تفسير الكتاب المقدّس

تفسير الكتاب المقدّس

الاب نجيب ابراهيم الفرنسيسكاني
١- الكنيسة هي مكان تفسير الكتاب المقدّس (٢٩ – ٣٠)

إنّ العلاقة الجوهريّة بين الإيمان وكلام الله تبيّن ضرورة تفسير الكتاب المقدّس في الكنيسة. وكلّ تفسير للكتاب المقدّس يجد في “نعم” مريم مثاله الدائم. يستشهد قداسة البابا بالقدّيس بوناڤنتورا الّذي يقول أنّه بدون الإيمان لا سبيل إلى فهم الكتاب المقدّس: «هذه هي معرفة يسوع المسيح التي منها ينبع فهم الكتاب المقدّس. لذلك إنّه من المستحيل للمرء أن يفهم الكتاب المقدّس إذا ما كان مؤمناً بيسوع المسيح، إذ هو النّور والباب وأساس كلّ الكتاب المقدّس». كما يقول القدّيس توما الأكويني، متّبعاً القدّيس أغسطينوس: «حتى حرف الإنجيل يمكن أن يقتل إذا غابت نعمة الإيمان الداخليّة التي تشفي».

وعليه يذكّر قداسة البابا بمعيار أساسيّ للتفسير: الكنيسة هي البيت الأوليّ للتفسير. لسنا هنا أمام مبدأ يُفرض من الخارج على المفسرين، إذ هذه هي حقيقة الكتاب المقدّس ونشأته في الزمان. فالكتاب نشأ في جماعة المؤمنين ولهم. لذلك على المفسّرين أن يشتركوا بحياة الكنيسة كلّها. كلّ هذا ينتج عن الأخذ بعين الاعتبار حقيقة أساسيّة: مبدأ الالهام، فالكتاب المقدّس هو كلام الله بكلام بشر، وذلك استناداً على إيمان الكنيسة بالتقليد الإلهيّ الرسوليّ. إذاً لا مكان لتفسّير خاصّ للكتاب المقدّس على ما يرد في الرسالة الثانية للقدّيس بطرس الرسول: «واعلموا قبل كلّ شيء أنّه ما من نبوءة في الكتاب تَقبَلُ تفسيراً يأتي به أحدٌ من عنده، إذ لم تأتِ نبوءة بإرادة بشر، ولكنّ الرّوح القدس حمل بعض النّاس على أن يتكلّموا من قبل الله» (١ : ٢٠ – ٢١). الكتاب المقدّس هو كتاب الكنيسة ومن ملازمته لها ينبع التفسير الحقّ. «التفسير الاصيل للكتاب المقدّس يجب أن يكون موافقاً لإيمان الكنيسة الكاثوليكيّة» (٣٠).

فالمناهج الّتي لا تأخذ بعين الاعتبار الإيمان يمكن أن تبيّن بعض الأمور المفيدة مثل بنية النّص ونوعه الأدبيّ، على أنّه لا يمكن أن تصل إلى جوهر المعاني. أعتقد أن قداسة البابا يريد هنا التنويه بالتحليل الأدبيّ للنّص، ليقول أنّه غير كافٍ للتفسير. فبعد التفسير (esegesi) المبنيّ على التحليل التاريخيّ والأدبيّ يأتي دور التفسير اللاهوتي والحياتي (ermeneutica). يقتبس هنا قداسة البابا من وثيقة اللجنة الحبريّة للكتاب المقدّس “تفسير الكتاب المقدّس في الكنيسة”سنة ١٩٩٣: «إنّ المعرفة الصحيحة للكتاب المقدّس تنفتح فقط أمام من له صلة انتساب معاشة (affinità) مع ما يُحكى عنه في النّص». هذا مبدأٌ مشترك اليوم بين الكنيسة وعلم التفسير الحديث, يقول البابا، والمقصود هنا فلسفة التفسير ووأهمّ أركانها جادامار وبول ريكور. فالتفسير ليس مسألة عقلية فقط، بل أونطولوجيّة تلزم الإنسان بكلّ كيانه وملكاته: الفكريّة والعاطفيّة والجسديّة والروحيّة، العقلانيّة منها والدينيّة. فالإنسان بكليّته يفسّر وإذا لم يتوصّل إلى ذلك لا يفقه سوى القشور. لذلك تكون العلاقة بين الحياة الروحيّة والتفسير ضروريّة. قراءة الكتاب المقدّس بمعونة الروح القدس تنمّي الحياة الكنسية، وهذه بدورها تساعد المؤمنين على فهم الكتاب المقدّس. بهذا المعنى قال القدّيس غريغوريوس الكبير: «تنمو الكلمات الإلهيّة مع من يقرأها».

