شرح رسالة القديس بولس الرسول الأولى إلى أهل كورنتس

شرح رسالة القديس بولس الرسول الأولى
إلى أهل كورنتس

تأليف
الدكتور الخوري جرجس فرج صفير
قدم للفصول ابن شقيقه
الخوري بطرس فرج صفير
منشورات المعهد
المعادي

نصرّح بطبعه
+ إسطفانوس الأول
بطريرك الكرسي الإسكندري
وسائر الكرازة المرقسية للأقباط الكاثوليك
في 24 يولية 1967

تبصرة: كورنتس مدينة شهيرة في أكائية المسماة الآن المورة، في برزخ بين بحري إيونيان وإيجه. وكانت شهيرة بغناها وبتردد الفلاسفة إليها. لبث فيها القديس بولس زهاء خمس سنين، يبشر بالإنجيل إلى أن هدى كثيرين من علية القوم وغيرهم. فاتفق أن غاب عنهم وكان في أفسس، فبلغه ما ثار بينهم من الخصام واختلاف الآراء في أمور كثيرة. فكتب إليهم، يؤاخذهم ويمهد لهم طرق الاتفاق (عد 20). ففي الفصول الأربعة الأولى يقمع كبر الفلاسفة والخصام بين المسيحيين، وفي الخامس يبسل أحد الفسقة، وفي السادس يوبخهم على رفع دعاويهم أمام القضاة غير المؤمنين، وفي الفصول التالية يحل بعض مسائل رفعت إليه فيما يتعلق بالزواج والبتولية، والأكل من ذبائح الأوثان، وتغطية رأس المرأة في الكنيسة والعشاء السريّ، وفضائل الإيمان والرجاء والمحبة.
فترى في هذه الرسالة مجموعة الآداب والتعاليم. وقد أرسلها إليهم، على الأرجح صحبة تلميذه تيموثاوس، إذ كان قد أرسله لجمع الإحسانات كما جاء في سفر الأعمال.

الفصل الأول
الرسول يسلم على أهل كورنتس ويبين لهم أن الله يدعوه إلى التبشير. يهنئهم ثم يوبخهم على تحزبهم لهذا المبشر أو لذاك. ثم يمدح الصليب وينحي باللوم على الحكمة البشرية التي تعني بتزويق الكلام وتعجز عن التبشير. إن الله لم يخترها لهذه المهمة.
1- قال: (1) (من بولس). يذكر اسمه كما يصنع في سائر رسائله، إلا في رسالته إلى العبرانيين كما سبق الكلام فيه في رسالته إلى أهل رومة، (المدعو ليكون رسولاً ليسوع المسيح)، ل لأعمال قد استحقت له هذه النعمة ورقته إلى هذا المقام السامي بل (بمشيئة الله) الذي دعاني مع أني كنت مضطهد الكنيسة. فالفضل كل الفضل لله الداعي، لا لي أنا المدعو، إلا أني بنعمته قد لبيت هذه الدعوة. وهذه الرسالة التي أرفعها إليكم ليست مني وحدي بل (ومن ستنيس الأخ)، ذاك الذي قد جلده اليهود من أجلي، وكان رئيس المجمع في كورنتس كما جاء في الأعمال، ( 17:18 ) وهو وإن كان دوني مقاماً فهو أخ لي في المحبة والإيمان. فلا سبيل في الكنيسة إلى الافتخار بين الرفيع والوضيع، لأن الكنيسة التي نكتب إليها هي (كنيسة الله) التي في كورنتس. ولما كانت كنيسة الله، كان لا بد أن تكون واحدة متحدة. ونحن نكتب لا إلى بناء الكنيسة بل (إلى المقدَّسين في المسيح يسوع)، بحكم التطهير والعماد الذي قبلوه (المدعوين) من الله للإيمان بالمسيح، وذلك (ليكونوا قديسين) لا بحكم الإيمان فقط، فإن كثيرين يؤمنون ولا يخلصون ولا يصيرون قديسين بل (مع جميع الذين يدعون باسم ربنا يسوع المسيح) لا في كورنتس وحدها بل (في كل مكان). لأن كنيسة الله تتناول العالم كله والمسيح هو رب الجميع. ربهم وربنا ولذلك ف(3) (النعمة لكم والسلام من الله أبينا ومن الرب يسوع المسيح)، لكم ولجميع الذين يدعون باسم يسوع المسيح ربنا وربهم. ومن ثم فلا سبيل إلى الافتخار، ولا إلى الخلاف والتنازع لأن الرب واحد وإن كل ما نلتموه إنما نلتموه بحكم النعمة لا بحكم أعمال باشرتموها.
2- ثم قال : (4) (أشكر إلهي في كل حين). سواء أكان في البداية أم في النهاية (لأجلكم) وهذا ما ينبغي أن تصنعوه أنتم أنفسكم وذلك ( على نعمة الله المعطاة لكم ) لا في بولس أو كيفما أو في غيرهما في الرسل بل (في المسيح يسوع) الذي صرتم إخوته ووارثين معه. (5) (لأنكم قد أغنيتم به في كل شيء ) من الأمور الروحية ، ( في كـل كلام ) من جهة الوعظ والخطابة، (وكل علم) تدور عليه التعاليم المسيحية. من العلم ما يكون حاصلا ، ولا كلام كالأخرس والأبله، ومنه ما يكون يصحبه الكلام. وأنتم من جملة أولئك أغنيتم بكلا الأمرين فعندكم قوة الفكر والكلام (6) (وهكذا ثُبِّتت فيكم شهادة المسيح) لا بغرور الفلسفة ولا بزخرف الكلام، بل بما نلتموه من نعمة الله التي فاضت عليكم، ومن صنع العجائب وموهبة اللغات والعلم الصحيح، وعليه فإن كانت قد ثبّتت فيكم شهادة المسيح، فما بالكم تتقلقلون، أوليس ذلك عاراً عليكم وقد نلتم ما ليس وراءه ما يتبقى (7) (حتى لا يعوزكم من المواهب شيء أنتم المنتظرين تجلّي ربنا يسوع المسيح ) إذ يأتي في ذلك اليوم الرهيب ليدين الأحياء والأموات. فلا تضطربوا ولا تتزعزعوا فالرب هو (8) (يثبّتكم إلى النهاية) حتى تستمروا إلى منتهى حياتكم بدون ذنب ثقيل يستوجب الشجب والهلاك الأبدي وذلك (حتى لا يكون عليكم مشتكي في يوم ربنا يسوع المسيح، فكونوا على ثقة بذلك وسببه) (9) (فإن الله الذي به دعيتم) دعوة خصوصية وعن قصد، (إلى شركة ابنه) في الوراثة الإلهية (يسوع المسيح ربنا هو أمين) لا يخلف وعده، وكيف لا ينجز وعده، وقد دعيتم إلى شركة ابنه لا إلى شركة بولس أو الصفا، أو أفلون. فقد دعيتم ولكن بشرط أن تصبروا فتملكوا معه. وأما إن تقاعدتم أو أنكرتموه، فسينكركم هو أيضاً كما جاء في رسالته الثانية إلى تيموثاوس (12:2).
3- من المسائل العملية ما لا يزال يردده الإنسان في كل زمان ومكان. وذلك بخصوص الدعوة الإلهية نذكر منها شيئاً نقتطفه عن القديس يوحنا الذهبي الفم من خطابه الثاني في شرح رسالة القديس بولس الأولى. قال ما تعريبه بتصرف:
إن ما وعد به الله سيتم، لا محالة، لأنه أمين صادق، ما لم نتناعس
ولا نلبي دعوته. فقد دعا اليهود ولكنهم أبوا أن يقبلوا دعوته. فالدعوة وافية ولا قِصر فيها. وقد أراد أن يهبهم، ولكنهم أبوا أن يقبلوا هبته، فأبسلوا هم أنفسهم. ولو كان دعاهم إلى ما يشقّ عليهم العمل به، للزمهم أن يلبوا دعوته، فكيف وهو يدعوهم إلى خيرات لا رأتها عين ولا خطرت على قلب بشر. هل يجرّ من يدعو إلى وليمة مدعويه بالحبال والأمراس. فإن لبّوا جلسوا إلى المائدة وتمتعوا بتلك الخيرات، ولو أرغمهم على قبولها لأمست ثقيلة عليهم إن كانت لا تستميلهم من ذات طبعها.
4- وكأني بقائل يقول: لماذا لا يختار الجميع تلك الخيرات ويسعون في الحصول عليها؟- لضعفهم، إذ خلق الإنسان ضعيفاً. ولماذا لا يقطع الله دابر ضعفه؟ – ولكن كيف يقطع؟ – أولم يقم الطبيعة معلمة تنطق بما لله سبحانه من اللطف والقدرة؛ والسماوات تنطق بمجد الله. أولم يرسل الأنبياء؟ أولم يعط الشريعة الطبيعية المغروسة في قلب الإنسان، والشريعة المكتوبة؟ أولم يدعُ الجميع؟ أولم يرسل ابنه؟ أولم تنشر البشارة في العالم كله؟ أولم يشهد بها الله بآيات وعجائب وقوات ملأت الدنيا؟ أولم يتوعد بنار جميع الذين لا يقبلون الدواء الشافي، وهو الإيمان الذي تؤيده الأعمال الصالحة ؟ أولا يطلع شمسه كل يوم ؟ فأيّ شيء لم يصنعه لكرمته؟ وكأني بالواحد يقول: لماذا الله لم يجعل علم الفضيلة طبيعياً ذاتياً فينا، كالبصر والسمع بحيث لا يمكنا أن نكون إلا ذوي فضيلة؟ – لقد جعل الله علم الفضيلة فينا ذاتياً، وإلا فكيف نعرف ما ينبغي أن نعمله أو نتجنبه. فيقول : أنا أعني بقولي علم الفضيلة أي فعلها ، بحيث لا أرى إلا الفضيلة ولا أعم إلا بموجب الفضيلة: ولكن ما المجازاة التي نستحقها، إن كان الله يصنع كل شيء؟ فلو لم تكن فاتراً، لما كنت تأتي بمثل هذا الكلام، راغباً في أن تكون عمل الخير من باب الضرورة.
واعلم لو كان عمل الخير من باب الضرورة لكنا نحن والبهيمة سواسية. فتقول: أحبُّ إليّ أن أكون خيّراً من باب الضرورة كالبهيمة وأحرم كل مجازاة ، من أن أكون شريراً بحكم حريّة الاختيار وأعاقب بأن أكون بهيمة لا إنساناً. ولماذا؟ فإنك ترغب في ذلك لأنك تعرف وتشعر بشر الرذيلة وقبحها، فتجنبّها، فتخلد نفسك إلى السكينة. وكأني بك تقول: لا أقدر: فالأولى أن تقول: لا أريد. فإن كثيرين يتحاشون شر الذيلة يكذّبونك، ويسدّون فاك، ويعيشون أعفاء ولا نساء لهم. وكأني بك تقول أيضاً: طبعهم غير طبعي، ولا عزم الإرادة واحد ؛ فأنت إذن لا تريد، لا أنك لا تقدر. فلو كنت لا تقدر، لما كان الله يحاسبك ولا البشر. هل يقتص الحاكم من رجل يأمره بالطيران ولا يطير؟ كلا، ولكنه يقتص من رجل زان أو لص ينهاه ولا ينتهي، والجميع يسترسلون إلى قضائه.
