شارل دي فوكو (3)

شارل دي فوكو (3)

زرع شارل فأثمرت حياته بالأخوّة

عاش شارل دي فوكو ومات راهب وكاهن لكنه وحيد في بيته، كان أهله وجماعته هم الذين من حوله في الصحراء. كرس حياته، التي قدمها إلى الله ذبيحة مرضية أمامه. أحبّ كل من حوله، عاش أخ بينهم، قام بدوره الروحي كمرشد وصديق دون أن يشعر أهل الصحراء انه مختلف عنهم في التفكير أو الإيمان. لغته معهم كانت حوار المحبة والسلام وروح الأخوة التي تركها فيما بينهم.

رهبنة أخوة يسوع الصغار

لم يؤسس الأخ شارل في حياته مؤسسة رهبانية في حد ذاتها، إنما أسس روح الأخوة “كيف تعيش أخ لجميع البشر” على مثال يسوع الناصري. يسوع الذي قالوا عنه “أيخرج شيء صالح من الناصرة؟” وكان هو نفسه الصلاح والخير. عاش شارل مقتديا بيسوع الصالح، فكانت حياته صالحة إلى المنتهى. أراد الأخ شارل أن تكون حياة يسوع في الناصرة أسلوباً لحياته, بل أكثر من ذلك، كانت طريقاً لحياة رهبانية دعاها (الأخوّة). بعد وفاة الأخ شارل دي فو كو في 1 ديسمبر عام 1916م، تأسست الرهبنة على يد الأب رينيه فوايوم عام 1933م. الإقتداء بحياة يسوع في الناصرة هو طريق الأخوة لاتحادهم بالله ولصداقتهم بأخوتهم البشر, ويدعون حياتهم الرهبانية باسم (الأخوّة).
روحانية رهبنة أخوة يسوع الصغار هي حياة تأملية تُعاش وسط الناس, خاصة الفقراء والذين ليس لهم من يذكرهم, ويعبّروا عن هذه الحياة, من خلال ثلاثة أبعاد هي: حياة أخوية، حياة صلاة، حياة شركة بين إخوتهم البشر. فباب الأخوّة دائماً مفتوح أمام كل إنسان ليصيروا أخوة له. وما تطلبه الكنيسة من الأخوة أن يذهبوا إلى أقصى حدود المشاركة الأخوية ليكونوا علامة لحب الله لكل إنسان.
طريقة حياتهم بسيطة، لا تتطلب حياتهم أديرة شاسعة، فالأخوة يستطيعوا الحياة وسط الناس في بيوت صغيرة. مثلهم مثل الآخرين من حولهم. يشاركوا الجيران والأصدقاء الحياة اليومية العادية في بساطة. مكللين صلاتهم بالعمل. فمن أهم ما يعيشونه إخوة يسوع الصغار وما يميزهم أنهم يعملون وسط الناس أي أعمال تساعدهم على المعيشة، ويعيشوا من خلالها روحانيتهم وصلاتهم على مثال يسوع، الذي كان يعمل نجاراً بسيطا وسط أهله وجيرانه. حياة الأخوة تحييا في صمت وتأمل طوال اليوم مع تمجيد الله في كل أعمالهم.

رهبنة أخوات يسوع الصغيرات

في المنتصف الأول للقرن العشرين، اختار الله فتاة تدعى مادلين لتكون أداة تأسيس رهبنة نسائية تكون على خطى الأخ شارل دي فوكو. وبالفعل عام 1939م، واقتداءً بيسوع في سرّ تجسده تأسست رهبنة “أخوات يسوع الصغيرات”. ويمكن اختصار دعوة الأخوّة كما جاء على لسان الأخت الصغيرة مادلين : “لقد وهبني الله دعوة للحياة التأملية المندمجة في العالم لأجعل الرب حاضراً فيه , فأحمل له مثل العذراء في زيارتها لأليصابات, لا المساعدة المادية فحسب, بل اليقين بحب الرب له . كانت هذه دعوة الأخ شارل الذي بقي في عمله ونشاطه الكثيف من أعظم التأمليين في عصره”
ومنذ ذلك الحين أصبحت روح الأخوّة التي عاشها شارل دي فوكو هي أداة تعايش كل من الأخوة والأخوات وسط العالم يقدمون رسالتهم بكل حب في صمت وتأمل دائم. يخطون خطواتهم الجريئة على مثال يسوع المخلص.