***

٢- تفسير تاريخي ولاهوتي (٣١ – ٣٥)

ينتقل قداسة البابا إلى العلاقة بين الكتاب المقدّس وعلم اللاهوت مذكّراً بتعليم المجمع الڤاتيكاني الثاني: «من المفروض ان تصبح دراسةُ الكتب المقدّسة بمثابة روح علم اللاهوت» (الوحي الإلهيّ ٢٤ وكلمة الرب ٣١). في الواقع أصبحت هذه الجملة كثيرة الاستعمال في أيّامنا. مما يعني أنّ علم اللاهوت قبل فعليّا هذه المقولة في البحث. ينهي قداسة البابا هذه الفقرة بتوجيه عمليّ على الصعيد الراعوي قائلاّ أنّ الحياة الراعوية والروحيّة تتعلّق في أكثر الاحيان بالعلاقة المثمرة بين علم التفسير البيبليّ وعلم اللاهوت.

على صعيد تطوّر البحث البيبليّ ومواقف الكنيسة منه (٣٢ – ٣٣) يعيد قداسة البابا التأكيد على أهمية التفسير التاريخي والنقدي والمناهج المنبثقة منها. تاريخ الخلاص ليس اسطورة، فالبعد التاريخيّ للكتاب المقدّس بحسب الرؤية الكاثوليكيّة مبنيّ على واقع الجسّد: الكلمة صار جسداً (يوحنا ١ : ١٤). رغم أن التفسير التاريخي والادبي قد نشأ في أوائل القرن الماضي، يجب الاعتراف بأنّ التفسير الحرفي أو الأدبيّ كان دائما حاضراً في التقليد الكنسيّ، خاصّة في الثقافة الرهبانيّة. فالشوق إلى الله يتضمّن حبّ الكلمة في كلّ أبعادها: «بما أنّ الله في كلمة الكتاب المقدّس يسير نحونا ونحن إليه، علينا أن نتعلّم فقه اللغة، وفهم بنيتها وأساليب التعبير فيها. فالبحث عن الله يبيّن أهميّة هذه العلوم اللغوية».

تدخّلت الكنيسة بحكمة في تعليمها (٣٣) لتبيّن الموقف المناسب أمام نشأة مناهج التحليل التاريخيّ، ابتداء من ليون الثالث عشر (Providentissimus Deus) وصولاً إلى بيوس الثاني عشر (Divino Afflante Spiritu). وكان يوحنا بولس الثاني قد ذكّر بأهميّة هاتين الوثيقتين في خطبته بمناسبة مرور ١٠٠ سنة على الأولى وخمسين سنة على الثانية (٢٣ نيسان ١٩٩٣). في كلتا الوثيقتين رفضٌ للفصل بين المعنى الحرفي أو الأدبيّ والمعنى الروحيّ، بين البحث العلميّ ونظرة الإيمان. عبّرت وثيقة اللجنة الحبريّة (تفسير الكتاب المقدّس في الكنيسة) عن هذا الاتّزان في نهج الكنيسة: «يجب على المفسّرين الكاثوليكيين أن لا ينسوا وهم يفسّرون الكتاب المقدّس أنّهم يفسّرون كلمة الله. لا ينتهي عملهم عندما يبيّنوا المصادر ويحدّدوا الانواع الادبيّة ويشرحوا الاساليب الأدبيّة. إذ يصلون إلى هدف عملهم فقط عندما يلقون الضوء على معاني النصّ الكتابيّ ككلمة الله الآنيّة» (III, C, 1).

