رسالة شهر أغسطس 2013 : إيمان مريم

رسالة شهر أغسطس 2013 : إيمان مريم

فى سنة الإيمان  وزمن صوم سيدتنا وأمنا مريم العذراء لابد لأى مؤمن أن يتوقف كثيراً أمام إيمان مريم فهى النموذج والمثال ومن خلالها ولد المسيح فى العالم ومن خلالها أيضاً يولد بالإيمان فى قلب كل مؤمن.

فَقالَت مَريَم: “أَنا أَمَةُ الرَّبّ فَليَكُنْ لي بِحَسَبِ قَوْلِكَ”.   لو١:٣٨

إن حدث بشارة الملاك جبرائيل لسيدتنا مريم العذراء كان ومازال الإعلان الأول والأسمى للإيمان الذى يرضى الله ويحقق مشيئته نحو الإنسان، فعلى عكس تصرف حواء الأولى بعصيان واستهتار نحو وصية الله الهينة نجد العذراء مريم تقبل دعوة الله البالغة الصعوبة بكل شجاعة وتواضع ودون تحفظ أو طلبات، لقد نطقت مريم بروح العبادة الحقيقية بأنها أمة أو خادمة للرب وكانت تعنيها بحق، فالخادم لا يناقش سيده فى اوامره بل يطيع فى خضوع وفرح.

قبلت مريم دعوة الله لها بإيمان حقيقى، قبلتها بروح تجرد كامل فلم يتسرب إليها أى شكوك أو أطماع كالتى أثارها الشيطان فى قلب حواء الأولى وهو يدفعها بالخبث والكذب لعصيان وصية الخالق: “فاللهُ عالِمٌ أَنَّكُما في يَومِ تأكُلانِ مِنه تَنفَتِحُ أَعيُنُكُما وتَصيرانِ كآلِهَةٍ تَعرِفانِ الخَيرَ والشَّرّ.” تك٣: ٥ ، قبلت الدعوة بروح الخدمة ومحبة القريب” وفي تلكَ الأَيَّام قَامَت مَريمُ فمَضَت مُسرِعَةً إِلى الجَبَل إِلى مَدينةٍ في يَهوذا. ودَخَلَت بَيتَ زَكَرِيَّا، فَسَلَّمَت على أَليصابات.” لو  ١: ٣٩-٤٠ ، قبلتها بكل فرح وتهليل “فقالَت مَريَم: تُعَظِّمُ الرَّبَّ نَفْسي وتَبتَهِجُ روحي بِاللهِ مُخَلِّصي.” لو ١: ٤٦-٤٧ ،  قبلت الدعوة على الرغم من السيف المزمع أن يخترق نفسها ببطء شديد طوال حياتها “وأَنتِ سيَنفُذُ سَيفٌ في نَفْسِكِ.” لو۲: ٣٥، فلا عجب أن تتوجه الكنيسة المقدسة منذ نشأتها إلى والدة الإله القديسة كنموذج أكمل للإيمان يفوق كل الأنبياء والرسل

 

“وفي اليَومِ الثَّالِث، كانَ في قانا الجَليلِ عُرسٌ وكانَت أُمُّ يَسوعَ هُناك. فدُعِيَ يسوعُ أَيضاً وتلاميذُه إِلى العُرس. ونَفَذَتِ الخَمْر،

فقالَت لِيَسوعَ أُمُّه: ‘‘لَيسَ عِندَهم خَمْر .‘‘

فقالَ لها يسوع: ‘‘ما لي وما لَكِ، أَيَّتُها المَرأَة ؟ لَم تَأتِ ساعتي بَعْد.‘‘

فقالَت أُمُّه لِلخَدَم: ‘‘مَهما قالَ لَكم فافعَلوه‘‘ ” يو ۲: ١-٥

فى هذا النص العميق الذى يسرده يوحنا الحبيب نرى العديد من المعانى المستترة، ففى هذا العرس الذى يشير إلى عرس المسيح فى قلب البشرية لا نجد من بين الحضور جميعاً من هو قادر على تغيير مجرى الأحداث سوى يسوع المسيح شمس البر ومريم العذراء أمه.

تتألق مريم فى هذا العرس بفضائلها الإلهية الثلاثة فبالمحبة المغمورة بالأمومة تشعر بآلام الجماعة البشرية واحتياجها وتتضامن معها وكأنها مشكلتها الخاصة، وبالإيمان الفائق وإستحقاقات الأمومة الإلهية تلجأ للمسيح إبنها فترفع قلبها وصلواتها بكل إيمان  “ليس عندهم خمر” ليس عندهم فرح، ليس عندهم رجاء أو طمأنينة، إنها الأم التى تدرك إحتياج أبنائها البشر وبؤسهم وجوعهم الذى لا يسده كل ما فى العهد القديم من شرائع وذبائح وطقوس، وترفع الطلبة عن ابنائها جميعاً بلجاجة لمن “به كانَ كُلُّ شَيء وبِدونِه ما كانَ شَيءٌ مِمَّا كان” يو١:٣ هو فقط الذى تضع به إيمانها ولا تضعه فى أفكار أو تدابير بشرية، إن مريم منذ البداية تعلم أن يسوع هو “الطَّريقُ والحَقُّ والحَياة.” يو١٤:٦، هذا الإيمان يتممه الرجاء المملوء بالإنتظار الواثق فالرد الغير مشجع من المسيح لم يؤثر فى رجائها وانتظارها وثقتها بعمله الإلهى وتدخله العجائبى فكانت وصيتها للخدم بأن يستعدوا للعمل بحسب ما يأمرهم هو … مهما كان غريباً … مهما كان غير مفهوماً … فكانت المعجزة الأولى… وتمجد المسيح.