الأخوّة الكهنوتية ” يسوع محبة ” للأب شارل دي فوكو

عام 1955م، وبعد ظهور أخوة وأخوات يسوع الصغار إلى العالم، شعر بعض الكهنة الإيبارشيين باحتياج إلى جمعية تسندهم في حياتهم الكهنوتية دون أن تفصلهم عن خدمة الإيبارشية، واتفقوا أن روحانية الأب شارل دي فوكو تستطيع أن تقدم هذه الخدمة لبساطتها وعمقها، ووجدوا في الأب رينيه فوايوم مؤسس رهبانية أخوة يسوع الصغار سنداً يساعدهم في نمو حياتهم الروحية، فكانت ولادة “لأخوة يسوع محبة” الكهنوتية.
بدأت الأخوّة الكهنوتية حياتها في فرنسا مع عدد قليل من الكهنة الذين وضعوا نظام الأخوّة حسب ما كانوا ينتظرون منها وسرعان ما انتشرت الأخوّة واجتمع حوالي خمسين كاهناً في عام 1955 وعاشوا شهراً كاملاً موزعين وقتهم ما بين الصلاة والعمل اليدوي والاستماع إلى محاضرات روحية، ومراجعة حياتهم من خلال مجموعات صغيرة. وتكونت الأخوّة الكهنوتية ونمت على هذا النمط من الحياة حتى هذا اليوم، وأخذت تنتشر في كل بلاد العالم حتى أصبح عدد أعضائها اليوم حوالي 3500 كاهناً. يعيش كل كاهن برعيته داخل ايبراشيته، يمارس دوره الروحي والرعوي كاهن، ويجتمع الأخوّة بفرقة مكونة من خمسة إلى عشرة أعضاء شهريا للصلاة ومراجعة حياتهم الروحية والرسولية وتبادل الآراء حول أحداث العالم وحالة الناس الذين يعيشون في وسطهم .
بالأخوّة الكهنوتية يعيش الكاهن روح الأب شارل في حياته الكهنوتية داخل الرعية. يعيش بروح الصلاة المطلوبة من الكاهن الإيبارشي التي تجعله يبحث عن الله في المدن بين الرعايا كما فعل الأخ شارل في الصحراء، وكذلك الذهاب إلى أفقر الفقراء مادياً وروحياً، إن الروحانية تُلهِم الكاهن الإيبارشي الاهتمام بالصغار والضعفاء أولاً.

الأخوّة العلمانية

تأثر الكثير من العلمانيين بطريقة حياة الأخوّة التي يعيشها رهبان وراهبات يسوع الصغار وسط العالم. تولد عند مجموعة من الشباب إحساس بالاحتياج لعيش روحانية علمانية خلال الحياة اليومية. حياة يبحثون عنها مثل شارل دي فوكو ولا يعرفون الطريق لها. لقد جذبت حياة الناصرة العديد من الشباب والفتيات في أنحاء كثيرة. ومن ثم تولدت فكرة الأخُوّات العلمانية في كثير من البلدان في العالم. وقد تكّونت في مصر خمس أخُوّات علمانية تنتمي لروحانية الناصرة، جماعة في الأقصر “حجازة”، وثلاث جماعات في شبرا الخيمة، وجماعة في الفجالة بالقاهرة. يتراوح عدد كل جماعة بين 7 إلى 10 أفراد يلتقون مرتين شهرياً، يصغي كل منهم إلى الآخرين في صمت وتأمل، يُشاركون بعضهم البعض حياتهم بكل ما فيها، ناظرين إليها على ضوء الإنجيل المقدس وأمام أعينهم يسوع الناصري. يشعر كل علماني داخل الإخوّة العلمانية بمسئولية والتزام نحو الآخر الذي يراه في حياته اليومية، “كل إنسان هو أخ لي”.

