رسالة شهر يونيو 2013: الإيمان والسيد المسيح

رسالة شهر يونيو 2013: الإيمان والسيد المسيح

فسَمِعَ يسوع أَنَّهم طَردوه.

فلَقِيَه وقالَ له: ‘ أَتُؤمِنُ أَنتَ بِابنِ الإِنسان؟‘

أَجاب: ‘ومَن هو يا ربّ، فأُومِنَ به؟‘

قالَ له يسوع: ‘قد رَأَيتَه، هو الَّذي يكَلِّمُكَ‘

فقال: ‘آمنتُ، يا ربّ‘ وسجَدَ له.” يو ٩: ٣٥-٣٩

هل حقاً نعرف من هو السيد المسيح له المجد؟ السيد المسيح هو محور التاريخ المقدس، مبدىء الإيمان ومتممه، البداية والنهاية، فهل إكتشفناه؟ هل نعرف حقاً من هو؟ “فقالَ لَهم: ‘ومَن أَنا في قَولِكم أَنتُم؟‘” متى ١٦: ١٥

يسوع المسيح الإبن هو الأقنوم الثانى المولود من الآب ميلاداً روحياً منذ الأزل يشبهه ميلاد الفكرة من العقل أو ميلاد شعاع النور من الشمس وهو ما يؤكده الإنجيل المقدس فى أكثر من موضع منه على سبيل المثال: “إِنَّ اللهَ، بَعدَما كَلَّمَ الآباءَ قَديمًا بِالأَنبِياءَ مَرَّاتٍ كَثيرةً بِوُجوهٍ كَثيرة، كَلَّمَنا في آخِرِ الأَيَّام هذِه بِابْنٍ جَعَلَه وارِثًا لِكُلِّ شيء وبِه أَنشَأَ العالَمِين. هو شُعاعُ مَجْدِه وصُورةُ جَوهَرِه، يَحفَظُ كُلَّ شيَءٍ بِقُوَّةِ كَلِمَتِه.” عب ١: ١-٣

إن الإيمان بالمسيح يختلف عن معرفة معلومات نظرية عن المسيح، فالإيمان يحتاج للإختبار والإكتشاف، لا شك أن المعرفة ضرورية جداً فى البداية إلا أن نمو الإيمان يحتاج إلى الإكتشاف الشخصى لشخص المسيح، ولذا سنتأمل هنا فى حوار السيد المسيح له المجد مع المرأة السامرية يو ٤:٧- ٢٦ كنموذج نتعرف من خلاله أكثر على معنى الإكتشاف اللازم للإيمان، هذا الحوار يمكن رؤيته فى الحقيقة كملخص مكثف لمراحل عديدة تمر بها النفس البشرية فى مسيرة اكتشاف السيد المسيح، فعلى الرغم من انها مجرد لقاء فى الإنجيل إلا أنها قد تكون مسيرة حياة كاملة لأى إنسان عرف المسيح وأخذ يكتشفه يوماً بعد يوم ، فلنتأمل فى هذه المراحل لنعرف فى أى مرحلة نحن الآن:

المرحلة الأولى: فقالَ لَها يسوع:  ‘اِسْقيني‘ “ إنها مبادرة المسيح الرحوم المتواضع القلب نحو النفس البشرية كأنه هو المحتاج إليها يقابلها موقف عدائى من النفس البشرية “‘كَيفَ تسأَلُني أَن أَسقِيَكَ وأَنتَ يَهوديٌّ وأنا امرَأَةٌ سامِريَّة ؟‘ “. لا عجب فهى تجهل مع من تتحدث وهذا هو حال كل منا فى بداية إكتشافه للمسيح فيبدو كأن المسيح قيد دينى ثقيل على الحرية الشخصية والطموحات … هذا غير حقيقى على الإطلاق!