لذلك على المفسّرين أن يأخذوا بعين الاعتبار تعليم المجمع الڤاتيكاني الثاني: الوحي الالهي ١٢ (التفسير اليبلي المجمعي ٣٤). يشّدد المجمع على أهمية البحث عن الانواع الادبية وما إلى هنالك من تحليل تاريخي وأدبي. ومن جهة أخرى يقدّم ثلاثة مبادئ تنبع من البعد الالهي للكتاب المقدّس: أولاً يجب تفسير النصّ في سياق وحدة كلّ الكتاب المقدّس، هذا ما يدعى اليوم التفسير القانونيّ. ثانياً يجب الأخذ بعين الاعتبار التقليد الحيّ في الكنيسة. ثالثاً يجب الحفاظ على قياس الايمان (analogia della fede). فقط عندما نحافظ على هذين المستوين من المناهج، التحليل التاريخي الادبي والمنهج اللاهوتي باستطاعتنا الكلام على تفسير لاهوتي يليق بهذا الكتاب.

من هنا أهمية إلقاء الضوء على خطر الثنائية والتفسير العلمانيّ أو الدنيويّ (ermeneutica secolarizzata) (٣٥). إذ إنّ الفصل بين التفسير التاريخي واللاهوتي يولّد انفصالا بين العلوم البيبلية واللاهوت. لذلك يدعو قداسة البابا إلى الابتعاد عن بعض الأمور.

اولاً إذا اقتصر التفسير على المستوى التاريخي أصبح النصّ شيئاً من الماضي، فلا يكون باستطاعتنا في هذه الحال فهم حدث الوحي الذي يجب أن يصل إلينا في التقليد الحي وفي الكتاب المقدّس.

ثانياً عندما يتراجع تفسير الايمان يحلّ محلّه تفسير دنيويّ ووضعيّ يرفض تاريخيّة العناصر الإلهيّة للأحداث (مثلاً حدث قيامة المسيح).

ثالثاً هذا الموقف الرافض لدخول البعد الألهي في التاريخ يبعث على الشك في الاسرار الاساسية للدين المسيحيّ وفي قيمتهم التاريخية. نأخذ على سبيل المثال موضوع تأسيس الافخارستية وقيامة المسيح.

لهذه الامور انعكاسات راعوية وروحية. عندما ينقص المستوى اللاهوتي في التفسير تُخلق هوة بين علم التفسير والقراءة الرّبّية. لذلك غالباً ما نشعر بالارتباك عندما نريد تحضير العظة. لذلك يقول قداسة البابا: «حيث علم التفسير البيبلي ليس لاهوتاً لا يكون الكتاب المقدّس روح اللاهوت وبالعكس حيث لا يكون اللاهوت تفسيراً للكتاب المقدّس في الكنيسة يفقد أساسه».

كل هذه الأمور تتعلّق بالعلاقة بين الإيمان والعقل في عملية التفسير (٣٦). لذلك يجب العمل على وحدة المستوين، العقلاني والإيماني، في التفسير. نجد في تفسير آباء الكنيسة مثالاً للتفسير المناسب، ذلك لأنّهم بحثوا عن “المعنى الحرفي والروحي” (٣٧). يُظهر آباء الكنيسة لاهوتاً ذا قيمة كبيرة ذلك لأنّ الكتاب المقدّس بكلّيته في مركز هذا اللاهوت. فالآباء هم أولاً مفسّرون للكتاب المقدّس. يتبع التقليد الآبائي المعنى الحرفي والروحيّ. والحرفي في أساس التفسير، على ما يقوله توما الأكويني: «كلّ المعاني ترتكز على المعنى الحرفي». أما المعنى الروحيّ فينقسم إلى ثلاثة معاني: المجازي والأخلاقي والأخيريّ. نجد في تعليم الكنيسة شرح هذه المعاني:

١١٥- في تقليدٍ قديم أنّه من الممكن تمييز معنَيين للكتاب المقدّس: المعنى الحرفيّ، والمعنى الروحيّ، على أن يُقسم هذا الأخير الى معنىً مجازيّ، ومعنىً أدبيّ، ومعنىً تفسيريِ. والتوافق العميق للمعاني الأبعة يُثبت كلّ غنى القراءة الحيّة للكتاب المقدّس في الكنيسة:

١١٦ – المعنى الحرفيّ. هو المعنى الذي تدلّ عليه ألفاظ الكتاب، ويستخرجه الشّرح الجاري على قواعد التفسير الصحيح. «جميع معاني الكتاب المقدّس تجد تأييدها في المعنى الحرفيّ» (توما الأكويني).

١١٧- المعنى الروحيّ. بسبب الوحدة في قصد الله، قد لا يكون نصُّ الكتاب وحده، بل قد تكون معه الأمورُ والأحداثُ التي يُوردها علاماتٍ.

١. المعنى المجازيّ. نستطيع الحصول على معنى أعمق للأحداث إذا وجدنا مدلولها في المسيح؛ وهكذا فاجتياز البحر الأحمر إشارةٌ الى انتصار المسيح، من ثمّ الى المعموديّة؛

٢. المعنى الأدبيّ (الأخلاقيّ). يجب أن تقودنا الأحداث الواردة في الكتاب المقدّس الى الاستقامة في العمل. لقد كُتب «لموعظتنا» (١قور ١٠ : ١١).

٣. المعنى التفسيريّ (الأخيريّ). إنه لمن الممكن أيضاً أن نرى أموراً وأحداثاً في مدلولها الأزليّ، تقودنا الى وطننا. وهكذا فالكنيسة على الأرض رمزُ أورشليم العلويّة.

١١٨- مقطوعة شعريّة من القرن الوسيط تختصر مدلول المعاني الأربعة:

«المعنى الحرفيّ يُعلّم ما يحدث وما حدث، المجازيّ يُعلّم ما يجب الإيمان به، والأدبيّ يعلّم ما يجب عمله، والتفسيريّ يعلّم إلامَ يجب الاتّجاه».

المعنى الروحيّ، بحسب الإيمان المسيحيّ، هو ذلك المعنى الّذي ينتج عن قراءة النصوص البيبلية بدفع من الروح القدس في سياق سرّ فصح المسيح والحياة الجديدة التي تنبع منه.

تتطلّب قراءة الكتاب المقدّس الارتفاع فوق الحرف (٣٨). إذ ليس الفهم مجرّد عمل عقلانيّ وحسب، بل حياتيّ. نفهم الكلمة عندما نعيشها في الكنيسة بحسب الرّوح القدس. هكذا يصبح أكثر وضوحاً ما نقرأه في “الوحي الالهيّ” ١٢. فالارتفاع من الحرف إلى الروح لا يتمّ إلا من خلال وحدة الكتاب المقدّس. لذلك يقول القدّيس بولس: «الحرف يميت والرّوح يحيي» (٢ قور ٣ : ٦). هذا العبور كان مثيراً وفي الوقت نفسه محرّراً بالنسبة للقدّيس أغسطينوس. لقد آمن بالكتب المقدّسة، بعد أن كان يجد فيها الكثير من الاختلافات والفظاظة. تعلّم من القدّيس أمبرووسيوس التفسير التيبولوجي فصار كلّ العهد القديم طريقاً يؤدّي الى يسوع المسيح.

يعلّمنا العبور من الحرف إلى الرّوح “وحدة الكتاب المقدّس” (٣٩) إذ إنّ كلمة الله واحدة وهي تدعونا دائماً الى التوبة. من الناحية الأدبية بوسعنا القول أنّ الكتاب المقدّس هو مكتبة. من النّاحية الإيمانيّة هو كتاب مقدّس واحد. يقول أوغو دي سان ڤيتوري (Ugo di san Vittore): «كلّ الكتاب المقدّس كتاب واحد وهذا الكتاب الواحد هو المسيح، يتكلّم على المسيح ويجد في المسيح تحقّيقه التّام».

