تراث في حوارٍ مع الإسلام

تراث في حوارٍ مع الإسلام

بقلم: الأب سمير خليل اليسوعي

مؤسس ومدير مركز التراث العربي المسيحي في لبنان
إعداد وتنسيق الأب انطونيوس مقار إبراهيم

خصائص التراث العربي المسيحي الجزء الخامس

المقدّمة
من أبرز خصائص الفكر العربيّ المسيحيّ أنّه وُضِعَ وتبَلوَر وتكوَّن في بيئةٍ إسلاميّة.
أ‌- فكرٌ مسيحيّ تكونّ في بيئة غير مسيحيّة
ولم يشهد تاريخ العصور الوسطى بفكرٍ مسيحي آخر نشأ في بيئةٍ غير مسيحية. فالمفكّر المسيحيّ العربيّ، عندما يؤلَّف كتاباً لاهوتياً، لا ينسى لحظةً واحدةً أنّه يعيش في بيئةٍ إسلامية تُطالبه بتوضيح مفاهيم المسيحيّة بطريقة مقبولة مفهومة لديها. فضلاً عن أنّ المسلمين كانوا يُطالبون دوماً المسيحييّن بتبرير إيمانهم، لاسيَّما إذا كانت هناك صداقة بين الطَرفين، كما حدث في العصّر العبّاسيّ، عندما كان للمسيحيين دورٌ حضاريّ هامّ ذوشأن .
أهّميّة العقل في اللاهوت العربي
لذلك اضطرّ المفكّرُ المسيحيّ إلى عرض إيمانه للمسلم معتمداً أساساً على العقل، وعلى منطق أرسطو وفلسفته ؛ لأنّ هذه هي العوامل المشتركة بينهما.
وقد يعتمد القرآن الكريم، على الأخبار والأحاديث، وهي أقرب إلى قلب المسلم وشعوره من أيّ دليل منطقي. وهذا ما فعله مثلاً إيليّا النصيبيّ، في حواره مع الوزير أبي القاسم بن عليّذ المغربيّ سنة 1026م. أمّا ” النقل” ( أي الكتاب المقدّس وأقوال الآباء)، فلم يأتِ إلاّ تأييداً لمّا سبق.
أمّا إذا تصفَّحتَ كتبَ اللاهوت الغربيّة، فإنك تجدها تعتمد عادةً على الأصول المسيحيّة ( من الكتاب المقدس وأقوال الآباء )، ثم تُضيف أحياناً أدّلةً عقليّة .
فالمنهج العربيّ المسيحيّ عكس منهج لاهوتيّي الغرب، فهم إذ يعتمدون أساساً على العقل، ويؤّيدون ذلك للمسيحييّن بالنقل. وسنرى أهميّة هذا المنهج فوراً .
ثمّ إنّ البيئة التي عاش فيها المسيحيّون العرب ساعدتهم على هذا التفكير، وشجّعتهم على التعُّمق في إيمانهم. لأنّ المسيحييّن العرب كانوا ( ابتداءً من القرن العاشر) أقليّة في البلاد العربيّة. ويُقال إنّ عددهم في القرن العاشر لم يتجاوز عشرين في المئة، حسب تقدير بعض المستشرقين ( وإنّ لَفي هذا التقدير نظر !). وهو لايتجاوز اليوم عشرة في المئة. فاضطّروا إلى أن يستعملوا سلاحاً واحداً، في علاقاتهم مع المسلمين، هو ” سلاح ” الفكر.
وكانوا أئمّةَ الفكر في العصر العبّاسي الأول. لأنهم تثقّفوا بالثقافة اليونانية والسريانية والفارسية، كما رأينا، فضلاً عن ثقافتهم العربيّة. فكانت لهم آفاق لم تكن لغيرهم من المفكّرين، أو قُل لأغلبيّة المفكّرين الآخرين. فكانوا من ناحيةٍ أقليّةًّ عدداً، وهم من ناحيةٍ أخرى أئمّةَ الفكر ثقافةً .
ج- أهّميّة المؤلفات الدفاعية
إن مَن يتصفحّ الكتب اللاهوتيّة العربيّة القديمّة لابدّ له من أن يستعجب من كثرة المؤلّفات الدفاعيّة. وقد تكوّن ثُلثَ المؤلَّفات اللاهوتيّة كلهّا . منها المؤلَّفات الدفاعيّة بمعنى الكلمة، حيث يردّ المؤلَّف على مَن هاجمه من المسلمين أو اليهود، او على مَن أساء له واحتاجه منهم. ومنها ما هو عَرضٌ للعقيدة المسيحيّة بإسلوب مقبولٍ لدى المسلم.
وقد أثّرت البيئة الإسلاميّة على التعبيرات المسيحية، منها بطريقةٍ لا شعوريّة. إليك مثلاً بسيطاً على ذلك. عندما نرسم إشارة الصليب ( في الكنائس التقليديّة ) نقول عادةً ” باسم الآب والإبن والروح القدس، إلهٍ واحد آمين “. أمّا إذا رُسمت إشارة الصليب بأيّ لغةٍ أخرى، غرباً أو شرقا، فلا نقول ” إله واحد ” فاللغة العربيّة هى الوحيدة التي أضافت ” إله واحد” لماذا ؟. لأننّا نعيش في بيئة تشّك في توحيدنا، وربما تتّهمنا بالكفر والشرك. فنحن مطالبون إذاً بالشهادة عن التوحيد. علينا أن نتأكدّ، وأن نؤكّد لغيرنا، أننا موحّدون، وأنّ الثالوث لا يناقض التوحيد.
وهناك امثلة عديدة على طريقة فهم العقائد، من توحيد وتثليث، وتجسُّد، وصلب المسيح وقيامته، وغير ذلك من معتقدات إيماننا. وقد أوضحتُ هذه الأمثلة في محاضرة أخرى، فالرجاء الرجوع إليها (92). أمّا الآن، فأكتفي بإيراد بعض النصوص الدفاعية القديمة، توضيحاً لأبرز معاني النصرانيّة، أعني : صحّة النصرانيّة، والثالوث، والتأنسّ، والصلب. أمّا النصّ الأخير فيُبرز موقف المسيحيين من نبوّة محمّد .

2-صحّة النصرانية لأبي رائطة التكريتي
من هو أبو رائطة التكريتي
عاش أبو رائطة التكريتي في الربع الأخير من القرن الثامن والربع الأول من القرن التاسع، فهو إذاً معاصر تيموثاوس الجاثليق؛ قيل أن أبا رائطة كان أسقفاً على مدينة تكريت للسريان، ويبدو أن الزعم خاطئ وأن كان قد وصل الينا عن طريق مؤرخين كبار في المسيحية أمثال ميخائيل الكبير السرياني، ومؤتمن الدولة إبن العسال القبطي وأبي البركات بن كبر القبطي: كان أبو رائطة حبيب بن خدمة التكريتي فيلسوفاً أرسطوطالياً، كان علمانياً يعيش في مدينة تكريت في ما بين النهرين وقد التقى أبو رائطة بمجادل مسيحي شهير هو ثيودرس أبي قرّة أسقف حران للملكية، وجادله بل إنه تابع هذه المجادلة معه في الفرق بين السريان والملكية، في بلاد أرمينيا حيث دعاه الملك أشوط في مطلع القرن التاسع، اذ قد توفي أشوط سنة 826م . تابع هذه المجادلة مع أبي قرّة في أرمينيا، ولسبب نجهله سجن أبو رائطة بعد ذلك في العراق ثم نعلم أيضاً أنه إشترك بسينودس الكنيسة السريانية المغربية سينودس الذي إنعقد سنة 828 أيام البطريرك ديونيسيوس التلمحري . هذا تقريباً ما نعلمه عن حياة أبو رائطة التكريتي الفيلسوف المسيحي .
ماذا نعلم من أبي رائطة من تأليفه ؟
ترك لنا أبو رائطة، حبيب التكريتي، إحدى عشر مقالة صغيرة، خمس منها رداً على الاسلام ،ست منها رداً على المسيحيين الملكيين أي الروم فهو إذاً لاهوتي مجادل . أما المقالة التيسندرسها فهي اقصر وأوجز ما كتب على الإطلاق . إذ أنها لا تزيد عن عشرة اسطر، هذه المقالة على قصرها من أبدع ما كتب في تصحيح الديانه المسيحية أي في إعلان صحة المسيحية . لمن تتوجه هذه المقالة ؟ يقول أبو البركات ابن كبر المعروف بشمس الرئاسة يقول في الفصل الأول من موسوعته ( مصباح الظلمة في إيضاح الخدمة ) ” سأل بعض المعتزلة أبي رائطة حبيب ابن حديثة التكريتي اليعقوبي السرياني أسقف تكريت من كرسي ساروج أن يوضح له دين النصرانية من حيث يقبله العقل “. نلاحظ في هذه المقدمة أخطاء عديدة، فتكريت ليست تابعة لكرسي سروج ثم إن أبا رائطة لم يكن أسقفاً أو على الأقل يبدو أنه لم يكن أسقفاً . ثم أن إسم مؤلفنا عند أبي البركات أبي كبر هو إبن (حديثّة ) بينا في مخطوطات أخرى نرى إبن ( خدمة) والكلمتين نادرتين كعلم والكلمتان تشتبهان في الخط ( حديثة ) و ( خدمة ) . أما المعلومات الأخرى فهي مهمة، سأل بعض المعتزلة أن يوضح له دين النصرانية من حيث يقبله العقل فإذاً السائل معتزلي والهدف توضيح دين النصرانية والوسيلة من حيث يقبله العقل .
أما في رواية أخرى وصلت الينا في مخطوط فريد نسخ في مصر في القرن الخامس عشر في مخطوط محفوظ في مدينة حلب ملك مؤسسة جورج وماتيلد سالم مخطوط (سباط 1017 ) أتت المقدمة كالاتي : جواب أبي رائطة التكريتي اسقف نصيبين ليمامة المعتزلي عندما سأله عن الدليل على صحة النصرانية . هنا أيضاً أخطاء ومعلومات مفيدة، يقول الناسخ أن أبا رائطة أسقف لنصيبين وهذا من المستحيل إذ أنه سرياني ولم تكن نصيبين عاصمة لأسقفية سريانية ثم أنه يقول جواب أبي رائطة ليمامة المعتزلي ولم يصل الينا أي فيلسوف أو معتزلي إسمه يمامة، إنما هذه الملاحظة تؤيد ما قاله أبو البركات أبن كبر إذا قال : ” سأل بعض المعتزلة”، وفي الواقع يمامة ليس إلا تصحيف لثمامة وهو معتزلي مشهور ابو معن ثمامة ابن الاشرس النميري البصري الذي توفي سنة 828 . فمن هذه المقدمات الموجودة في المخطوطات يتضح لنا أن المقالة التي نحن في صدرها موجهة إلى معتزلي شهير تمامة البصري لنثبت في الربع الأول من القرن التاسع والهدف منها الدليل على صحة النصرانية من حيث يقلبه العقل .
كيف وصل الينا هذا النص ؟
وصل الينا نص أبي رائطة الكريتي من طرق عديدة، فأول من يذكره عبد الله بن الفضل الأنطاكي، وهو المترجم واللاهوتي الملكي الشهير بل إنه أشهر مترجم في الكنيسة الملكية في العصور الوسطى؛ إزدهر حوالي سنة 1050 فقد ذكره عبد الله بن الفضل الإنطاكي في كتاب ( المنفعة ) واستشهد بهذه المقالة . ثم ذكره القبطي مؤتمن الدولة أبو اسحق بن العسال في كتابه الشهير المعروف ( مجموع أصول الدين ومسموع محصول اليقين ) في الباب 13 من موسوعته وقد ذكره شمس الرئاسة أبو البركات إبن كبر في موسوعته المعروفة ب ( مصباح الظلمة ) في مطلع القرن الرابع عشر إذ قد توفي أو البركات إبن كبر سنة 1324 أما مؤتمن الدولة بن العسال فقد ألف موسوعته نحو سنة 1263 وقد وصل أخيراً هذا النص عن طريق مخطوط وحيد ذاك الذي ذكرناه مخطوط (سباط 1017) المحفوظ في حلب والمنسوخ في نصف القرن 15 والنص الذي وصل الينا سليم من الأخطاء واضح عميق على قصره نذكر النص حسب رواية المؤتمن بن العسال :
1- ” لاتخلو النصرانيّة من أن تكون : إمّا حقاً، إمّا باطلاً ؛
2- والذين قبلوها من ان يكونوا : إمّا عُقلاء، وإمّا جهلاء .
3- والعُقلاء لايقبلون ما لايصحّ بالقياس المعقول إلاّ بالقهر؛
4- والجهّال لايمتنعون من الانهماك في اللذّات الدنيويّة، إلاّ بالقهر
5- والقهر قهران : إمّا قهرٌ بالسيف . وإما قهرٌ من الله بالآيات .
6- ولم نَرَ العُقلاء. ممّن قَبِلَ دينَ النصرانيّة، قُهرَ بالسيف، فيقبلون مالايصح بالقياس المعقول؛
7- ولا الجهَّال قُهروا بالسيف. فيمتنعون من الانهماك في لذَات الدنيا .
8- وقد قَبِلهَا العُقلاء بما لايصحّ بالقياس المعقول؛
9- وقبلها الجَهال، وهي تصدّ عن الانهماك في لذّات الدنيا.
10- فقد قُهرَ الجميعُ، بالآيات لا بالسيف .
11- والآيات أدلُّ دليل على أن الدين الذي تكونُ فيه هو الدينُ الصحيحُ عند الله (عزَّ وجلَّ !).
12- والشريعة المسيحيّة تطابق هذه المقدَّمات (93) .
إنّ الفكرة الأساسيّة هي أنّ المسيحيّة، وإن كانت مُضاّدَةً لميول العامّة بسبب صعوبتها، ومضادّةً لشعور الخاصّة بسبب عقائدها غير المعقولة، إلاّ أنها قُبلت من الجميع. ” فقد قُهر الجميع ” (رقم 10). ولكنهّم لم يُقهروا بالسيف ( وهنا تلميح غير مخفيّ إلى الإسلام). فقد قُهروا بالآيات، التي هي ” أدلُّ دليل على أنّ الدين الذي تكون فيه هو الدينُ الصحيحُ عند الله ” (رقم 11) وهنا أيضاً تلميح إلى الإسلام، حيث لا آيات فيه سوى القرآن ذاته (94).