رسالة الطوباوي شارل دي فوكو لنا اليوم

يُنادينا الأب والأخ شارل دي فوكو أن نرجع إلى بساطة الإنجيل, ونتأمل في حضور يسوع في الكلمة والإفخارستيا “سر القربان المقدس” وفي كل شخص نقابله وخاصة الصغار والأكثر ضعفاً في عين العالم. يدعونا شارل أن نهتف بالإنجيل بحياتنا في صمت وتأمل، ونحن نعلم أن يسوع يسبقنا إلى المكان الذي يرسلنا إليه في الحياة العادية مع تعبها وأفراحها وأحزانها حتى الصليب الذي يحوّل موتنا إلى الدخول في الحياة.

تأملت كثيراً في حياة هذا الإنسان البسيط أثناء كتابتي لهذه المقالات. فما كنت اعرفه وعشته من الأخوة سواء الرهبانية أو العلمانية، وما قرأته أيضاً زاد أضعاف في داخلي. ليس لأنني صرت اعرف الكثير عن شارل دي فوكو، إنما لأنني اختبرت قيمة التأمل في حياة الإنسان. أي إنسان. التأمل الذي يُعطينا فرصة للحوار مع الله، مع أنفسنا، مع ضمائرنا. التأمل الذي يُعمق فينا جذور الإصغاء. أنظر إلى كل أخ وأخت داخل الأخوّة، أنظر كأنني أرى شارل دي فوكو الذي يحيا الآن داخل ديره البسيط، ويرى هذا العالم من خلال منظوره الأخوي العميق. أتأمل في هذه الحياة البسيطة التي جمعت في أحشائها نبض إنسان جاء من سماه وسكن بيننا ليرفعنا إليه. نبض اله تجسد ليُعيد لنا كرامة فقدناها بالخطيئة.
لم ينتهي كلامنا عن الراهب الفرنسي الأخ شارل دي فوكو، الذي زرع حبّ وسلاماً وأخوّة مع من حوله فأثمرت حياته بالأخوّة بعد موته، وسكن في حضن الله الآب.

أجمل ما أختم به هو تلك الصلاة التي علمنا إياها الأخ شارل دي فوكو والتي تعتبر من أجمل صلوات تكريس حياتنا إلى الله.
صلاة تسليم الذات

أبتِ .. إني أسلم لك ذاتي ، فأفعل بي ما تشاء ،
ومهما فعلت بي فأنا شاكر لك .
إنّي مستعدُ لكل شيء ، وأرتضي بكل شيء .
ليس لي رغبة ً أخرى يا إلهي ،
سوى أن تكمُل إرادتُك فيّ وفي جميع خلائقك .
أني أستودع روحي بين يديك ،
و أهبها لك يا إلهي ، بكل ما في قلبي من الحب ،
لأني أحبك ، ولأن الحب يتطلب مني أن أهب نفسي ،
أن أودعها بين يديك ، من دون مقياس ،
وبثقة لا حد لها ،
لأنك أبي .

شكر خاص لأخوة يسوع الصغار في مصر، دائما أرى فيهم الأخوة والأصدقاء، يُدفعونني للأفضل في مسيرتي الروحية. وأشكرهم على إمدادي بكل ما يخص الكتابات عن شارل دي فوكو، التي استطعت بها أن اعبر للطوباوي شارل في عيده عبر هذه المقالات عن عمله العظيم فينا وروحه البسيطة النقية التي أراها في حياة إخوته وصلاتهم لنا كل حين.
بقلم/ رشا أرنست- مصر