لذلك يجب على اللاهوتيين والرعاة أن يكونوا مدركين “للعلاقة بين العهد القديم والعهد الجديد” (٤٠ – ٤١). من البديهيّ أنّ العهد الجديد يعترف بالعهد القديم ككلمة الله. يقول يسوع في الإنجيل الرابع أنّه «لا يُنسخ الكتاب» (١٠ : ٣٥)، كذلك الأمر بالنسبة لبولس: «فإنّ كلّ ما كُتبَ قبلاً إنّما كُتِبَ لتعليمنا حتّى نحصل على الرّجاء، بفضل ما تأتينا به الكتبُ من الثّبات والتّشديد» (روم ١٥ : ٤؛ ر. ١قور ١٠ : ١١). لذلك رفضت الكنيسة على مرّ العصور كلّ أشكال المرقيونية التي تنزع إلى التناقض بين العهد القديم والعهد الجديد.

ولكن علينا الاعتراف بأنّ العهد الجديد هو تحقيق لمواعيد العهد القديم، لذلك تكون العلاقة بين العهدين على ثلاث مستويات:

أولاً استمرار للوحي بين العهد القديم والحديد.

ثانياً انقطاع أو عدم استمراريّة بين العهدين.

ثالثاً العهد الجديد يُكمل العهد القديم ويتفوّق عليه.

علينا إذا ان نقرأ العهد القديم على ضوء العهد الجديد وأن نفهم الجديد على ضوء القديم. هكذا هو الأمر في نصّ العهد الجديد (ر. ١قور ٥: ٦ – ٨؛ ١٠ : ١ – ١١) وفي تاريخ الكنيسة على مدّ العصور.فالعهد القديم يتنبّأ بالجديد والتفسير الأفضل للعهد القديم هو العهد الجديد. يظهر واضحاً في العهد الجديد المعنى الروحيّ: المعنى التيبولوجي والمعنى الكامل.

***

مع الأخد بعين الاعتبار وحدة الكتاب المقدّس بعهديه والبحث عن المعنى الروحيّ، كيف يمكن للمسيحيّ عامة والمسيحيّ الشرقيّ خاصّة أن يفهم الصفحات الصعبة والمظلمة في الكتاب المقدّس؟

يذكّر قداسة البابا في الارشاد (كلام الرب ٤٢) بتعليم الكنيسة الذي يرتكز على العهد الجديد نفسه والتقليد. لا بدّ أن يجد القارئ صعوبة كبيرة في فهم اخبار العنف واللاأخلاقيّة في الكتاب المقدّس. لذلك يدعو قداسة البابا بصريح العبارة الباحثين والرعاة على السواء الى مساعدة المؤمنين في قراءة هذه النصوص المظلمة على نور سرّ المسيح. هذا هو المبدأ الاساسيّ، الذي يرتكز على حقيقة التطوّر في مخطط الله الخلاصيّ. فالله مربٍّ عظيم! هيّأ بعنايته الشعب الّذي اختاره والانسانيّة بأسرها عبر مراحل متتالية من الوحي لتصل إلى ملء الوحي في يسوع المسيح. كما أنّه يجب الانتباه إلى حالات الظلم والعنف واللااخلاقيّة التي نجدها اليوم في مجتمعاتنا حتى المسيحيّة منها والتي لا تختلف عن الوضع المظلم في الصفحات الصعبة من العهد القديم. لذلك يكون اللجوء الى تعليم الانبياء وسيلة كتبابيّة لتطبيق مبادئ التربية الالهيّة حتى نصل الى تعليم العهد الجديد. هناك من قال حقاً أنّ العهد القديم هو الف باء العهد الجديد.

