سيرة حياة القمص بطرس حنين في تذكار انتقاله

سيرة حياة القمص بطرس حنين في تذكار انتقاله

بقلم د. باهر رضا دويدة

* بحياة أبينا البار القمص بطرس حنين محطات كثيرة ولكننا سنعرض البعض منها مما شاهدناه وعايناه بأعيننا ولمسته قلوبنا فأبينا المحبوب كان دوماً مفتقدا لرعيته متواجداً في كل اللحظات ، في الأفراح مهنئاً ، في الأتراح معزياً ، في لحظات الضيق مسانداً ، في لحظات الحزن مشاركاً ، في لحظات الألم بلسماً شافياً ، في كل وقت مصلياً وحاملاً فوق كتفيه كل المسئولية ….عندما تقابله شيئا ما يلمس القلب مانحاً السلام …ابتسامته النابعة من القلب حتي في أصعب المواقف كانت مستغربة ولكنها كانت ابتسامة الثقة والرجاء ابتسامة الواثق من عمل الله الذي لا يتأخر

* ولد اسعد بولس حنين بالأقصر في 31/12/1953 بأسرة متدينة ومحبة للمسيح ، اخوه المتنيح الاب بولس حنين

حصل على ليسانس الفلسفة واللاهوت بالمعادى

* كان حب المسيح بقلبه ينمو معه وعمل مدرسا  بمدرسة  ابتدائية حتي قرر أن يكرس نفسه للمسيح ولكنيسته فبدأ حياته فرنسيسكانيا ثم انتقل لأكليريكية الأقباط الكاثوليك بالمعادي حيث أتم دراساته اللاهوتية بها.

* سيم كاهنا للرب في 7/6/1989 عن يد مثلث الرحمات نيافة الانبا اغانطيوس يعقوب مطران الاقصر السابق ، وخدم برعية جراجوس التابعة لإيبارشية طيبة الأقصر ثم انتقل إلي الخدمة بكنيسة القديس أنطونيوس البدواني بنقادة .

* كانت فترة خدمته بنقادة حافلة ولم تكن أبداً سهلة بذل كل جهده في رعاية أبناء الكنيسة ولم يبخل يوما عليهم .

* كانت حياته بسيطة للغاية وكان متقشفاً لأقصي حد فبالرغم من إصابته بمرض السكر إلا إنه كان كثير الصيام والصلاة كان بحق رجل صلاة وكل من عرفوه وتعاملوا معه عن قرب يعلموا هذه الحقيقة .

* تضرر مبني الكنيسة بفعل الزمن حيث أن الكنيسة مبنية من الطوب اللبن ويرجع تاريخها إلي قبل عام 1896 وبدأت رحلة الحصول علي التراخيص اللازمة لترميم مبني الكنيسة والذي تضرر بشدة أيضاً بعد السيول التي ضربت الصعيد وأصبح سقف الكنيسة يشكل خطراً علي حياة المصلين حيث أنه من الأخشاب والتي تهالكت .

* بدأت معاناة الحصول علي التصريح اللازم بالترميم وتمجد الرب كثيراً في كل شيء حتي تم الحصول علي التصريح بالترميم لمبني الكنيسة والمنارة وكان يتمتع بهدوء سماوي وسلام داخلي كان دوما مجال استغراب من المحيطين و من لجنة الكنيسة المسئولة عن استصدار التراخيص اللازمة فعندما يلجؤون إليه شاكين من الروتين والتلكؤ يبتسم وينظر للسماء .

 