المرحلة الثانية: “لو كُنتِ تَعرِفينَ عَطاءَ الله ومَن هوَ الَّذي يقولُ لَكِ: اسقيني، لَسَأَلِته أَنتِ فأَعطاكِ ماءً حَيّا” فى رد فعل المسيح له المجد نجد لطف وطول أناة مع الإصرار على رفع فكر الإنسان إلى أشياء أرقى وأهم من الإحتياجات المادية الأساسية التى يشغل بها ساعاته وأيامه فى قلق، يقابله من النفس البشرية  إستنكار وجدل الفكر البشرى المحدود! “يا ربّ، لا دَلْوَ عِندَكَ، والبِئرُ عَميقة، فَمِن أَينَ لَكَ الماءُ الحَيّ؟ هل أَنتَ أَعظَمُ مِن أَبينا يعقوبَ الَّذي أَعْطانا البِئْرَ، وشرِبَ مِنها هو و بَنوهُ وماشِيَتُه؟” وهذا الرد يحمل شيئاً من سخرية الإنسان الذى يظن أنه عارف ببواطن الأمور وكيفية التعامل الصحيح مع شئون الحياة. هناك للأسف الكثيرين يبقون فى تلك المرحلة ولا يرغبون فى تجاوزها فيرغبون فى التعامل مع مشاكل حياتهم بتدبيرهم بعيداً عن الله ولا يخرجوا من دائرتها المُرهقة، فلا يصلون أبداً إلى الراحة.

المرحلة الثالثة: “كُلُّ مَن يَشرَبُ مِن هذا الماء يَعطَشُ ثانِيَةً وأَمَّا الَّذي يَشرَبُ مِنَ الماءِ الَّذي أُعطيهِ أَنا إِيَّاه فلَن يَعطَشَ أَبداً بلِ الماءُ الَّذي أُعطِيهِ إِيَّاهُ يصيرُ فيه عَينَ ماءٍ يَتفَجَّرُ حَياةً أَبَديَّة”  بداية الإكتشاف أن هذا الرجل به حكمة ورزانة ورِقّة واهتمام، يبدو كمُعلم ولديه شىء ما يفوق الآخرين، هنا يزداد الفضول والرغبة فى الإكتشاف ولا تتطور المعرفة إلا بهذا الشغف بالإكتشاف.

المرحلة الرابعة: “يا ربّ، أَعطِني هذا الماء، لِكَي لا أَعطَشَ فأَعودَ إِلى الاستِقاءِ مِن هُنا” بداية الإستجابة والإقتناع أن السيد المسيح من الممكن أن يقدم عونا مادياً ملموساً فى الحياة، فلا بأس من الإستفادة منه، فالحياة قاسية وصعوباتها كثيرة وفى هذه المرحلة يبقى مؤمنون كثيرون يثقون فى المسيح صانع المعجزات والقادر على تقديم الحلول للمشاكل الحياتية وهو قادر بالفعل لكنه يريد منا الإهتمام أكثر بملكوت الله وأن نرفع أذهاننا وقلوبنا إلى النصيب الصالح “فَاطلُبوا أَوَّلاً مَلَكوتَه وبِرَّه تُزادوا هذا كُلَّه”. متى٦: ٣٣

المرحلة الخامسة: “اِذهَبي فَادْعي زَوجَكِ، وارجِعي إِلى ههُنا” يسوع يلمس برفق الجوانب المظلمة من حياة النفس البشرية يقابلها المصارحة والإعتراف بالضعف البشرى دون تجمل وهذا ضرورى للشفاء “‘ليسَ لي زَوج‘، فقالَ لَها يسوع: ‘أَصَبتِ إذ قُلتِ: لَيسَ لي زَوج. فَقَد كانَ لَكِ خَمسَةُ أَزْواج، والَّذي عِندَكِ الآنَ لَيسَ بِزَوجِكِ، لقَد صَدَقتِ في ذلك‘”. إنه يمد يده الشافيه فى أعماق النفس البشرية مستوعباً الضعف الإنسانى فى بساطة متناهية ورحمة أبدية غافرة، هنا تبدأ الحرية الداخلية ويحدث التغير الكبير، كثير جداً من المؤمنيين يخشون تلك المواجهة أمام المسيح بحقيقتهم المجردة فيبقون فى قلق دون نمو روحى حقيقى.

المرحلة السادسة: “قاَلتِ المَرأَة: ‘يا ربّ، أَرى أَنَّكَ نَبِيّ‘” لقد صارت الرؤية أكثر وضوحاً بعد التحرر الداخلى فهذا الرجل نبى بلا أدنى شك، لعل لديه حلاً لذلك الفراغ الداخلى الرهيب داخل النفس!!

المرحلة السابعة: تَعَبَّدَ آباؤُنا في هذا الجَبَل، وأَنتُم تَقولونَ إِنَّ المَكانَ الَّذي فيه يَجِبُ التَّعَبُّد هو في أُورَشَليم” لقد صار الإهتمام بأمور روحية بحتة واختفت الأمور الأرضية، صارت الأمور الإلهية هى السؤال الأساسى فهذا السؤال دليل على الإستنارة الداخلية فى اولويات الحياة، فالأبدى أهم من الزمنى دون أدنى شك.