6- فلا تقل إذن: هذا خيّر من طبعه، وذاك شرير من طبعه. وسببه أننا نرى كل خلق يمكن تغيّره. وهذا بيّنٌ من العيان. ومما يجرّه أسلوب التأديب ونفعه وتأثيره في الأخلاق ومن شتى الشرائع الصادقة. ولكن لا شيء مما يمكن تغيره هو بالطبع، لأننا لا نروم أبداً تغيير شيء هو بالطبع ، بأن نغير مثلاً حركة النار ولو رمناه لما صحّ لنا تغيير شيء مما هو بالطبع. وأما الإنسان فنراه يتغير من خلق إلى آخر؛ فالشرير ينقلب صالحاً، واللص مستقيماً، والزاني عفيفاً إلى غير ذلك من الأخلاق التي يزدان بها الإنسان بحكم المعاشرة والتأديب . وأما ما كان بالطبع، فلا يتغير ولا يتعرّى منه الإنسان: كالأكل والنوم وما شاكل ذلك من الأشياء الضرورية للمعيشة والحياة. أما الشهوات التي تنازع الإنسان. وقد تكون شديدة الوطأة ، فيمكن تغييرها، فإن العادة تغلب العادة. عود إلى ما نحن فيه. فالذنب محمول على الإنسان.
7- ثم أخذ، بعد ذلك التمهيد يؤاخذهم بما أمكن من اللطف، مستدركاً ما من شأنه أن يكدرهم، بادئ ذي بدء ومنزلاً نفسه منزلتهم في الإخاء، فقال (10) (وأسألكم أيها الإخوة) لا الأبناء أو التلاميذ. وذلك لا باسمي، ولا باسم الصفا، أو أفلون أو غيرهما، بل باسم من يخضع له ما في الأرض والسماء، أي (باسم ربنا يسوع المسيح) الذي يتنازل ويشاركني في سؤالي لئلا تتقحوا، لأن الخطيئة تولد القحة، فأسألكم (أن تقولوا جميعكم) من دون استثناء (قولا واحداً) فيما يتعلق بالإيمان الذي قبلتموه، (أولا يكون بينكم شقاق) يطفئ ما ينبغي أن يكون بينكم من المحبة، لأني لا أسألكم ألا يكون شقاق في الخارج فقط ، والقلوب متنافرة (بل) أسألكم أن (تكونوا ملتئمين بفكر واحد ورأي واحد) فقد يكون الإيمان واحداً ولا تكونون ملتئمين برباط المحبة ولا بالرأي كما هو جار فيما بينكم، إذ يقول الواحد: أنا لبولس، وأنا لآخر، كما يوضحه فيما بعد. هذا ولما كان المدعى عليه يجد سبيلاً إلى المواربة، ما لم يثبت الشهود ما يدّعي به عليه ، ذكر الشهود فقال : (11) فقد أخبرني عنكم، أيها الإخوة أهل كلوة أن بينكم خصومات:
8- أخبرني أهل كلوة ولم يذكر أسماء الذين أخبروه لئلا يثير الفتنة ما بينهم، وروح التحاسد، وهو يدعوهم إخوة، وإن كان خطؤهم ظاهراً. ومن بعد أن قال: أخبرني أهل كلوة، بين لهم ما أخبروه عنه: إن بينكم خصومات، ثم بين لهم موضوع تلك الخصومات فقال: (12) (أعني أن كل واحد منكم يقول أنا لبولس، أو أنا لأفلون ، أو أنا لكيفا). فهذه الخصومات التي يستثيرها كل واحد منكم تفسد لكنيسة. فليس هؤلاء الأشخاص الذين أذكرهم يشقون الكنيسة، بل أنتم الذين تتسترون بهم لدسّ أفكاركم المعوجة. فلا خلاف ولا تضارب بين بولس وكيفا وأفلون ، لا في الآراء ولا في العمل ، ثم عقب كلامـه وقال : (أو أنا للمسيح) ، فلم يقل مساوياً بين المسيح وبين الآخرين ، بل توبيخاً لهم إذ لم يكونوا كلهم للمسيح، وقد أوضح ذلك فيما يلي فقال: (13) ( ألعل المسيح قد تجزأ ) بأن أخذ كل واحد منكم جزءاً منه ؟ أفلا تخجلون. وزاد على ذلك توبيخاً لهم بما هو مستحيل فقال: (ألعل بولس صلب لأجلكم أو باسم بولس اعتمدتم ) فالمسيح هو كل شيء وأنا أنا بولس الذي تفتخرون به لست شيئاً بالنظر إلى المسيح. أنتم تفتخرون بالعماد، ونعم الافتخار ولكني (14) ( أشكر الله أني لم أعمد منكم أحداً سوى كرسبُس وغايوس) فلماذا تفتخرون بالعماد، وأنا أشكر الله أني لم أعمد منكم أحداً . فلما قال هذا ، كسر من مباهاتهم وأخزاهم ولم يكسر من قوة العماد بل من افتخارهم به ، فإن العماد جليل، لكن لا من جهة من يعمّد بل من جهة من يعمَّد باسمه وهو المسيح. والعماد من حيث العمل ليس شيئاً مهماً ولذلك يوكل أمره إلى الشيوخ العاجزين، أما التبشير ، فهو الأمر المهم ، والعماد مهم أيضاً وبدونه لا يمكنـا أن ننال الملكوت ولكنهه ليس صعباً مثل الاهتمام بالتبشير.
9- أما السبب الذي جعله يشكر الله، فأوضحه بقوله: (15) (لئلا يقول أحد إنكم باسمي اعتمدتم ) إذ يعود فيكتفي ، لقصر عقله ، أن يقول باسمي دعيتم بل باسمي اعتمدتم فيمسي الخرق أوسع والشقاق أعظم. فلما وبّخ ألوئك المشاقين وأنه لم (يعمد إلا أهل بين اسطفانا). وهي إحدى السيدات الشريفات، كما ذكره بونافنتورا، أخزاهم أيضاً وقال: (16) ( وما عدا ذلك ، فلا أعلم هل عمّدت أحداً غيرهم ) . وأما كرسبُس الذي ذكره آنفاً فكان رئيس مجمع اليهود، فآمن بالمسيح مع كل أهل بيته كما جاء في الأعمال (8:18) وأما غايوس. فكان يضيفه بولس وهو في كورنتس ، كما جاء في رسالته إلى أهل رومة في الفصل الأخير (22). فمن بعد أن بين لهم ذلك أخذ يصف لهم ما شأن رسالته فقال (17) (لأن المسيح لم يرسلني لأعمد بل لأبشر) لأن التبشير طريق وعر عزيز المطلب يقتضي إعمال الفكر، وردّ الضجر، وإطالة السهر ، فليس لكل أن يتحرّاه ، والرب من لطفه قد وكل أمره إليّ ، وهو لم يمنعني عن التعميد ولكنه لم يرسلني لأعمد إذ لا يقتضي التعميد تعباً ولا شغلاً لهداية الآخرين وإذ لا يقدم إلى قبول العماد إلا من تكون نفسه مستعدة بذاته أو بحكم إرادة والديه. هذا، ومن بعد أن أخزى من يفتخر بالعماد، وجه كلامه إلى أولئك الذين يفتخرون بالفلسفة، فقال: قد أرسلت لأبشر، (لا بحكمة الكلام، لئلا يبطل صليب المسيح).
10- لما أراد أن يدحض أولئك الذين يفتخرون بالعماد قال لهم: إن الله لم يرسلني لأعمد ، مضرباً عن إبداء ما لديه من الحجج ، ولكن لما وجه كلامه إلى المتفلسفة، قطع دابر افتخارهم بكلام أمضى من السيف قطعاً فقال : ( لئلا يبطل صليب المسيح ) ولذلك كـان عليكم أن تخجلوا من فخر يشتمّ منه رائحة التناقض لصليب المسيح أو رائحة الكسر من قوته. ولهذا لم يكن الرسل حكماء ولا فلاسفة ولكن إذا أقبل إليهم، وقد اهتدى وهو عالم كأفلون لم يرفضوه، غير أن الذين ابتدءوا بالتبشير كانوا جهلاء، ومع ذلك فقد أخزوا الفلاسفة، وسلاحهم الصليب. غير أن كلمة الصليب ليس مفعولها واحداً عند الهالكين والمخلصين ، ولذلك قال : ( 18 ) ( فإن كلمة الصليب عنـد الهالكين
جهالة، وأما عندنا نحن المخلَّصين فهي قوة الله.
11- اعلم أن المرضى السقام يشمئزون من كل طعام، وإن كان لذيذاً طيباً، ويستثقلون كل من يعودهم. وإن كان نسيباً أو صديقاً. وهذا شأن من تكون نفوسهم مريضة فتراهم يجهلون ما يهديهم إلى الخلاص ويستثقلون من يريد أن يهديهم إليه. وهذا النفور الذي يعتريهم مصدره المرض الذي يصيبهم، لا ذلك الشيء في حد نفسه. وهذا ما يرتكبه الكفرة، فإنهم يزرون بمن ينصحهم ويهديهم على مثال المجانين ولا يلتاعون، ويجعلون النور ظلاماً، ولا يبصرون، والعلم جهالة ولا يفقهون، وكلمة الصليب جهالة غير أنها ليست جهالة عند الجميع ، بل عند الهالكين الذين يرذلهم الله، سبحانه، إذ لا يريدون أن يعرفوا ما شأنه أن يهديهم إلى طريق الخلاص فينزلون من صلب لأجل افتدائهم منزلة جاهل لا يعـرف ما يصنع. أما عندنا نحن المخلَّصين فهو قوة الله.
