تطويب الأم ماري ألفونسين: عظة غبطة البطريرك فؤاد طوال

الأحد 22 نوفمبر في الناصرة

روما، الثلاثاء 24 نوفمبر 2009 (Zenit.org) – ننشر في ما يلي العظة التي ألقاها غبطة بطريرك القدس للاتين فؤاد طوال، بمناسبة تطويب الأم ماري ألفونسين يوم الأحد 22 نوفمبر في الناصرة.

***

سيادة المونسنيور أنجيلو أماتو، عميد مجمع دعاوى القديسين وممثل الأب الأقدس،

إخوتي الأساقفة والكهنة الأعزاء،

أيتها الأم العزيزة إينيس اليعقوب، الرئيسة العامة لرهبانية الوردية، وأيتها الراهبات العزيزات في رهبانية الوردية،

إخوتي وأخواتي الرهبان والراهبات الأعزاء،

أيها الأبناء الأحباء في المسيح، مواطنو الناصرة،

أعزائي المدعويين من هنا أو من كل مكان،

أحييكم في المسيح يسوع وأمه، عذراء الناصرة، المفعمة بأصداء تاريخ وعطر التجلي الذي حصل هنا في هذا المكان، مكان تجسد المسيح. معكم وباسمكم، نرفع فعل شكرنا للرب على هذا الحدث الفريد في تاريخ كنيسة القدس، أم الكنائس. هذا الحدث هو تطويب الأم ماري ألفونسين، ابنة هذه الأراضي ومؤسسة رهبانية الوردية العزيزة على قلب العذراء وقلوبنا. هذه المؤسسة التي كانت متعبدة للعذراء ومقربة من السماء، نراها اليوم مرتفعة في مصاف الطوباويين. نرجو أن يشكل هذا اليوم منعطفاً في تاريخ بلادنا، وأن تظل هذه الأرض تنبت القديسين والشفعاء كما في بدايات الكنيسة.

نشكر سيادة المونسنيور أنجيلو أماتو على حضوره بيننا ممثلاً الأب الأقدس، وعلى قراءة مرسوم التطويب في كنيسة البشارة التي تحيي ذكرى حدث مهم في تاريخ البشرية. يعتبر مرسوم التطويب إنجيلاً، بشرى سارة لنا جميعاً. نشكر قداسة البابا الذي يعيد إحياء نفوسنا، ويفرح قلوبنا، وينفخ روحاً جديدة، ويجدد كنيستنا، ويدعونا إلى الرجاء السعيد بأننا قادرون نحن أيضاً أن نكون قديسين مثلها، وذلك من خلال تطويب الأم ماري ألفونسين.

إن الكنيسة التي لا تنبت قديسين وقديسات في صفوف رجال الدين والعلمانيين والرهبان تعتبر أماً عاقراً. ففي الواقع أن أكثر ما يهم ليس بناء صروح كبيرة وإعداد مشاريع ضخمة. إن شهادة القديسين هي أكثر ما تحتاج إليه الكنيسة. فالقداسة رمز مصداقية الكنيسة وأوراق اعتمادها. والقديسون هم أصح تفسير لإنجيل المسيح. يمكن فهم الإنجيل بطرق مختلفة ومقاربات مختلفة، إلا أن أوضح وأهم توضيح للإنجيل يقدم لنا من خلال حياة القديسين.

إن الأم ماري ألفونسين هي التوضيح العميق، التوضيح العربي والمقدسي، التوضيح الساطع لإنجيل المسيح.

ولدت الأم سلطانة غطاس وسط عائلة تقية وكادحة في القدس، عائلة يعمل أفرادها ويصلون معاً. منذ ريعان شبابها، شعرت سلطانة أن الله كان يدعوها لاعتناق الحياة الرهبانية. وما إن شعرت بالتوق إلى هذه الدعوة، أعلمت أهلها بالأمر لكنهم رفضوا. عانت الشابة كثيراً بخاصة من والدها الذي رفض رفضاً قاطعاً دخولها إلى الحياة الرهبانية. ففي الواقع أن والدها لم يرد أن تتخلى ابنته الحبيبة عنه وتذهب للدراسة في الغرب – الطريقة الوحيدة التي كانت متوفرة آنذاك لتصبح راهبة.

