جذور الحياة الرهبانية الديرية

جذور الحياة الرهبانية الديرية

في التاريخ البشري والكنسي1

 

خاص بالموقع – الأب إسطفانوس دانيال جرجس عبد المسيح

إن الحياة الرهبانية جزء لا يتجزأ من حياة الكنسية. فأهدت الحياة الرهبانية للكنيسة، مناهج وخبرات روحية ولاهوتية، حتى أنهم كانوا يلقبون قديمًا بالمجاهدين، ولُبَّاس الصليب، وأيضًا لُبَّاس الروح وحسبوا، وحسبوا أيضًا من شرائح صنوف الملائكة واعتبروا الرهبان من أقوى جنود المسيح، وأيضًا ضربوا بالأمثال التي تليق بمعلمهم يسوع المسيح في الجهاد والنسك والقداسة. وأيضًا اتسموا بمظاهر العفة، والتقشف، والصوم، والعزلة، والصلاة. ويسطر الحبر الروماني البابا يوحنا الثالث والعشرون: “عندما يكرس الإنسان نفسه للعمل يحقق عملاً عظيمًا. وعندما يدعو الله يحقق عملاً أعظم. وعندما يقرن الصلاة بالعمل يسمو ويتفوّق أيضًا، وعندما يلوذ بالصمت، نبع التأمل في الحقائق الإلهية، يضيف إلى الكمال الذي حققه إكليل المجد والفخار” فالحياة  الرهبانية القبطية عندما ازدهرت بطريقة جميلة منذ القرن الثالث الميلادي، فقلبت صحاري وبراري مصر، إلى حدائق وبساتين مقدسة، ونمت فيها أجمل، وأروع، وأنقي الزنابق، والورود، وقد صارت هذه الأماكن مأوى للنساك، والسائحين، والمتحدين ممن زهدوا للعالم ليحيوا الله. ثمّ صارت الرهبنة القبطية منارة عالية في الجبال، والمغاير، وشقوق الأرض تنشر أشعة نورها الساطع الجمال، واللامعة الروحانية على أقاصي المسكونة. فنجد عدد كبير من الرهبان القديسين العظام سطعت نجومهم في ديورة مصر فأضاءوا حياة العالم بحياتهم، وارتباطهم بالله حسب أنظمة حكيمة سامية تساعدهم على الوصول إلى الهدف المقدّس والمحبة الكاملة، وحتى يستمر إلى قمة الكمال الروحي. وصاروا كالآلىء نادرة القيمة تحلت بهم الكنيسة، وكانوا للكنيسة أنهارًا وينابيع للقداسة الجارية، وكانوا أيضًا مثل خلايا النحل على جدران الكنيسة التي هي جسد المسيح. ويعلّق قداسة البابا بولس السادس عن الحياة الرهبانية قائلاً:”تتلخص الحياة الرهبانية في لفظة “نعم” المتواصلة أمام المسيح الموجود بيننا” فكانت الرهبنة مرفوعة الرأس منبسطة الجناح تظل وادي النيل، وكانت موضع فخر، وعزّ في جميع أنحاء العالم، والعالم عن مصر، وأخت جميع الدول في العالم الرهبنة كنظام شعبي وكنسي بآن واحد، وحتى ذكر في تاريخ البطاركة، وكانت البيعة يومئذ غنية، ولها أربعة أعمدة يحملونها، وهم أثناسيوس الرسولي حامي الإيمان، وأنطونيوس أب الرهبان، وباخميوس أب الشركة الرهبانية، وباسيليوس أسقف قبادوكية.

أولاً: الحياة الانعزالية قبل الميلاد:

كانت الدول الرومانية اليونانية آنذاك تزدخر من العبادات والآلهة الرومانية، واليونانية، والشرقية فقد نمت بعض هذه العبادات في الأديان الشرقية السرية إلى العالم الغربي. إلى الحياة الإنسانية، ونجد لدي الوثنيون آلهة فلابد من معرفتها.

1- ديانا أوراطاميس هي حامية الخصب، وقال اليونانيون عليها أنها آلهة الصيد والحيوانات.

2- جوبيتر أوزيوس هو أبو جميع الآلهة وسيد البشر، ويحكم الأزمان من على جبل أوليمبوس.

3- مركوريوس أوهرمز هو إله البلاغة، ورسول الآلهة.

4- إيزيس اعتبروها المصريون القدماء الأم العظمى كالأرض التي تعطي الحياة للنبات.