12- لا نعوّل على الأقيسة فيما نتحرّاه من التبشير ولا على السيف والجند ولا على حكمة بشرية، إنما عمدتنا الصليب أي المصلوب عليه، لأننا نعلم بالاختبار أنه قوة الله، وأنه هو الآلة التي بها يفيض فينا الإيمان والنعمة والحياة الأبدية. هذا نعلمه نحن المخلَّصين أما الهالكون فلا يعلمونه. (19) لأنه كتب: سأبيد حكمة الحكماء وأرذل عقل العقلاء (أشعيا 14:29) فلما استشهد بالكتاب، تقوّى وأغلظ لهم الكلام، فقال: (20) (فأين الحاكم) أي حكيم الأمم وفيلسوفهم (وأين الكاتب) أي عالم اليهود (وأين فاحص هذا الدهر) أي الرجل الطبيعي الذي يبحث عن أسرار الطبيعة والكون، فقد سقطوا جميعهم، إذ طلع الصليب عليهم فأكلّ سهامهم وما قدروا أن يهدوا إلى الخلاص ولا أن يعرفوا الحق. فإن الهدى إنما كان من شأن الصيادين الذين جددوا وجه الأرض وذلك (لأن الله قد جهَّل حكمة هذا العالم) ولذلك أمسوا لا يبصرون. وسببه أن العالم لم يعرف الله بقوة الحكمة الطبيعية المغروسة فيه المعرفة الوافية بل سفه الفلاسفة في أفكارهم ولم يمجدوا الله. (21) (حسن لدى الله أن يخلّص بجهالة الكرازة ) لا جميع الناس وإن كان مـن إرادته خلاص الجميع ، بل (الذين يؤمنون) إذ يهبهم من النعمة الكافية ما يمكنهم من الحصول على الخلاص؛ على أنه، سبحانه، لما رآهم لا يعقلون مغازي الحكمة ومآلها، خاطبهم باللسان الذي يفهمونه، وانقلب أولئك المبشرون الأخسّاء الجهلاء حكماء أبادوا حكمة الحكماء ، لا بالبراهين والأقيسة. بل بسيف الإيمان وقوة الصليب التي يعدّونها جهالة.
13- وعليه، فانتصار الصيادين كان عجيباً، وقوتهم الصليب. فقال: (22) (لأن اليهود يسألون الآيات) التي تعودوا عليها من عهد موسى (واليونانيين يبتغون الحكمة)، على ما كان يأتي به حكماؤهم. هذا شأن أولئك (23) (أما نحن فنكرز بالمسيح مصلوباً) على خلاف ما يسأله اليهود ويبتغي اليونانيون (شكّاً لليهود) إذ يقولون كيف يمكن لمن لم يقدر أن يدفع الموت واصلب عن نفسه أن يخلّص الآخرين. (وجهالة للأمم)، إذ يدّعون أنه من الجهالة أن يصير الإله إنساناً ويموت مصلوباً حبّاً بمخلوقاته . هذا ما يختص بأولئك من اليهود والأمم ؛ ثم انتقل ليتكلم عن المؤمنين، فقال: (24) ، ( أما للمدعوين من اليهود واليونانيين فالمسيح قوة الله) العجيبة، بها كسر شوكة إبليس والخطيئة على ما نعترف به نحن المخلصين (وحكمة الله) إذ قضى أن يخلص العالم من الخطيئة بالإنسان- الإله، وفاءً لما يتقاضاه عدل الله. وقد أراد سبحانه أن يخلّصه بضد ما يعتبره الناس، أي بما يستجهلونه ويستضعفونه، وسببه (25) (لأن مستجهل الله) وهو عمله بأن يخلّص العالم بتوسط أناس صيادي سمك يستميلونه إلى الإيمان بإنسان لا خيل عنده ولا مال ولا سيف ولا أنصار ليبيّن لهم (أن مستجهل الله أحكم من الناس) وعلاوة على ذلك أن (مستضعف الله أقوى من الناس) إلى أن صار الصليب علامة شرف يفتخر به الملوك. فما لم يقدر عليه الفلاسفة بقوة أقيستهم، ولا اليهود بحكم شريعتهم قد أتمه الصليب بحكم قوته الإلهية. وكان الانتصار عجيباً.
14- لما قال إن مستجهل الله أحكم من الناس، بين ما للحكمة البشرية من السقوط والخساسة بقوة شهادة الكتاب لقوله: “أرذل عقل العقلاء” وبحكم سلسلة الحوادث لقوله مستفهماً: “أين الحاكم، وأين الكاتب، وأين فاحص هذا الدهر”، ثم قال: ولما لم يعرف العالم الله، حسن لديه أن يخلصه بجهالة الكرازة وبقوة الصليب الذي ظهرت به حكمة الله وقوته. وإن كنتم في ريب من ذلك (26) ، ( فانظروا دعوتكم ) فإنه لم يختر الجهلاء فجعلهم دكاترة ومعلمين بل تلاميذهم أيضاً، وهم أنتم أنفسكم ولذلك قال: (انظروا دعوتكم أيها الإخوة) واعلموا ذلك من أنفسكم (أنه ليس كثيرون) منكم (حكماء بحسب الجسد ولا كثيرون أقوياء ولا كثيرون شرفاء). ولم يقل ولا واحد منكم حكيم، لأن كرنيلس قائد المائة وسرجيوس بولس الوالي وأفلون وديونيسوس ولوقا وآخرين كانوا حكماء لا جهلاء، لا بحسب الجسد كحكماء اليونان بل بحسب الروح. فلم يلتفت الله إلى انتقاء الحكماء، ولكنه سبحانه لا يرفضهم إذا اهتدوا (27)، ( بل اختار الله الجاهل ) في عيون الناس ( ليخزى القوي ) المتسلّط ولا يهاب ما يذيقه من العذاب . وأعظم من ذلك ( 28 ) (اختار الخسيس من العالم والحقير وغير الموجود)، باعتبار البشر، وذلك لا ليخزى فقط بل (ليعدم الموجود) المتباهي بقوته وعلمه. ولماذا كل ذلك (29) ( لكيلا يفتخر ذو جسد أمامه ) بأنه بحكم عقله وحكمته بمكنه أن يهتدي إلى طريق الخلاص (العدد 21).
15- ثم قال: ( 30 ) ( وبه أنتم في المسيح يسوع ) . مهما كنتم يا أهل كورنتس حكماء أو جهلاء ، فإنما أنتم على ما أنتم عليه من فضل الله ووساطة يسوع المسيح، فقد صرتم على ما أنتم عليه خليقة جديدة، لا بحكم العماد أو بحكم أعمال تحريتموها بل بحكم الإيمان بيسوع المسيح ( الذي صار لنا من الله حكمة وبراً وقداسة وفداء ) أي قد أرسله الآب رحمة بنا، ليكون هو المعلم والمبدي فينا الحكمة الحقيقية التي تجعلنا، بتوسط الإيمان، نعرف الأمور الإلهية، ومفيض البر الذي نتقدس به، وأهل الفداء الذي حررنا من أسر الخطيئة. ولذلك عقب كلامه وقال مستشهداً بما جاء مجملاً في أرميا النبي: ” من افتخر، فليفتخر بالرب ” ( 22:9 ) لا بذاته بأنه يأتي بشيء يعتدّ به . فقـد يمكنا أن نوشّي الكلام بأساليب مستظرفة بيد أنها فـارغة من المعنى . فما أكثر ما كتب الفلاسفة، ولكنهم لم يهدوا بل قد يفسدون الأخلاق الضعيفة بما يدسونه من السموم الخفية فيختنق بها الواحـد ولا يدري، إلا أنها لا تؤثر بمن كان واعي البصيرة وقوي الإيمان، ينتبه إلى مـا يأتي به المخادع من الأساليب المستملحة، والعبارات الرقيقة. فعبارة الرسل وإن لم تكن بليغة فقد غيّرت وجه العالم وأخزت سفسطة الفلاسفة، وهدوا العالم.
16- مسألة نقتبس درسها من القديس يوحنا الذهبي الفم فيما يتعلق بقوة كلمة الرسل في هدايتهم العالم من خطابه الخامس في شرح رسالة بولس الأولى إلى أهل كورنتس قال ما تعريبه:
“من أين تأتَّى إلى فكرهم أن يتأملوا أنهم يقدرون أن يغلبوا كل كرة الأرض، لو لم يعاينوا أن المسيح قد قام. هل أخذتم حمية الفكر أن يتصوروا مثل ذلك وأن يقتحموه من غير روية؟ فإنه لمن الحمق المطبق تصوّر قيام ذلك الأمر العظيم بدون نعمة الله. فأنَّى لجهلاء أن يستتمُّوا ذلك أو لذوي حميّة عمياء ؟ ولكن إن كانوا عقلاء كما كانوا حقيقة ، بدليل ما عملوا، فكيف أمكن لاثني عشر رجلاً أن يجسروا أن يخرجوا متسارعين إلى حروب هائلة بحراً وبرّاً ومبادرين إلى إصلاح أخلاق الكرة كلها بعد أن تثبّتت فيها من عهد طويل، وهم ثابتون، فكيف أمكنهم ذلك، إن لم يقبلوا من السماء عهداً يستحق الإيمان، ونعمة سامية تؤيدهم فيما يتسارعون إليه؟ وأعظم من ذلك أنهم يدعون إلى السماء وإلى المنازل العالية، فمن أين كانوا ينتظرون أنهم يقنعون سامعيهم؟ فلو كان البعض منهم قد تخرّج في العلوم ، أو كان غنيّاً ، أو وجيهاً ، أو قديـراً أو عالماً ، لما كان يظهر أنه يمكنه أن يبادر إلى جليل هذه الأمـور ، ولكن مع ذلك قد كان يمكن أن يرجى الحصول عليه على نحو ما. أما والبعض منهم صيادون، والبعض حائكون والبعض جالسون إلى مائدة الجباية ، فمثل هذه الوظائف والأعمال لا يمكن من الدروس الفلسفية ولا من الإقناع بحيث يمكن الواحد، والحالة هذه، أن يتصور أموراً عظيمة، ولا مثل لديهم يقتدون به.
17- ليس فقط أنهم لم يكن لديهم مثل يعوّلون عليه، أملاً في الانتصار، بل كان لديهم أمثلة تدلهم على الفشل والعار، وذلك من عهد قريب . فإن كثيرين من اليهود قد حاولوا أن يجددوا فبادوا جميعهم ، وقد اقتحموا ولديهم جماهير من الجند والأنصار ، لا اثني عشـر رجلاً لا غير. فإن تادى ويهوذا قد هلكا مع الجمهور الغفير والتلاميذ الأنصار الذين كانوا يصحبونهما، فكان من شأن الخوف العظيم الذي يتولد من ذلك أن يثبّطهم، ما لم يكونوا مقتنعين أنهم بدون النعمة الإلهية لا يقدرون أن ينتصروا على أحد. فإن كانوا يرجون أنهم قادرون على أن يغلبوا، فأي رجاء عوّلوا عليه في اقتحام مخاطر عظيمة، ما لم يكونوا قد نظروا إلى المستقبلات؟ لنفرض أنهم ترجوا أن يغلبوا، فما الإفادة التي تنسموها من سوق الناس إلى رجل لم يقم (كما تقولون) فإن كان آلاف الناس الذين آمنوا بملكوت السماوات وبتلك الخيرات التي لا تحصى، يصعب عليهم أن يتطوحوا في الأخطار، فكيف كان يقاسي أولئك أموراً عظيمة لا طائل تحتها، بل تؤول إلى شر تجرّه إليهم؟ على أنه لو لم تكن قد وقعت تلك الأمور التي وقعت حقيقة، ولو لم يكن المسيح قد صعد، لكان أولئك الذين يجهدون في أن يتصوروها ويقنعوا الآخرين بها يغيظون الله وينتظرون انقضاض ألوف من الصواعق من العلا عليهم.