* عندما حصلت الكنيسة علي تصاريح الترميم كانت العقبة الكبيرة في تمويل الترميمات وكانت الكلفة كبيرة نظراً لضخامة وصعوبة التنفيذ ولكن بالرغم من ذلك ظل هادئا ومبتسما بالرغم من انزعاج كل المحيطين وكان دائما يقول أن اعتمادنا علي الله فهو صاحب هذه البيعة وقديسه ( القديس أنطونيوس البادواني ) هو شفيع هذه الكنيسة وعلي اسمه بنيت ولكن لجنة الكنيسة سعت في جمع التبرعات ولكن كانت تلك التبرعات لا تفي أبداً بقيمة الترميمات المطلوبة وكان هذا سبب انزعاج شديد لهم وكانت ابتسامته أيضا غريبة في هذا الوقت للدرجة التي كانوا يقولون له بأنك يا أبانا غير مقدر للوضع الحرج الذي نحن به ولكن كما قال يسوع المسيح ” ٤١فَأَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَها:”مَرْثَا، مَرْثَا، أَنْتِ تَهْتَمِّينَ وَتَضْطَرِبِينَ لأَجْلِ أُمُورٍ كَثِيرَةٍ،٤٢وَلكِنَّ الْحَاجَةَ إِلَى وَاحِدٍ….. ” ( لو 10 :41-42 ) فكان ينظر للسماء ويقول ” صاحبها يتصرف يا حبوب ” .وكأن الله رغب أن يعطي الدرس الأول فإن الإتكال والسعي البشري بكل الجهد وحده غير كافياً ولكن عمل الله يفوق كل وصف فبعد أن تحركت اللجنة وذهبت إلي أبناء نقادة في كل أنحاء الجمهورية لم تكن كل مجهوداتهم كافية وبدأ عمل الله بصلاة هذا البار فبدأت تتوالي التبرعات بدون سابق طلب من أناس كثيرون غرباء وكانت الدهشة من كل المحيطين ….والابتسامة الصافية من هذا الأب …رجل الله …

 

* بدأ العمل وبدأ شباب المدينة يأتون متطوعين للخدمة فقد كان أبينا الحبيب القمص بطرس صديقاً وأباً لجميع من بالمدينة من المسيحيين المنتمين للكنيسة الأرثوذوكسية بالإضافة لأبناء الكنيسة بل ليس من المستغرب أن أيضاً جيران الكنيسة من المسلمين كانوا يقدمون المشروبات والمياه المثلجة للعمال في فترات الصيف فقد كانت يد الله تعمل بما يفوق العقل .

 

* ولكن عدو الخير كان دوماً حاضراً بالعراقيل فقام أحدهم بإرسال العديد من الشكاوي ضد الكنيسة تارة بحجة البناء المخالف وتارة أخري بالإخلال برخصة الترميم وتوقف العمل عدة مرات ولكن كانت الابتسامة صامدة ….فيد الله قادرة …وكانت تلك الابتسامة غريبة أيضاً …” يا أبونا ده ….فلان مطلوب في النيابة للتحقيق علشان الشكوي هنعمل إيه ” …” يا أبونا النيابة شكلت لجنة هندسية لمعاينة أعمال الترميم اللي تمت مع استمرار إيقاف العمل والحيطة اللي بنعمل ليها ترميم ممكن تقع كلها بمبني الكنيسة كله” ….”يا أبونا ده طالبين فلان في أمن الدولة ومش عارفين ليه علشان موضوع الترميم ” ….و…..و….فقط ابتسامة صافية ونظرة للسماء …..وكأنها تقول “……تشدد وتشجع لا تخف ولا ترتعب….”{1أخ22: 13} بل كانت ابتسامة الثقة والرجاء فيمن أخبرنا قائلًا ” تشددوا وتشجعوا. لا تخافوا ولا ترتاعوا ……… لأن معنا أكثر مما معه. معه ذراع بشرٍ ، ومعنا الرب إلهنا ليُساعدنا ويحارب حرُوبنا.” {2أخ32: 7-8} وكانت يد الله فاعلة وصلوات هذا الأب البار وتضرعاته مسموعة فكانت قلاع المشاكل تتهاوي بطريقة غريبة ….وكيف لا ….إنها طلبة البار “…..طَلِبَةُ الْبَارِّ تَقْتَدِرُ كَثِيرًا فِي فِعْلِهَا.” (يعقوب 5 :16 ) .

 

* مرت الأزمات بطريقة غريبة وعجيبة ولكن لكي تستعلن ذراع الرب ويمجد أسمه القدوس كانت بالحقيقة معجزات شهد عليها الكثيرون ممن عايشوها ورأوها بأعينهم ……..حتي ” ويُقالُ في ذلكَ اليومِ : (( هوذا هذا إلهنا . انتظرناهُ فخَلَّصنا . هذا هو الربُّ انتظرناهُ . نَبتَهجُ ونَفرحُ بخَلاصِهِ)).” {اش25: 9}.