1: الرهبنة في الوثنية:

كان كنفوشيوس وجوتما بوذا هم أول من فكّر في العيشة الانعزالية، وإذلال الجسد، وقد تمكّن من السيطرة على الجسد، والعاطفة، والرغبات، وأهواءه، وطموحاته بطرق في منتهي القسوي، والخشونة. فقد اندثرت منهم جماعات كثيرة عاش رهبانها في كهوف، والبعض في مناسك المعابد والهياكل، وعلى ضفاف الأنهار المقدسة. وحيث عاشوا تحت سلوك ثقيل يهبهم سياط الفرائض المرّة ويلازمهم الصوم الطويل ومعرفتهم بالخلاص والسعادة بعد الموت قاهرة على الإماتة الذاتية. فإن الفكر الوثني، وخاصة الأفلاطوني والماني آنذاك ونظرتهم التشاؤمية في حياة الإنسان لهذا نظروا إلى الجسد كعدو، وأحاطوه بسياج من القوانين القاسية بعد أن قيدوه بالأغلال والقيود. فنجد من هؤلاء الرهبان من يمتنع عن الكلام أيامًا طويلة، وأيضًا منهم من يصعد على قمم الجبال العالية، ويقطع المسافات الطويلة غير مبالين بحرارة الشمس في الصيف أو برد الشتاء القارص. ونجدهم أحيانًا يعذبون أجسادهم بالمناخس الحديدية بل يقتحمون النيران في صبر، وصمت عجيبين. وبهذه المناهج النادرة استطاع رهبانهم من نشر سلوك حياتهم حسب معرفتهم في أنحاء الهند، والصين، واليابان، والجزر الواقعة وراء البحار، وهم يرون العالم أنه لا يستقر إلا إذا اعتنق مبادئهم هذه فإذا نراهم يعملون على نشر هذه المباديء، وقد سافرت جماعات منهم إلى أوربا كمؤسسات تبشيرية. ومن فلسفة جوتما بوذا: “أن الحياة ملأى بالمتاعب التي تسببها الرغبة خصوصًا ما يتعلق منها بطول البقاء، وأن ليس من خلاص من متاعب الحياة إلا بواسطة قتل الرغبة في النفس” ونجد معظمهم يشغلون وقتهم مطروحين على فراش من المسامير ويتعهدون برفع الذراع إلى أعلى أو الصمت ويكتب الأستاذ الألماني هلتجفيلد:” إن الرهبنة المسيحية أخذت عنهم لإتباعها بعض هذا المنهج”.

2: الرهبنة في اليونان:

يطلعنا التاريخ أن اليونان شهدت منذ القرن السادس قبل الميلاد. مع الفيلسوف بيتاغوراس تأسيس جماعة ذات أهداف دينية وسياسية، تسعي إلى الربط بين البشر والألوهة، في سبيل خلق إنسان أفضل، ينجم عنه مجتمع أفضل. للوصول إلى هذا الهدف، سعت هذه الجماعة إلى عيش التقشف، تنقية للذات من ميولها الشريرة، وإلى ممارسة الصمت في الحياة اليومية، مما يبعد النفس عن كل تشويس واضطراب، وإلى ارتداء الثياب البيض، علامة السعي نحو الكمال.  وأن أول من بدأ التنسك هو بلوتينس، وتنص تعاليمه على أن المادة هي أصل لكل شر، وتطهير الحواس من الدنس، واعتزال العالم وخلاص الروح من عبودية الجسد.

3: الرهبنة الهندوسية:

تتلخص هذه الرهبنة في ثلاثة أشكال:

1- النساك المتوحدون العائشون في الغابات للتأمل والتقشف.

2- المستعطون أو الشحاذون الذي يجوبون الشوارع والساحات بحثا عن ذواتهم وعن حقيقة الوجود المجرّد.

3- بالإضافة إلى هؤلاء نجد في الرهبنة الهندوسية بعض مجموعات من الرهبان تلتف حول (الأبّاتي) أيّ معلّم يلقّنها الكتب الروحانية، واليوغا.

ثانيًّا: الحياة الانعزالية في العالم اليهودي:

إن العالم اليهودي ذوي الثقافة الآرامية، وانضم أيضًا باكرًا يهود ذو الثقافات اليونانية، وهم يعرفوا الإله الحق، وهو يهوى فتعاهد هذا الإله معهم عن طريق الآباء والأنبياء ومنحهم الشريعة الموساوية، وانفرد بهذا الإله في عبادتهم فتعمق منهم كثيرين في العبادة الروحية، وأخذوا يبحثون عن طريق جديد يؤدي إلى الحياة الأبدية.