هذا النص مكثف وعلينا أن نحلله لنفهم تفاصيل الدليل المنطقي . يقول أبو رائطة أولاً :” لا تخلو النصرانية من أن تكون إما حقاً وإما باطلاً “، هذا يعود إلى نظرة قد تكون بعيدة عن مفهومنا الحديث هذه النظرية هي أن الدين لا يمكن أن يكون حقاً وباطلاً معاً، إما أن الدين، أي دين كان، دين حق وإما أنه دين باطل، أما الجمع بين الحق والباطل فمحال . وهذا رد على الفكر النسبي المنتشر في أيامنا، ثم يقول :” والذين قبلوها أي قبلوا النصرانية من أن يكونوا إما عقلاء وإما جهلاء”. هذا واضح منطقياً ولكن ما معنى ذلك في الإطار الإجتماعي الذي وضعه أبو رائطة ؟ معلوم أن المجتمع العراقي في القرن الثامن كان يتألف من أغلبية مسيحية وأقلية مسلمة ومعلوم أيضاً أن المسيحيين كانوا أصحاب العلم والقلم وأن المسلمين كانوا أصحاب السلطة . عندما يقول أن المسيحيين إما عقلاء وإما جهلاء يعني بالعقلاء الفلاسفة اليونان والفلاسفة السريان والأطباء ومن ترجم الفكر اليوناني إلى العربية ثم شرحه وعلمه ومما يؤكد ذلك ما قاله الجاحظ في كتاب ( في الرد على النصارى ) يقول الجاحظ في هذا المؤلف الموضوع سنة قبل 846 يقول : ” وعطف قبول دهماء العرب على النصارى الملك الذي كان فيهم والقرابة التي كانت لهم ثم رأت عوامنا أن فيها اي في النصرانية ملك قائماً وأن فيهم عرباً كثيرة وأن بنات الروم ولدن لملوك الإسلام وأن في النصارى متكلمين وأطباء ومنجمين فصاروا بذلك عقلاء وفلاسفة حكماء، ومما عظمهم في قلوب العوام، وحببهم إلى الطغام أن منهم كتاب السلالين وفراّشي الملوك، الفراش هي وظيفة مهمة في ذلك الحين، وأطباء الأشراف، والعطارين والصيارفة؛ ولا تجد اليهودي إلا صباغاً أو دباغاً أو حجاماً أو قصاباً أو شعاباً ” .فالجاحظ إذن يقارن بين المسيحي واليهودي ويقول أن الشعب يحب المسيحين لأنهم ملوك ولأنهم علماء، بل أنه يقارن في مؤلف آخر بين المسيحيين والمسلمين ويروي لنا في كتاب(البخلاء) قصة طريفة عن طبيب مسلم، قصة تدل على أن أغلبية العلماء والأطباء في عصره كانوا من النصارى يقول الجاحظ :” وكان أسد طبيباً فأكسد مرة ( اكسد أي لم يجد عملاً )، فقال له قائل :” السنة وبئة والأمراض فاشية وأنت عالم ولك صبر وخدمة ولك بيان ومعرفة فمن أين تؤتى بهذا الكساد ؟” قال الأسد : ” أما واحدة فإني عندهم مسلم وقد إعتقد القوم قبل أن اتطبب لا بل قبل أن أخلق أن المسلمين لا يعلمون في الطب ثم أن أسمي أسد وكان ينبغي أن يكون صليباً وجبرائيل ويوحنا وبيرا ثم أن كنيتي أبو الحارث وكان ينبغي أن تكون أبو عيسى وأبو زكريا وأبو ابراهيم، ثم أن عليّ رداء قطن أبيض وكان ينبغي أن يكون ردائي حريراً أسود، ولفظي لفظ عربي وكان ينبغي أن كون لغتي لغة جند أهل صابور “. كل هذا يوضح دور المسيحين في بغداد في مطلع القرن التاسع، ويوضح قول أبي رائطة:” أن الذين قبلوا النصرانية إما عقلاء” وهم معروفون لدى” الشعب وإما الجهلاء ” .قال أبو رائطة :” لا تخلو النصرانية من أن تكون حقاً وإما باطلاً، والذين قبلوها من أن يكونوا إما عقلاء وإما جهلاء “. وقد شُرح هذا في ما سبق ما يعنيه بذلك ثم قال :” والعقلاء لا يقبلون ما لايصح بالقياس المعقول إلا بالقهر والجهال لا يمتنعون من الإنهماك في اللذات الدنيوية إلا بالقهر “. ماذا يعني بذلك ؟ يعني أن العاقل هو الذي ينقاد بالعقل أو كما يقول بالقياس المعقول أي المنطق أو ما يسمونه Syllogisme فالعاقل يسير بالعقل وأن قبل ما يخالف العقل فذلك يعود إلى القهر لا يمكنه قبول غير المعقول إلا بالقهر أما الجاهل فهو الذي يعيش بالحواس أو كما يقول المنهمك في اللذات الدنيوية فطبيعته تدفعه إلى الإنهماك في اللذات الدنيوية، فكيف إذاً نرفض الحواس واللذات يرفضها بالقهر فقط هذه مقدمة القياس المعقول الذي يبنيه أبو رائطة التكريتي العاقل يتبع عقله والجاهل يتبع حواسه ولا يمكن إتباع عكس ذلك، إلا بالقهر .
ثم يأتي أبو رائطة إلى جوهر المقالة وهو قوله : والقهر قهران، إما قهر بالسيف وإما قهر من الله بالايات، نلاحظ هنا أن أبا رائطة يعتبر الآيات نوعاً من القهر فأن الله يقهر الانسان بأياته، إلا أن هذا القهر يختلف تماماً عن القهر البشري الذي يتم بالعنف، ثم إننا نلاحظ أن هذه الجملة وإن كانت نية بطريقة منطقية إلا أن فيها خلل، يقول إما قهر بالسف وإما قهر من الله بالآيات .
تلاحظون أنه قد أضاف في العبارة الثانية كلمتان إما قهر من الله هذا يعني أن القهر بالسيف لا يأتي من الله، وقد يكون منبعه الانسان وقد يكون الشيطان ثم يتابع فيقول : ” ولم نرى العقلاء ممن قبل دين النصرانية قُهر بالسيف فيقبلون ما لا يصح بالقياس المعقول ولا الجهال قُهروا بالسيف فيمتنعون من الأنهماك في لذات الدنيا “. ماذا يعني ؟ هذه هي ما نسميه الصغرى في القياس المعقول، والصغرى مكونة من جزئين لم نرى العقلاء، قهروا بالسيف، ولم نرى الجهال قهر بالسيف تذكر أننا في القرن الثامن أي قبل الحروب الصليبية وبعد الفتح العربي بقرن ونصف قرن فالذي قهروا بالسيف ليسوا من النصارى إنما أصبحوا من المسلمين لذلك يقول : ولم نرى العقلاء ممن قبل دين النصرانية قهر بالسيف ولكنه يضيف فيقبلون ما لا يصح بالقياس المعقول، يريد أن هؤلاء العقلاء قد قبلوا النصرانية بما لا يصح بالقياس المعقول وهذا ما يؤكده في الجملة التالية :” وقد قبلها العقلاء بما لا يصح بالقياس المعقول، وقبلها الجهال وهي تصد عن الانهماك في لذات الدنيا .” وقد قبلها العقلاء”. استعمال لفظ ( قد ) يؤكد أن هذا حادثاً تاريخياً عندما يقول :” قد قبل العقلاء النصرانية بما لايصح بالقياس المعقول أي أنهم قبلوا النصرانية بما فيها من أشياء غير معقولة فهو يشير بلا شك إلى بعض العقائد لا سيما أن اي عقيدة الثالوث وعقيدة التجسد وعقيدة نبوة السيد المسيح وعقيدة قيامة السيد المسيح من بين الأموات، كل هذاه العقائد وغيرها مثل عقيدة قيامة السيد المسيح من بين الأموات، كل هذه العقائد وغيرها من العقائد امثال عقيدة القربان المقدس ان هذا الخبز الصغير الذي ترونه هو جسد المسيح، من يستطيع أن يصدق مثل هذه العقائد؟ كل هذه العقائد منافية للعقل كما يظن الفلاسفة . فيسأل أبو رائطة المعتزلي أبو ثمامة :” كيف أذاً قبلها العقلاء مع ما فيها من عقائد منافية للعقل ولم يقهروا بالسيف ؟” ثم يقول :” وقد قبلها الجهال وهي تصدّ عن الانهماك في لذات الدنيا ” ونتذكر ما يعنيه الفلاسفة بالجهال وهو قريب مما يعنيه الكتاب المقدس بدلك الجاهل هو الذي ينقاد بالحواس، الذي ينهمك بطبيعة في لذات الدنيا، ومن المعلوم لدى الجميع، المسيحية والمسلم، أن المسيحيين تصد عن الانهماك في لذات الدنيا بل أن المسيحية تشجع المسيحي على التنزه من كل لذة، فلنبعد عنا كل إهتمام دنيوي طوبى للفقراء، طوبى للباكين، طوبى للحزانى، طوبى لأنقياء القلوب . إن نظرت إلى إمراءة فقد زنيت معها . .. كل هذه الآيات معروفة لدى الجميع، تؤكد كلها أن المسيحية تصدّ عن الإنهماك في لذات الدنيا، في أي لذات كانت . فكيف إذاً قد قبل عامة الشعب المسيحية بما فيها من رفض لذات الدنيا لا بد أن يكونوا قد قهروا ؛ هذا ما يعنيه أبو رائطة .
والآن ننتقل إلى خلاصة ما سبق . فيقول أبو رائطة : ” لقد قهر الجميع “. يعني بالجميع قهر العقلاء والجهال وإذا أنهم قبلوا ما لا يصح بالقياس المعقول بالنسبة إلى العقلاء وما يصد عن الانهماك في لذات الدنيا بالنسبة للجهال، لذلك يقول :” فقد قهر الجميع “. ولكنه يضيف فوراً بالآيات لا بالسيف هذا اعتماداً على ما قاله سابقاً والقهر قهران إما قهر بالسيف وإما قهر من الله بالآيات . فإذ قد إتضح أن العقلاء والجهال المسيحيين لم يقهروا بالسيف بقي أنهم قهروا بالآيات ثم يضيف أبو رائطة :” والآيات أدلُّ دليل على أن الدين الذي تكون فيه هو الدين الصحيح عند الله عز وجل “. هذه المقدمة تأتي مما قاله آنفا:” إن الآيات تأتي من عند الله “. لذلك هي أدل دليل على أن الدين الذي تكون فيه الدين الذي تتم فيه الآيات، هو دين الله، فالله يؤيد دينه بأياته ويختم مقالته بقوله :” والشريعة المسيحية تطابق هذه المقدمات ”
يلاحظ القارئ أنه لم يشر هنا إلى الآسلام إلا أن الآشارة إلى دين الآسلام واضحة مما قاله عن القهر بالسيف وهو يعني الآسلام وعدم القهر بالآيات وهو يعني الاسلام وقد رأينا في حديثنا السابق حول الحوار بين تيموثاوس والمهدي أهمية الآيات بالايمان المسيحي وأهمية هذا الدليل لعدم وجود أيات في القرآن الكريم .
يصح لنا أن نتسأل عن قيمة هذه المقالة بالنسبة إلى المعتزلي ثمامة وبالنسبة إلى المسلم عامة، من المعلوم أن المسلمين يؤآخذون المسيحية لكونها غير عقلية غير معقولة هذا الرأي قديم في الآسلام نسمعه اليوم وكنا نقرأه عن المفكرين المتقدمين يقول مثلاً الفيلسوف المعتزلي القاضي عبد الجبار الذي توفي 1025 يقول في كتاب (المغنى) في الباب الخاص بالرد على النصارى) :” لأن ضبط جميع مذاهبهم يصعب لكون مقالتهم مبنية على أصول غير معقولة وعبارات لا تحصل معانيها “. وهذا الاتهام أن المسيحية مبنية على أصول غير معقولة يردده المفكرون المسلمون في أيامنا كما ردده المصلحون فيما قبل فقد قال جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده والشيخ رشيد رضى وغيرهم من المصلحين :” أن قوة الإسلام، يأتي من أنه دين عقلي بينما الدين المسيحي دين غير عقلي “. فقد اعتمد أبو رائطة التكريتي على هذه الحجة التي وجهت ضده وحوّلها إلى حجة له يقول”: نعم أن العقائد المسيحية قد تبدو غير معقولة وهذا أقوى دليل على أن العقلاء الذين قبلوها قد قهرهم الآيمان أي قهرهم الله بالآيات . ثم ينتقل إلى الاتهام الآخر ومن المعلوم أيضاً أن المسليمن يتهمون الدين المسيحي بأنه دين نظري روحاني قد يكون جميلاً جداً إلا أنه دين للخاصة لا للعامة دين للمتصوفين، يقول:” يستطيع الانسان أن يعيش حسب مبادئ الانجيل وما نراه اليوم كما يقول : المصلحون عامة ما نراه في الغرب أي في رأيهم في البلاد المسيحية يؤيد قولهم . فالمسيحية لا تعاش وهو دين صعب خاص بالرهبان والمتصوفين لأنه يصد عن الانهماك في لذات الدنيا بينما الدين الاسلامي دين الفطرة، دين الطبيعة، كل انسان خلق عليه، كل انسان يميل إلى مبادئ الاسلام، حسب زعمهم، لذلك يقبل الفيلسوف المسيحي أبو رائطة هذا الرأي ويقول :” نعم إن الدين المسيحي دين صعب، دين يصد عن الانهماك في لذات الدنيا . ولكن من المعلوم أيضاً أن عامة الشعب ليس فقط في العراق أو في البلاد العربية إنما في العالم أجمع قد اعتنق النصرانية ولم يعتنق الشعب النصرانية لأنه قهر بالسيف، فقد إعتنقه لأنه قهر بآيات الله تعالى .نرى كيف يعكس أبو رائطة الاتهامات الموجهة اليه ويحولها إلى أدلة تؤيد رأيه .
قد إنطلق أبو رائطة من منطلق بسيط، أن المسيحية قد قبلها العقلاء والجهلاء، وهذا المنطلق قد يكون مأخوذ من رسالة القديس بولس إلى أهل رومية إذ يقول:” أن عليَّ دينا لليونانين والبرابرة، للحكماء الجهال “. ( رومية 1 : 14 ) واعتمد عليه ليقول أن الحكماء قبلوا المسيحية والجهال أيضاً بما في المسيحية من صعوبات للحكماء والجهلاء .

خلاصة القول :
ما معنى هذه المقالة في حياتنا ! نعم إنها موجهة للفيلسوف المعتزلي وللمسلم، إلا أنها موجهة قبل كل شيء للمسليحي . فالفكرة الاساسية فيها أن المسيحية تتطلب منا الايمان بعقائد قد تكون غير معقولة، وتتطلب أكثر من ذلك التمسك بالفضيلة والابتعاد عن الرذائل ولذات الدنيا ودليله مبنيٌ على هاتين الفكرتين، قبول ما قد يكون غير معقول بالايمان وقبول الشرائع المسيحية بالطهارة، والدليل الذي يستعمله المسلم عكس ذلك فهو يقول :” أنظر إلى المسيحي تراه لا يمكنه التمسك مبادئ الانجيل، فهذا الدين إذاً يزعم غير مقبول “، فإذا أردنا أن نبرر صحة المسيحية لا يكفي أن تستدل بدلائل العقل يجب علينا نستدل بالحياة أن نثبت أن مبادئ الانجيل ليست فقط مبادئ سامية ولكنها مبادئ حياتية كيانية . يجب علينا أن نعيش حسب العقائد التي نعتقدها، عقيدة بنوة المسيح، عقيدة حياة المسيح فينا في القربان وحسب مبادئ الانجيل وإن نشهد بايماننا بوجودنا المسيحي في العالم العربي كي يؤمن المسيحي غير المؤمن والمسلم الذي يشك بصحة الانجيل المقدس والهية السيد المسيح وسمو الديانة المسيحية .

رأي طيموثاوس الجاثليق
ونذكر هنا قصّة ظريفة رواها عمرو بن متى، في الفصل الأوّل من الأصل الثاني من السفر الخامس لكتاب ” المجدل” وهو الفصل المعروف بـ ” أخبار بطاركة كرسيّ المشرق ” (95) رواها في حديثه عن طيموثاوس الجاثليق (780-825) وعلاقته مع الخليفة هارون الرشيد(170-193/786-809). ومن المحتمل أن تكونَ القصّةُ واقعيّة، وإن كانت بعضُ تفاصيلها منحولة. قال عمرو:
-” ومن جملة ما جرى له معه ( أي ” ما جرى لطيموثاوس مع الرشيد “) : ذات يومٍ، عندَ انقضاء المجلس، قال له :
-” يا أبا النصارى، أجبني عمّا أسالُك باختصار. وأيُّ الأديان، عند الله، الحقُّ ؟ ”
– فقال له مُسرعاً : ” الذي شرائعُه ووصاياه تُشاكل أفعالَ الله في خلقه !” .