18- وعلاوة على ذلك، فإن حميتهم، وإن كانت شديدة عظيمة، والمسيح حيّ، ليلزم أن تنطفئ جمرتها من بعد موته، على أنه لو لم يقم، لكان مخادعاً ومراوغاً، أما تعلمون أن الجنود يتحمسون، وإن كانوا قلائل وضعفاء، مادام القائد والملك حيين، فإن ماتا ، تبددوا، وإن كانوا أقوياء. فقولوا لي ما الحجج الراجحة التي عوّلوا عليها في التسارع إلى البشارة وانتشارهم في العالم كله؟ فما أكثر العوائق التي كان من شأنها أن تستوقفهم! على أنهم لو كانوا مجانين يهزءون لما أحسنوا عملا ولا استمالوا أحداً، إذ ليس من أحد يسترسل لمن كان مجنوناً هزّاء. فإن أحسنوا، وهذا مقرّر ثابت كما دلت عليه عاقبة البشارة، فقد كانوا، ولا محالة، حكماء بل من أعظم الحكماء. وإن كانوا حكماء، فلم يقبلوا إلى البشارة عبثاً، ولو لم يعاينوه قد قام، فما الذي أمكنه أن يدفعهم إلى هذه الحرب، بل ما الذي لا يصرفهم عنها؟ فكان قد قال لهم : “بعد ثلاثة أيام أقوم” ووعدهم بملكوت السماء وأنهم يستظهرون على العالم كله، وذلك بعد حلول الروح القدس عليهم، وأضاف إلى ذلك أموراً تتجاوز دائرة الطبيعة كلها. ولذلك لو لم يحدث شيء من تلك الأمور، وإن آمنوا به وهو حي، لما آمنوا به بعد موته إلا لأنهم عاينوه قد قام. إذ كان لهم أن يقولوا: قد قال لنا إنه يقوم في اليوم الثالث ولم يقم، وإنه يرسل الروح القدس ولم يرسله، فكيف نؤمن به في أمور مستقبلة، والأمور الحاضرة كاذبة . ولأي سبب يبشرون ويكرزون بأنـه قام ، لو لم يكن قد قام؟
19- وكأني بك تقول: قد بشروا به لأنهم كاناو يحبونه؛ حسن، ولكن لو لم يعاينوه قد قام، لغضبوا عليه أشد الغضب، إذ يكون قد خانهم بعد أن وعدهم وعوداً كثيرة، وأثار كل أمة اليهود عليهم، حتى تركوا بيوتهم وأبناءهم وكل شيء لهم. فلو كان صنع ذلك عن ضعف لسامحوه. ولكنهم يوقنون إذ ذاك أنه صنع ذلك عن مكر على أنه كما كان إنساناً قابل الموت لزمه أن يقول الحق ولا يعد بالسماء (كما تقولون) ولذلك كان من المحتمل أن يأتوا بخلاف ما أتوا به وأن يكرزوا وينادوا بأنه كان رجلاً مخادعاً ومراوغاً، وهكذا كانوا يتملصون من الأخطار ويطفئون جمرة الحرب. على أنه لو كان اليهود كما يقولون قد رشوا الحراس على القبر حتى يقولوا إن تلاميذه قد سرقوه ولو كان التلاميذ يقولون وهم سائرون: قد سرقناه، ولم يقم، لكان اليهود قد أثنوا عليهم ولا كانوا هم أنفسهم تطوحوا في أخطار أدت بهم إلى الموت، ولا كانوا ذكروا اسمه بحكم أنه مخادع، ولكانوا سكتوا لأن التحاجج لا يطفئ جمرة التجارب بل يزيدها شدة. فمن أين تأتَّى لهم أن يخترعوا ذلك؟ إذ يكون قد سقط وتلاشى ما سمعوه. فإذا كانوا ولا خوف عليهم ينسون أشياء كثيرة وأخرى لا يفهمونها فكيف لا يذهلون من تلك الأمور والخطر متوقع والخوف شديد؟ فلو لم يعاينوه قد قام لماتوا لا محالة خوفاً سواء أكان بحكم الخداع الذي وقعوا فيه أم بحكم الجنون الذي يعتريهم…
20- وعلاوة على ذلك فلم يكن من أحد من الخارجين يعـرف ما القيامة ولا القيامة وهذا كان لديهم من أعظم العوائق في أن يقنعوا الناس به وكان قد شاع الخبر أنه قبر وأن تلاميذه قد سرقوه بعد أن ائتمروا مع الجنود. أما أنه قد قام فلم يكن أحد من الخارجين يعرف ذلك فمن أين تأتَّى لهم أنهم يقنعون العالم كله بأنه قام؟ فإن كان الجنود وقد عاينوا ما كان يصنعه من الآيات قد اقتنعوا أن يشهدوا بخلاف الواقع فأتّى رضى هؤلاء أن يبشروا به في العالم بمعزل عن الآيات والعجائب؟ ولا مال عندهم (ولا سيف) فلو تسرّعوا إلى ذلك رغبة في المجد والمباهاة لنسبوا ذلك إلى أنفسهم لا إلى من قد مات. ولكن أفلا يصدقهم الناس ولا يؤمنون بهم؟ فبمن يؤمن أولئك السامعون؟ أبمن قبض عليه ومات مصلوباً أم بأولئك الذين هربوا وتفلّتوا من أيدي اليهود؟… مع أنهم لم يهجروا اليهودية في الحال بل لبثوا فيها مع معرفتهم ما كان عليه اليهود من سوء النية ومرارة الحسد، وكانوا قد أثاروا عليهم الحكومة بادعاء أنهم تلاميذ ذاك الذي يجعل نفسه ملكاً ويقاوم قيصر وهم يؤيدونه. فلم يبالوا ولم يفشلوا بل استمروا ينادون ويبشرون بمصلوب قد ولد من امرأة يهودية فقيرة كانت مخطوبة لرجل نجار وهم صيادون حائكو خيم أخساء ضعفاء، فمن أين تلك الجرأة وقوة كلمتهم لو لم يعاينوه قد قام، وقد أتوا بما أتوا وجددوا وجه العالم بنعمة أفاضها الله عليهم وقد غلبوه بعد أن كان قد تحزّب عليهم وذلك بقوة الصليب، فلما تمثل ذلك الرسول هتف صارخاً: أما للمدعوين من اليهود واليونانيين فالمسيح قوة الله وحكمة الله وقد صار لنا حكمة وبرّاً وقداسة وفداء (العددين 22، 23).
الفصل الثاني
في كيفية تبشير الرسول، ظهور حكمة الله بالإنجيل وإعلانها بالروح القدس. وسبب عدم قبول الإنسان الجسدي الأشياء الروحية.
21- قال (1) ( وأنا لما أتيتكم أيها الأخوة لم آت ببراعة الكلام أو الحكمة مبشراً بشهادة الله) ما من شيء أحد نفساً من القديس بولس في المحاجة والدفاع. فقد كان كافياً ما قاله لخزى أولئك المتفلسفة بل جزء مما قاله. فكان قد ذكر قول الأنبياء: أرذل حكمة الحكماء . وبين أن الله قد اختار الجاهل ليخزى الفلاسفة والعلماء والآن يصرح لهم أن ليس أولئك هم جهلاء بل هو نفسه أيضاً الذي يبشرهم فقال (وأنا) نفسي (لما أتيتكم لم آت ببراعة الكلام أو الحكمة مبشراً لكم بشهادة الله) وأنا قادر على ذلك لو أراد المسيح ولكنه لم يُرد ليكون له وحده الفضل بل كل الفضل إذ كان من إرادته أن أرسلني لا لأعمد بل لأبشر لا بحكمة الكلام بل (بشهادة الله) بأن المسيح قد أتى وقد مات مصلوباً وقام لأجل خلاص البشر وهذا ما أبشر به (2) (لأني حكمت) بنفسي (بألا أعرف بينكم شيئاً إلا يسوع المسيح وإياه مصلوباً ) . فبقوله ( حكمت ) يشيـر إلى أنه قد عزم على ذلك تتميماً لإرادة سيده يسوع المسيح وذلك خزياً لكبرياء أولئك الفلاسفة الذين تسكتهم جهالة الصليب لا براهين الفـلاسفـة ولا أقيستهم، ولذلك لم آت إليكم بها ولم أعرف بينكم إلا يسوع وإياه مصلوباً لعلكم تذكرون وقد نازلت أولئك الحكماء وقطعت دابرهم وأوردتهم موارد لاصدرلها وذلك بقوة الصليب الذي نبشر به لأنّه قوة الله وحكمة الله.
22- ثم انتقل يبين لهم أن البشارة لا يصادرها فقط التبشير بمصلوب قد أهين ولا جهالة المبشرين ولا طريق التبشير ووجهه الساذج في غير براعة في الكلام أو الحكمة بل أمر آخر ليس أقل أهمية من سواه وهو أنواع المخافة التي من شأنها أن تستوقف المبشر في بشارته فقال (30) وقد كنت عندكم في ضعف وخوف ارتعاد كثير) أومثل بولس يخاف؟ نعم يخاف على أنه وإن كان بولس وقد دعاه الرب فلا يزال إنساناً ولا يُحسب الخوف عليه ذنباً لأنه إنما يتأتى بحكم ضعف الطبيعة بل كان ذاك الخوف فيه والضعف والارتعاد مرافقاً لما ناله من المجد والكرامة إذ لم يفشل ولم يتقاعد عن التبشير واقتحام الأخطار بحراً وبرّاً. وإنما أظهر لهم الخوف وهو عندهم لكثرة من كان عندهم من الرسل الكذبة واليهود والمتفلسفة الذين أجمعوا على مناصبة البشارة الإنجيلية. ولم يعبأ بهم ولم يأتهم بالأقيسة وبراعة الكلام، وكذلك قال (4) (ولم يكن كلامي) في المباحثات الخصوصية (ولا كرازتي) في المحافل والأسواق (بكلام بليغ من حكمة بشرية) على شكل ما يتأنق به أولئك المتفلسفة والرسل الكذبة (بل بإبداء الروح والقوة) بما أبديه أنا وأنتم من الأعمال الروحية وقوة الآيات والعجائب وشفاء المرضى وطرد الأبالسة، وقد ذكر الروح قبل القوة مشيراً إلى أن للعجائب قوة عظيمة غير أن أقوى حجة في هداية الآخرين هي الأعمال الروحية والعفاف في المعيشة. وعليه فلو تعفف الآن الإكليروس تعفف الرسل لأمكنهم أن يهدوا العالم كله بحسن سلوكهم وصدق عفافهم.