1 : رهبنة قمران:

انشقت جماعة يهودية عُرفت في عصر يسوع المسيح من اليهود وعاشت بقرب ضفاف البحر الميت، وسُميت هذه الجماعة الرهبانية بجماعة قمران، ويطلق عليها في اللغات الأجنبية الإسينيين esseniens  Ies  وظهرت هذه الجماعة سنة 150 قبل الميلاد. وهذه الجماعة كانت تحرم الزواج على أنفسهم، ويعيشون عيشة مشتركة بسيطة، ويعملون بعرق جبينهم، وينفقون ما لديهم على الفقراء. وكانوا يهتمون بدراسة الكتب المقدسة، وخاصة كتب المزامير، والتثنية، وأشعيا، وكتب أخري مثل اليوبيلات، وأخنوخ، ووصايا الإثني عشر. وكانت هذه الرهبنة لها مباديء، ومعتقدات أنهم معروفين بتقواهم، وزهدهم، وقدرتهم على الشفاء والتخلّص للأزمنة الموافقة لإقامة الاحتفالات المقدسة، ولهم نظرة لمصير الإنسان، وعلاقته بالخالق، ويعتقدون أن سيرتهم الخاصة كرهبنة منعزلة، هي استمرار لتاريخ الشعب المختار، ومن خلال منهجهم في الحياة والمعرفة وبحثهم عن الأمانة الروحية تمسكوا بالشرائع كحلّ أفضل لتحقيق المعنى الديني، وألفوا منهج خاص بهم من القوانين الصارمة للدخول في هذه الرهبنة مع الارتقاء بها ونجد أنهم كرّسوا حياتهم لعبادة الله بعيدًا عن جماعة اليهود في أورشليم ونجد العلماء يفسرون ما معنى اسمهم (الإسينيين)؟ فمن يقول معنى اسمهم الصامتون، وآخر الأتقياء، وآخر الشافون، ونجدهم يصفون أنفسهم في نصوص كتبهم بالورعين- القديسين، جماعة الكاملين، وجماعة العهد.

2: رهبنة الشفاء:

ظهرت في الديار المصرية رهبنة يهودية أخري عاشت من القرب من بحيرة بمريوط – الإسكندرية، وسُميت هذه الرهبنة تيرايوتا أيّ الشفاء، وهناك بعض العلماء يسميها  عبيد الله. ويرفضون أيّ ملكية خاصة، ويرفضون التكبر، ويعيشون في عشش، ويقضون وقتهم اليومي في دراسة الكتب المقدسة، والتأمل فيها، وكانوا يتناولون وجبة واحدة خفيفة بعد غروب الشمس، ونجد كل رهبانها يعيش الراهب منعزلا ستة أيام الأسبوع، وفي يوم السبت يجتمعون بنفس واحدة لإقامة الشعائر الدينية، والصلاة الجماعية، وفي المساء يلبسون الثياب البيضاء أثناء العشاء ثمّ سهر للصلاة، وهي تحافظ على الشريعة، والبعض من العلماء يعتبر هذه الرهبنة هي فرع من رهبنة جماعة قمران، وتأثرت رهبنة الشفاء، وحياة الكمال، ويوجد تشابه بين حياتهم، وحياة الرهبان في الكنيسة الأولى.

ثالثًا: الحياة الانعزالية من الجيل الأول حتى الثالث الميلادي:

بعد صعود يسوع المسيح إلى السماوات قال لتلاميذه: “اذهبوا الآن وتلمذوا سائر الأمم معمدين إياهم باسم الآب والابن والروح” (28/19). وما ميز هذه الفترة أن التلاميذ والرسل والمؤمنين أنهم مرتبطين بشخص يسوع المسيح، وتتمحور حياتهم بالمسيح القائم من بين الأموات والحياة الجزرية بالإنجيل، والرغبة في إتباع المسيح والإقتداء بأقواله وأعماله، وتنقسم هذه الحقبة إلى ثلاث:

أ- العالم:

وجدت آنذاك فئات من المجتمع منهم من يعيشوا على ضفاف البحر الميت، وهي رهبنة جماعة قمران التي كانت حياتهم صلاة وتأمل في الكتب المقدسة، وتمهيد لمجيء ملكوت الله. والفريسيون الذين أرادوا منذ عزرا، أن يعيدوا بناء الأمّة على قيم روحية وتمسكوا بالشريعة وممارسة أحكامها، وكانوا ينفصلون عن الخطيئة، فكانوا حريصين قبل كلّ شيء على قداسة الله وعلى التأمل في شريعته وبفضل تقواهم العميقة وتضلّعهم في الكتب المقدسة سيصبحون ضمير اليهودية، وكانوا يصومون مرتين في الأسبوع، ويعطوا الفقراء عشر أموالهم، ولهم تأثير قوي في عامة الشعب الذي كان يعجب بهم وهذا التأثير يرجع لقداستهم. والصدوقيون فيبدوا أنهم لا يعترفون بشريعة غير التوراة ولا يؤمنون بالقيامة ولا الملائكة وسيعاملون معاملة ليسوع المسيح قاسية، والمسيحية في نشأتها.

والكتبة كانوا متخصصين في الشريعة الموساوية، وكان بعضهم كهنة ولكن معظمهم علمانيون وفريسيون ونجد أشهرهم هلّيل وشمّايّ وجمليئيل أستاذ القديس بولس الرسول ويوحان بن زكاي رئيس مدرسة يبنة، وقد أحاطوا الشريعة بسياج من الأحكام، وأرسوا قواعد الطهارة المحصورة في الكهنة على كل الشعب حتى قرّبت جميع الناس لدي الله، كذلك العشارون وهم جباة الضرائب لحساب المحتل الروماني، وكانوا يميلون إلى زيادة الضرائب لحسابهم الخاص، لذلك كانوا يُعدّون خاطئين علنًا، ونجد أيضًا حركات معمدانية 150 قبل الميلاد حتى 30 بعد الميلاد، وتهتم بالمعمودية كرتبة قبول أو غفران ويرفضوا الذبيحة الدموية.

وينقسم العالم في أعين الدين اليهودي، إلى قسمين اليهود الذين يقبلون كلّ ما في الشريعة اليهودية الإيمان، وحتى الختان وسائر الممارسات. والوثنيون هم عباد الله أو متقو الله يقبلون الإيمان اليهودي لا الختان فيبقون وثنيين، والإمبراطورية الرومانية هي الإمبراطور والحاكم والعدل.

ب- الكنيسة:

بدأت الكنيسة في أورشليم في السنة الثلاثين في يوم العنصرة، واكتمل الجسد الرسولي للكنيسة بالإثني عشر رسولاً، وكانوا كلّهم أخوة معًا، ويسرد لنا أعمال الرسل المؤمنون وهم مجتمعين معا في مكان واحد، بقلب واحد، يجتمعون معهم بعض النسوة ومريم أم يسوع ويواظبون على الصلاة ويعيشون بطريقة منظمة، وكانوا يجعلون كل شيء مشترك بينهم. 

ج- الوجهات الكبرى لحياتهم:

ما يميز المسيحيين آنذاك وضعهم داخل العالم وأسلوب حياتهم، فإن إيمانهم المسيحي كان يُعاش داخل العالم، ويقول لنا كاتب الرسالة إلى ديوغنيطس: “كانوا يحبون جميع الناس والجميع يضطهدونهم ويجهلونهم ويدينوهم، يُقتلون فيكسبون الحياة، هم فقراء، ويغنون كثيرون، ينقصهم كلّ شيء، وكلّ شيء يزاد لهم، يحتقرون فيجدون افتخارهم في هذا الاحتقار، يفترون عليهم فيتبرّرون. يهينونهم فيباركون بكلمة، فالمسيحيون في العالم كالروح في الجسد، الروح منتشرة في كلّ أعضاء الجسد كالمسيحيين في كل مدن العالم، الروح تعيش في الجسد، لكنها ليست من الجسد، والمسيحيون إذ يضطهدون يتزايد عددهم يوما بعد يوم، فالمكانة التي خصهم بها الله هي من الكرامة ما لا يسمح لهم بالتخلي عنها، وإنهم ألفوا شعبا جديدًا مولودًا من المعمودية، وكان الكل يجتمع للصلاة، والصلاة الأساسية هي الصلاة الربية. نشأوا في عالم يسوده الفساد والانحطاط، وإنهم خميرة ضمن هذا العالم، وإنهم يعيشون في عالم لم يفهمهم ويتهمهم كبري.. كانوا متهمين بإنهم ملحدون لأنهم لا يشتركون في العبادات التقليدية وعبادة الإمبراطور، والعبادات الخاصة بالديانات الشرقية.