فأمسك عنه. فلما انفصل من المجلس، قال :
– للِه دَرُّه ! لوقال ” النصرانيّة “، لأسأتُ إليه. ولو قال ” الإسلام “، لطالبته بالانتقال إليه. ولكنّه أجاب جواباً كلّيّاً، لا دفع له. وأضَمرَ في نفسه دينَه، لِما تضَّمنه عندهم الإنجيل في قوله : ” أحِبوّا أعداءكم، وباركوا على مَن لَعاِنكم، وأحسنوا إلى مَن أساء إليكم، وكونوا متشبَّهين بأبيكم الذي في السماء، الذي يُرسل مطَره على الأخيار والأشرار، ويُطلع شمسَه على الأبرار والفُجّار ” (96) .
3- تشبيه الثالوث بالعقل والعاقل والمعقول، ليحيى بن عدي
يحيى بن عديّ من كبار فلاسفة النهضة العبّاسيّة. قرأ على بن أبي بشر متّى بن يونس وأبي نصر الفارابي. ثم خلف أبا بشر على ” كرسيّ الفلسفة ” في بغداد، سنة 328/940. وقال عنه معاصرهُ أبو الحسن المسعوديّ، في كلامه عن الفارابيّ : ” ولا أعلم في هذا الوقت أحداً يُرجَع إليه في ذلك ( أي في المنطق والفلسفة ) إلاّ رجلاً واحداً، من النصارى، بمدينة السلام، يُعرَف بأبي زكريا بن عديّ ” (97). وقال عنه النديم في الفهرست، وقد عاصره أيضاً : ” وإليه انتهت رئاسة أصحابه
( أي الفلاسفة المنطيقيين ) في زماننا ” (98). وتوفيّ أبو زكريا في بغداد يوم الخميس 13/8/974م، وكان عمره 81سنة، بعد أن وضع 141 مؤَّلفاً (99)
ولّما كان أبو زكريّا رئيس المدرسة الأرسطوطاليّة في العالم الإسلامي في أيّامه، فلا غرابة إن كانَ شرحَ عقيدة التثليث طبقاً لفلسفة أرسطو. وهو أوّل مَن عرض الثالوث بهذه الطريقة، شرقاً وغرباً، وسيتبعه كثير من المفكّرين على ممََرّ القرون. قال يحيى :
” إذا كان كلُّ ما يُعقلُ، فإنّما يُعقَل بالعقل ؛ وكان العقلُ بعض الأشياء المعقولة، فمن البيَّن أنّ العقلَ إنمّا يُعقل بالعقل .
“ومن البيِّن أنّ العقلَ ذاتٌ من الذوات الموجودة ؛ وأنّ معنى عقل لا يتضمّن معنى أنّه عاقلٌ، ولا أنّه معقول، وأنّ معنى أنّه معقول غير معنى أنّه عقل، وغير أنّه عاقل.
” فظاهرٌ لكلّ سليم العقل أنّه، إذا كان هو الذي يعقل ذاتَه، فمِن قِبَل أنّه يعقل ذاتَه يحصل له معنى ” العاقل “، ومِن قِبَل أنّه هو الذي تعقله ذاتُه يكون ” معقولاً ” لذاته. فقد حصل له ثلاثُ صفاتٍ مختلفة ؛ أعني أنّه ” عقلٌ “، وأنّه “عاقلٌ “، وأنّه “معقولٌ “. ” وهو ذاتٌ واحدة. وذلك أنّ الذي هو عقلٌ هو بعينه الذي هو عاقلٌ ومعقول.
” فمن حيثُ أنّ اسمَ العقل إنّما تُسمّى به ذاتُه مجرَّدة، من غير أن ينضاف إليها شيء آخر، هو علّة النعتَين الآخرَينَ اللذين يستحقّ أن تُوصَف هذه الذات بواحدا واحدا منهما إذ انضاف إلى الذات المجرَّدة معناه. فتوصَف، من حيث هي متصوِّرة لذاتها، بأنّها ” عاقلة ” ؛ ومن حيث هي متصوَّرة، بأنّها ” معقولة ” .
” فظاهرٌ إذن أنّ معنى العقل مجرَّداً هو علّة النعتَين الآخَرَين، أعني معنى العاقل ومعنى المعقول. لما كان، متى تصوّر ارتفاعه، ارتفع مع ارتفاعه المعنيان الآخران ؛ ولمّا وُجد واحدٌ من المعنيَين، وُجد معناه لا محالة. فهو لذلك مُماثلٌ للآب، إذ كان الآبُ علّة الابن والروح. ” ولأنّ معنى العاقل موجود للعقل غيرُ خارجٍ عنهُ، فلذلك ذاتُه غيرُ مُباينةٍ له ولا خارجةٍ عنه. وهو مماثل للإبن، بما أنّ طبيعة الإبن وطبيعة الأب واحدة.
” ومن قِبَل أنه معقولٌ هو مُماثل للروح. بما أنّ الروحَ خارجٌ عن الآب، منبعثٌ منه. كما أنّ المعقول، مِن حيثُ هو معقول، هو خارجٌ عن العاقل ووارد إليه. ” فقد تبيّن ووضح مُماثلةُ العقل والعاقل والمعقول للأب والإبن والروح، مِن حِيثُ أنّ جوهَرَ العقل هو ذاتُ العاقل وذاتُ المعقول. ” ولا تتكثّر من حيثُ هي ذاتٌ، وإنما توصفُ بثلاث صفاتٍ، كلُّ صفةٍ منها غيرُ الأُخرَتَين. فتكثُّر تلك الذات بصفاتها الثلاث، لا من حيثُ هي ذاتٌ .
” وإنّ ذلك مُماثل لما تعتقده النصارى في البارئ ( جلَّ وتعالى !)، من أنّه جوهرٌ واحد، غيرُ متكثّرٍ بوجهٍ من الوجوه، من حيثُ هو جوهر. وأنُه ذو ثلاث صفات ( وإن شئتَ فقُل خواّ ). إذا انضمَّ ذلك الجوهرُ إليها صار المجتمعُ منه ومن واحدةٍ واحدةٍ منها مختلفاً من قِبَل صفته أو خاصته غيره إذا انضمَّ إلى واحدةٍ واحدةٍ من الباقيتَين، من قِبَل الخواصّ لا من قِبَل الجوهر ” (100) .
3-وجوب التأنُّس، لصفيّ الدولة بن العسّال
صفي الدولة أبو الفضائل ابن العسّال من روّاد النهضة القبطيّة، في القرن الثالث عشر. إشتهر كفقيه، حتّى أنّ “المجموع الصفويّ ” لم يزل مستعمل حتّى اليوم في كنائس عديدة كمصدر الشرع. إلاّ أنّه فيلسوف ومدافع قبل كلّ شيء. وهو الذي بسّطَ فكر يحيى بن عديّ في الأجواء المسيحيّة، واختصر 41 مقالة من مقالاته .
أمّا النص الذي أمامنا، فهو مقتبسٌ من كتابه ” فصول مختصرة في التثليث والاتحاد “، الذي أخذتُ في نشره في القاهرة إعتماداً على أقدم المخطوطات (101). وأذكر هنا الجزء الأوّل من الفصل الحادي عشر، وهو متأثّر كلَّ التأثير بمقالات يحيى بن عديّ. قال
” قد ذكرت العلماءُ للاتّحاد (أي للتأنُّس) أسباباً كثيرة، وهي ترجع إلى قسمين :
” الأول، من جهة البارىء، وهو أنّ الذي لأجله أوجَدَنا ( وهو جودُه) هو الذي لأجله اتّصل بطبيعتنا، لتكميلنا ( وهو تكميلُ جوده ) .
” والدليل على وجوب الاتّحاد أن البارئ تعالى هو أفضل الجائدين. وأفضلُ الجائدين هو الجائد بأفضل الذوات. وأفضل الذوات ذاتُ البارئ. فلَزِمَ جودُ البارئ بذاته علينا، وهذا كان باتّصاله بنا .
” ودليلٌ ثانٍ، وهو اتصاله بنا مُمكنٌ. لأنّ المانعَ من الأتصال المُضادةُ. والخالق ليس هو ضدُّ مخلوقاته، إذ الضّدُ يُدمُ ضدُّه، لا يُجِدُه! وقد قال في التوراة إنّه يخلق الإنسانَ بشبهه، والمشابهة مقَّربة للاتصال.
” وإذا كان اتّصالُه بنا مُمكناً، وكان لنا فيه غايةُ الشرف، وله فيه كمال الجود، فلا يمنعه إلاّ العجزُ أو البخلُ. وهما من صفات النقص، فهو يتعالى عنهما. فيجب اتصالُه بنا ” (102)
تحدثنا عن ابرز الترجمات للكتاب المقدس لدي المسلمين وكيف إتخذ عبد يشوع الصباوي من هذا الاسلةوب نهجاً لتوصيل البشارة إلى عقل الانسان المسلم وهنا نحن الآن ندخل في نوع جدل جديد بين المفكرين المسيحيين والخلفاء العبّاسييّن وهنا يمكنا القول إننّا دخلنا في صميم هذا التراث في المؤلفات التي وضعت رأساً باللغة العربيّة . إنطلاقاً من أقدم هذه المؤلفات التي وضعّت في بداية العصر العباسّي وسنرى معاً الحوار الذي جرى بين البطريرك طيموثاوس المشرقي ( طيموثاوس الكبير ) والخليفة المهديّ . جرى هذا الحوار في بغداد في سنة 781م . والخليفة المهدي بن الهادي هو ثالّث الخلفاء العبّاسيّين . خلف أباه المنصور، واستولى على الحكم سنة 775 حتى وفاته في سنة 785، ويتّسم حكمه بالمقاومة مع الروم في الخارج، ومع الشيع والملل في الداخل، ولكنه إتّسم بسمة التسامح والإنفتاح والتفاهم . بعد أن قضى على النبي ( أو الذي زعم أنه النبي ) المعروف بإسم المقنّع، أخذ يضع العلاقات الطبيعية مع أهل الشيعة ثم مع المسيحين. وأهتم بالتراث اليوناني والفارسي حتى أنه شجّع المفكرين المسيحيين على ترجمة هذا التراث من اليونانية إلى العربية . بل أنه طلب من البطريرك طيموثاوس أن يترجم كتاب ” طوبيقا ” ( كتاب مشهور لأرسطو ) إلى العربية فترجمة طيموثاوس انطلاقاً من اللغة السريانيّة مع مراجعة اليونانيّة . وكان كثيراً ما يدعو أهل الأديان إلى المناقشة معه وكانت تسمى هذه” مجالس دينية” .
أما طيموثاوس فهو من أكبر البطاركة المشارقة . ولد طيموثاوس نحو سنة 727 في منطقة أربيل شمال الموصل . وفي شبابه ذهب إلى دير في مدرسة برشوش وتلقّى اللغة السريانيّة والعربيّة واليونانيّة . وأخذ يدرس الطب والمنطق على يد علماء من الرهبان، ثم عاد فعيّن أسقفاً بدل عمه الشيخ . وفي سنة 780 إنتخب طيموثاوس بطريركاً على الكنيسة المشرقيّة. وقد روى عمور بن متّى في كتاب “المجدل”، كيف إحتال طيموثاوس على الأساقفة كي يحصل على هذا المنصب . قال عمرو بن متى :- ” فلما علم هذا الأب أنه أحد المختارين تحيّل على الأركذياق والأسكولانيّين وأدخلهم إلى منزلة وأراهم أكياساً مملؤة حصى وحجاره وأوهمهم أنها دراهم يفرّقها عليهم “. وحضر مطران فاجورني ومطران دمشق ومطران مرو ومعهم أساقفة وأساموه بالمداين، ولكن عندما أصبح بطريركاً لم يعطهم شيئاً من الرشوة . وهو الذي نقل مركز البطريركيّة من المدائن إلى بغداد لكي يكون قريباً من الخليفة . وتوفي طيموثاوس سنة 823 أي بعد 43 سنة من الحكم . وكان له الفضل في إرسال المرسلين ليس فقط إلى إيران، ولكن إلى أفغانستان والصين والهند . وبفضلة إنتشرت الكنيسة النسطوريّة المشرقيّة في الشرق الأقصى . وكان طيموثاوس من كبار علماء عصره يجيد اللّغات والعلوم المدنيّة والدينيّة وقد ترك لنا مؤلفات كتابيّة وقانونيّة ولاهوتيّة وطقسيّة فضلاً عن 200 رسالة لاهوتيّة كتبها إلى رهبان وغيرهم .
أما الحوار الذي نحن بصدده اليوم، فقد وصل إلينا من خلال رسالة كتبها طيموثاوس إلى الراهب سرجيوس، روى فيها اللقاء الذي جرى بينه وبين الخليفة المهديّ. هذه الرسالة وضعت باللغة السريانيّة، الاّ أن الحوار تمّ باللغة العربيّة . ثم ترجمت هذه الرسالة من السريانيّة إلى العربيّة ثلاث ترجمات . كل ترجمة تختلف عن الأخرى في الطول . والنص الذي نستمع إليه اليوم هو أقدم ترجمة وضعت على صورة أسئلة وأجوبة وتحوي 27 سؤالاً وجواباً . وسأنتخب من هذا الحوار بعض النصوص أضيف إليها تعليقات صغيرة وأقارنها مع غيرها من النصوص الدفاعيّة المسيحيّة العربيّة .
“بسم الله الخالق الحي الناطق”، هكذا يبدأ الناسخ نسخته . ونلاحظ أن هذه البسملة لها ميزتان : الأولى، أنها مسجعة “بسم الله الخالق، الحي الناطق”. .. الثانية أن هذه الصفات الثلاث : الخالق، الحي، الناطق، إشارة واضحة عند النصارى إلى الثالوث : فالخالق هو الآب، والحي هو الروح، والناطق هو الكلمة الذي نطق. وينطلق المهدي في حواره مع طيموثاوس في سؤال يقول :-
” أنه لا ينبغي لمثلك مع ما أراه من فهمك أن تقول إن الله إتخذ صاحبة أو ولد منها ولداً ؟ ما المقصود هنا؟” كلنا نعلم أن القرآن يتّهم النصارى عندما يقولون بأن المسيح إبن الله يتّهمون النصارى بزعمهم أن الله اّتخذ صاحبة . جاء في سورة الأنعام :” بديع السموات والأرض أنّا يكون له ولدٌ ولم تكن له صاحبة “. وكذلك في سورة الجنّ:”وأنه تعالى جدّ ربنا ما إتّخذ صاحبة ولا ولداً” . فيظنّ المسلم أننا نعني -عندما نقول بأن المسيح إبن الله – أنه نتيجة زواج، علاقة جنسيّة بين الله تعالى وبين إمرأة.
لذلك يردّ عليه طيموثاوس، ويقول ” ومن يجرىء أن يفتري على الله بمثل هذا الإفتراء “.