لكن سلطانة المحبة والمؤمنة والصابرة تمكنت من الحصول على موافقة أبيها وانضمت إلى رهبانية القديس يوسف الظهور. بعد نذورها الأولى، أوكلت إليها رئيستها العامة مهمة تدريس التعليم الديني في مدرسة الراهبات في بيت لحم. كانت الأخت ماري ألفونسين معلمة دين ممتازة، ومربية متواضعة ورسولة لا تعرف الكلل. خلال هذه الفترة، أسست في بيت لحم أخوية الحبل بلا دنس وجمعية الأمهات المسيحيات.

إن الرب رائع في قديسيه الذين ينالون النعمة من عينيه على قدر توقعاتهم ومحبتهم. عندما كانت ماري ألفونسين في رهبانية القديس يوسف، تراءت لها العذراء مرات عديدة وطلبت منها تأسيس رهبانية لبنات بلادها تحمل اسم “راهبات الوردية”. كما أنها حددت لها مرشدها الروحي، الأب يوسف طنوس الذي كان آنذاك أمين سر البطريركية اللاتينية كي يساعدها على تحقيق هذا المشروع المهم للكنيسة في القدس. فكشفت الأخت ماري ألفونسين كل ما رأته وسمعته من العذراء للأب الصالح. وسنة 1880، وضع الأب يوسف طنوس الحجارة الأولى للرهبانية التي عرفت نجاحاً كبيراً. فكيف لا ينجح المشروع الذي ترعاه العذراء القديسة التي يزخر الكون بمعجزاتها؟ إن كل ما تريده العذراء القديسة، يريده الله أيضاً. بعد مرور ثلاث سنوات على التأسيس، حصلت الأم ماري ألفونسين من روما على الإذن بالانضمام إلى الرهبانية الجديدة.

منذ اللقاء الروحي بين الأب يوسف طنوس والأم ماري ألفونسين، أصبحت رهبانية الوردية مرتبطة نظامياً بالبطريركية اللاتينية. ويبقى هذا الارتباط قائماً، مشكلاً إحدى المميزات الأساسية لرهبانية الوردية التي كانت وما تزال الذراع اليمنى للبطريركية اللاتينية في مدارسها ورعاياها ومؤسساتها. فكهنة البطريركية وراهبات الوردية يشهدون للإنجيل جيلاً بعد جيل في الأبرشية وفي بلدان عربية أخرى.

عرفت الأم ماري ألفونسين بالفضائل البطولية. هذه الفضائل ورثتها عن أهلها. ففي الواقع أن العائلة أولاً هي التي تزرع الفضائل البشرية والمسيحية في قلوب أبنائها. فقد كان أفراد عائلة غطاس يجتمعون كل مساء حول تمثال العذراء لصلاة الوردية. وكانوا يصغون إلى تأمل يتلوه الأب عن حياة المسيح أو العذراء. من هذا النبع الصافي تحديداً، ارتوت ماري ألفونسين، واستقت ورعاً عميقاً وإيماناً كبيراً بالعناية الإلهية وثقة تامة وبنوية بالعذراء. ولكنها تميزت بخاصة بفضيلتين هما حب الصمت والحياة الخفية من جهة، وحب الصليب والتضحية من جهة أخرى.