23- هذا ولماذا لم تكن كرازته بكلام بليغ ؟ قـال ( 5 ) ( لكي لا يكون إيمانكم عن حكمة الناس بل عن قوة الله) فحكمة الناس باطلة والمرجع إلى الله سبحانه. هل بطلت تلك القوة؟ حاشا. وكيف تبطل وهو معنا إلى منتهى الدهر. فلماذا لا يؤمن به جميع الناس؟ قال القديس يوحنا فم الذهب عن تقاعس المبشرين وتناعسهم: إنهم يحبون مجد الناس أكثر من مجد الله. والله أعلم! وقال القديس فرنسيس سالس: أعطوني اثني عشر مبشراً مثل الرسل وأنا أهدي العالم كله. ولكن من له أن يعطي ذلك غير الله؟ لقد أعطى من لطفه ما هو فوق الكفاية فما على الإنسان المبشر إلا أن يقتدي بهم . ولماذا لا يقتدي المبشرون بهم ؟ لأنهم أحبوا مجد الناس أكثر من مجد الله فيتناعسون ويتقاعسون، ولكن لماذا قد بطلت الآيات والقوات والعجائب؟ لأنه قد تم بناء البيت فصار في غنىً عن الزيادة ولا يعمى عنه إلا المتعامون. ولماذا يتعامى الناس عن ذلك النور الإلهي؟ الله أعلم! فإن وجود الجوهر الإنساني متعلق بقدرة فاعله وخالقه سبحانه أما تجويد جوهره فمفوض إلى الإنسان وهو متعلق بإرادته والله سبحانه يفيض عليه من نعمته ما يكفيه مؤنة تجديده ، هذا مـا يرشدنا إليه العقل والإيمان ولا نعرف فوق ذلك شيئاً إلا على سبيل التقدير.
24- ثم التفت مبيناً لهم أنه إن لم يأتهم ببراعة الكلام وبليغه في الحكمة فإنه مع ذلك ينطق بالحكمة لكن لا بسلك الحكمة التي يزدهي بها العالم من غير طائل بل بحكمة تجعل الإنسان وإن كان من التراب ملاكاً فقال (6) (غير أننا) نحن معاشر الرسل (ننطق بالحكمة بين الكاملين) الذين آمنوا إذ نظروا إلى سراب الأمور الفانيـة فتيقنـوا أنها لا تجديهم نفعاً فنحن ننطق بالحكمة بينهم لكن (لا بحكمة هذا الدهر) التي تبحث عما للكون من الأركان (ورؤساء هذا الدهر) وما يعتورهم من أحوال السياسة (الذين يعدمون) هم وما يبدون من الحكمة بدليل الاختبار (7) (بل ننطق بحكمة الله في السرّ) بيننا وبين الكاملين الذين آمنوا وصاروا من جملة أحبائنا وهذا من أخص الدلائل أنهم أحباؤنا وأصدقاؤنا وإلا لما كنا ننطق أمامهم بسرّ وكل أمر إذاعته إلينا ولا نبوح به أمام أي كان أو نلقي جواهرنا أمام الخنازير، فإن قلت انظر يا هذا، وكان غير كامل، إلى محبة الله كيف قد صلب ابنه حباً بالبشر، قال: ضعف وجبن وجهالة؛ وإذا حدثته عن القيامة، قال: وهم خرافة. وإن عن العماد قال: ماء وغسل. وإن عن الملكوت السماوي، قال: ليس وراء هذه الدنيا من بقاء . فمنزلة الكافر منزلة صبي أميّ يرى الحروف ولا يدري ما تشير إليه من المعاني، فعبثاً تعرض عليه الحروف قبل أن يتعلمها، وأما العلم الذي به نعرف أسرار الله فالإيمان الذي ننطق به أي (بالحكمة المكتومة) عن القوات العلوية وعن العقل نفسه (التي سبق الله وحدّد) أن يشركنا فيها من قبل إنشاء العالم (وقبل الدهور) وذلك (لمجدنا) مبيناً لنا حبه لنا وإلا لما كان سبق وحدّد أن يشركنا في غناها. تلك الحكمة هي كلمة الله يسوع المسيح ابن الله ( التي لم يعرفها أحد من رؤساء هذا الدهر ) الكفرة مثل هيرودس وبيلاطس ورؤسـاء الكهنة والفريسيين (لأنهم لو عرفوا لما صلبوا رب المجد).
25- قال: (لو عرفو لما صلبوا رب المجد) فالكلام هنا ليس في المسيح بل في سر تجسده بأنه هو في الحقيقة ابن الله لا بالتبني بل هـو ابنه بالطبع والحقيقة وأنه إنما تجسد لكي يفتدي بموته البشر وينقذهم من أسر الشيطان، ولم يدركوا ما تكون عليه قوة الصليب وحكمته، ولا تلك المصالحة التي تتم به بين السماء والأرض ولا ما سوف يقاسونه من أحوال التبدد، وعليه قوله: لا يدرون ما يعملون (لوقا 34:23) على أنهم لو عرفوا ذلك لما صلبوا رب المجد الذي يناله أولئك الذين يؤمنون به. هذا ما صرح به القديس بطرس بقوله: أيها الإخوة إني أعلم أنكم إنما فعلتم ذلك عن جهل (أعمال 17:3) وكذلك رؤساؤكم أيضاً. ثم لما كان الصليب لديهم جهالة وعاراً بيّن أنه إنما هو علامة المجد الذي يخصص به أولئك الكاملون الذين يؤمنون (9) (ولكن نحن ننطق – كما كتب – بما لم تره عين ولا سمعت به أذن ولا خطر على قلب بشر ما أعده الله للذين يحبونه) فلم يكتب ذلك حرفاً حرفاً بل ما في معنى ذلك كما جاء في أشعياء: إنه منذ الدهور لم يسمعوا ولم يبلغوا ولم ترَ عين ما خلاك يا الله- ما تصنع للذين ينتظرونك (4:64) أو كتب ذلك في كتب أخرى قد فقدت ولكن هذا الذي لم تره عين ولا خطر على قلب فيلسوف (10) (قد جلاه الله لنا) نحن الذين اختارنا لا بقوة النور الطبيعي الذي فينا بل (بروحه) الذي هو روح الحق وذلك ( لأن الروح يفحص كل شيء ) ولا تخفى عليه خافية (حتى أعماق القلوب) تلك الأسرار الخفية التي لا يعلمها إلا الله.
ثم أثبت ذلك بمقابلته مع روح الإنسان فقال ( 11 ) ( فإنـه مَن
من الناس يعرف ما في الإنسان إلا روح الإنسان الذي فيه) فيخرج بذلك الملائكة الذين لا يعرفون روح الإنسان إلا إذا أبدى في الخارج بعض علامات تدل على فكره (فهكذا لا يعلم أحد ما في الله إلا روح الله) فلما بين لهم قال (12) (ونحن لم نأخذ روح العالم) الذي يفتخر بزخرف الحكمة البشرية أو بما يزول (بل الروح الذي من الله) منبثق فيعرف ويُلهم ما هو لله وذلك (لنعرف ما أنعم الله به علينا من العطايا) والمواهب (13) (التي ننطق بها لا بكلمات) واصطلاحات (تعلمها الحكمة البشرية) التي تزدهي بزخرف الكلام والأساليب البديعية (بل بما يعلمه الروح إذ نقرن الروحيات بالروحيات).
26 – فكيف يكون ذلك القران ؟ متى عرض لنا من الروحيات ما كان قد خفى علينا معناه استشهدنا الكتاب إثباتاً له بما هو روحي أي خاص بفعل الروح القدس قارنين هذا بذاك لتأييد ما يدل عليه؛ وقد ضرب القديس يوحنا مثلاً فقال: مثل ذلك: قام المسيح لأنه ولد من عذراء؛ فاستشهد رامزاً إلى ذلك ومؤيداً له بوقوع يونان في بطن الحوت وتملصه منه، وبعقر سارة ورفقة، وبجنة عدن ولا زرع ولا فلاحة، وبنشوء حواء ولا قران ولا جماع، فإن المستقبلات قد أقرّ بها من قبل حتى متى حصلت يؤمن بها الناس. وهكذا الروحيات بالروحيات، وننادي بقدرة الله ونحن في غنى عن المباحث الفلسفية التي تروي قليلاً ولا تفتح مقفلاً عويصاً ولا تجر نفعاً وسببه (أن الإنسان الحيواني لا يدرك ما لروح الله ) فالإنسان الحيواني هو ذاك الذي يتتبع قـواه الحسية لا غير وذلك في ما يدركه ويشتهيه على شكل الحيوان ولا يترقى فوق ذلك إلى ما تتناوله النفس بقوة روحانيتها. فالفلسفة جميلة إن كانت لا تتجاوز دائرتها فتنهمك في تفسير أسرار الله فتعمى فتسقط سقوط حواء لما استرسلت لصوت إبليس فخيل إليها أنها تصير كالله تعرف الخير والشر فسقطت؛ وهكذا الإنسان متى تطاول إلى تناول ما يتجاوز دائرته هوى إذ يمكن للعين أن تتناول ما كان بعيداً عنها، أوَلا نراها متى انفتحت وسعت في تناوله متخيلة المدوّر مربعاً وبعكسه فيقف معتبراً ذلك جهالة ولذلك قال (لأن ذلك جهالة عنده) لأنه يقصر عن مناولته (ولا يستطيع أن يعرفه) لأن ما يرغب في أن يعرفه يتقاضى الإيمان ولذلك قال (إنما يحكم فيه بالروح) ولا سبيل إلى إدراكه بالأقيسة العقلية لأن تلك الأمور تتجاوز دائرة العقل كل التجاوز.
27- بعد أن تكلم عن الإنسان الحيواني أخذ يصف الإنسان الروحي فقال (15) (أما الروحي فإنه يحكم في كل شيء وليس أحد يحكم فيه) وسببه أن الإنسان الروحي يرى ما عند نفسه وما عند غيره وأما الإنسان الحيواني فلا يرى ما عند غيره لأن عقله منغمس في حمأة الحواس فلا يترقى إلى ما فوق ذلك، فنحن نعرف ما عند الكفرة أما هم فلا يعرفون ما عندنا فنعرف مآل الأشياء الحاضرة الفانية وما يؤول إليه العالم وما سوف يقاسيه الخطأة ويتنعم به الأبرار من الملذات الأبدية، ولذلك كان له أن يحكم في كل شيء. وأما الرجل الحيواني فلا يعرف شيئاً من ذلك. والدليل على أن للرجل الروحي أن يحكم في كل شيء أن معه فكر الرب وعلمه، ولذلك قال (16) (فإنه من الذي عرف فكر الرب حتى يلقنه، وأما نحن فمعنا فكر الرب) فنعرف فكر المسيح وما أراد وما أوحاه إلينا، لا أننا نعرف كل ما فكره، بل ما نعرفه إنما نعرفه بوحي منه لا بحكم النور الطبيعي. وهذه إرادة الله لئلا يبطل صليب المسيح، ولذلك ليس معنا فكر أفلاطون أو أحد الفلاسفة بل فكر المسيح وهو الذي نعوّل عليه في كرازتنا وإنارة العالم، وهو لا يزال معنا إلى منتهى الدهور. وهذا الفكر لا يعرفه الفلاسفة بل يعدّونه جهالة ولا يتذكرون (العدد 24 و 25).

