تنمية وترقية الإنسان بالأديان أم بالثقافات؟ مقال جديد بقلم الانبا يوحنا قلته

تنمية وترقية الإنسان بالأديان أم بالثقافات؟ مقال جديد بقلم الانبا يوحنا قلته

 

يحمل الإنسان فى نسيج كيانه أبعاداً ثلاثة، أو قل طاقات ثلاثا، وهذه تعبيرات قاصرة لا تلم بكل ما يحمل الإنسان من سمو يميزه عن باقى المخلوقات التى نعرفها ، وبادئ ذى بدء نقول لا يمكن أن يكون الشخص سوياً، متوازناً، مستمتعاً بحياته إلا إذا أعطى لكل بُعد حقه من الرعاية والاهتمام والحرص.

البعد الأول، البعد العلمي: قائم فى طاقة الفكر والمنطق والاستدلال والغوص فى أعماق الأحداث والأشياء، نُسمّى هذه الطاقة العقل، أن فى كيان الشخص البشرى جوعاً للمعرفة وفضولاً لاكتشاف المجهول، واندفاعاً لمعرفة أسرار الطبيعة والوجود، إنه البعد العلمى الذى أبدع الحضارات والآداب والفنون والفلسفات، والعقل يولد مع الإنسان الطبيعى فى حال من الأمية مع فاعلية محدودة لجينات الوراثة، كطفل يحتاج إلى تربية وتعليم وخبرة وتثقيف، وبدون سيادة العقل يُصاب الشخص بعرج نفسى وعاطفي، وقد طُرح سؤال فى كتب وصحف عالمية: هل من نهاية للمكتشفات العلمية، هل يصمت العقل يوماً عن البحث والتحليل، وطبعاً الإجابة كانت أن الكون فى تدفق دائم والطبيعة فى تطور وتجدد فلا نهاية للعلوم ولن يصمت العقل أمام ظواهرها فالمستقبل دائماً لم يأتِ بعد!

البعد الثاني، البعد الفني: قائم فى طاقة حب الجمال، فالإنسان مخلوق عاشق للجمال، يعيش فى عالم يُحيط به الجمال صباحاً ومساءً، فى تنوع رائع، وتعزف سيمفونية الوجود بلا كلل أو ملل، فليس فى الوجود فراغ أو فوضى أو عبث أو صدفة، كل خلق لما يسرله وليس أروع من جمال الشخص البشرى فى روحه وفى جسده، أحد بصمات خالق كامل الجمال والنظام واضحة فى كل شيء والفنون كافة فى مضمونها؟ محاكاة للطبيعة وما الطبيعة والكون إلا أنفاس الخالق، وبصماته وقدرته الفائقة التى تمسك بزمام قوانينها، وإن كان ليس للعلوم نهاية أو ختام فالفنون والآداب أيضاً ليس لها نهاية.

البعد الثالث هو البعد الدينى أو الروحي: لقد فرغ العلماء من التأكيد على أن فى أعماق الإنسان نبضاً روحياً، وجوعاً شديداً وعطشاً لا يروى إلاّ بالإيمان بالخالق، وبمعنى المصير وإلى أين يَمضى الإنسان؟ أنه السؤال الخالد الذى يؤرق ضمير الكائن البشرى فالدين ليس ثمرة الخوف من الطبيعة والفناء كما أشار فرويد، والحضارة لم تقتل الله كما نادى نيتشه فإن صدق قوله بأن الله مات معناه أن الإنسان أيضاً قد مات أخلاقياً ومعنوياً وأصبح حزمة غرائز يفنى كما يفنى الطير والحيوان والنبات.

ولا ينبغى أن يضيع الطريق من أمام الإنسان، لقد خلق لغاية وحمل رسالة الحياة أمانة ووديعة، من أجل ذلك أُرسل الأنبياء والرسل وأُنزلت الكتب، الإنسان قد عبر القرون وأقام الحضارات وأشعل نور الثقافات، كان الدين دوماً عنصراً من عناصر أية حضارة كما ذكر المؤرخ ارنولد توينبى لكن لم يكن رجال الدين مفجرى النهضة أو التقدم العلمي، وأن أسهم البعض فى ذلك، لكن رجال الفكر والعلم والأدب والفلسفة هم الرواد الحقيقيون لتقدم الإنسانية وتنمية وترقى الشخص البشري، بل من أخطر الظواهر التى مرت بها مسيرة الحضارات أنه كلما ازداد نفوذ رجال الدين شرقاً وغرباً تأخر قيام نهضة أو حضارة، لأنهم كثيراً ما يقفلون أبواب العقل وهذه حقائق تاريخية، فالدين وحده، كإيمان وكعقيدة وطقوس ومظاهر دينية لا يمكن أن يكون وحده مصدراً للتقدم، وبدون علم فالدين يتجمد ويصبح قيداً، كما أن العلم بدون الحقيقة المطلقة أو الإيمان بحياة بعد الحياة، وبيوم الدينونة والحساب، يصبح هذا العالم صنماً يحول الإنسان إلى شيء لا إلى شخص له قيمة سامية وكرامة مستمدة من انتمائه لخالقه، وإذا أضفنا البعد الثانى أو مجال الفن والجمال فإن الدين لا يُطلق الحرية للإبداع إلا فى حدود القيم الدينية. ومن ثم لابد من نهضة تنطلق من المطلق الذى نؤمن به لكن لا يكون رجال الدين أوصياء عليها أو الحاكمين لمسيرتها، أن تحرر العقل ليس معناه تحرره من جذور خلق الإنسان من خالق واحد، أبدي، قدوس، له الكمال والعبادة، ليس هناك ما يقال عن فصل الدين عن الحياة، لأن الدين يعطى للحياة المعنى، ولكن ليس من دوره وضع القيود على الحياة والإنسان، بل هو نور إلهى يُنير الطريق لكنه لا ينظم السير فيه. أن تنمية الإنسان وترقية حياته لتكون أفضل لا بُدّ أن ترتكز على العلم وعلى الإبداع الفنى تحت نور الإيمان.