حب الصمت والحياة الخفية. إن الصمت نقيض الكلمة. والحياة الخفية تقدم التربة الملائمة لولادة الفضائل ونموها. ألم يقل الرب في الإنجيل: “فلتكن صدقتك في الخفاء” و”لا تدع يدك اليسرى تعلم ما تفعله اليمنى”؟ على الرغم من جميع الهبات التي نالتها، والرؤى التي حظيت بها، والتعليمات التي تلقتها من العذراء لتأسيس الرهبانية، حافظت الطوباوية على صمتها. لم تخبر أحداً، لا راهبات القديس يوسف، ولا راهبات الوردية. فقط أعلمت مرشدها الروحي والبطريرك بناءً على طلب العذراء. لم يسمع أحد غيرهما عن أحاديثها مع أم الله. حافظت على سرها في أعماق قلبها. وكانت حياتها توضيحاً تاماً للمثل الشهير: “إن كان الكلام من فضة، فالسكوت من ذهب”. كان الصمت لدى ماري ألفونسين تعبيراً عن قداستها العميقة وتواضعها المذهل.

حب الصليب والتضحية. إن الحياة المكرسة تعتبر خيالاً من دون صليب أو معاناة. لم تقبل الأم ماري ألفونسين الصليب والمعاناة فقط وإنما أحبتهما. وكتبت في يومياتها: “كنت متعطشة إلى احتمال المحن. كنت أستلذ بكل ما هو مر ومضنٍ. كانت الوحدة فردوس قلبي، والطاعة سماء روحي. كنت أجد طلبات الرئيسات سهلة”. راحت تمارس التقشف والزهد، وتمضي ساعات طوال على الجلجثة متعلمة من سيدها حب التضحية والمشاركة في آلامه. “كنت مقتنعة بأن الألم وحتى الموت محبة بالرب الصالح كانا أفضل دليل على المحبة. فقد قال يسوع: ما من حب أعظم من بذل الذات من أجل أحبائنا”. خلال فترة الابتداء في رهبانية الوردية، تجرعت الأم ماري ألفونسين كأس المعاناة في الصمت والحياة الخفية؛ وكانت حقاً ذبيحة رهبانية الوردية. ففي سبيل النجاح، تحتاج كل المشاريع الإلهية إلى الصليب والتضحية.

وفي يوم من الأيام، فتحت قلبها لمرشدها، معبرة له عن المعاناة الكبيرة التي صادفتها في أشخاص كان يجب أن يكونوا سنداً لها. ولحسن الحظ أن الرب كان يساندها ويدعمها. “إن كان الله معنا، فمن علينا؟”.

دعانا المسيح إلى حمل صليبنا اليومي وثقل همومنا واتباعه. إن قمنا بذلك، خف ثقل هذا الصليب. إن بعض الأشخاص منا يحملون صليبهم وإنما لا يتبعون المسيح؛ أو يتذمرون من حمل صليبهم. لكن الأم ماري ألفونسين حملت صليبها بمحبة وبصمت من دون التأفف أو التذمر. كان صمتها أكبر من ألمها، وصبرها أكبر من صليبها، ووقارها لا يوصف. مع آلامها التي حملتها بصمت، أصبحت الأم ماري ألفونسين مثالاً لكل راهبات الوردية. إنها كشجرة عالية ذات أغضان كثيفة وثمار بهية. وإلى ظلها يجب أن تلتجئ راهبات الوردية وكل الأبرشية.

أيتها الطوباوية المباركة، المتعبدة للعذراء والتي أبصرت السماء!

أنت التي نلت حظوة رؤية العالم غير المنظور وقبلت من دون تردد، أنت التي أسست رهبانية الوردية بقصد التضحية، وأنت التي قدمت صورة بهية ومشعة عن العذراء العفيفة، الطاهرة، المحبة، الحنونة، الصامتة، والصابرة!

نسألك أن تنظري إلى رجال الدين والشعب والرهبان والراهبات في هذه الأبرشية! باركي اللواتي تبعنك على درب الوردية، وجميع اللواتي كرسن أنفسهن بمحبة وتضحية وسخاء!

اجعلي رهبانية الوردية سراجاً ينير درب الخير والقداسة!

علمينا أن نحب الصمت والحياة الخفية ونجد اللذة في بذل ذاتنا!

ازرعي في قلوبنا محبة إنجيل المسيح ومسيح الإنجيل.

اذكرينا لدى المسيح الآن وإلى الأبد.

آمين.

+ البطريرك فؤاد طوال

ترجمة وكالة زينيت العالمية