قال الخليفة : فكيف إقرارك بالمسيح ؟ قلت أنه كلمة الله الظاهر في بشر منا لخلاص . فالتأمل في هذا الردّ : أنه كلمة الله، لماذا إختار طيموثاوس هذه العبارة ولم يقل أنه ابن الله ؟ السبب الأول :- أن هذه العبارة مأخوذة من الكتاب المقدس من إنجيل يوحنا ونعبّر عن إلهوهيّة المسيح . فيسوع هو الإنسان البشري المولود من مريم أما الكلمة الإلهية والإنسان البشري . وهناك سبب آخر مهم لإختياره هذه الصفة كلمة الله : فالقرآن يسمي المسيح كلمة الله في أكثر من آية . جاء في سورة أل عمران الأية 40 :” إن الله يبشرك بحيا مصدّقا بكلمة من الله وسيداً وحصوراً ونبيّاً من الصالحين”. وجاء في نفس السورة :” اذ وقالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه إسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيهاً في الدنيا والأخرة ومن الصالحين . ومن سورة النساء الأية 172: ” يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلاّ الحق . إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، فآمنوا بالله ورسوله ولا تقولوا ثلاثة إنتهوا خيراً لكم إنما الله إله واحد، سبحانه أن يكون له ولد . فعندما يقول طيموثاوس أن المسيح كلمة الله يستعمل عبارة إنجيلية وقرآنية في أن واحد . وعندما يقول الظّاهر في بشرمنّا يُشر إلى سر التجسّد . ونلاحظ أنه لم يقل الظاهرة، كلمة الله الظاهرة في بشر منّا، ولكنه يقول الظاهر، أي أنه يعني انّ كلمة الله هي شخص . وأخيراً يضيف لخلاص وهي إشارة إلى سر الفداء وإلى ما يقوله فيما بعدعن خلاصنا بصليب المسيح. فجوابه إذاً عن سؤال الخليفة :- فكيف إقرارك بالمسيح ؟ جوابه أنه كلمة الله الظّاهر في بشر منّا لخلاصنا يشمل أساس وجوهر الدين المسيحي، ويعبّر عن ديننا وإيماننا بلغة مقبولة لدى الخليفة . ثم يقول الخليفة أفما تقول أنه ابن الله ؟ قلت بهذا شهد الإنجيل والتوراة والأنبياء ولكنها ليست بنوّة جسديّة بل ولادة إلهيّة أزاليّة عجيبّة لا تعقل كيفيتها لأن الله لا يدرك ذاته ولا كيفية إتصافة بصفاته وإنما نؤمن به على ما في كُتبه الثابت صدقها . لقد فهم طيموثاوس أن المشكلة الأساسية في رفض بنوّة السيد المسيح هي ظنّ المسلمين بإن هذه البنوّة بنوّة جسديّة فيقول أنها بنوّة أزليّة وإن لم نعقل كيفيّة هذا الفعل . لأنه حسب قوله يمكننا أن ندرك صفات الله ولكن لا يمكننا إدراك ذات الله ولا كيفية إتّصاف الله بهذه الصفات . أي حسب تعبير المتكلمين المتأخرين لا سيما في مدرسة الأشعري بلا كيف، لا يمكننا أن نطرح سؤال : كيف تمّ ذلك؟ وأننا نعلم أنّ هكذا قد تم.
وأخيراً ويوضّح طيموثاوس ما يقصده بمثال فيقول وأمّا المثال فكولادة الكلمة من النفس وتولّد الضوء من الشمس، أي بلا ولادة ولا تولّد جسدي إنما هو ولادة روحيّة .
وهنا يطرح عليه الخليفة سؤالاً اخر يقول ألستم تزعمون أن المسيح ولد من مريم ؟ قال طيموثاوس أمّا من حيث هو الكلمة فمولود من الآب ميلاداً أزلياً بلا وقت ولا فصل اي بلا فصل من الآب. وأما من حيث ناسونه فمولود من مريم العذراء وفي زمن محدود معروف بغير جماع ولا إنفكاك عذوريتها .
قال الخليفة أما حبلها من غير جماع فمكتوب معروف، وأما ولادتها مع بقاء عذرتها فكيف يمكن ؟ وهنا نقف لحظة لنفهم جواب الخليقة . عندما يقول أمّا حبلها من غير جماع فمكتوب معروف أي أن هذا مكتوب في القرآن ولذلك معروف ولا جدال فيه . وبالفعل يقول القرآن في سورة أل عمران :” قالت ربّي أنّ يكون لي ولدٌ ولم يمسَسْني بشر . قال كذلك الله يخلق ما يشاء إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون “: وفي سورة مريم، قالت :” إنّ يكون لي غلام ولم يمسَسْني بشر ولم أكُ بغيّاً ” قال كذلك قال ربك هو عليّ هيّن ولنجعله أيه للناس ورحمة منّا وكان أمر مقضيّا وفي سورة الأنبياء وكذلك في سورة التحريم والتي أحصن فرجها فنفخنها فيها من روحنا وجعلناها وابنها أية للعالمين”!
من هذه الأيات يتّضح أن حبل مريم بالسيد المسيح تمّ حسب القرآن أيضاً من غير جماع، ولم يمسَسْني بشر يقول الإنجيل والقرآن . ولكن الخليفة يضيف : أما ولادتها مع بقاء عذرتها فكيف يمكن؟ فالمسلمون لا يقرون بأن مريم بقيت عذراء في ولادتها وبعد ولادتها بالسيد المسيح وقد يجدون إشارة تبرّر ذلك في سورة مريم فحملتْه فأنتبذت به مكاناً قسيّا فأجاءها المخاض إلى جذر النخلة، قالت يا ليتني متّ قبل هذا وكنت نسياً منسيّاً . وفي المخاض وفي رغبتها في أن نموت قبل هذا المخاض إشارة إلى أن ولادتها كانت ولادة طبيعية .
كيف نجيب على سؤال مثل هذا ؟
إذا تأملنا فيما قاله الخيلفة نرى انّه يميّز بين الحبل من غير جماع وبين بقاء العذرة بعد الحبل، لذلك يجاوب عنه طيموثاوس بسؤال : يسأله لماذا تميّز بين الفعلين، يقول : أما بالنسبة إلى عادة طباعنا فلا تحبل إمرأة بغير جماع، ولا تلد مع بقاء عذرتها . وأما بالنسبة إلى قدرة الله فالأمران متيسّران وكما أمكن أن تحبل بغير جماع أمكن أن تلد مع بقاء العذرة أي أنك غير منطقي عندما تقبل الفكرة الأولى وترفض الثانية . إما أن ترفض الإثنين حسب عادة الطباع أو تقبل الإثنين إعتماداً على قدرة الله تعالى . هنا نرى كيف يجادل طيموثاوس بالعقل إعتماداً أيضاً على القرآن . وإليكم جواب يحيى بن الفيلسوف، الذي عاش في القرن العاشر ببغداد، على نفس السؤال (وقد نشر في مجلة المسرّة سنة 1979 ) يقول يحيى :” إن قال قائل ما ادلّ دليل على إقدامكم على إعتقاد ما لا سبيل لكم إلى علمه ولا برهان لكم على اثباته لا من دلائل العقول ولا من سابق النّزيل بنص ولا بصيح التأويل . بإعتقادكم أن مريم بقيت عذراء، وهذا ما تجدونه في الإنجيل ولا في شيء من كتب الأنبياء والحوار يّين ولا تقدرون أن تثبتوه من فطر العقول فإن تعلقتم بأن يوسف لم يعرفّها، فإن ذلك مُقيدٌ بوقت محدود وظاهر العبارة عنه يقتضي وقوع جماعٍ بعد إنقضاء الأجل، لأن الإخبار إنّما هو أن يوسف يمسسها الى ان ولدت ابنها البكر، وهذا جاذب للوهم إلى أنه قد مسّها بعد ذلك؟
كيف يجيب يحيى على هذا الإعتراض ؟
يقول : ان برهان ذلك عندنا أنّا لمّا وجدنا مريم الطاهرة قد إختارها الباري تعالى للظهور منها دون سائر العالمين، علمنا أنها في غاية الفضيلة، وأنه غير جائز، أن تكون فيها رذيلة. ولما كان من الفضيلة إماتة الشهوات، صحّ عندنا أن إماتة الشهوات موجودة لمريم وصحّ بهذا أنها لا تطلب الجماع لشهوة، وصحّ عندنا أيضاً أنها لا تطلب الجماع لطلب النسل إذ ذاك إنما يطلب به بقاء النوع وقد عنيت عن ذلك بدوام بقاء من ولدته . ولمّا كان الجماع لا يطلب إلاّ لشهوة تغلب أو لنسل يطلب وكان هاذان غير موجودين لمريم الطاهرة، علمنا أنها لم تقربْة .
نرى كيف يجيب يحيى بن عدي عقلياً فيقول: إن الجماع يطلب إما للشهوة وهذا مرفوض فيما يخص العذراء مريم الطاهرة لأنها وصلت الى قمّة الفضيلة فترفض الشهوات، وأما أن يطلب الجماع لطلب النسل، وهذا غير ممكن لمريم لأن النسل يطلب لبقاء البشر وهي لا تحتاج إلى ذلك إذ أنّ ابنها باقٍ .
ويسترسل قائلاً :” وكما لم يوجد غيرها ثبُتَت عذرتها بعد ولادتها كذلك لم يوجد سواها والدة من غير جماع . فثبوت عذرتها بعد الولادة أصدق شاهد لها بِبُعد الجماع منها .
هذا الرأي هو ما رأيناه في حوار طيموثاوس .
وهنالك إعتراض آخر : يقول :” فإن قال وكيف تعتذرون لهذا المُخبِر بزيادته في الخبر قوله إلى أن ولدت ابنها البكر من غير حاجة اليه ؟ قلنا له أنه إنما زاد الرسول الصادق هذه الزيارة من قبل أن التهمة بوقوع الجماع لمريم الطاهرة لا يجوز أن تكون بعد الولادة بالمسيح الرب، وظهور الأعاجيب بمولده وفيما بعد ذلك. وإنما يصوغ أن يظنّ أن ذلك كان قبل الولادة، فلذلك شهد ببراءتها من ذلك في المدة التي يجوز أن تلحقها فيها التهمة، بما قد نزهها الله عنه وأبعدها عنه
بعد أن أوضح طيموثاوس معنى البنوة، وأنها بنوّة روحية لا جسديّة، وأوضح كيف أن المسيح ولد من مريم من غير جماع ومع بقاء عذرة مريم، يوضّح كيف أنه مسيح واحد من إثنين : إبن أزلي وإبن جسدي ؟ سأله الخليفة: وكيف ولد الأزلي ولادة زمنيّة؟ قال طيموثاوس ولد من مريم بجوهرة البشري لا بجوهرة الأزلي . فهنا علينا أن نلاحظ ملاحظة:\ فالمشارقة أو كما يقال أحياناً النساطرة، يستعملون لفظة الجوهر للتعبير عن ما نسميّه نحن الطبيعة، فعندما يقول طيموثاوس: ولد من مريم بجوهره البشري لا بجوهره الأزلي، لا يعني أن المسيح شخصان، وإنما يعني أنه يتألف من جوهرين، اي طبيعتين .
فسأله الخليفة: فإذاً هو إثنان ؟ قال طيموثاوس مع إقرارنا بأنه واحد لا إثنان لسنا ننظر أن الجوهرين، أي الطبيعتين، إثنان، لكنّهما مسيح واحد، وكما ان الانسان واحد بتركيبه وصورته ووجهه، وهو إثنان لأن نفسه روحانية خفية وبدنه جسديّ ظاهر، كذلك كلمة الله مع ناسوته ووجهه واحد بلا إنفصال ولا إمتزاج بين الجوهرين .
فهنا يجب أيضاً ان نلاحظ أن كلمة وجه تعني قديماً الشخص، فيقول:” المسيح شخص واحد بكلمته الأزليّة وناسوته البشريّ، كما ان الانسان شخص واحد بنفسه الأزلية وبدنه الجسدي . ويضيف بلا إنفصال ولا إمتزاج بين الجوهرين أي الطبيعتين. بلا إنفصال: فالوحدة في المسيح يؤمن بها المشرقي أي النسطوري كما نؤمن بها نحن .
وهنا يأتي إعتراض تقليدي في الإسلام على المسيح إله وإنسان. يقول الخليفة: ” ألم يقل المسيح أنني منطلق إلى أبي وابيكم والهي وإلهكم” وهذه العبارة مأخوذة من إنجيل يوحنا (20 / 17) فإن كان أباه فليس هو إلهه وبالعكس فهذا تناقض : هذا الإعتراض نراه حتى أيامنا هذه بإستمرار في المجادلات الاسلاميّة المسيحيّة. ويعتمد المجادلون المسلمين على إنجيل يوحنا إعتماد على ما جاء في القرآن في سورة أل عمران الأية 51 يقول المسيح فيها :” إن الله ربي وربكم فأعبدوه هذا سراط مستقيم” فعندما يقرأون في الإنجيل أني منطلق إلى أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم يُأوّلون هذه الأية تأويلهم للقرآن .
ماذا يا تُرى يجيب المسيحي على هذا الإعتراض ؟
أليس قد ساوى المسيح بينه وبين تلاميذه بقوله هذا ؟
إليكم ما قاله طيموثاوس : هو أبوه بالجوهر أي بالطبيعة للكلمة المولود منه لا في زمان كما أن الإنسان حيّ ناطق بجوهر نفسه لا بجوهر جسده فإن الحياة والنطق للنفس جوهريّان وليسا للبدن جوهرّييّن، بل لتركيبه مع النفس . كذلك الله هو بالجوهر أب للكلمة وبإتحاد الكلمة بالبشري المأخوذة من مريم هو أب للبشري المذكورة . فإذاً هذا تفسير هو أبوه يعني هو أبوه بالطبع ولكن هو إلهه بالجوهر للبشري المذكور وبالاتحاد والإسم للكلمة وهما مسيح واحد ولذلك قال أن الله هو أبوه وإلهه وقال هذا ليحقق الوهيته وبشريته .
ما المقصود هنا؟
عندما يقول إن أبي وابيكم يعني ابي ككلمة الله وعندما يقول إلى إلهي يعني إلهي بصفتي الإنسان يسوع. وقد أضاف المدافعون المسيحيون توضيحاً ثانياً على ما قاله طيموثاوس إذ قالوا : ” كان المسيح يقول أني منطلق إلى أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم ولم يقل إني منطلق إلى أبينا وإلهنا، هذا يعني أن هناك تميزاً بينه وبين التلاميذ والاّ لم يفصلْ بينهما، هذا إذاً هو تفسير المشكلة القائمة من إنجيل يوحنا .
يعترض عندئذ الخليفة إعتراضاً آخر على بنوّة السيد المسيح يقول : وكيف يلد الله وهو روح لطيف بغير أوصال، أي بغير أعضاء، بغير أوصال الولادة ولا أعضائها. قلت كما يصنع أي يخلق بغير أعضاء الصُنعة، ولا آلاتها. ماذا يعني : آلات وأعضاء الصُنعة هي الأيدي والآلات كما يصنع الفَخًّار من يديه ومن الطين الأواني . أما الله عندما نقول إنه خالق، لا نعني أن له أيدي وطين، فكما أنه يصنع بغير أعضاء الصنعة ولا ألاتها كذلك يلد بغير أعضاء الولادة. وها نحن نرى الشمس تلد شعاعها، يقول طيموثاوس، بغير أعضاء الولادة . وبالجملة فولاد الروحاني روحاني، كما أن ولاد الجسماني جسميّ أي إن كلّ واحد يخلق ويلد حسب طبعة : فالخلق الإلهي والولادة الإلهية وروحانيّة بينما الخلق البشري والولادة البشرية جسدانيّة .
ومع هذا الإعتراض أنتهى الجزء الأول من الحوار حول موضوع شخصيّة السيد المسيح : مَن هو ؟ وكيف تقولون إنّه ابن الله ؟
ثم ينتقل الخليفة إلى موضوع آخر جوهري ألا وهو موضوع الثالوث . يقول : تُقرُّ بالآب والابن والروح القدس؟ قلت: نعم. قال ثلاثة ألهة؟ قلت هذه الأسماء عندنا تدل على أقانيم لإله واحد . وكما أن أمير المؤمنين وكلمته وروحه واحد لا ثلاثة خلفاء من غير إنفصال كلمتك وروحك منك، كذلك الله مع كلمته وروحه إله واحد لا ثلاثة ألهة . لأنه لا إنفصال لكلمتة وروحة منه .