في أيام الرسل قام أشخاص وجماعات كثيرة لتقرير حياة نموذجية تعيش في عزلة قريبًا من البلاد، ولم يكن هناك منهج معين يعيشوا عليه، لذلك نجد من النادر أن يستمر الإنسان في سلوكه الروحاني العالي، ونجد كثير منهم قبل النسك عليه، وإرتجت حياتهم وإرتدوا، كما إننا نجد الكثير بتأثير الحرارة الروحية العالية والارتباط الوثيق بالمسيح انطلقوا إلى البراري والجبال، وعاشوا حياة توحدية كاملة، ومارسوا النسك والتقشف في أعلى درجاته وصوره.

رابعًا: الحياة الرهبانية الديرية في فكر آباء الكنيسة:

 فنجد الآباء الأوائل يمجدوا الحياة البتولية والنسك وسبب تمجيدهم لهذه الحياة أنها ألهبت قلوب الشباب والعذارى آنذاك، فنجد أقوال آباء كثيرين عن هذه الحياة: 

1- القديس اكليمنس الاسكندري (150-235):

“النساك هم الجزء المختار من الناس المختارين”.

2- القديس هيبوليتس (170-235):

“النساك محسوبون الكنيسة ضمن الطغمات السبعة”.

3- العلامة أوريجانيوس السكندري(185-253):

“نحن نكرس حياتنا لله لنخدمه في الطهارة ونتعهد أن نتعفف بالجسد حتى يمكننا أن نخلص أنفسنا”.

4- القديس قبريانوس (200-258):

“إن العذارى لهن النصيب الأمجد في قطيع الكنيسة”.

5- القديس أثناسيوس الرسولي(298-373):

 “بدأ يعظ ويعلّم ويكتب المقالات المطولة عن الطهارة والبتولية والنسك، فكل هذا أشعل قلوب الشباب أن يكتشفوا دعوتهم وحبهم للنسك والتعبد إلى درجة تفوق العقل والتصور، ففي أقل من قرن كان الرهبان قد ملأوا كل الجبال والبراري، وتحولت هذه الأماكن للحدائق والبساتين التي تفرز الروائح الذكية للمسيح وللعالم”.

6- وثائق المجمع المسكوني النيقاوي الأول 325:

” ولا يدخل في الرهبنة من كان فيه روح شيطاني، وإن التمس أحد أن يصير راهبًا، بغير إذن الأسقف، الذي هو تحت سلطانه، فلا يُقبل في الرهبانية، ومن ترك أولاده، لا يعولهم، ولا يربيهم، أو أبويه، لا سيما وهما مؤمنين، ولم يكرمهما، بحجة النسك، فليكن محرومًا. ترك الأقرباء بالجسد، والقنايا، والشهوات العالمية، المقام في البرية، ولباس الصوف، وشدّ الوسط بسير، كما كتب عن يوحنا المعمد”.

7- القديس للقديس باسيليوس الكبير (329-379):

” وينبغي للذي يتقدم إلى هذه الفضيلة أن يكون له فكر ثابت؛ ليكمّل جميع ما عهده؛  لئلا يرجع إلى خلف، ويكمّل الطاعة للرؤساء عليه، ويفحص عمّا يجب لخلاصه”

8- شمس الرئاسة أبو البركات بن كبر (+1323):

“الرهبنة فلسفة الشريعة المسيحية، والرهبان ملائكة أرضيون، وبشر سمائيون، متشبهون بالسيد المسيح ورسله، في التجرد من قنايا العالم”.

9- البابا يوحنا23:

” عندما يكرس الإنسان نفسه للعمل يحقق عملاً عظيمًا. وعندما يدعو الله يحقق عملاً أعظم. وعندما يقرن الصلاة بالعمل يسمو ويتفوّق أيضًا، وعندما يلوذ بالصمت، نبع التأمل في الحقائق الإلهية، يضيف إلى الكمال الذي حققه إكليل المجد والفخار”.

10- البابا بولس 6:

“كم هي عظيمة حياتكم! كم من نفوس تجذب! وكم هي مجدية للكنيسة، عندما تعيش استقامتها ونزاهتها وأمانتها بموجب التزامات نذوركم الرهبانية، تتلخص الحياة الرهبانية في لفظة “نعم” المتواصلة أمام المسيح الموجود بيننا”

خامسًا: إرهاصات الحياة الرهبانية الديرية:

نشأ في العالم المسيحي آنذاك حاسة روحية نسكية عالية، ونمط في حياة المؤمنين باعتباره انتصار الإحساسات الروحية على الإحساسات الجسدية، ونجد في الجيل الثاني في عهد الإمبراطور أنطونيوس بيوس راهبًا يدعي فرونتونيوس يغادر العالم وإلى برية نتسريا (وادي النطرون حاليا) ويرافقه سبعون راهبًا ليعيشوا زاهدين، وينصرفوا للعبادة ويضحون بمصلحتهم الذاتية.