الفصل الثالث
احتجاج بولس نفسه على عدم مخاطبتهم كالروحيين. ليس المبشرون بشيء. المسيح هو الأصل والأساس. المسيحيون هياكل الله. وحكمة العالم جهالة.
28- (1) (وأنا أيها الإخوة لم أستطع أن أكلمكم كالروحيين بل كالجسديين كالأطفال في المسيح). بعد أن أبطل ما تأتي به الفلسفة البشرية وأبان ما يعرقلها من القصر أتى ببرهان آخر يوعـز بلطف إلى ما عندهم أيضاً من القصر فقال: (لا أستطيع أن أكلمكم كالروحيين على أنكم وإن كنتم كاملين فليس لكم بعد أن تفتخروا لأنكم لم تجدوا شيئاً من عند أنفسكم إذ ما زلتم تلاميذ فلا تعرفون الأشياء كما ينبغي أن تعرفوها فإن افتخرتم بالفلسفة فهي لا تجديكم نفعاً كما أبنت لكم بل هي إذا تطرفت تنقلب ضد ما نكرز به، وكذلك ليس لكم أن تفتخروا بالروحيات لأنكم مـا زلتم كالأطفال في المسيح . ولذلك ( قد غذوتكم باللبن لا بالطعام لأنكم لم تكونوا حينئذ تستطيعون ذلك) الطعام بل (ولا الآن أيضاً تستطيعون) وسببه (لأنكم لم تزالوا جسديين). ثم بين لهم وجه كونهم لا يزالون جسديين فقال (3) (فإنه إذ فيكم حسد وخصومة ألا تكونون جسديين وتسلكون بحسب الجسد) فإن كان من شأن الحسد والخصومة أن يجعل الإنسان جسدياً لا يعرف ما للروح فكيف تكون حالة أولئك الذين يتمرغون في حمأة الشهوات. نعم نعم من أراد أن يتصيد الحقيقة الإلهية يلزمه أن يكون محرراً من كل رذيلة.
29- من بعد أن وبّخ الرؤساء على اعتمادهم على الفلسفة أخذ يوبخ المرؤوسين فقال (4) (لأنه إذا كان واحد يقول أنا لبولس وآخر أنا لأبلوس أفلا تكونون بشريين) مشيراً إلى أن ذلك لا يجرّ إليهم نفعاً ولا يؤيدهم بل يعرقلهم إذ من شأن مثل هذه الخصومة أن تولد الغيرة والغيرة تجعلهم جسديين والجسديون لا يفقهون ما هو لله. لعمري (فمن ذا أبلوس ومن ذا بولس (5) إنهما خادمان آمنتم على أيديهما) فحبوهما وتعلقوا بهما ولكن إلى حد لا تتجاوزونه، فإن ما أبدياه نحوكم إنما هو من الله (وإنما لكليهما قدر ما أعطاه الرب) فلم يأتياكم بشيء من عند أنفسهما (6) (أنا بولس غرست وأبلوس سقى لكن الله هو الذي أنمى ) فنحن إذن لسنا شيئاً (7) (فالغارس إذن ليس بشيء ولا الساقي بل المنمي وهو الله) ولم يقف عند ذلك بل زاد في مداواته وقال (8) (والغارس والساقي كلاهما واحد) فلا تفضلوا الواحد على الآخر ولا يمكن لأحدهما أن يأتي بشيء من عند نفسه ما لم يتمه الله. ولا تقولوا: هذا بفضل ذاك بما يكابده من التعب، فإنهما وإن كانا واحداً (فكل منهما يأخذ أجرته على قدر تعبه وسببه (أنّا عاملون) أي فعلة (مع الله) في الغرس والسقي، وهو سبحانه المنمى، والعامل يستحق على قدر تعبه (وأنتم حرث الله وبناء الله) على أننا وإن كنا نحن العاملين، فالحرث حرث الله، والبناء بناء الله لأنه صاحبه وربه. فإذ أنتم حرث الله وبناء الله، فعار عليكم أن تنقسموا والرب واحد والسياج واحد.
30- ثم قال (10) (أنا) لا بقوتي وحكمتي بل (بحسب نعمة الله التي أوتيتها كبناء حكيم وضعت الأساس) إذ بشرتكم بالإيمان إذ لابد لواضع الأساس أن يكون حكيماً وهذا ما آتانيه الرب حتى يكون البناء عليه متيناً (وأخر يبني عليه فلينظر كل واحـد منكـم كيف يبني عليه) في تأييد إيمانه وتهذيب أخلاقه لأنكم كلكم واحـد في المسيح (11) (إذ لا يستطيع أحد أن يضع أساساً غير الموضوع وهو يسوع المسيح) أي الإيمان بيسوع فكل بناء لا يكون على هذا الأساس يسقط وكل غصن لا يستمر معلقاً بأصله ييبس، وعليه قول داود النبي: “إن الذين يتباعدون عنك يهلكون” (مز 27:72) وأما البناء على هذا الأساس فمدار حجارته وموادّه حفظ وصاياه. فلينظر الواحد كيف يبني.
31- قال (12) (فإن كان أحد يبني على هذا الأساس الذي وضعته ذهباً أو فضة أو حجارة ثمينة أو خشباً أو حشيشاً أو تبناً) فالمراد بالذهب التعليم الذي مداره محبة الله. وبالفضة التعليم الذي مآله محبة القريب. والحجارة الثمينة التعليم الذي يتناول سائر الفضائل. وبالخشب والحشيش والتبن تلك التعاليم الساقطة الزائفة التي لا طائل تحتها وإن لم تكن أراطقية ولا تتجاوز حدود الخطية العرضية كما علمه القديس أغوسطينوس . ثم قال (13) (فعمل كل واحد سيكون بيّناً لأن يوم الرب سيظهره) في الدينونة الأخيرة التي إن هي إلا مجمل الدينونة الخصوصية وخلاصتها تقف عليها إذ ذاك الملائكة والبشر جميعهم (إذ يعلن بالنار) التي تكون علامة مجيئه الأخير فتشتعل أركان الكون كله وتتفكك، وعليه قول بطرس الرسول: وسيأتي يوم الرب كاللص فيه تزول السماوات بدويّ قاصف وتنحل العناصر المتقدة وتحترق الأرض وما فيها من المصنوعات… وتتقد العناصر وتذوب (2بطرس 11:3و12) وستمتحن النار عمل كـل واحد ما هو) أذهباً هو أم تبناً (14) فمن يبقى عمله الذي بناه على الأساس فسينال أجره) لأنه أحسن عملاً (15) ( ومن احترق عمله فسيخسر ) إذ لا ينال أجراً لأن مادة بنائه واهية باطلة (إلا أنه سيخلص) أي ينال السعادة الأبدية لكن لا على شكل الذين يبنون ذهباً إلخ (ولكن كما يخلص من يمرّ في النار) أي يحترق إذ يمر فيها ما كان يحتاط به من الحشيش والتبن والخشب ويخلص هو نفسه.
32- قال القديس أغوسطينوس في كلامه عن الإيمان والأعمال: إن كلام الرسول هنا من أصعب ما جاء به كما أشار إليه القديس بطرس بقوله: إن فيها أي رسائل القديس بولس أشياء صعبة الفهم يحرّفها الذين لا علم عندهم (2بطرس 16:3) وقد أوّل تلك النار وفسّرها بنار الاضطراب الذي يشغل الإنسان في الحياة الدنيا . وقال أيضاً إن المراد فيها نار المطهر على ما يذهب إليه جميع الآباء اللاتينيين. وأما القديس يوحنا فم الذهب فيريد بها نار جهنمز وهوذا شرحه لهذه الآية (إلا أنه سيخلص ولكن كما يخلص من يمرّ في النار) من كان سلاحه ذهباً أو فضة أو حجارة كريمة يمرّ في تلك الأبحر من النار ولا يحترق. وأما من كان سلاحه خشباً أو حشيشاً أو تبناً فسيخسر وهذا أول قصاص يستوجبه (إلا أنه سيخلص ولكن كما يخلص من يمر في النار) وهذا ثاني قصاص. فيراد بذلك أنه لا يهلك مثل أعماله منحلاً إلى العدم بل سيستمر في النار ولذلك يسمى ذلك الأمر خلاصاً لكن على سبيل الإطلاق لأنه عقب كلامه وقال: ( كما يخلص من يمر في النار ) على أنه من عادتنا نحن أيضاً أن نقول : يخلص في النار مـن لا يحترق في الحال وينحل رماداً ولا تتعجب من تسميته ذلك القصاص خلاصاً، إذ من العادة أن يسمى الشيء بضد ما يدل عليه كتسمية ملكوت الخطية مع أن الملكوت لا ينطبق على الشر بقوله: كما أن الخطية ملكت للموت (روميه 21:5) وعليه قوله هنا (يخلص) إن هو إلا إشارة خفية إلى العذاب والقصاص فكأنه يقول: إنما هو سيستمر معذباً مدى الأبدية. هذا ما يلوح لنا أنه الرأي الأصح فكأن الرسول يقول لهم ذلك على سبيل التعريض أو التهكم إذ لا يمرّ شيء في النار ما لم يتلاشَ مركبه أما النفس لما كانت بسيطة وروحانية فلا تتلاشى فتستمر معذبة، واعلم أن من الإيمان: (أ) وجود المطهر، (ب) مساعدة الأنفس المعذبة في المطهر، وما خلا ذلك ليس من الإيمان أي ما يختص بالمكان والزمان وطبيعة العذاب ومدته فلكل أن يرتئي ما يطيب له. والله أعلم.
33- عودٌ. بعد أن تكلم عن اولئك الذين يبنون ذهباً أو خشباً إلخ انتقل يتكلم عن أولئك الذين يفسدون هيكل الله بارتكاب الخطايا الثقيلة مشيراً إشارة خفية إلى ذلك الزاني الذي كان قد اشتهر أمره في كورنتس فقال (16) (أما تعلمون أنكم هيكل الله) أساسه الإيمان وقوامه الرجاء وكماله المحبة. ولكنه لا يكمل في الحياة الدنيا وإن جدّدته دائماً بالأعمال الصالحة وفوق ذلك (أن روح الله مستقر فيكم) لا بذاته فقط وقدرته وحضوره كما هو في سائر المخلوقات بل باتحاد المحبة التي بها يتحد بكم الحب الأزلي والثالوث الأقدس وعليه قوله: إن أحبني أحد يحفظ كلمتي وأبي يحبه وإليه نأتي وعنده نجعل مقامنا (يوحنا 13:14) ولذلك (17) (من يفسد هيكل الله) ببنائه حشيشاً أو تبناً أو بإلقاء الخصام والفساد (يفسده الله) بإهلاكه إياه (لأن هيكل الله مقدس وهو أنتم) وذلك من حيث الجسد والنفس معاً فأنتم هيكله الروحي والمادي معاً، ومن ثم من يخرق حرمته يرتكب كبيرة ويفسده الله نفسه لأن المرتكب يتعدى على حقوق الله نفسه.