المرحلة الثامنة:  “قالَ لَها يسوع: ‘صَدِّقيني أَيَّتُها المَرأَة تَأتي ساعةٌ فيها تَعبُدونَ الآب لا في هذا الجَبَل ولا في أُورَشَليم. أَنتُم تَعبُدونَ ما لا تَعلَمون ونَحنُ نَعبُدُ ما نَعلَم لِأَنَّ الخَلاصَ يَأتي مِنَ اليَهود ولكِن تَأتي ساعةٌ – وقد حَضَرتِ الآن – فيها العِبادُ الصادِقون يَعبُدونَ الآبَ بِالرُّوحِ والحَقّ فمِثْلَ أُولِئكَ العِبادِ يُريدُ الآب. إِنَّ اللهَ رُوح فعَلَى العِبادِ أَن يَعبُدوهُ بِالرُّوحِ والحَقّ‘” المسيح هنا يسكب المعرفة الروحية الأكثر الأهمية ونور علمه الإلهى فى النفس البشرية التى تستجيب له ويقودها فى الإستنارة بقدر ما تستطيع أن تحتمل حتى تصل إلى الإكتشاف الأعظم: والحَياةُ الأَبدِيَّة هي أَن يَعرِفوكَ أَنت الإِلهَ الحَقَّ وحدَكَ ويَعرِفوا الَّذي أَرسَلتَه يَسوعَ المَسيح” يو١٧:٣

المرحلة التاسعة:قالَت لَه المرأة: ‘إِنِّي أَعلَمُ أَنَّ المَشيحَ آتٍ، وهو الَّذي يُقالُ لَه المسيح، وإِذا أَتى، أَخبَرَنا بِكُلِّ شَيء‘. قالَ لَها يسوع: ‘ أَنا هو، أَنا الَّذي يُكَلِّمُكِ‘” هنا الإستنارة الكاملة وإكتشاف شخص المسيح والإيمان به فيحدث التغيير العميق الذى نراه فى حياة أبطال الإيمان بالمسيح على مدار القرون منذ الكنيسة الأولى وحتى يومنا هذا ويقود حياتهم الجديدة فى المسيح.

المرحلة العاشرة: “فتَركَتِ المَرأَةُ جَرَّتَها”  فالنفس تتجرد عن كل الأمور الأرضية والممتلكات التى كانت فيما مضى محط إهتمامها الأول فى الحياة، وسبب قلقها ويحل محلها إهتمامات أخرى روحية، “وذَهبَت إِلى المَدينة فقالَت لِلنَّاس: ‘هَلُمُّوا فَانْظُروا رَجُلاً قالَ لي كُلَّ ما فَعَلتُ. أَتُراهُ المَسيح؟‘” صار التبشير والرسالة الآن أهم من إحضار الماء من البئر، واختفت الموانع الإجتماعية والمخاوف ليحل مكانها رغبة وطاقة لحمل نور معرفة المسيح إلى آخرين، ذاك هو ما يصنعه المسيح مع كل الذين يكتشفونه حقاً ولا يتوقفون فى طريق معرفته فيصير هو الأول فى حياتهم لا يعادله شىء مهما كان كبيراً.

فى النهاية ونحن فى شهر قلب يسوع الأقدس نود أن نشير إلى أن المسيح حاضر فى وسطنا وقلبه مملوء بلهيب محبته ورحمته، يبحث عمن يقبله وينفتح عليه بالحب والقبول والتأمل والصلاة، هناك الكثيرين يقدمون الصلوات للقلب الأقدس فى هذا الشهر كأنها قرابين أو عطايا لله دون التوقف أمام حقيقة هذا القلب الذى يبحث عمن يقبل محبته، عمن يتحاور معه، عمن يكتشف حقيقته الفائقة العذوبة مثلما فعلت المرأة السامرية، فلنستقطع بعض الوقت للبقاء معه فى سر حبه ولنظل متذكرين كلماته المحيية التى تحمل لنا كل الرجاء:

“أَنا القِيامةُ والحَياة مَن آمَنَ بي، وَإن ماتَ، فسَيَحْيا وكُلُّ مَن يَحْيا ويُؤمِنُ بي لن يَموتَ أَبَداً.” يو ١١: ٢٥-٢٦

اللجنة الأسقفية للعلمانيين والأنشطة الرسولية