 فرح الجميع فرحاً حقيقيا بينما هى حاضرة تطمئن أن الجميع قد نال من الخمر الجيد، خمر خلاص المسيح ومازالت تفعل حتى يومنا هذا وإن كان كثيرين لا يعلمون أنهم قد نالوا تلك النعمة بفيض محبتها الأمومية وإيمانها العظيم ورجائها الذى يخيب.

“هُناكَ عِندَ صَليبِ يسوع، وقَفَت أُمُّه، وأُختُ أُمِّه مَريَمُ امرأَةُ قَلُوبا، ومَريَمُ المِجدَلِيَّة فرأَى يسوعُ أُمَّه وإِلى جانِبِها التِّلميذُ الحَبيبُ إِلَيه.

فقالَ لأُمِّه: ‘‘أَيَّتها المَرأَة، هذا ابنُكِ .‘‘

ثمَّ قالَ لِلتِّلميذ: ‘‘هذه أُمُّكَ.‘‘

ومُنذُ تِلكَ السَّاعةِ استَقبَلَها التِّلميذُ في بَيتِه.” يو١٩:۲٥-۲٧

فى تلك اللحظات التى وصلت فيها مريم إلى ذروة الألم واخترق السيف قلب الأم بكل قسوة كانت مريم واقفة بحسب شهادة العيان ليوحنا الإنجيلى، إنه يخبرنا أنها لم تنكسر أو تنهار ولم تفقد إيمانها أمام قسوة تجربة الصليب بل كانت واقفة تتجاوز الألم بالإيمان مقدمة لله قلبها مذبحاً طاهراً لذبيحة إبنها الوحيد.

لقد صور الكثير من الفنانين العذراء تحت الصليب وكأنها منهارة أو تحتاج لمن يعينها لكى لا تسقط لكن الأصوب أن من حولها هم من كانوا يستندون إليها، يستندون إلى إيمانها وقبولها المطلق لمشيئة الآب.

إن مريم أمام الصليب حامل مخلصنا يجعلنا نعود لنقارن هذا المشهد بحواء الأولى أمام شجرة الحياة فنجد حواء الأولى تستجيب لغواية إبليس وتشك فى محبة ووصية الخالق الكريم الذى رأته بعينيها بل وتطمع لكى تصير مثل الله ولا تجد مانعاً من الإعجاب بجمال الثمرة وشهوتها فتتمادى فى الأمر حتى تأكل منها وتسقط، فى المقابل نرى حواء الجديدة أمام شجرة الحياة الحقيقية وهى الصليب حامل مخلصنا ومريم واقفة أيضاً أمامها فى أسمى معانى للإيمان، فى تجرد وقبول للألم وطاعة لمشيئة الآب دون شك أو تذمر أو مطالبة بالإفراج عن إبنها البرىء أو توجيه أى إتهام لصالبيه !!

كلها إيمان بأن المصلوب سيتم فيه ما أخبرها به ملاك البشارة “سَيكونُ عَظيماً وَابنَ العَلِيِّ يُدعى، وَيُوليه الرَّبُّ الإِلهُ عَرشَ أَبيه داود، ويَملِكُ على بَيتِ يَعقوبَ أَبَدَ الدَّهر، وَلَن يَكونَ لِمُلكِه نِهاية.” لو ١:٣٢-٣٣ ترفع قلبها بصلوات حارة لأجل الصالبين والمصلوبين معه وكل ابنائها المزمع أن تصلهم رحمة الله وهى ذبيحة إبنها، هى الخمر الجيد ينتقل من جيل إلى جيل، فهل نتعجب من وصية المسيح الأخيرة لها بأن تعتنى بأبنائها المؤمنين وللمؤمنين بأن يجعلوها أمهم؟

لقد بقيت مريم تسند الكنيسة الأولى بإيمانها بعد صعود المسيح وقبل حلول الروح القدس، فالمسيح غاب عن الأبصار والروح القدس لم يحل بعد لكن مريم حاضرة معلمة للعبادة والصلاة والقداسة، وكنزاً ثميناً يحوى داخله سر المسيح وجواهر الفضائل والقداسة ولآلىء كلمة الله، تعتنى بالكنيسة الوليدة كما اعتنت سابقا بالطفل الإلهى ومنذ ذلك الحين وهى تمارس واجبها الأمومى نحو الجميع، تثبتنا فى الإيمان، تذكرنا بكلمات المخلص، تقودنا إليه، تدفعنا للأسرار المقدسة، تعلمنا الصلاة، تتواجد معنا وتدبر لنا أمورأً كثيرة جداً، تصنع المعجزات، تحثنا على العمل لنشر الملكوت وخلاص إخوتنا وتتضرع من أجلنا فى كل حين أمام إبنها الإلهى، فهل مازال هناك أحد يتسائل لماذا نقدم لها كل هذا الحب ونكرمها كل هذا الإكرام؟

فلنرفع عيوننا إلى مريم أمنا ونتامل ونتعلم منها الإيمان ونطوبها على الدوام مع اليصابات:

فَطوبى لِمَن آمَنَت: فسَيَتِمُّ ما بَلَغها مِن عِندِ الرَّبّ.” لو١:٤٥

اللجنة الأسقفية للعلمانيين والأنشطة الرسولية