ثم يوضح ذلك بمثال فيقول، وكذلك الشمس مع شعاعها وحرارتها شمس واحدة لا ثلاث شموس . وكما أن الله إزلي كذلك كلمته وروحه أزليان، ولو إنفصل من الله كلمته وروحه لكان غير ناطق ولا حي، ولولا أنه ينبوع العقل الناطق والحياة لما أمكنه أن يعطي ذلك للملائكة والناس . ما المقصود في العبارة الأخيرة .
يقول طيموثاوس : أن كلمة الله وروح الله . أزليان بازليّة الله إذ أنه لو إنفصلت كلمة الله عنه لأصبح غير ناطق وصار كألبهائم . ولو إنفصلت روحه عنه لأصبح بغير حياة وصارة كالجوامد . ولمّا كان إلله هو ينبوع النطق والحياة، فلا بد له من أن يكون ناطقاً حيّاً دائماً أزليّاً، ثم يشهد على ذلك بآيات من الكتاب المقدس فيقول:” فقد قال النبي داوود:” بكلمة الله خلقت السماء وبروح فيه جميع جنودها” (مزمور 33)، وأيضاً:” بكلمة الله أسبّح” (مزمور 65). وقال أشعيا:” وكلمة الله ثابتة إلى الدهر” (اشعيا .4). وفي الإنجيل : ” إن الله الكلمة لم يزل وإن به كان كل شيء وإن الحياة كانت فيه” (يو 1). وقال المسيح لتلاميذه تلمذوا الأمم، وعمدوهم بإسم الاب والابن والروح القدس. وليس يعدّ العبد مع المعبود ولا الإله مع المألوه والمقصود بهذه العبارة الأخيرة، أنّ المسيح إنْ لم يكن إلهاً لم يُعدّ مع الاب في العبارة بإسم الاب والابن والروح القدس فليس يعدّ العبد مع المعبود. لقد أوضح طيموثاوس بهذا أن الثالوث موجود أصلاً في الكتاب المقدس في العهد القديم في نبؤات داوود وأشعيا وغيرهما من الأنبياء . كما أنه معلن به في الإنجيل بفم السيد المسيح فالثالوث إذاً ليس عقيدة إخترعها وإبتدعها الإنسان أو الفيلسوف المسيحي، إنما هي موجودة في الكتاب أعلن عنها المسيح، كانت كامنة في العهد القديم وأصبحت ظاهرة في أيامنا. نرى في هذا الحوار كيف يوفّق طيموثاوس بين العقل من ناحية وهو العامل المشترك بين المسيحي والمسلم والملحد وبين الإيمان المسيحي المعتد على الكتاب أو كما يقول المتكلمون النصارى يوفّق بين العقل والنقل .
هذه من أهم مميزات اللاهوت العربي المسيحي إنه لاهوت موجّه إلى البيئة العربية الإسلاميّة، ويعتمد على التراث الأبائي من ناحيّة وعلى العقل والفلسفة من ناحية اخرى .

ويقول طيموتاوس لتوضيح فكرته عن الثالوث: “كل واحد من العقل والكلمة والروح، أي من الأقانيم الثلاثة، يتميز عن الآخر بخاصته ولا انفصال بينهم بالجوهر الإلهي. فالكلمة مولود من العقل والروح منبثق منه كتوّلد النور من الشمس وانبثاق الحرارة منها. وكما أنه ليست رائحة التفّاحة تفوح من موضع منها وطعمها من موضع آخر، بل من جميع التفّاحة تنبعث كل رائحتها ويتولد كل طعمها من غير انفصال عن طعمها من رائحتها ولا إنفصالهما منها، كذلك الآب والإبن والروح ثلاثة أقانيم، جوهر واحد له ثلاث خواص، إله واحد له ثلاث صفات ذاتية شرعية. فالتفّاحة لها شكلها وطعمها ورائحتها، الطعم والرائحة موجودة في التفّاحة كلها وليس في جزء منها، كذلك الإبن يختلف عن الروح وكلاهما يختلف عن الأب. فهذه -يقول بالخلاصة- ثلاثة أقانيم، جوهر واحد، جوهر اللاهوت له ثلاث خواص لازمة لابدّ منها وهي صفات ذاتية شرعية. ذاتية “أي لازمة بذات الله”، وشرعية “حسب ما جاء في الشريعة المسيحية .”
ويأخذ طيموتاوس أمثلة أخرىللتوضيح عن سرّ الثالوث، منها أنه يقول كما تتحد الكلمة بالقول وبالخط والقرطاس المكتوب “أي الورق” دون العقل والروح، وإن لم تفترق منهما، لذلك كلمة الله اتحد بالبشري دون الأب والروح وإن لم يفترّق منهما. يريد أن الذي إتحد بالبشري هو الكلمة فقط ابن الله، وإن لم ينفصل لحظة من الكلمة الله عن الآب وعن روح الله. فليس يقول أحد، سمعت عقل فلان ولا روحه لكن كلمته ويعلم أن الكلمة مع العقل والروح بلا انفصال .
هذه هي المشكلة الثانية الكبرى التي تفصل الإسلام عن المسيحيّة: مشكلة الثالوث. وهناك موضوع آخر يميز النصارى والمسلمين: موضوع صلب المسيح .
قال المهدي: لماذا تسجدون للصليب؟ قال طيموتاوس: لأنه كان سبب الحياة. قال: بل كان سبباً للموت. قال: نعم. والموت كان سبباً للقيامة، والقيامة كانت سبباً للحياة، فإذاً، الصليب كان سبباً للحياة والآن يريد طيموتاوس أن يوضح أن الصليب هو سبباً للحياة إنطلاقاً من الكتاب المقدس. يقول “الله الذي أعاد الماء المرّ عذوبة. بعود ،وهذه إشارة إلى سفر الخروج (15/25)، وأفاد الناظرين إلى الحية المصلوبة النجاة من الحيّات القاتلة ،إشارة إلى سفر العدد (21). وأثمر عصا هارون، (الفصل 17) وجعل في عصا موسى قوة على عمل الآيات بها ،كشق البحر وأخراج الماء من الصخر. هو أفادنا من عود الصليب الذي هو شجرة الحياة، ثمرة الحياة. هذه الإشارات التي أتت في العهد القديم تشير إلى أن الحياة نبعث من الموت. الماء المرّ رمز الموت، أصبح ماء عذباً بعود، والعود يشير إلى الصليب وكذلك الحياة وهي رمز الموت أصبحت نجاة. . .، فيتمم ذلك بقوله: ولِكون الصليب كان أداة يتم بها الخلاص، وظهر حب المسيح للبشر حتى قال ما من حب أعظم من هذا أن يبذل الإنسان نفسه عن أحبائه، وجب تعظيمه. ومن الجدير بالذكر أن كلمة الحب وردت هنا لأول مرّة في الحوار ولآخر مرة، وكلمة حب أستعملت فقط عند الحديث عن صلب المسيح. فصلب المسيح كان خلاص البشرية، ودليل عن حب المسيح للبشر. ولذلك وجب تعظيمه كما قال. هنا تأتي مشكلة عويصة في الحوار المسيحي الإسلامي. قال الخليفة: قد ورد عندنا (أي في القرآن) وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم (سورة النساء). فيجيب طيموتاوس على مرحلتين: الأولى توضيحاً للقتل والصلب والثانية توضيحاً للشبه. قال طيموتاوس: وقد ورد عندكم في سورة عيسى، وهي ما نسميها اليوم سورة مريم “يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حياً” و أيضاً “إني متوفيك ورافعك إليّ” (سورة آل عمران). قال الخليفة: لم يمت بعد لكنه سيموت. قال طيموتاوس: وهكذا لم يصعد بعد إلى السماء ولم يُبعث حياً وسيصعد ويبعث فيما بعد. لكنّ عندكم أنه صعد إلى السماء حياً وما صعد حتى يموت ويبعث كما ورد متقدّماً، فإذ صعد، فقد مات قبل، وإذ مات، فقد صلب كما في النبوءات .
فمن الرد، يريد طيموتاوس أن يستّدل بالقرآن على أن المسيح قد مات إذ أنه حياً عند الله. وهنا يوضح أنه ليس فقط قد مات، ولكنه قد صلب، وذلك قد صلب، إعتماداً على نبوءات الكتاب المقدس .
قال: فداوود قال عن صلب المسيح: ” ثقبوا يديّ ورجليّ وزعزعوا جميع عظامي، نظروا اليّ واقتسموا بينهم ثيابي وعلى لباسي إقترعوا” (مزمور 22). وهكذا أخبر الإنجيل أنّهم عملوا به. وكذلك قال اشعيا : “إنّه يقتل من اجل خطايانا” (اشعيا 53). زقال ارميا: “وجسدي دفعته للضرب وخدّي للّطم، ولم ارد وجهي عن الخزي والبساق” (ارميا 3، اشعيا50 ). وبهذا شهد الإنجيل، ودانيال صرخ قائلا: ” يقتل المسيح” (دانيال 9 / 26 ). كل هذا يدل على انّ المسيح قد مات كما اعترف به ضمنيّا القرآن، وإن موته قد تمّ بالصلب كما تنبّأ به الانبياء من قبل .
عند ذلك يعترض الخليفة ويقول:” إنّما كان ذلك تشبيها لهم”. فيسأله طيموثاوس:” مَن الذي شبّه لهم ذلك، أهو الله ام الشيطان؟ ويقول:” وكيف يشبّه الله الباطل للناس حتّى يعتقدوه، وان كان الشيطان، فكيف يقدر ان يفسّر تدبير الله ويشبّه على الانبياء من قبل حتّى تنبأوا بالباطل انّه سيكون حقّا، وعلى الرسل من بعد حتّى اخبروا بالباطل انّه كان حقّا. ومن جملة آياتهم ومواهبهم من المسيح حسب شهادة الآنجيل: القدرة على اخراج الشياطين. يُريد طيموثاوس إن كان الشيطان هو الذي شبّه الباطل للناس، فهو إذن أقوى من الانبياء الذين تنبأوا بذلك من قبل، وأقوى من الرسل الذين أخبروا بذلك، مع العلم ان المسيح قد أعطاهم القدرة والسلطة على الشيطان .
وهنالك دليل اخر، يقول طيموثاوس:” وايضا فكما جاز ان يقال ان الصلب كان تشبيها، فكذلك الإنبعاث والصعود الى السماء وكل الأيات الإلهيّة اي اذا ادخلنا التشبيه على الصلب لِما لا تدخله على كل شيء، فبطل الدين.
عندئذ يوضّح الخليفة السبب الأساسي الذي من اجله يرفض الإسلام صلب المسيح. قال المهديّ:” ان المسيح كان اكرم على الله من ان يدع اليهود يصلبونه ويقتلونه”. قال طيموثاوس:” فقد قتلوا الانبياء، فهل ذلك لهوان الانبياء على الله؟ مع ان الانبياء لم يقتلوا بارادتهم، فأمّا المسيح فقد قال “إن لي سلطانا على نفسي ان اضعها وان اخذها، وليس بقدرة أحد ان يأخذها منّي” (يوحنّا 10)، فعرفنا بذلك انّه بإرادته يسلم نفسه للموت. وقد دلّنا ايضا بما أظهره بالفعل وهو مصلوب على صدق قوله وانّه لم يصلب ويقتل قهرا من حدوث الظلمة والزلزلة وشقّ الصخور وقيام مَن في القبور، ثمّ قيامته في اليوم الثالث من موته، كما اخبر قبل موته مرّات كثيرة، وقد همّت اليهود بأخذه مرارا، فلم يقدروا حتّى اراد. فإذا لم يكن ضعيفا عن خلاص نفسه من اليهود، وانّما اراد كمال سرّ موته وتدبيره بناسوته عن الناس المستوجبين للموت” .
ما هي المشكلة؟
ان الاسلام يرى في صلب المسيح دليل على ضعف النبي وبالتالي على هوان الله. فيردّ اوّلا طيموثاوس بقوله:” ان المسيح صلب لا عن ضعف، وإنما عن قوّة، بإرادته، عن قوّة محبّة. ثمّ يسترسل الخليفة فيقول:” فإذاً لا ملامة على اليهود إذ اكملوا مشيئته؟. قال طيموثاوس:” إلاّ انّهم لم يريدوا بما عملوا اكمال مشيئته، ولا قصدوا قصده في إيصال الخير للناس، وانّما ارادوا إعدام وجوده وإبطال ذكره .
قال الخليفة:” لا بدّ من امرين: فإن كان بمشيئته صلب، فقد اكملوا مشيئته فلا لوم عليهم، وان كان قد صلب كرها فهم اقوى منه فليس بإله .
قال طيموثاوس، ميزان هذا ان تقول لا بدّ من احد الامرين: امّا ان يكون الله لمّا خلق الشيطان اراد ان يكون شيطاناً فقد احسن الشيطان اذ قد انتهى الى ارادة خالقه، وليس هو عاصياً ولا ملوماً ولا ملعوناً، وان كان اراد ان يكون ملاكاً طائعاً خاضعاً، فكان هو شيطاناً عاصياً فقد ضادّ ارادة الله وكان على خلافها، فهو اقوى من الله، فليس بإله. وكذلك الكلام في آدم وفي كل من عصى الله ويعصيه، وكما ان ذلك لا يُخرج الله من ألوهيّته ولا يوجب ضعفه كذلك الكلام في المسيح .
المسألة هنا، كما يعرضها طيموثاوس، مسألة شائعة في الحوار الاسلامي المسيحي. يقول المسلم للمسيحي:” ان كان المسيح قد اراد الموت، فاليهود إذاً لا ملامة عليهم لانّهم اكملوا ارادة المسيح، وان كان لم يردْ الموت، فهو اذاً ليس بنبي، وبالاحرى ليس بإله” .
والردّ يتم بالمعارضة، فيوضّح طيموثاوس ان المهم هو هدف اليهود في صلب المسيح اذ انّ هدفهم ليس مطابقاّ لهدف المسيح. لم يقتلوه لاتمام مشيئته وانّما بغضاً به .
ويعطي امثلة اخرى يقول، وكذلك نقول في الذين يخرجون للجهاد في سبيل الله: إن كانوا لا يُريدون ان يقتلوا فليس موتهم بإرادتها، فلا فضل لهم ولا هم شهداء. وان كان قتلهم بارادتهم فلا عقوبة تلزم قاتلهم، إذ إنّما أكمل ارادة الشهداء. وكيف لايجب عقابه وقد قتل الشهداء، وهو عدوّهم في دينهم؟ وكما لا يفلت هؤلاء من العقوبة، وإن كانوا اكملوا إرادة المقتولين، لانّهم لم يكونوا يقصدون تكميل ارادتهم، كذلك أمر اليهود مع المسيح، وقد بينّنا انّه قبِل بإرادته ما ارادوه من صلبه وقتله. فلو خلّص ذاته من الصلب، لم يكن به حاجة أن يصلب، ولو لم يصلب لم يمُت، ولو لم يمُت لم يقُم، ولو لم يقُم -روحانيّا بحياة دائمة- لم يكنْ للبشر رجاء في القيامة. فلم يكن حالهم في العبادة شرّاً وجهراً وفعلاً وفكراً على ما هي عليه اليوم مع اعتقاد القيامة والمجازاة خيراً وشرّاً .