لنا انتشرت المسيحية في العالم تأثر المؤمنون تأثرا مباشرًا ببشارة المسيح، وازداد عدد المؤمنين في كل أرجاء المسكونة، وبدأت اعتراضات الأباطرة والحكماء والسياسيين وكل الذين يعملون في البلاط الملكي على المؤمنين المسيحيين ويقولون أن الذين ينتمون للمسيحية هم الطبقة الذين يعملون أعمالهم بالأيادي، وإنهم محتقرين لأنهم دباغيين وإسكافيين وحلاقيين، والذين يبشرون يستغلون سهولة تصديقهم لهذا الدين، وأن المسيحيين مواطنين أشرار لأنهم لا يقوموا بتقديم العبادة للدولة ولا للإمبراطور ولا يقدمون الذبائح لألهتنا، وهم غير مهتمين بأمور السياسة وبأمن الإمبراطور، وإن عقيدتهم تناقض العقل البشري.

وكانت الافتراءات على المؤمنين تهيج الشعوب على المسيحيين، وحتى السلطات تصدر أحكامًا بحق من وقعت عليهم الاتهامات الباطلة، وبدأت هكذا الإضطهادات، ونسمع أن في الجيلين الأولين أن الإضطهادات لم تكن شاملة، وأن أول اضطهاد للمسيحيين هو نيرون، والتقليد يحكي لنا أن الرسولين بطرس وبولس هامتا الرسل استشهد ضحية ظلم نيرون، وأراد الإمبراطور سبتيمس ساويرس (193-211) بمنع اليهود والمسيحيين من التبشير، وتحت قائمة عقوبات صارمة كمنع الإعداد وسر العماد، ونعرف أول اضطهاد في مدينة الإسكندرية كان في عهده، وكان يضطهدهم بكل أنواع العذابات بقطع الرؤوس، وحرق النار، والزيت المغلي، والضرب بالسياط، وأنياب الوحوش، وأشغال المناجم، واغتصاب العذارى ولأجل إضعاف الكنيسة أمر مكسيمان بإعدام أعضاء الإكليروس عام 235.

وأول من قصد على الهروب في البرية مثل إيليا النبي، ويوحنا المعمدان  وغيرهم، وهو شاب مصري يدعي بولا ويقال أن هذا الشاب بولا عندما اشتد الاضطهاد انعزل من منزله، ونعرف أن هذا الشاب تثقف بالثقافة الإغريقية والمصرية، ودرس أصول الدين المسيحي الذي تعلق به. لما انتبه أن زوج أخته أراد أن يستولى على أمواله وهدده بالإبلاغ عنه وتسليمه لدي أيدي الولاة لأنه مسيحي، ترك له الأموال وذهب إلى مغارة بالقرب من خليج السويس، وفي احدي محطات الإضطهادات التي كانت تمر بالمسيحيين في العصر الروماني قرر بولا أن يترك العالم ويتوجه للصحراء حيث يعتزل بالخالق والصلاة والتقشف والنسك الرهباني، وقد احتفظ التقليد الرهباني بثلاثة أقوال شهيرة له:

  1. من يهرب من الضيقة يهرب من الله.
  2. الإنسان الحر هو ذاك الذي لا تستعبده الملذات الجسدية بل يتحكم في الجسد بتمييز صالح وعفة.
  3.  لا تكنز خطيئتك التي صنعتها لأن أفضل ما يقتنيه الإنسان هو أن يقر بخطاياه أمام الله ويلوم نفسه.

سادسًا: الحياة الرهبانية كامتداد للاستشهاد:

ظهرت الحياة الرهبانية الديرية عند نهاية عصر الاستشهاد، لتشهد بأن قيمة الحياة هي البذل والتضحية، وفي العطاء والتكريس، فما عاشه الشهداء من خلال استشهادهم يعيشه الشهود من خلال تبتلهم أي الاستشهاد والشهادة معًا، وكما أن قيمة الحياة تظهر في الخدمة، فإن تاريخ الكنيسة يؤكد أعظم إنجازاتها عن يد متبتلين لأن محبتهم للمسيح هي منبع محبتهم وخدمتهم للبشر. فإن خدمة المتبتلين تنبع حقا من حبهم للمسيح فأقام منهم 12 تلميذًا يرافقونه فيرسلهم مبشرين فإذًا مصدر الخدمة إنما هو رفقة يسوع وحب يسوع.