اما عن العلاقة بين اليهود والمسيحيين في ما يتعلّق بالكتاب المقدّس (كلام الرب ٤٣)، يذكّر قداسة البابا بتعليم القدّيس بولس في الرسالة الى أهل رومة (٩ – ١١)، ويتمنّى إعادة التأكيد على أهمية الحوار مع اليهود للمعرفة المتبادلة والتعاون في مجال دراسات الكتاب المقدّس.

في الفقرة ٤٤ من الارشاد يواجه قداسة البابا مسألة التفسير الاصوليّ للكتاب المقدّس. وكانت اللجنة الحبريّة للكتاب المقدّس قد أعطت توجيهات مهمّة في هذا الموضع. وجلّ القول أنّ الاصوليين يرفضون تاريخيّة الكتاب المقدّس فيقولون الكلمات قد أُنزلت حرفيّاً وبهذا ينكرون الطبيعة الانسانيّة والتاريخيّة للكتاب المقدّس. والجواب الصحيح على القراءة الاصوليّة هو القراءة الإيمانيّة التي تبحث عن الكلمة اللوغوس في الكلمات العديدة للكتاب المقدّس.

***

٣- نتائج التفسير الصحيح

رعاة ولاهوتيون وعلماء كتاب في حوار (٤٥)

يحمل التفسير بحسب الإيمان على عمل راعويّ مميّز في الكنيسة. لذلك دعا آباء السينودس الى علاقات مستمرّة بين الرعاة واللاهوتيين وعلماء الكتاب المقدّس. من المستحسن أن تساعد المجالس الاسقفيّة على هذه اللقاءات «من أجل المساهمة في شركة اعمق تخدم كلمة الله». هذا النوع من التعاون يساعد على القيام بالرسالة الخاصّة لكلّ مسؤول وذلك لخير الكنيسة كلّها. ذلك أنّ البعد الراعوي يدفع علماء الكتاب المقدّس أنفسهم على البقاء في الطبيعة التواصلية للكتاب المقدّس، إذ إنّ الرّبّ يريد بواسطتها خلاص البشر. لذلك يوصي قداسة البابا بالعمل حسب توصيات الدستور العقائدي “كلام الله” فقرة ٢٣: «يتوجّب على العلماء الكاثوليك من المفسّرين، وعلى كلّ من تضلّع من علم اللاهوت المقدّس، أن يتعاونوا تعاوناً نشيطاً، وأن يستعملوا الطرق المناسبة، تحت إشراف السلطة التعليميّة المقدّسة، لكي يسبروا أغوار الكتب المقدّس، ويعرضوا محتوياتها بأسلوب جيّد، بحيث يتمكّن أكبرُ عددٍ من خدام الكلمة الإلهيّة ان يُصلحوا، لشعب الله، غذاءً مستمدّاً من الكتب المقدّسة، يُنير الأذهان، ويوطّدُ العزائم، ويُلهبُ قلوب البشر من محبّة الله».

يتطرّق قداسة البابا الى موضوع العلاقة بين الكتاب المقدّس والحوار المسكوني في الفقرة ٤٦، داعياً الى الإصغاء المشترك لكلام الله حتى نصل الى وحدة الإيمان. لذلك يجب زيادة العمل سويّا في البحث العلميّ الكتابيّ والاحتفال بكلام الله على المستوى المسكونيّ، على أن لا تكون هذه الاحتفالات بدل الافخارستيا ايام الاحاد والاعياد. ومن ثمّ يذكر الارشاد أهميّة العمل على ترجمات مسكونية.

التفسير الصحيح والدراسات اللاهوتيّة (٤٧)

لا بدّ للتفسير بحسب الإيمان أن يكون له نتائج مهمة في تنظيم الدراسات اللاهوتيّة. يجب أولاً أن يكون الكتاب المقدّس روح اللاهوت. لذلك يجب الأخذ بعين الاعتبار توجيهات الفقرة ١٢ من الدستور العقائدي “كلام الله”. يجب على الطلاب ان يجمعوا بين دراسة اللغات والمناهج التفسيريّة وحياة روحيّة عميقة فيعرفوا أنّ المرء يفهم الكتاب المقدّس فقط عندما يعيشه.