ثمّ يتابع طيموثاوس شرحة لأهميّة صلب المسيح. يقول: فَليَثْبُتْ في الناس رجاء القيامة، قام المسيح بناسوته من الموت، ولو لم يصلب لم يشتهر موته حتّى تشتهر قيامته، لكي لا يُظنّ ان موته كان خيالا. فلابُدّ من صلبه. ولو خلّص نفسه من اليهود لم يصلب، فكذلك لم يخلّص نفسه من ايديهم. ولو صعد الى السماء من غير موت، لم تنتفع الناس، كالحال مع أخنوخ وإيليّا، وكما تلزم اللاّئمة إخوة يوسف بحسدهم له وبيعه، وان كانت عاقبة ذلك صارت الى تمليكه بأرض مصر وتخليصه أهلها من الغلاء بتدبيره وتخليصه إخوته ووالده من الجوع، لانّهم ارادوا ابطال ذكره لا تشهير ذكره وعبوديّته وطرده من وطنه وبيت أبيه لا سيادته إذ لو علموا العاقبة لما باعوه أبداً. كذلك اليهود والشيطان معلّمهم، لو علموا أن المسيح يقوم ويعبد من جميع الامم لما صلبوه .
يؤكّد هنا طيموثاوس ضرورة الصلب، لانّه إن لم يكن الصلب، لم تكن القيامة. ثمّ يسترسل فيذكر مثالا آخر. يقول: وأيضاً فلو همّ الملك ليهدم قصره، ليبنيه جديداً أفضل ممّا كان قديماً، ولم يعلم أحد، فأتى عدوّه ليلا وهدمه قصداً في إضراره لا تكميلا لقصده: أفما كان يستوجب عقاب ذلك الملك؟ كذلك المسيح اراد ان يحلّ هيكله، الذي هو جسده، ويبنيه افضل ممّا كان، لانّه كان جسديّاً فأقامه روحيّاً، وكذلك قال: “أنقضوا هذا الهيكل وأنا أقيمه في ثلاثة أيّام”، وعنى بالهيكل جسده .
وخلاصة القول ان الخلاف القائم بين المسيحي والمسلم بخصوص صلب المسيح، يرجع لسببين:
الاوّل : نظرة المسلم الى النبي .
الثاني: نظرته الى الله .
فالمسلم يرى النبي إنساناً قديراً وقويّاً، لا يدخل عليه الهوان، لذلك علينا ان نفعل كما فعل طيموثاوس، فنظهر أنّ المسيح كان قادراً على خلاص نفسه، وكان قويّاً، ولكنّه شاء -محبّة بنا- أن يموت على الصليب لخلاصنا .
امّا الخلاف الثاني، فهو أهم ويمس نظرتنا لله تعالى. ان المسلم لا يفهم ان الله قد يشاء ان يكون ضعيفاً، فيأخذ صورة البشر، بل كما قال بولس الرسول صورة العبد. ونحن نريد ان نؤكّد هذا المعنى، أن الله تعالى اراد الضعف محبّة فينا .
والسؤال هنا: هل نؤكّد هذا في حياتنا؟ ونظرتنا الى العلاقة الاجتماعيّة بيننا وبين المسلمين: هل توضّح معنى الصلب ومعنى ان الله تعالى شاء ذلك؟
طيموثاوس الجاثليق يتابع حواره مع الخليفة،
والمتابعة هذه المرة تدور حول شخصية نبي الإسلام محمّد
مداخلة جديدة حول بناء علاقة حية بين المسيحي والمسلم، نتابع قراءة وتعليق حوار طيموثاوس الجاثليق الذي تم في القرن الثامن للميلاد. ومن الغريب ان ما يقوله طيموثاوس آنذاك هو تقريبا ما نسمعه اليوم في القرن العشرين. من أهم نقاط الخلاف بين المسلم والمسيحي نظرنا الى الوحي – الى الكتاب المقدس .
يرى المسلم ان القرآن هو الكتاب المُنزل الذي يشمل كل ما سبقه من الكتب السماوية. (التوراة والإنجيل) .
ولكنّ المسلم يلاحظ ان هناك بعض الإختلافات بين ما جاء في الانجيل وما جاء في القرآن. فيحاول ان يُعلّل هذا بقوله: ان المسيحيين قد حرّفوا الإنجيل. لأن الإنجيل مُنزل في نظره من عند الله، ولا يمكن أن يناقض الله ذاته. فكيف يكون إذا تناقض بين بعض آيات الإنجيل، وبعض آيات القرآن؟ لذلك أتوا بما سمّوه نظرية التحريف / تبديل الإنجيل والتوراة .
وهنا نرى كيف اتى السؤال على ايام طيموثاوس:
قال المهدي: من اعطاكم الإنجيل؟
قلت: المسيح!
قال: قبل صعوده أم بعد ذلك؟
قلت: قبل صعوده، لأن الإنجيل هو قصَص تدبير المسيح وقوله وفعله في حال ظهوره بالجسد. وهذا كان قبل صعوده .
قال: أليس متى ومرقس ولوقا ويوحنا كتبوه؟
قلت: نعم لمّا حلّ عليهم روح القدس كتبوا ما هداهم إلى كتابته مما رأوا وعلموا من تدبير المسيح وأقواله وأعماله .
هنا نلاحظ الخلاف الأول بين مفهوم الوحي لدى المسلمين ولدى المسيحيين. فالمسلم يقول ان القرآن أنزله الله تعالى على محمد، فهو مُنزَل. أما المسيحي فيقول ان الإنجيل مُوحى. عندما يقول المسلم إن الله هو الذي كتب القرآن، يقول المسيحي: إن الله تعالى أوحى الإنجيل وأما الكاتب فهو الإنجيلي (متى ومرقس ولوقا ويوحنا) وهذا خلاف كبير في المفهوم، فالوحي يختلف عن التنزيل .
ثم تأتي مشكلة ثانية .
يقول المهدي: فما هذه المخالفة بين الأناجيل الأربعة .
قلت: في اللفظة لا في المعنى! كما لو ان نفرا وضعوا المخلوقات التي هي أعمال الله. فمنهم من وصف السماء وما فيها من مُجملا، ومنهم من وصفها مفصّلا، ومنهم من وصف بعض ما فيها دون بعض، ومنهم من وصف الارض مع السماء. وكذلك لو ان قوما وصفوا الشمس فواحد وصف إرتفاعها، وآخر وصف نورها، وآخر وصف حرارتها وإستبدارتها وعِظَمَها. فأقوال هؤلاء الواصفين وإن تغايرت إلا أنها ما تناقضت ولا تعاندت، فكلهم صادقون .
هذه النقطة أساسية في المفهوم المسيحي لدينا أناجيل أربعة يصفون مسيحا واحدا. فالخلاف بين الأربعة لا يدخل باب التناقض وإنما في باب التكامل أو الإختلاف .
قلت إن الخلاف الأساسي فيما يخص الإنجيل بين المسيحية والاسلام هو قول المسلم بأن الإنجيل مُحرّف .
يا ترى لماذا يدّعي المسلم ذلك؟
السبب الأساسي هة أن المسلم يعتقد أن الإنجيل كان يشهد بإتيان نبي بعده إسمه أحمد – أي محمد – وأن هذه الشهادة حذفها المسيحيون فيما بعد .
إليك قول الخليفة المهدي:
قال: كما صنعت اليهود ولم يقبلوا المسيح، كذلك صنعت النصارى ولم يقبلوا محمدا .
قال طيموثاوس: الاّ أن اليهود ما محو من كتبهم شهادات الأنبياء عن المسيح. ولثبوتها عندهم يُلامون ويعاقبون. فأما نحن فلمّا لم نجد شهادة على محمد، إمتنعنا من قبوله .
قال المهدي: أُبطِلّت فقد كانت الشهادات عندكم كثيرة فمحوتموها وغيرتموها .
قال طيموثاوس: وأين هو الإنجيل والنبؤات التي منها يُعرف التغيير؟ وما قُصِد بتغيرها من الفائدة من عِزٍّ في الدنيا. أو ثواب في الآخرة .
فالدليل الاول إذا على عدم تبديل الإنجيل عدم وجود في أي إنجيل هذه الشهادات على محمد. لذلك يقول المدافعون المسيحيون دائما: اأتونا بلإنجيل غير المحرف .
والدليل الثاني من حذف هذه الشهادات. ثم يتابع طيموثاوس فيقول: أية حاجة كانت إلى تغييرها وقد كان يُمكننا أن تقول إن محمدا الذي شُهد له بالإنجيل. ليس هو هذا وسيأتي فيما بعد وسوف نؤمن به، كما قالت اليهود إن المسيح ليس هو هذا وسيأتي فيما بعد ونؤمن به. ويلخص قوله بأن يقول: لكن الله يعلّم مني صدقا ويشهد على ضميري سرا، لو وجدت في الإنجيل شهادة واحدة على رسالة محمد لانتقلت من الإنجيل الى القرآن كما انتقلت من التوراة الى الإنجيل. فيكرّّر المهدي عليه سؤاله: فلم لا قبلت شهادة الأنبياء والإنجيل على محمد؟
فيجاوبه طيموثاوس: لا والله! ولو وجدت لما تركت ما إعتزّ به في الدنيا وأثاب عليه الآخرة
فقال الخليفة: وممن هو الفارقليط؟
قال طيموتاوس: الفارقليط هو روح القدس كما شهد الإنجيل إنه روح الحق الذي ينبعث من الآب. وقال المسيح أنه يرسله إلى تلاميذه إذا مضى إلى الآب .
فالفارقليط ينبعث من الآب ويأتي من السماء والمسيح يرسله. .. أما محمد فمن آدم وما أتى من السماء ولا أرسله المسيح .
ثم أن الفارقليط هو مع تلاميذ المسيح ومنهم، كما قال المسيح في الإنجيل – أما محمد فهو ليس كذلك. ثم أن الفارقليط هو مع تلاميذ المسيح وفيهم. كما قال المسيح في الإنجيل. أما محمد فهو ليس كذلك .
ثم ان الفارقليط علم التلاميذ الشريعة المسيحية التي علموها للناس. أما محمد فعلّم خلافها. ثم أن الفارقليط هو روح الله، ومحمد ليس هو روح الله .
هذا ما قاله طيموثاوس، وخلاصة القول أن الفارقليط روح الحق المُعزّي لا يمكن أن ينطبق على محمد .
فإذا كيف يدور الحوار عن صحة الإنجيل بين المسيحي والمسلم؟
يقول المسلم: إن الأناجيل تناقض بعضها بعضا. بدليل أن هناك أناجيل أربعة .
فيجاوب المسيحي بقوله: بين الأناجيل إختلافات وتغايرات ولكننا لا نجد بينها تناقضات. وهذه الإختلافات لا تُقلّل من صحة الإنجيل بل إنما تدلُّ أحسن دلالة على صحتها. فلو أراد المسيحيون تُبدّل الإنجيل لكان قد حذف هذه الآيات التي تُشكْك القاريء. أما لأنها تؤكد بشرية المسيح أو لأنها تختلف عن آيات أتت في الأناجيل الاخرى. فالاختلاف الكائن بين الأناجيل أقوى دليل على صحتها .
عندئذٍ ينتقل المسلم إلى نقطة اخرى فيقول:
إن الأناجيل مُبدّلة ومحرفة .
فيرد المسيحي ويقول. لماذا حرّفنا الإنجيل؟ وما الهدف من وراء ذلك؟ ومتى تم هذا التحريف؟ وعليكم انتم المتهِمون أن تأتوا بإنجيل غير محرّف .
عندئذ ينتقل المسلم إلى نقطة ثالثة فيقول: فلنفرض أنّ الأناجيل غير محرّفة ونجد فيها إشارة الى محمد عندما يُبشر المسيح بالبارقليط .
فيقول المسيحي: إن البارقليط ليس ينطبق على محمد وانما ينطبق على روح القدس .
كل هذا الحوار يؤدي الى سؤال جوهري في نظر المسلم وهو: ما قولك في محمد. وهذا ما سنراه الان .
يقول المهدي ليطموثاوس: ألست تقول عن كتاب محمد أنه من الله؟
قلت: ما أقول هذا ولا نقيضه. لكن امير المؤمنين يعلم أن جميع ما ورد من كلام الله في التوراة والأنبياء والإنجيل لم تقبله الناس في أ,ل وروده إلاّ بالآيات. كما صنع موسى والأنبياء والمسيح ورسُله على ما تشهد به كتبهم (أعني التوراة والنبؤات والإنجيل). فأما هذا الكتاب الآخير فلم تُذكر فيه آيات. ولما أراد الله أن يُثبت دين التوراة أثبته بالآيات على يد موسى ومن ورد من بعده من الأنبياء. ولما أراد أن يورد الإنجيل بدله حقّقه بما فعله المسيح من الآيات الباهرات في حال ظهوره بالجسد. وما فعلته رسله منها بإسمه. متحقّق بالآيات عند الناس أن الإنجيل كلام الله. كما تحققه بها عند بني إسرائيل أن التوراة كلام الله
نرى هنا أن دليل الآيات أساسي في الدفاعع المسيحي الإسلامي. فالله يرسل مرسليه. ولكن كيف يعلم الإنسان أن هذا الرسول مرسل من عند الله؟ الدليل على نبؤءة النبي هي الآيات. فالآيات تدّل على ان الله هة المُرسِل. لأنها أفعال يعجز الانسان بالقيام بها. ولا يمكن القيام بها إلاّ الله تعالى. لذلك يجب على كل نبي أن يأتي بآيات .
بل يقول طيموثاوس: ينبغي على النبي أن يأتي بآيات أقوى من آيات من سبقه خاصة إذا بدل منا سبقه.
قال: فكان ينبغي أ، يُحَقِّق هذا الكتاب – أي القرآن – أيضا بالآيات كالتوراة والإنجيل أكثر من آيات التوراة لإحتياج الوارد بعده إلى أكثر من الوارد قبله .
ولو جاز قبول ما يِرَدُ هكذا بغير آيات لقُبلَت كتب كثيرة من كلّ مدّع. ولكان ورود الآيات مع التوراة والإنجيل زيادة بلا فائدة. ولولا أ، الآيات شهدت للتوراة لما وجب أن تُقبل .
وخلاصة القول في ضرورة الآيات ما يقوله طيموثاوس: ولو أن موسى والأنبياء شهدوا بدين المسيح مع شهادات آيات المسيح ورسله، لما وَجَب أن يُقبل. وهكذا إذ لم نجد الأنبياء والمسيح شهدةا بهذا الكتاب ولا شهدا هذا الكتاب بعمل مورده آيات لم نستجز أن نقبله خوفا من الله تعالى .
ما معنى هذه الخلاصة؟
أولا: كل نبي يأتي من عند الله عليه أن يأتي بآيات. وإن أتى بكتاب وَجَبَ أن يشهد من سبقه من أنبياء الله عليه بشهادات واضحة .
ثانيا: كذلك لم يأتِ محمد بآيات وكان من المفروض أن يأتي بآيات أقوى من الإنجيل. ومعلوم أن محمدا لم يأتِ بآية الاّ القرآن. لذلك سُمّيَ القرآن بالمعجزة. ويقول المسلم بإعجاز القرآن. وكل ما نُسِب إلى محمد من آيات لاحقا لا نجد لها ذكرا في القرآن .
ثالثا: نلاحظ اخيرا إن أردنا أن نعتبر القرآن منزلا من عند الله حتى إن أردنا ذلك خوفا من الله لأننا نريد أن نكون أمناء على قول الله تعالى .
فإذا يقول طيموثاوس: إنّ قول موسى إن الله يقيم لكم نبيا من إخوتكم لا ينطبق على محمد لأنه ليس من أخوه إسرائيل. وقوله من إخوتكم مثلي لا ينطبق على محمد لأن محمدا لم يأتِ بآيات كموسى .