سابعًا: العناصر التي كونت حياة النساك:

1- شخص موسي الكليم الذي صلي وصام أربعين يوما على جبل سيناء ليتسلم لوحي الوصايا من الرب (خر24/18).

2- شخص إيليا النبي الذي هو أيضًا صلي وصام على جبل حوريب والكرمل (1 مل 17-19). وهو يعتبر شفيع الرهبانية الكرملية المنتشرة في بقاع العالم.

3- شخص يوحنا المعمدان، في العهد الجديد، يظهر من خلال ثيابه ونمط حياته وكأنه معتنق حياته النسك والتقشف(مت 3/4).

  4- يسوع نفسه، وإن لم يعش مثل يوحنا المعمدان، فقد أطلق الدعوة إلى التخلي عن كل شيء لإتباعه (مت 4/19). كما أن عظته على الجبل(مت 5/1-16) قد أثرت بالكثيرين لما فيها من مثالية مسيحية يسعي إليها طالب الكمال المسيحي.

5- وعلى ضوء تعاليم المسيح، دعا القديس بولس الرسول إلى حفظ البتولية من أجل الملكوت (1 كو 7/25-40) وهو بنفسه كان مثالا يحتذي به في عيشها.    

فهذه هي العناصر التي كونت حياة النساك هي العزلة والنسك والتأمل، فالراهب يختار هذه الطريقة لأسباب روحية تربطه بمعلمه ومخلصه يسوع المسيح لا العالم وأفكاره ومصالحه، فالناسك هو أولا مسيحيا يعمل بجدية وينفذ وصايا الإنجيل.

ثامنًا: العاملان الأساسيان التي خرجت منهما الحياة الرهبانية المسيحية:

1- العامل الأول: هو تكريم البتولية وتكريسها في سبيل نشر الملكوت، وهذا يفسر وجود عذارى بتولات وأرامل تقيات تكرسن لخدمة كنيسة الله والقريب، علاوة إلى ذلك إلى بعض مظاهر التقشف والبتولية لدي رجال كرسوا ذواتهم للبشارة.

2- العامل الثاني هو عامل الاستشهاد الناجم عن الإضطهادات الذي شنه الرومان على المسيحيين الذين بذلوا ذواتهم حتى الموت، متمثلين بالمسيح على الصليب، قد بذلوا ذاته في سبيل البشرية جمعاء. فالشهيد كان في تلك الحقبة من تاريخ الكنيسة على رأس لائحة القديسين والشاهد الأساسي على مصداقية الإنجيل.

تاسعًا: المراجع والمصادر:

1-إشعياء ميخائيل(القمص)، «حياة الشركة الباخومية»، الطبعة الثالثة، القاهرة، 2011.

2- أنطونيوس الأنطوني( الأب)، « سيرة القدّيس العظيم أنبا أنطونيوس وتاريخ ديره العامر ومشاهير من قديسي الدير»، القاهرة، 2004.

3- إيروثيئوس(المطران)، «الرهبنة الأرثوذكسية كطريقة حياة للأنبياء والرسل والشهداء»، ترجمة، القاهرة، 2013.

4- بي بورات(القسّ)، «تاريخ الروحانية المسيحية من زمن يسوع حتى فجر العصور الوسطي»، ترجمة، القاهرة، 2012.

5- جورج شحاته قنواتي(الدكتور)، «المسيحية والحضارة العربية»، دار الثقافة، الطبعة الثانية،القاهرة، 1992.

6- سليمان نسيم ( دكتور)، « تاريخ المسيحية في مصر» = تاريخ كنسي =1، القاهرة، 1991.

7- شنوده الثالث(البابا)، «الحركة النسكية في المشرق نشأتها وتطورها وانتشارها في مصر»، المركز الثقافي القبطي الأرثوذكسي، القاهرة، 2012.

8- شنوده الثالث(البابا)، «عظات رهبانية»، دير السيدة العذراء برموس، القاهرة، 2012.