لذلك يوصي قداسة البابا بدراسة كلام الله في روح كنسيّة عميقة، آخذين بعين الاعتبار التعليم الرسميّ للكنيسة، مستنداً على تعليم المجمع الفاتيكاني الثاني، الوحي الالهي ١٠: «إنّ مهمّة التفسير تفسيراً صحيحاً لكلمة الله المكتوبة والمتناقلة في التقليد، قد أُسندت في الكنيسة إلى سلطتها التعليميّة الحيّة وحدها، وهي تمارس سلطانها باسم يسوع المسيح. غير أنّ هذه السلطة التعليميّة لا تعلو كلمة الله، بل تخدمها ولا تعلّم إلّا ما تسلّمته من التعاليم. فإنّها بتكليف من الله، وبعون من الروح القدس، تُصغي بخشوع إلى هذه الكلمة، وترعاها باحترام، وتفسّرها بأمانة». لذلك يجب العمل على ان تتناسب الدراسات اللاهوتيّة مع الاعتراف بأنّ «التقليد المقدّس والكتاب المقدّس والسلطة التعليميّة في الكنيسة بتدبير من الله عظيم الحكمة، هي وثيقة الارتباط والتلازم في ما بينها، حتّى إنّ واحداً من هذه الثلاثة لا يستقرّ بدون الباقي، بل تعمل كلّها، وكلّ واحد على طريقته، وبدفع من الروح القدس الواحد وتُسهم اسهاماً فعّالاً في خلاص النفوس» (الوحي الالهي ١٠).

القدّيسون وتفسير الكتاب المقدّس (٤٨ – ٤٩)

«يبقى تفسير الكتاب المقدّس ناقصاً إذا لم نصغِ إلى من عاش حقّاً كلام الله. يقول القدّيس غريغوريوس الكبير: «حياة الصّالحين تفسيرٌ حيّ» (Viva lectio est vita bonorum). فالتفسيرُ الأعمق يأتي على يد أولئك الّذين صُقلت حياتُهم بكلمة الله من خلال الإصغاء والقراءة والتأمّل المستمرّ».