لقد رأينا في الحلقة العاشرة لماذا يرفض طيموثاوس أن يقول: “إن القرآن الكريم منزل”، وكما يرفض ان يقول: “إن النبي محمد نبي”. وهذه النققطة نقطة شائكة بين المسيحية والاسلام. وعلينا أن نفهم سطور إخوتنا المسلمين فإنهم يقولون إنّا نعترف بأن المسيح نبي فلما لا تعترفون بأن محمدا نبي؟
رأينا في الحلقة السابقة أسباب عدم إعترافنا بنبؤّة محمد. وتتذكرون أن طيموثاوس أوضح أن المسيح خاتم الأنبياء ولا يمكن أن يأتي نبيٌ بعده. ولكن هذا لا يعني أن محمدا لا فضل له على البشرية عند الله. فلنستمع الى رأيه في محمد .
– يقول طيموثاوس: إن محمدا يستحق المدح من جميع الناطقين لأجل سلوكه في طريق الأنبياء ومحبي الله. هذه فكرة أساسية. محمد سلك في طريق الأنبياء. كيف ذلك؟
يقول طيموثاوس: لأن سائر الأنبياء قد علّموا عن وحدانية الله ومحمد علّم عن ذلك. فإذاً هو سلك في طريق الانبياء. ثمّ كما أن جميع الأنبياء أبعدوا الناس عن الشروالسيئات وجذبوهم إلى الصلاح والفضيلة، هكذا محمدٌ أبعدد بني أمته عن الشر وجذبهم إلى الصلاح والفضائل. فإذاً هو أيضاً سلك في طريق الأنبياء .
ثم إن جميع الأنبياء منعوا بني البشر من سجدة الشياطين وعبادة الاوثان وحرّضوهم على عبادة الله عزّ وجل والسجود لجلالته، هكذا محمد منع بني أمته من عبادة الشياطين والجدة للأوثان، وحرّضهم، على معرفة الله والسجود له تعالى، الذي هو وحده إلهٌ وليس بإله أخر سواه .
وهنا إشارة واضحة إلى شهادة المسلمين عندما يقولون “أشهد أن لا إله إلاّ الله”. فقد إتضح إذاً بقول طيموثاوس أنه قد سلك في طريق الأنبياء. ثم إن كان محمد قد علّم عن الله وكلمته وروحه فجميع الأنبياء تنبأوا عن ذلك. فمحمد إذاً قد سلك في طريق الأنبياء. وهنا نرى ذكاء طيموثاوس إذ يقول إن محمد قد علّم عن الله وكلمته وروحه أي عن الثالوث، كما فعل جميع الأنبياء. الفكرة هي أن التوراة والقرآن يشهدون بالثالوث وإن كانت هذه الشهادة بغير علم منهم. فقد أوضح المسيح بلآنجيل سرّ الثالوث. ولكن نجد بواشر هذا الشر في التوراة كما أنّا نرى في القرآن مت فهمه كإشارة إلى الثالوث. هذه أربعة أسباب تجعل طيموثاوس يعتبر أن محمداً سلك طريق الأنبياء .
عندئذ يأتي طيموثاوس بسبب آخر الا وهو جهاد محمد في سبيل الله. ويشبه غيرة محمد لله بغيرة موسى وابراهيم لله تعالى .
يقول: فمن لا يمدح ويكرّم ويبجّل ذاك الذي يحارب من أجل الله ليس بالكلام فقط بل وبالسيف أيضا أظهر الغيرة لأجل الباري تعالى .
نعم إن الجهاد إذا نظرنا إليه نظرة المجاهد في سبيل الله يدّل على غيرة المجاهد لله تعالى، فهو مستعدٌ لان يُضحي بحياته في سبيل الله. وكم منا نحن المسيحيين مستعدٌ لأن يضحّي بحياته جسدياً أو روحياً في سبيل الله .
ثم يُقارن طيموثاوس محمداً بموسى ويقول:
وكما فعل موسى النبي في بني إسرائيل الذين صنعوا عجلاً من الذهب وسجدوا له، فقتل بالسيف وأباد جميع الذين سجدوا للعجل، هكذا محمد ايضاً صنع لمّا أظهر الغيرة لأجل الباري سبحانه وتعالى، واحبه وكرّمه أكثر من نفسه ومن عَشيرته وبني أمته .
والذين كانوا يتبعونه في اكرام الله ومخافته، كان يمجدهم ويكرّمهم ويوعد لهم أيضاً الجنّة والمجد والإكرام من لدن الله في العالم والآخرة بالجنة. والذين كانوا يعبدون الأصنام ويسجدون لها، كان يحاربهم وينذرهم بعذاب أليم في نار الجحيم التي بها يحترق المنافقون وهم فيها خالدون .
ثم يقارن محمد بإبراهيم فيقول: وكما فعل إبراهيم خليل الله الذي ترك الأوثان وأبناء جنسه وتبع الله وسجد له فصار يُعلّم عن وحدانية الله للأمم، هكذا صنع أيضا محمد لمّا تركَ سجدة الأوثان والذين كانوا يسجدون لها من بني جنسه وغيرهم من الغرباء. فأكرم فقط ذاك الذي هو وحده الإله الحق وسجد له .
وخلاصة رأي طيموثاوس كما يلي: لأجل ذلك كرّمه الله تعالى جداُ. واخضع تحت مواطيء قدميه الدولتين القويتين اللتين كانتا تزأران كالأسد والرعد كان يُسمَع في العالم صوتهما، أعني دولة الفرس ودولة الرومانيين .
فالأولى كانت تسجد للمخلوقات عِوَضَ خالقها – والأخرى أي دولة الروم البيزنط، كانت تنسب الآماً وموتاً بالجسد لذاك الذي لا يتألم ولا يموت مطلقا. ويرى طيموثاوس أن إنتصار دولة الإسلام على دولة الفرس ودولة الروم كان دليلاً على تأييداً الله لمحمد ولأمته .
ثم يسترسل فيقول: فوسّع الله تعالى سلطة مملكته بيد أمير المؤمنين واولاده من المشرق إلى المغرب ومن الشمال الى الجنوب فمن لا يمدح أيها الملك المظفّر ذاك الذي مدحه الله، ومن لا يظفّر اكليل التمجيد والتبجيل لذلك الذي مجدّه الله وبجلته، ومحمد لذلك ومثل ذلك أنا وجميع مُحبي الله ما تقوله عن محمد أيها الملك المظفّر .
عندئذ إنشرح وجه الخليفة وقال لطيموثاوس: إذا ينبغي لك أن تقبل كلام النبي .
فجاوبته: عن أي كلام يقول ملكُنا؟
فقال لي الملك: الكلام الذي يقوله عن الله. إنه واحد وليس آخر دونه .
فجاوبته قائلاً: إن الإعتقاد باله واحدٍ قد تعلمته أيها الملك من التوراة والأنبياء والإنجيل وبه أنا متمسك ومن أجله أموت .
هنا نتوقف قليلاً ونتساءل عن شهادة طيموثاوس هذه. ماذا يعني طيموثاوس؟
رأينا في الحلقة السابقة أنه قال أن محمداً ليس نبي لأن لا نبي بعد المسيح ولأنه لم يأتِ بآيات. ورأينا في هذه الحلقة أنه يقول أن محمداً سلك في طريق الأنبياء. فما رأيه؟
أعتقد أن رأي طيموثاوس رأي صائب. لا يعترف بنبؤة محمد، ولا يقول إنه دجّال أو كذّاب كما يقول للأسف بعض المسيحيين. يعترف بفضل محمد على العرب بما أتى من توحيد والسجود لله تعالى والنهي عن المنكر والأمر بالمعروف وبما أثبته من غيرته لله تعالى. ولكن هذا لا يدلّ على أنه نبي. فموقفه موقف وسط. وعلينا أن نتعلّم منه كيف أم نميّز بين أمور الدين، الاّ نرفض رفضاً إجمالياً الإسلام ولا نعتنقه .
وإليكم ما حدث ين طيموثاوس الكاثوليك يوماً والخليفة الهادي. ذكره عمرو بين متى في كتاب المجدل. . .
يقول: وكان الخليفة الهادي فيأكثر الأيام يستدعي به إليه ويحاوره في الدين ويبحث به معه ويناظره في أشياء كثيرة ويطرح عليه كثيراً من المسائل المشكلات والايرَادات المُعجِمات. وكان طيموثاوس يُجيب عن جميعها أجوبة قاطعة ومسكتة. وله معه مباحث يطول شرحها وقد ضمّنها جملة ومفصلة كتابه الكبير المشهور عنه، فمن وقف عليه وتأمله فاز بمعرفة أشياء عجيبة وإذ عن له بالفضل وغزارة العلم. وكذلك أيضاً كان يتأتى له مع هارون الرشيد لمّا تولى الخلافة. ومن جملة ما جرى له معه ذات يوم عند إنقضاء المجلس قال له هارون الرشيد:
“يا أبا النصارى، أجبني عمّا أسألك بأختصارٍ. وأيّ الأديان عند الله الحقّ؟” .
فقال له طيموثاوس وهو مسرعاً: الذي شرائعه ووصياه تُشاكل أفعال الله في خلقه .
فأمسك عنه. فلّما انفصل من المجلس قال (الرشيد) لله درّه! لو قال النصرانية لأسأت إليه. ولو قال الإسلام لطالبته في الإنتقال إليه ولكنه أجاب جواباً كلياً لا دفعَ له واضحرَ في نفسه دينه لما تضمّنه عندهم بالإنجيل بقوله: “أحبوا أعداءكم وباركوا على من لعنكم واحسنوا إلى من أساء لكم، وكونوا متشبهين بأبيكم الذي في السماء الذي يرسل مطره على الأخيار والأشرار ويطلع شمسه على الأبرار والفُجار” .
ولا زال هذا الاب يدافع عن دين النصارى ودبّر تدبيراً صالحاً بأجتماع الأباء ثمانية وتسعين قانوناً في الفرائض والأحكام. وفي كل قانون منها مسألة وجواب وولى في زمانه من الخلفاء الهادي والرشيد والأمين والمأمون. لقد إنتهى حوار طيموثاوس مع الخليفة المهدي. فيا تُرى ما رأينا فيه؟
إن طيموثاوس من كبار المحاورين ولا أقول من المجادلين. آنه يستعمل الجدل المنطقي الذي درسه عن أرسطو للدفاع عن إيمانه. إلا أنه لم يستعل السخرية مثلاً لإتهام العدو ولم يستعمل ابداً المغالطة، ولم يُنكر فضل من يقاومه .
أن يحاور بمعنى الكلمة يبحث عن القاسم المشترك الموجود بينه وبين من يُقاسمه، لم يعتبر أبداً المسلم عدواً له. ومن ناحية أخرى لم يتنازل أبداً عن إيمانه فليس في الإيمان مساومة، إنه يؤمن بأن المسيح إبن الله الحق مخلّص العالم. إن المسيح صُلب وقام وأحيانا. يؤمن أن المسيح أتى بكل شيء ولا داعي إلى إتيان نبي آخر. ولكن هذا لا يعني أن كلّ من أتى من بعده وادّعى النبؤة كاذباً .
أنه يتمسك بإيمانه دون أن يجرح إيمان أخيه. أقترحُ أن نتخذ طيموثاوس قدوة لنا وأن نقول معه أن محمداً سلك في طريق الأنبياء وإن لم يكن نبياً في نظرنا .

حنين بن اسحق : الدين الحق
“حنين بن اسحق”، هو من كبار مفكري العرب في العصر العباسي، بل هو أكبر مترجم وهو ايضاً طبيب وفيلسوف .ولد حنين ابو زيد بن اسحق بن سليمان بن ايوب سنة 808 في الحيرة، وكانت الحيرة تتألف بثلثها من قبيلة بني العباد المسيحية. وتعلم وحصل على ثقافة عالية في مدينته الحيرة وفي البصرة. ثم درس حنين الطب على يد ” يوحنا بن ماسويه ” في مدرسة جند صابور في ايران، الا أنه بعد فترة اضطر الى ترك معلمه يوحنا بعد خصام وقع بينهما وغادر جند صابور الى بلاد الروم، حيث عاش نحو سنتين، تعلم فيها اللغة اليونانية وأتقنها. فأصبح حنين متمكناً من أربع لغات : السريانية والعربية والفارسية واليونانية. ثم عاد الى بغداد والتقى بمعلمه يوحنا بن ماسويه، وشجعه معلمه القديم على الترجمة. بل انه عفى عنه وقدمه الى الخليفة المأمون ووكل اليه المأمون ادارة ” بيت الحكمة ” بعد يوحنا بن ماسويه .
وكما قلنا هو أشهر مترجم عند العرب، با انه أدخل أسلوباً جديداً في الترجمة، فبعد ان كان المترجمون يترجمون كلمةً كلمةً، فيجدون لكل كلمة يونانية او سريانية مرادفاً عربياً، أخذ جنين بأسلوب جديد، فترجم معنى الجملة الأجمالي الى اللغة العربية ترجمة فصيحة .
هذا وقد كان حنين متمسكاً بدينه وايمانه، كما كان متمسكاً بثقافته وعلمه. وقد ذكر ابن ابي أصيبعة، مؤرخ الطب العربي حادثاً أريد ان أذكره قال : ” أن حنين لما قوي أمره وانتشر ذكره بين الأطباء واتصل خبره بالخليفة، أمر بأحضاره. فلما حضر، أقطع اقطاعات حسنة وقرر له جارٍ جيد. وكان يشعره بزبور ملك الروم، وكان الخليفة يسمع بعلمه ولا يأخذ بقوله دواءً يصفه حتى يشاور فيه غيره. أي أن الخليفة لم يكن يثق كل الثقة بحنين، وأحب أمتحانه حتى يزول ما في نفسه عليه. فأستدعاه يوماً وأمر بأن يخلع عليه، أي بأن يهب مواهب مادية كبيرة، وأحضر توقيعاً فيه اقطاع يشتمل على خمسين الف درهم، فشكر حنين هذا الفعل، ثم قال الخليفة بعد أشياء جرت : ” أريد أن تصف لي دواءً يقتل عدواً نريد قتله ولا يمكن اشهاره ونريده سراً .” فقال حنين : ” يا أمير المؤمنين ،اني لم أتعلم الا الأدوية النافعة، وما علمت أن أمير المؤمنين يطلب مني غيرها، فأن أحب أن أمضي أتعلم فعلت ذلك. فقال الخليفة : هذا شيء يطول! ورغّبه وهدده وهو لايزيد على ما قاله الى أن أمر الخليفة بحبسه في بعض القلاع ووكل به من يوصل خبره اليه وقتاً بوقتٍ ويوماً بيومٍ . فمكث سنةً في حبسه، دأبه النقل والتفسير والتصديف وهو غير مكترث بما هو فيه ” .
هنا تعليق بسيط، من المعلوم ان الطبيب يتعهد بألا يعطي أدوية مضرة لأي انسان، حتى ان كان هذا الأنسان عدوه. ولذلك رفض حنين ان يهيأ دواءً لقتل العدو .