 

*منارة الكنيسة ( منارة خشبية علي قاعدة مربعة من الطوب اللبن ) كانت حمولتها وارتكازها قائماً علي سقف الكنيسة الخشبي وتم تصميم دعامات لتوزيع الحمل بحيث يكون ارتكازها علي الأربعة أعمدة التي تم عملهم من داخل الكنيسة وتخفيف الحمولة علي السقف والإلتزام بالإرتفاع المطلوب في الترخيص وحدث خطأ بشع ظهر بعد عمل القواعد بالأرض فقد حدث خلل في ضبط اتجاه الأعمدة التي كانت من المفترض أن تجعل وجه المنارة تجاه الشرق وكان يوم اكتشاف الخطأ قرار النيابة بوقف العمل حتي مرور اللجنة الهندسية المشكلة بناء علي شكوى من أحدهم بمخالفة الكنيسة لرخصة الترميم وكان الكل في حالة من الحزن والجزع والتعب فلا بقدرتهم هدم تلك القواعد ولا حتي تصحيحها ولا حتي أن يتم وضع مسمار بحائط بسبب وجود الحراسة لتنفيذ قرار الوقف لحين فحص اللجنة ……” يابونا بطرس إزاي الغلطة دي حصلت ….طيب هنعمل إيه …نتصرف إزاي ….بكرة المعاينة ….و…و ابتسم ونظر للسماء واشار بيده وقال ” أنا مش عارف بس صاحبها قاعد اللي هوه عاوزه يعمله …..” ثقة بلا حدود وإيمان قوي وإتضاع عجيب ……ولما لا؟؟؟!!!!………. ألم يقرأ ويختبر كلمة الله علي لسان أشعياء النبي القائل ” فإن الجبال تزولُ، والآكام تتزعزعُ،أما إحساني فلا يزولُ عنك، وعهد سلامي لا يتزعزع، قال راحُمك الرب.” {اش54: 10} …. وانتهي التقرير الفني بمطابقة العمل للتصاريح الصادرة بالترميم وبدأ العمل والتفكير في كيفية معالجة مشكلة المنارة وأتي المهندس والمقاول وبعض من أعضاء لجنة الكنيسة لمعاينة المكان ومحاولة التفكير في علاج هذا الخطأ ….وكانت المفاجأة الغريبة بحق فقد كانت قواعد الدعامات تزحزحت إلي الاتجاه الصحيح المطلوب وكانت مفاجأة عقدت من لسان من رأوا المكان أولا ثم عاينوه لاحقا ….كان من يعلم تلك المشكلة يرغب في سؤاله ولكن الرهبة تنال من السائل فيصمت وينظر إلي تلك العينين الصافيتين والوجه الباسم فيعلم أن الله قادر وأن قوة الصلاة لازالت حاضرة حتي في هذا الزمان المادي الذي لا يؤمن سوي بما يري ……

*قرب انتهاء أعمال الترميم وبدء التشطيبات الداخلية بدأ التفكير في إحضار جزء من رفات القديس أنطونيوس البادواني وهو ما حدث لاحقاً بمساعدة نيافة الأنبا يؤانس زكريا مطران كرسي طيبة – الأقصر وبمعاونة أبينا القديس البطريرك الكاردينال إسطفانوس الثاني الذي حضر بنفسه وقام بتدشين مذبح الكنيسة وإحضار جزء من رفاة القديس أنطونيوس البادواني وموجودة الآن تحت مذبحه واستكملت أعمال التشطيبات في عهد الأب فادي سعدي راعي الكنيسة السابق .

 

* حدث يوما بسبب الاختلاف في الرأي أثناء التشطيبات مشادة بين أبينا الحبيب وأحد أعضاء اللجنة المسئولة عن الإشراف علي الترميم فطبيعتنا البشرية دوما عصية وكانت نتيجة الخلاف أن اخذ هذا العضو موقفا من الأب القمص وذهب لمنزله كانت من شيمة أبينا الحبيب القدرة علي الاعتذار والإتضاع الحقيقي ….فلم تغرب شمس هذا اليوم إلا واتصل تليفونياً ” يا فلان …..في عشا عندك ولا أجيب عشايا معايا .” فرد عليه اتفضل يابونا البيت بيتك ……فحضر …ولكن لن تتخيل عزيزي القاريء عزيزتي القارئة هول المفاجأة …فكثير منا سيعتقد انه سيكون هناك عتاب أو مثلا زيارة لشرح أبعاد الموقف …أو …أو …..ولكن لتذهبوا بتفكيركم إلي أبعد مدي …….

