباً وزرع الخوف في قلوب الشعوب وألقى بذور العداء في الكرة الأرضية ؟ لم يغنم لنفسه شيئاً ، لم يسعَ إلى عرش ، ولم يحكم على خاطئ ، بل عاش كما قال ليس له حجر يسند عليه رأسه ، وكان يجول يصنع الخير ، يحول النفوس المتألمة والمحطمة بالأثم إلى قديسين ، يأخذ بيد الضعفاء ، ثم يقف شامخاً نبيلاً ، سامياً أمام رؤساء الكهنة وحكام الأرض ، يصلب ويموت ويدفن في قبر كأي إنسان ، ثم يقوم من الموت ليلتقي برسله ويضع بذور حضارة المحبة ، وبرغم الاضطهاد ، والبدع ، والحروب ، لازال حتى اليوم هو المسيح ، نور العالم ، قل معي : أيها المسيح أبسط نورك على ظلام الدنيا ، أنثر نعمتك في كل مكان ، تجلى لنا في معجزاتك الصامتة فالعالم بين يديك أيها المسيح يا كلمة الله .
د. الأنبا يوحنا قلته