نرجع الى نص ابن أبي صبيعة :” فلما كان بعد سنة، أمر الخليفة بإحضاره واحضار اموالاً يرغبه بها، وأحضر سيفاً وسائر آلات العقوبات، فلما حضر حنين قال الخليفة : هذا شيء قد كان ولا بد مما قلته لك، فأن انت فعلت فقد فزت بهذا المال وكان لك عندي أضعافه. وان امتنعت قابلتك بشر مقابلة وقتلتك شر قتلة. فقال حنين : قد قلت لأمير المؤمنين، اني لم أحسن الا الشيء النافع ولم أتعلم غيره. فقال الخليفة : فأني أقتلك. فقال حنين : لي رب يأخذ بحقي غداً في الموقف الأعظم، فأن اختار امير المؤمنين أن يظلم نفسه فليفعل. فتبسم الخليفة وقال له : يا حنين طب نفساً وثق الينا. فهذا الفعل كان منا لإمتحانك لأنا حذرنا من كيد الملوك ومن اعجابنا لننتفع بعلمك. فقبل حنين الأرض وشكر له. فقال له الخليفة : يا حنين ما الذي منعك من الأجابة مع ما رأيته من صدق عزيمتنا في الحالين. فقال حنين : شيئان يا امير المؤمنين. قال : وما هما؟ قال : الدين والصناعة. قال : فكيف؟ قال : الدين يأمرنا بفعل الخير والجميل مع أعدائنا. فكيف مع أصحابنا وأصدقائنا ويبعد ويحرم من لم يكن كذا. والصناعة تمنعنا من الأضرار بأبناء الجنس لأنها موضوعة لنفعهم ومقصورة على مصالحهم، ومع هذا فقد جعل الله في رقاب الأطباء عهداً مؤكداً بأيّمَانٍ مغلظة ان لا يعطوا دواءً قتالاً ولا ما يؤذي. فلم ارى ان اخالف هذين الأمرين من الشريعتين ووطنت نفسي على القتل، فأن الله ما كان يضيع من بذل نفسه في طاعته وكان يثبه. فقال الخليفة : انهما لشريعتان جليلتان، وأمر بالخُلَعِ فخُلِعَت عليه وحُمِلَ المال بين يديه، وخرج من عنده وهو أحسن الناس حالاً وجاهاً ” .
هذه القصة التي رواها المؤرخ المسلم بن ابي أصيبعة، توضح موقف حنين، فهو طبيب امين للعهد الذي تعهده، “عهد بقراط” كما يسمى. ومسيحي امين على حفظ الأنجيل ولو أضطر الى الموت .
والآن اذكر مقالة كتبها للدلالة على ما هو الدين الحق عند الله. هذه المقالة وصلت الينا عن طريقين : أولاً عن طريق مقالة مفردة وضعها حنين في هذا المعنى . ثانياً عن طريق رد حنين على رسالة أرسلها اليه صديق له أسمه “ابن المنجم” يدعوه الى الأسلام .
واليكم هذا النص الثاني، قال حنين : “ومما رأيتك تصفه عن نفسك أكرمك الله قصدك الى نصيحتي، واقناعي بما قنعت به لنفسك. وعلى ما تبين لي أنه لم يكن ذلك منك الا حرصاً على أن تسمع في نقيضه ما يقول مخالفك، فتقايس بين الأمرين وتستدل على صحة كل واحد منهما من باطله. ثم رأيتك قد افتتحت قولك بأقتصاص أمر موسى والتوراة وعيسى والأنجيل واليهود والنصارى. فما أظن أنه كانت لك حاجة اليه مع معرفتي اياك واعتقادك ما تعتقده ومعرفتك ما أعتقده. ثم أتبعت ذلك باقتصاص أمر نبيك وامر كتابه وقومه، فتبينتُ من ذلك ما عجبتُ منه، لأنك زعمتَ أنه لا يمكن ان يكون ما جاء به نبيك فيه حيلة، أي القران، وادعيتَ فيه أنه كان أذكى أهل الأرض وألطفهم حيلةً وأدقهم فهماً ومعرفةً، وأن قومه كانوا من أجهل الناس وأغباهم، أي العرب، ولعمري ما تتهيأ الحيلة لأحد علىقوم الا أن يكون حالهم الحال الذي وضعت فيه قوم صاحبك، أي أنك جعلت النبي محمد من أذكى الناس والعرب من أجهل الناس، فوضعته موضع المحتال. وفكرتُ في أن يكون سهواً لَحِقَكَ في اخباري ذلك، وعجبتُ ايضاً في القول الذي زعمت انه برهان عليّ، وانت تعلم ان البرهان لا يقام على احد الا من اقراره. وانا لم أقر لك قط أن الكتاب الذي جاء به صاحبك حق ولا شيء مما وصفت فيه على ما حكي، فكيف يجوز لك أن تحتج عليّ بما لم أقر به عندك، ولا علمت قط أن صاحبك تحدى أقوامه بأن قال لهم فأتوا بصورة مثل أقل صورة في كتابي حتى أكذب نفسي فعجزوا عن ذلك. ولكن هذا ومثله مما رأيته في كتابك يدلني على أنك لم تقرأ كتاب البرهان، أي كتاب البرهان لأرسطوطاليس. وان كنت قد قراته فلم تستقصي فهمه لنفسك، فلذلك لم تسلك بعض طرائقه فضلاً عن ان تقول البرهان. وانا أبين لك صحة ذلك وأبين لك حال نبيي والحال في غيره، عن طريق الحجة التي يستعملها ذو اللب والعدل من غير تحايل ولا ميل انشاء الله تعالى” .
” فأقول ان صحة كل واحد من الأقاويل المقبولة بالخبر يُعرف حقه من باطله من الأسباب التي دعت من أول الأمر الى قبوله لأنها مباينة لأسباب الباطل. لأن أسباب الباطل هي ستة :
أولها: أن يُضطر القابل لمُخَاطِبه الى ان يقبل منه ما يقوله من غير ارادته ولا اختياره .
والثاني: أن يكون الأنسان في ضيق وشدة فينتقل منهما اذ لم يقدر على احتمالهما الى ما يرجو منه السهولة والسعة .
والثالث: أن يؤثر العزّ على الذلّ، والشرف على الضعة، والقوة على الضعف، فينتقل من دين الى غيره .
والرابع: أن يكون صاحب الكلام خبيثاً محتالاً في القول، فيموه به ويطغي من يدعوه اليه .
والخامس: أن يكون بين قوم كثيري الجهل فيستعين بجهلهم وقلة آدابهم على ذلك .
والسادس: أن يكون بين المدعو وبين غيره نسب طبيعي، فلا يحب قطع ذلك النسب فيما بينهما فيوافقه في دينه .”
ثم يذكر حنين أسباب قبول الحق وهي في نظره أربعة :
أولها: أن يكون القابل لها يرى أيات تعجز عنها طاقة البشر فيميل الى تلك المعجزات .
والثاني: أن يكون ظاهر ما يدعو اليه الداعي دليلاً وشاهداً على حقيقة ما هو خفي منه .
والثالث: البرهان المضطر الى قبوله .
والرابع: أن يكون اخر الأمر موافقاً لأوله وأن يكون اختياره بما تقدم بعد صحة ما سلف مما لا شك فيه .”
وبعد أن ذكرأسباب قبول الباطل وأسباب قبول الحق، يتساءل حنين، ما موقف المسيحية من تلك الأسباب؟ ويقابل بين المسيحية وبين أسباب قبول الباطل، فيقول :” فأنا مبين أمر ديننا وأنه قُبلَ من الأسباب التي بها يقبل الحق وليس فيه شيء من أسباب الباطل. فأقول أولها: أنه ما قبل بقوة من الملوك ولا حرب من السلطان، بل جميع ملوك الأرض قاوموه وناصبوه ومنعوا جميع من رام الدخول فيه بأصناف العذاب والقتل فغلبهم حتى بلغ وظهر وقُبل .” فالدليل الأول اذاً أن الأنجيل لم ينتشر بالسيف أو بقوة الملك بل العكس. “والثاني: أنه لم يدعو من أمر ضيق الى أمر واسع سهل، لكن دعا من الأمر الواسع السهل الى الأمر الضيق الصعب الكريه التي تأباه البشرية وتكرهه فيتلقى بالقبول والسرور. والثالث: أنه لم يدعو من الذلّ الى العزّ ولا من الخمول الى النباهة والسلطان. لكن بالعكس من العزّ الى الإتضاع ومتاركة الدنيا وملازمة الوحدة ومقاساة الغربة، فما ذلك الا حرصا على قبوله. حتى كان القابلون له يختارون الموت على الحياة. والرابع: أن الدعاة اليه لم يكونوا أصحاب حيل وتموه بالكلام، لكن كانوا قوماً اميّين مخفلين صيادي سمك، وهم اصمت من السمك. والخامس: أن القابلين له لم يكونوا اغبياء وجهلاء لكن بلاغاء في المنطق وهم فلاسفة العالم واصحاب البحث، من شهر بالحكمة ففضل فيها على جميع الناس، وكانوا ذوي اختباط في قدرهم لا يكاد يخفى عنهم غامض لا في علم ولا في عمل. والسادس: أن القابلين له ايضاً لم يكن قبولهم له ليصلهم بأصدقائهم وأحبائهم، لكن كانوا يفصلونهم ويقطعونهم عن ذوي أرحامهم وأودائهم، ويصلون الى الشقاء والتعب المباين لأغراض البشر مع مفارقة كل اتصال طبيعي واعتيادي. وان أحببت أن أزيدك خلّةً سابعةً: فأنظر وارى في نفسك، فإنك ترى أن مقالتنا خليقة أن تكون أصعب وأبعدها من الأقناع، وان ما اذاعه الحواريون من أمر هذا الدين لك يكن شيء أصعب منه .” يعني أن مقالة المسيحين من أصعب ما يمكن ورغم ذلك قبلت المسيحية وانتشرت” .
يختم حنين بن اسحق رسالته الصغيرة يقول: ” ولا يتسع لأحد أن يقول انه كان قبوله سوى الآيات والمعجزات التي تحققها القابلون للدين. وان انت احسنت النظر في ذلك، لم يلبث أن تعلم أنه ليس يقع بين هذا الدين وبين غيره قياس ولا حجة بينة يقبلها تاركو الزيغ والميل، وما احتاج في ذلك الى التطويل وتهجين يُغضب منه، ولا اذكر أساطير الأولين واقتصاص الأمور التي نحن واياك عليها مجمعون فإن الحق قريب وطريقه قصير، والباطل مُعطاس وطريقه طويل. وما أشك مع نبلك وفضلك انه تبين لك بما قد ذكرته واختصرت فيه وجه الأمر وجليته، ويرشدك الإقناع وينهيك عن التعب والفحص وتعرف قصد من ينصح صديقه بعقل ومعرفة والله يُرشد الى الصلاح .”
ماذا عنى حنين في هذه الرسالة؟ كان قد تساءل في مقالة أخرى شبيهة بتلك الرسالة، من أين يعلم الأنسان أن ما يعتقده هوالحق وأن ما يعتقده غيره هو الباطل. وقال لنا أن المسيحية هي الدين الحق لأنها تقوم على عكس أسباب قبول الباطل. أي أنها لا تقبل لأي منفعة في هذا العالم لا حباً بالقوة او بالعز او بالجاه او بالوسع، ولا محبة بالأقارب ولا لأي سبب بشريّ، وهو يشير ولا شك في ذلك الى أن المسيحية قامت على مبادىء روحانية، مبادىء الحياة الرهبانية، التي كانوا يسمونها الطريق الفلسفي، الحياة الفلسفية. يقول ابن أبي أصيبعة واضعاً هذا النص على فم جالينوس كبير الأطباء :” قد نرى القوم الذين يدعون نصارى، انما أخذوا ايمانهم عن المعجزة والرموز وقد تظهر منهم أفعال المتفلسفين ايضاً” .
فالدليل اذاً على صحة المسيحية في رأي الفلاسفة العرب، روحانية المسيحية. والسؤال موجه الينا: هل نعيش فعلاً هذا التواضع وانهم لا يستكبرون كما يقول القرآن عناّ؟ هل نعيش هذا الرفض للعالم كما يطالب به حنين!

(92) ) راجع المحاضرة التي ألقيتها في المعهد المسكوني للدراسات اللاهوتية العليا، بطنطور قرب القدس، يوم 20 مارس سنة 1980، والتي نشرت في أعمال المعهد بالقدس. Cf. Khalil SAMIR , S.J , Une théologie arabe pour l’Islam , in : Tantur Yearbook 1979-80 (Jerusalem 1981 ) , p. 57-84.
(93) ” رسائل حبيب بن خدمة المعروف بأبي رائطة التكريتي اليعقوبي “، تحقيق الدكتور جورج جراف GRAF، في مجموعة المؤلفين المسيحيين الشرقيين” (C.S.C.O ) عد=د 130 ( لوفان1951) ص 162 – انظر أيضاً : Khalil Samir , Liberté religieuse et propagation de la foi chez les théologiens arabes chrétiens du IXe siècle et en Islam , in Tantur Yearbook 1980-1981 ( Jerusalem 1982 ) , p. 93-164 , spéc p. 100-101 .
(94) أنظر مقالنا السابق ( حاشية 105) ص 97-121 ن حيث حللّنا النصّ وعلقنا عليه .
(95) (109) ) وقد نشر هذا الفصل الأب ENRICO GISMONDI اليسوعي، تحت عنوانت : ” أخبار فطاركة كرسي المشرق من كتاب المجدل لعمرو بن متى رحمة الله آمين ” ( رومية1896) ويقع في 7+157 صفحة. ثمّ ترجمة إلى اللاتينية سنة 1897 تحت عنوان :
(96) متى 5/44-45. راجع عمرو بن متى ( حاشية 76) ص 65/12-20 .
(97) راجع ” فنون المعارف، وما جرى في الدهور السوالف ” للمسعودي، وهو كتاب مفقود. لكنّ المؤلَّف نفسه ذكره في ” كتاب التنبيه والإشراف “، طبعة ميخائيل دي خويه MICHAEL JAN GOEJE)) في مجموعة المجلد الثامن (ليدن 1894) ص122/10-12 .
(98) راجع ” الفهرست ” لمحمّد بن اسحاق النديم، طبعة القاهرة ( المطبعة الرحمانية ) 1348 هـ (= 1928م) ص 369/6-7. وعلى ما يبدو، لم يستعمل النديم هذه العبارة إلا لثلاثة رجال : بقراط ( ص400/3-4) وجالينوس (ص4001/17-18) وأبي بشر متى بن يونس، أستاذ يحيى بن عدي ( ص415/5 من أسفل )
(99) عن يحيى بن عدي ومؤلَّفاته، راجع الأب سمير خليل اليسوعي : ” مقالة في التدحيد للشيخ يحيى بن عديّ (893-974) ” في سلسلة ” التراث العربي المسيحي ط التي أنشأناها، العدد الثاني ( لبنان وروما 1980 ) ص 19-57. اما عن مؤلفاته، انظر Gerhard ENDRESS , The Works of Yahyà Ibn ‘Adî. An; analytical inventory ( Wiesbaden , Reichert , 1977 ).
(100) راجع Augustin PERIER , Petits traités apologétiques de Yahyâ Ben ‘Adî. Texte arabe édité […] et traduit en français (Paris , 1920 ) , p. 18-23 .
(101) راجع الأب سمير خليل اليسوعي : ” مقالة في الاتحاد، للصفي ابن العسّال ” في مجلة ” الصلاح ” القاهرية، السنة 49 (1978)ص 43-46 و113-119 0 في سلسلة ” نفائس المخطوطات ” رقم 5و 6 ). وقد انقطعت السلسلة لأسباب إدارية وسياسية .
(102) راجع الاب بولس سباط : ” مباحث فلسفية دينية لبعض القدماء من علماء النصرانية ” القاهرة، المطبعة السورية، 1929) ص121. وقد أصلحنا قراءات عديدة وفقاً لطبعتنا الجديدة التي ستظهر مع ترجمة فرنسية في ” البترولوجية الشرقية ” Patrologia Orientalis)) عن قريب ،إن شاء الله .