طرق الباب فتح ابن هذا الرجل ( عضو اللجنة ) الباب …..الأب القمص حاضراً بزيه الأسود معفراً من التراب الخاص باعمال الترميم يحمل علي يديه تونية الصلاة البيضاء …وابتسامة صافية علي وجهه ……” ممكن أدخل ” ….” أتفضل يابونا ده بيتك ” …….يأتي الأب صاحب المنزل مرحبا به ” اتفضل يابونا ولا هأعزمك في بيتك ” …يرد أبينا ” قبل ما ادخل عاوز اقول حاجة ….أنت عارف ايه اللي علي ايديا ده ……في بلدكم يا ( ….. ) كعادة العرب بيقولوا اللي قتل حد بيشيل كفنه ويروح لأهل القتيل يا يقتلوه ويتكفن بكفنة اللي شايله يا يقبلوا الدية ويسامحوه وأنا ياخويا محلتيش غير التونية دي اللي هاندفن بيها ” …..لم يتمالك الرجل نفسه فانهمرت دموعه واحتضنه وامتلأت عيون ابينا الحبيب بالدموع وقال له” سامحني أنا غلطت في حقك ” ….فرد عليه ” إزاي يابونا انا اللي طبعي عصبي وباتنرفز بسرعة انت اللي تسامحني ” ….

 

* تمر الأيام سريعاً ومن مطلع عام 2006 بدأ ابينا القمص يتصرف ويتكلم بطريقة غريبة فقد بدأ في أن يجمع متعلقاته واغلبها كانت كتب ويضعها بكراتين وظن الكثيرين في أنه يرغب في أن يرحل عن كنيسة نقادة للخدمة في مكان آخر ….وعندما يتم سؤاله يبتسم ضاحكا قائلا ” العرب عندهم مثل حلو بيقولوا ” وركب الناقة ومرق ……” فيبتسم الجميع لغرابة المثل …ويعيدون السؤال يعني ايه يابونا فيرد قائلا ” ايه مش فاهمين نكرر تاني وركب الناقة ومرق ” ويضحك ظل علي هذا الوضع لمدة شهور وفي يوم 11 /8/2006 وأثناء عودته من الأقصر بعد زيارة عائلته شعر بالعطش ونزل من عربته الصغيرة لكي يشرب من المياه التي موضوعة بجانب الطريق وبعد أن شرب ركب عربته المتواضعة وقبل أن ينطلق صدمت العربة سيارة نقل كبيرة من الخلف فسقطت العربة بأحد الترع علي جانب الطريق وتم نقل جثمان ابينا إلي مستشفي القرنة حيث وصل خبر الوفاة إلي المدينة التي اهتزت من سماع هذا النبأ وبدأ شعب المدينة وكهنتها من الكنيسة الأرثوذوكسية ( كان المتنيح القمص بطرس حنين ودودا ومحباً بصدق لجميع الناس وتربطه علاقات مودة وصداقة بكهنة الكنيسة الأرثوذوكسية وراعي الكنيسة الأنجيلية بنقادة ) والكثيرون من المحبين لهذا الإنسان البار في التقاطر علي المستشفي لإلقاء نظرة الوداع ……..من شاهده رأي وجها مبتسما كعادته مغلق العينين ….باش الوجه ….كإنه نائم ….نعم إنه “عَزِيزٌ فِي عَيْنَيِ الرَّبِّ مَوْتُ أَتْقِيَائِهِ .” ( مز 116: 15 )

أذكرنا يا أبينا أمام عرش النعمة بصلواتك وتضرعاتك فقد عشت أميناً في القليل فنعيماً لك بالخلود في أحضان القديسين والأبرار مسبحاً مع طغمات الملائكة السمائيين لرب المجد