9- صموئيل القس قزمان معوض(الدكتور)، «الأنبا شنوده رئيس المتوحدين سيرته. عظاته. قوانينه»، الجزء الأول، النصوص المسيحية في العصور الأولى،القاهرة، 2009.

10- صموئيل(الأنبا)، «تاريخ بلاديوس اللوساسي(اللوزاكي)»، القاهرة، 1999.

11- عبد المسيح دانيال، «الحياة الرهبانية عبر الأجيال»، مجلة الصلاح، السنة 75، يناير /فبراير، القاهرة، 2005، 33-38. 

12- عبد المسيح دانيال، قبطيات :الرهبنة المقارية، مجلة الصلاح، السنة 76، يونيو / يوليو ، القاهرة، 2005، 185-187

13- عزيز سوريال عطية، «تاريخ المسيحية الشرقية»، ترجمة : إسحاق عبيد، المجلس الأعلى للثقافة = 892، القاهرة، 2005.

14- غريغوريوس(الأنبا)، «الرهبنة القبطية وأشهر رجالها»، موسوعة الأنبا غريغوريوس=3، القاهرة، 2003.

15- فاضل سيداروس(الأب)، «معنى البرية لزماننا الحاضر قراءة معاصرة في سيرة القديس أنطونيوس»، الحياة الروحية=22، دار المشرق بيروت، 1997.

16- فاضل سيداروس(الأب)، «هوية الحياة الرهبانية»، الحياة الروحية=21، دار المشرق بيروت، الطبعة الثانية، 1996.

17- كاميللو باللين(الأب)، «تاريخ الكنيسة من فجر المسيحية إلى نهاية القرن الخامس عشر»، دار الشرقيات للنشر والتوزيع، القاهرة، 2004.

18- لبيب حبشيى، زكي تاوضروس، «الجمعية الأثرية المصرية في صحراء العرب والأديرة الشرقية»، صفحات من تاريخ مصر=20، القاهرة، الطبعة الثانية، 1996.

19- لجنة التاريخ القبطي، «خلاصة تاريخ المسيحية في مصر»، القاهرة، الطبعة الثالثة، 1996.

20- متى المسكين(الأب)، «الرهبنة القبطية في عصر القديس أنبا مقار»، دير القديس أنبا مقار، الطبعة الرابعة، القاهرة، 2006.

21- متى المسكين(الأب)، «القديس أنطونيوس ناسك إنجيلي»، دير القديس أنبا مقار، الطبعة السادسة، القاهرة، 2007.

22- مجموعة من المؤلفين، « تاريخ الكنيسة القبطية الكاثوليكية»، أعمال المجمع السكندري الثاني، القاهرة، 2001.

23- مجموعة من المؤلفين، «التاريخ الرهباني في أواخر القرن الرابع الميلادي هستوريا موناخورم(الرهبان السبعة) هستوريا موناخورم(روفينوس) التاريخ اللاوسي لبالاديوس»، ترجمة، النصوص المسيحية في العصور الأولى =5، القاهرة، 2013.

24- موريس مارتان اليسوعي(الأب)، « الكنيسة القبطية»، ترجمة، موسوعة المعرفة المسيحية، تاريخ الكنيسة =5، دار المشرق، بيروت، 1997.

25- ميخائيل مكسى إسكندر(أرشيدياكون)، «هل الرهبنة بدعة قبطية؟»، القاهرة، بدون تاريخ.

26- ميشيل يتيم (المطران)، إغناطيوس ديك (الأرشمندريت)، «تاريخ الكنيسة الشرقية وأهم أحداث الكنيسة الغربية»، معهد القدّيس بولس للفلسفة واللاهوت – حريصا، منشورات المكتبة البولسية، بيروت، الطبعة الثانية، 1991.

27- نبيه كامل داود وآخرون، «تاريخ المسيحية والرهبنة وآثارهما في أبروشيتي نقادة وقوص، وإسنا والأقصر وأرمنت»، سلسلة تاريخ أبروشيات مصر وآثارها القبطية=4، مؤسسة القديس مرقس لدراسات التاريخ القبطي، القاهرة، 2008.

28- يوحنّا كابس(الأنبا)، «حياة القدّيس أنطونيوس الكبير كوكب البرية»، القاهرة، 1978.

29- يوسف أسعد(القمص)، «الرهبنة»، القاهرة، الطبعة الثالثة، 2010.

 

بنعمة الله

أخوكم الأب إسطفانوس دانيال جرجس عبد المسيح

خادم مذبح الله بالقطنة والأغانة – طما

stfanos2@yahoo.com