يذكر قداسة البابا أنّ الروحانيّات الكبرى التي تركت أثراً كبيراً في تاريخ الكنيسة هي تلك التي ترجع إلى الكتاب المقدّس. يتابع قداسته الاستشهادات بشكل يعبّر عما هو عزيز على قلبه فيقول: «أفكّر مثلاً بالقدّيس أنطونيوس الكبير، الّذي تأثّر بكلمات المسيح: «إذا أردتَ أن تكون كاملاً، فاذهبْ وبعْ أموالك وأعطها للفقراء، فيكون لك كنزٌ في السّماء، وتعال فاتبعني» (متى ١٩ : ٢١)». ومن ثمّ يذكر تعليم القدّيس بازيليوس الكبير والقدّيس بندكتس القائل أنّ الكتاب المقدّس هو قاعدة الحياة القويمة. وعن القدّيس فرنسيس يذكر ما كتبه توما من شيلانو في السيرة الأولى: «وذات يوم كان يُقرأ في هذه الكنيسة الإنجيل الذي يُعلن فيه عن رسالة الرسل بالتبشير، كان القديس حاضرا ولكنه فهم فقط المعنى العام للإنجيل. بعد القداس طلب من الكاهن أن يشرحه له. والكاهن قام بشرحه آية بعد آية. وعند سماع فرنسيس أنّه على تلاميذ المسيح أن لا يقتنوا ذهبا ولا فضة ولا مالا، ولا كيسا للمال، ولاخبزا ولا عصا للطريق، ولا نعلين، ولا ثوبين، بل فقط التبشير بملكوت السماء وبالتوبة. حالا وممتلئا من الروح القدس صاح قائلا: هذا ما أريد، هذا ما أصبو إليه، هذا ما أتشوّق أن أفعله من كل قلبي». (١ شيلانو ٢٢). والقدّيسة كلارا تقتدي بالقدّيس فرنسيس، فتقول في القانون الّذي سنّته: «حياة رهبانيّة الأخوات الفقيرات هي هذه: حفط إنجيل سيّدنا يسوع المسيح». القدّيس دومينيك دي جوزمان «كان يظهر في كلّ مكان أنساناً إنجيليّا في الكلام وفي الاعمال» وهكذا أراد أن يكون الاخوة الواعظون، «رجالا إنجيليّين». تلجأ باستمرار القدّيسة تريزا ليسوع الكرمليّة إلى صور بيبليّة لتصف خبرتها الروحيّة، وتذكر في “سيرة نفس” يسوعَ الّذي أوحى لها بأنّ «كلّ شرّ العالم يصدر عن عدم المعرفة الواضحة لحقيقة الكتاب المقدّس». أمّا تريز الطفل يسوع فتجد الحبّ كدعوة خاصّة بها من خلال قراءة الكتاب المقدّس، خاصّة الفصلين ١٢ و١٣ من الرسالة الأولى إلى أهل قورنتس. وتصف بنفسها جاذبيّة الكتاب المقدّس: «يا أمي الحبيبة، أريد الآن أن أقول لك ما أفهمه بأريج طيوب الحبيب. فبما أنّ يسوع قد صعد الى السّماء، فلا استطيع ان أتبعه الا بالآثار التي خلّفها. ولكن ما اشدّ سطوع هذه الآثار وما أجمل عطرَها! فحسبي أن أُلقي نظرة على الانجيل المقدّس، فأتنشّق حالاً عطورَ حياة يسوع، وأتبيّن في أيّ اتّجاه أجري…» (مخطوط ج ٣٥). كلّ قدّيس هو بمثابة شعاعٍ يخرج من كلمة الله: هكذا نرجع بالفكر إلى القدّيس اغناطيوس دي لويولا في بحثه عن الحقيقة وعن التمييز الروحيّ، والقدّيس يوحنا بوسكو في حبّه لتربية الشّباب، والقدّيس يوحنا ماري ڤياني في يقينه لعظمة الكهنوت هبةً وخدمةً، والقدّيس پيوس من بيترالشينا في كونه أداة للرحمة الإلهيّة، والقدّيس خوسيماريا أسكريڤا في كرازاته حول الدعوة الشاملة للقداسة، والقديسة تريزا من كالكوتا، رسولة محبّة الله بين الأخيرين؛ حتى شهداء النّازيّة والشيوعيّة الممثّلين من جهة بالقديسة تريزا بنديكتا للصليب (Edith Stein) ومن جهة أخرى بالطوباويّ لويس ستيبياس، كاردينال ورئيس أساقفة زغابريا.

في الفقرة عدد ٤٩ يختم قداسة البابا هذا الموضوع بكلمة جازمة: «تمثّل القداسة في الكنيسة تفسيراً للكتاب المقدّس لا يمكن لأحد أن يتجاهله». وكانت شهادة تاريخيّة عن العلاقة بين كلمة الله والقداسة قد تمّت أثناء انعقاد الجمعيّة العامّة للسينودس، عندما أُعلنت قداسة أربع طوباووين في ساحة مار بطرس في ١٢ تشرين الأول: الكاهن جايتانو أرّيكو (Gaetano Errico) مؤسس جمعية مرسلي القلبين الأقدسين، الأم ماريا برناردا بوتلر (Maria Bernarda Bütler)، الراهبة ألفونسا الحبل بلا دنس، قدّيسة الهند الأولى، والعلمانيّة الشّابة من الإكوادور نارشيزا ليسوع مارتيللو موران. بحياتهم أعطوا شهادة للعالم وللكنيسة عن خصب الإنجيل الدائم. لذلك نطلب إلى الله بشفاعتهم أن تصبح حياتنا تلك الأرض الصالحة التي يمكن أن يلقي فيها الزارع الإلهي بذور الكلمة لنثمر ثمار القداسة، «ثلاثين ضعفاً وستّين ومائة» (مرقس ٤ : ٢٠).