34- ثم قال (18) (لا يخدعنَّ أحد نفسه) بغرور الفلسفة والعلم فينحرف سيره عن جادة الإيمان. قال هذا متنقلاً إلى إبطال ما تجره الفلسفة من الغرور ولذلك (إن حسب أحد منكم أنه حكيم في هذا الدهر) بحكمة خارجية فليصر جاهلاً يكون حكيماً) مضرباً عن فلسفة أفلاطون وزينون وأبيكير وفولتير وآخرين غيرهم، وتابعاً تعليم المصلوب وفلسفته فيكون إذ ذاك حكيماً وسببه (أن حكمة هذا العالم جهالة) ذلك إذا اقتصر جولانها حول المخلوقات ولم يترقّ بها الإنسان إلى معرفة الله فلا تكون إذ ذاك جهالة لأنها أوضحها لهم. وأما إذا اقتصرت فجهالة وذلك (لأنه قد كتب إني آخذ الحكماء في مكرهم) محارباً إياهم بأسلحتهم فقد تباهوا بمجد كانت عاقبته هلاكهم ولم يجدهم نفعاً. وهذا شأن المتفلسفة في كل عصر يدّعون أنهم في غنى عن الله فيمسون مجانين، وفلسفتهم جهالة وقد استظهرت عليهم فلسفة الصياد وصانع الخيام (20) وزد على ذلك أيضاً (أن الرب يعلم أفكار الحكماء أنها باطلة) لأن الأدلة التي يعولون عليها لا تهذب الأخلاق ولا تروي غليلاً ولا يجمعون على حقيقته، ودون الجاحد إذا جحد ما يهرف فيه: الأدرية واللاأدرية والسفسطائية والعندية والعنادية والقدرية والجبرية وآخرون، فما أكثر ما كتبوا وما تقارعوا به في أمر روحانية النفس وخلودها وفي وجود الله ووحدانيته وفي الغاية الأخيرة والحقوق والواجبات وما شفوا غليلاً لأن أفكارهم باطلة، وعليه قال (21) (فلا يفتخرن أحد بالناس).
35- ولماذا ينبغي ألا يفتخر أحد بالناس؟ أما الحكماء فلأن أفكارهم باطلة وأما نحن الرسل فلأننا كلنا لكم ولذلك قال ( 22 ) (فإن كل شيء هو لكم) يا أيها المختارون لأجل منفعتكم (بولس كان أم أبلوس أم الصفا ) قد أقمنا كلنا لأجل خدمتكم بـل ( أم العالم ) وما يحويه فإنه يخدمكم (أم الحياة أم الموت) فلأجلكم نحيا ولأجلكم نموت إذا اقتضت الحال . كذلك ( أم الأشياء الحاضرة ) شروراً كانت أم خيرات فإنها تساعدكم على الخير إذا أحسنتم العمل (أم المستقبلة) وهي تلك الخيرات التي أعدها الله لمختاريه بل ( كل شيء هو لكم ) كرر ذلك تطييباً لهم ثم ختم كلامه وقال (23) (وأنتم للمسيح) لا من حيث هو إله بل من حيث هو إنسان إلهي قد افتداكم (والمسيح لله) كذلك من حيث هو إنسان لأنه من هذه الحيثية هو أيضاً عبد الله وهكذا يكون الله سبحانه هو المرجع الأخير. فيا الله ما أجمل وما أسمى مقامك أيها الإنسان الذي قد سبق الله وحدّد أن تكون شبيهاً بابنه الوحيد!

الفصل الرابع
يطلب أن يعدوه هو ورفاقه خداماً للمسيح. هو لا يبالي بأحكام البشر. يعدهم بأنه يأتي إليهم.
36- بعد أن كان قد وبخهم على تحزّبهم لهذا ولذاك وكسر من افتخارهم أخذ يبين لهم المقام الذي يشغله الرسل فقال (1) فليحسبنا الإنسان) الذي نبشره (كخدام المسيح ووكلاء أسرار الله) فلا تضرب إذن عن اسم الرب وهو المسيح وتتخذ اسم الخادم والوكيل فنحن خدام وكل ما يجنيه الخادم إنما هو لسيده . ونحن وكـلاء أسرار الله نوزعها كما ينبغي وعلى من يستحقها وكل ذلك من الله ولا يجوز لنا أن نفرط في توزيعها إذ يترتب على الوكيل أن يكون أميناً ولذلك قال (2) (وإنما يطلب الآن هاهنا في الوكلاء أن يوجد كل منهم أميناً) لا يسلب ما يختص بسيده ولا يختص بنفسه ما هو لسيده ولكن عليه أن يعتني بمال سيده اعتناء وكيل لأخص صفاته الأمانة في ما يوزعه كلاماً كان أو أموالاً.
37- قال القديس يوحنا فم الذهب: لا أعلم كيف دخل الفضول ومآله المداخلة في البحث عن عيوب الآخرين وقد نهى عن ذلك المسيح لقوله لا تدينوا لئلا تدانوا (متى 1:7) والفضول لا يجرّ لذة كسائر الخطايـا بل ألماً وعذاباً فنرى القذى في عين الآخرين ولا ننتبه إلى الخشبة التي في عيننا، وهذا ما كان جارياً بين أهل كورنتس إذ كانوا يحتقرون رجالاً أتقياء يحبهم الله وذلك لما كانوا عليه من الجهالة ويكرمون آخرين مثقلين بالرذائل لما كانوا يبدونه من الفصاحة في الكلام وكانوا إذا جلسوا واجتمعوا يتخاصمون بأن ذلك أفضل من هذا إلخ فأتى بمثل نفسه موضحاً لهم أنه قل ما يعتبر حكمهم فيه وإن كانوا يفضلونه على سواه فقال (3) (أما أنا فأقل شيء عندي أن يحكم فيّ منكم أو من يوم بشري) فإن ذلك دون شأني ومقامي فلا أعبأ بذلك إن لم يعد شكّاً للآخرين وليس ذلك منكم بل: من يوم بشريّ، أي من قضاء بشري وهذا ما يراد بقوله: من يوم بشري، ويسمى القضاء يوماً لأنه يتم في أيام معينة ولذلك يقال: سوف يأتي يومك أي القضاء عليك، أما الذي يهمني فإنما هو قضاء الرب ليس غيـر حتى إنـي لا أعتبر قضاء نفسي ذاتها ولذلك قال : ( بل أنا أيضاً لا أحكم في نفسي) لأني ل أعرف هل لدي من الخطايا الخفية ما لم أتبرر منها (4) ( فإني لست أشعر بشيء فـي ضميري لكني لست مبرراً بذلك) أمام الله، لعله يرى في أعماق قلبي من الخطايا ما لا أراه وعليه قول أيوب الصديق : وهبني سليماً فإني لا أعـرف نفسي ( 21:9 ) . ما ِأشد ذلك القضاء وما أدق أحكامه. هذا ما يقوله الرسول ويصرح به، أفلا يخجل المبتدعون الذين يدّعون التبرر من جميع الخطايا بحكم الإيمان (فأما الذي يحكم فهو الرب) الذي يستقصي خبايا ضميري بأكثر مما أقدر عليه أنا.
38- قال (5) (إذن لا تحكموا البتة قبل الأوان) أي في الخطايا الخفية لا الظاهرة المعروفة فإن كنت أنا لا أعرف نفسي ولا أحكم فيها فأني لكم أن تحكموا في الآخرين، وذلك قبل الأوان فاصمتوا (إلى أن يأتي يوم الرب) في ذلك اليوم الرهيب يوم القضاء الأخير فالرب إذ ذاك هو (الذي سينير خفايا الظلام ويوضح أفكار القلوب ) إذ لا تخفى عليه خافية ولا يحجبه ظلام الليل ولا التستر فيه فإن عيني الرب تخترق أعماق القلوب وتستوضح خفايا القلوب، فما بال الزاني يستتر والبخيل يعتذر فمتى آن الأوان تنفضح أفكار البشر فانتظروا ولا تحكموا الآن (وحينئذ فكل أحد يكون مدحه من الله) ذلك المدح الحقيقي لا المدح الكاذب الذي تبذلونه لأولئك الذين تفتخرون بهم وأنتم تتقارعون بسببهم، والمدح ذلك يكون لمن يعمل خيراً ويسير سير الكرام المخلصين ليسوع المسيح وكل واحد ينال ما يستحقه. وكل مدح لا يكون من الله فهو باطل لأن أحكام الناس باطلة إذ قد تعمي الشهوات قلوبهم فينطفئ سراج العقل ويحجب الظلام نور الإيمان وهناك العثار وسوء المنقلب وصعوبة السير في طريق الصلاح فإن الشجرة في أول غرسها تنقلع سريعاً والبناء قبل أن يتركهن يتهدم وشيكاً وكذلك الشهوة قبل أن ترسخ في القلب تنقلع سريعاً ولكن متى رسخت وتأصلت فهنالك البوار وشرارة الإصرار.
39- ثم قال (6) (وهذه الأمور أيها الإخوة ) التي ذكرتها من قبل: بأن يقول كل واحد منكم أنا لبولس ، وأنا لأبلوس أو أنـا لكيفا أو أنا لآخر من المعلمين الذين تفتخرون بهم قد (نسبتها) بطريق التورية والرمز ( إلى نفسي وإلى أبلوس ) كأننا نحن أولئك الذين تفتخرون بهم مع أنه يوجد بالأحرى بينكم رسل كذبة يقلقونكم أضربت عن ذكر أسمائهم. ولم يذكر هنا اسم كيفا أي بطرس تعظيماً لشأنه كما أنه لم يذكره أيضاً من قبل (ف3ع4) وقد نسبتها إلينا (تمثيلاً لكم لكي تتعلموا فينا) نحن رسلكم (أن لا ينتفخ أحدكم على صاحبه من أجل أحد) فإن كان لا يصح أن تفتخروا بنا فبأولى حجة لا يصح أن تفتخروا بالآخرين وذلك (فوق ما كتب عليكم) كما قلت لكم من قبل: من افتخر فليفتخر بالرب (31:1) فليس الافتخار بالرب من باب الكبرياء بل من باب التواضع أمام الرب يمجّده المتواضع القلب.
40- بعد أن تكلم عن المرؤوسين وبخهم انتقل يؤاخذ الرؤساء أشد المؤاخذة فقال (7) (من الذي يميزك يا هذا) مهما كنت معلماً أو رأساً؟ أعلمك أم فصاحتك أم فضيلتك؟ ولكن (أي شيء لك لم تنله) سواء أكان في نظام الطبيعة أم النعمة. ففيم تفضل غيرك هل جرى الفحص عليك والامتحان والتوفيق في التفتيش؟ هل قضى لك بذلك؟ فليس لك أن تدعى شيئاً من ذلك؛ هذا وعلى فرض أنك قد نلته وقد قضى لك به العالم (فإن كنت قد نلته ) فليس هو منك بل مـن آخر ( فلماذا نفتخر كأنك لم تنله) فبعد أن أذلهم أخذ يطعنهم بسيف التهكم فقال (8) (إنكم قد شبعتم بل قد استغنيتم. قد ملكتم بدوننا) ولكن (يا ليتكم قد ملكتم لنملك نحن أيضاً معكم) ما أشد هذا الكلام تأثيراً! وما أمرّ ما يجرّه إلى القلوب من الخجل ولذلك لم يأت به إلا بعد أن وبخهم أمرّ التوبيخ إذ يوعز إليهم بقوله: قد ملكتم بدوننا: إنهم في الحقيقة جهلاء ولا ضمير لهم وكأنه يقول لهم: نحن في الشغل والتعب سواسية أما في المجازاة فأنتم أفضل منا. ولكني لا أتأسف ولذلك عفّ كلامه وقال (ويا ليتكم قد ملكتم)، ولئلا يخيل أنه يتهكم عليهم قال ( لنملك نحن معكم ) لأننا نحن أيضاً قد نلنا ما نلتم . ثم زاد في توبيخهم وقال ( 9 ) ( فإني أظن أن الله قد أبرزنا نحن الرسل آخري الناس) لأننا لم نملك إلى الآن كما ملكتم وأنتم ممجدون. ولم يبرزنا فقط آخري الناس بل أبرزنا (كأننا محعولون للموت) على شكل المتسابقين الذين يتصارعون للموت والشعب يشاهدنا ولا يضطرب (لأننا قد صرنا مشهداً للعالم والملائكة والبشر).
41- لقد صرنا مشهداً لا في زاوية من الأرض بل في كل مكان وعند جميع الشعوب ونحن نتألم ونحارب الفلاسفة والهراطقة وعمدتنا آلام الصليب، ولم نصر مشهداً للعالم فقط بل للملائكة أيضاً لأن ما نباشره ونقاسيه من الأعمال يستحق أن تشاهده الملائكة والبشر جميعهم، لأن محاربتنا ليست مع البشر فقط بل مع الأرواح أيضاً، ولذلك كان مشهدنا عظيماً. ثم زاد في تخجيله إياهم فقال (10) (ونحن جهال من أجل المسيح) الذي دعانا رأساً (أما أنتم) الذين أرضعناكم الحليب (فحكماء في المسيح) على ما يلوح لكم لا أعلى ما هي عليه الحقيقة. (نحن ضعفاء) على ما يظهر لكم ونحتمل الإهانة ولا ندافع ولا نكافئ الشر بالشر (وأنتم أقوياء) تدافعون باليد واللسان. (وأنتم مكرمون) ترتعون في ظل أرغد العيش والهناء (ونحن مهانون) في عيون العالم الذي لا يرى إلا الظواهر. بل (11) (وإلى هذه الساعة) لا في بدء البشارة وحدها بل بعد أن انتشرت في العالم كله والمهتدون قادرون أن يدخروا لنا كل ما نحتاج إليه من لوازم المعاش (نحن نجوع) ورسلكم الكذبة يشبعون، (ونعطش) وهم يرتوون (ونعرى) وهم يرفلون في الحلل الفاخرة (ونلطم) واللطم من أعظم الإهانة وهم يتمجدون (ولا قرار لنا) نطرد من بلد إلى آخر ونضطهد وهم في أرغد العيش والهناء. وفوق ذلك (نتعب عاملين بأيدينا) خياماً لئلا نثقل على أحد منكم ولكي نكون مثالاً للمبشريـن الآخرين ، وأنتم لا وصب ولا تعب تتمتعون بخيرات الآخرين ولا تذكرون . فما نكابده إنما هـو من أسمى علامات البشارة وأنتم لستم في شيء منها، فحتام تفتخرون.
42- ومع هذا كله لا درجتنا تنحط ولا منزلتنا تسقط بل نحن نفتخر بذلك، ولذا عقب كلامه وقال (نشتم فنبارك) ونتلطف ملينين الشاتمين بكلام عذب (نضطهد فنحتمل) فيحسبنا الناس جهالاً ومجانين وأخساء لا شأن لنا ولا مقام (13) ( يشنع علينا فنتضرع ) من أجلهم إلى أن ( قد صرنا كأقذار العالم كـأوساخ يسخبثها الجميع إلى الآن ) لا أولئك الذين يضطهدوننا بل أولئك الذين من أجلهم نحتمل كـل ذلك. ثم لما رأى أن الضربة مؤلمة والتوبيخ مرّ وشديد الوطأة داوى في الحال جرح تلك الضربة فقال (14) (وما أكتب هذا لأخجلكم وإنما أعظكم كأبنائي الأحباء). والأب إذا وبخ ابنه لا يكون توبيخه أو إخجاله إياه عن نية خبيثة بل عن قصد إصلاحه وحملاً له على أن يرعوى عمّا يرتكب من الخطأ ، ولذلك قال : ما كتبت هـذا لأخجلكم إنما أنا أعظكم كما يعظ الأب أبناءه الأعزاء فلا تؤاخذوني إن كنت أغلظت كلامي وأنا أسميكم أبنائي والحق يقال (15) (لأنه ولو كان لكم ربوة من المؤدبين) في الإيمان الذي قبلتموه مـن قبل في المسيح ( ليس لكم آباء كثيرون ) بل أنا وحدي (لأني أنا ولدتكم في المسيح يسوع) ولم يقل هديتكم بل ولدتكم لأني أبوكم فحبي حب أب لا حب رسول أرسل ليثبتكم في الإيمان الذي قبلتموه مني وأنتم فيه ثابتون. وقد ولدتكم لا على شكل ما يلدكم أو ولدكم الله أو آباؤكم، بل ولدتكم (بالإنجيل) إذ كنت آلة في ميلاد الحياة الروحية فيكم (16) (فأسألكم أن تقتدوا بي) اقتداء الأبناء الصالحين بأبيهم (كما أقتدي أنا بالمسيح).
43- اقتدوا بي ولا تقولوا: أنّي لنا أن نقتدي بك فأنت عالم وعظيم، فلا تقولوا ذلك فليس الفرق بيني وبينكم بأعظم مما هو بيني وبين المسيح، ومع ذلك فأنا اقتديت به. قد كتب إلى أهل أفسس وقال لهم: اقتدوا بالله: ( 1:5 ) وهنا يقول : اقتدوا بي : ولا خلاف ولا تناقض ، فإن أهل أفسس كانوا تقدموا في طريق الكمال الروحي فلم يكونوا في احتياج إلى توسطه مثل أهل كورنتس، إذ لم يزالوا جسديين يتقارعون ويتخاصمون فأقام نفسه وسيطاً بينهم وبين المسيح فقال: اقتدوا بي كما أقتدي بالمسيح وهو الله. هذا ما أراده ولكن كيف اقتدى بولس بالمسيح فهنا محل نظر . فإن هذا الاقتداء لا يحتاج إلى زمان ولا إلى صناعة بـل إلى عزم وإرادة. فالنفس من حيث هي نفس هي واحدة في كل إنسان، وكذلك الجسد من حيث هو جسد. أما العزم فيجرّ فرقاً بين نفس ونفس، وكذلك الأخطار التي يعانيها الإنسان والأعمال تميز جسداً عن جسد وتزيده شهرة. فمن ينظر إلى القديس بولس ولا يندهش مما كان عليه من العزم الوطيد ومن الأخطار التي تعرض لها في البشارة الإنجيلية اقتداء بالمسيح؟ فإلى ذلك العزم الشديد يدعونا أن نقتدي به. هذا ما كان عليه وكان يرغب في أن يتوجه إليهم ليسقي ما كان قد غرس فيهم من ثمار البشارة ولم يتسن له بعد أن وجه إليهم تيموتاوس فقال: (17) (ولذلك قد وجهت إليكم) قبل أن أكتب إليكم هذه الرسالة تيموتاوس الذي هو ابن لي حبيب أمين في الرب وهو يذكركم لا يعلمكم (بطرقي في المسيح يسوع) أي تعليمي وأخطاري وأخلاقي وشرائعي وسائر ما نباشره من الأعمال وذلك (على ما أعلم في كل مكان وفي كل كنيسة) لأن تعاليمنا واحدة عامة تتناول جميع الناس وجميع الأمكنة ولا فرق بين مـا نلقيه على اليهود والأمم.
44- ثم قال (18) (لقد انتفخ قوم) لما وجهت إليكم تيموتاوس (كأني لا آتيكم) تراه يلين كلامه في توجيهه إلى الجمهور لقوله: ما أكتب هذا لأخجلكم؛ ولكن عندما يوجهه إلى أولئك المتفلسفة والرسل الكذبة يُغلظه ويخزيهم لقوله: (انتفخ قوم كأني لا آنيكم) منزلاً إياهم منزلة الصبيان إذا غاب المعلم فرحوا ومتى حضر لزموا السكينة مبيناً أن حضوره كان لإصلاحهم. ومتى حضر الأسد توارت جميع الحيوانات ، وهكذا متى حضر بولس ارتعدت فرائص أولئك الذين يقلقون الكنيسة ولذلك عقب كلامه وقال (19) ( ولكني سآتيكم عن قريب إن شاء الرب ) هذا الكلام كلام متوعد إن لم يعقبه العمل كان لا طائل تحته ولذلك عقبه وقال (فأعرف لا كلام المنتفخين بل قوتهم) كيف ينتفخون وأنا غائب، ولذلك لما قال: ( وجهت تيموتاوس ) لم يقل في الحال سآتيكم إلا بعد أن شكاهم في كونهم منتفخين لئلا يؤخذ كلامه مـأخـذ عذر لا مأخذ مؤاخذه. ثم لئلا يفشلوا قال: عن قريب فأعرف لا حكمتهم لأنها باطلة ولا الآيات التي يصنعونها فإنها عدم، بل (قوتهم) في شفاء الأمراض وصنع العجائب وإقامة الموتى (20) (لأن ملكوت الله ليس بالكلام بل بالقوة) فإن كان أولئك رجالاً وعلماء كما يدعون فليبينوا قوتهم عندما آتيكم ولا يعتمدوا علا زخرف الكلام فليس ذلك من شأننا ولا قوة له ولا يهدي إنساناً إلى سواء السبيل.
45- والآن (21) ( ماذا تريدون ؟ أبالعصا يكون قدومي إليكم أم بالمحبة وروح الوداعة؟) فكأنه يقول لهم: لي السلطان ولكني أخبركم ماذا تريدون، هوذا الأمر موكول إليكم وإنجازه في يدي فإن أردتم العصا فيها أقدم إليكم أم المحبة فكذلك أقدم بها، ولكني أكل أمر الاختيار إليكم. فعاقبة العصا القصاص وثمرة المحبة والوداعة الخلاص، فإن أردتم القصاص فجهنم مأواه أو الخلاص فالسماء مستقره ومثواه، والأمر موكول إليكم، وعليه قول أشعياء: إن شئتم وسمعتم فإنكم تأكلون طيبات الأرض (19:1) وجاء في ابن سيراخ : عرض لك النار والماء فتمـد يـدك إلى ما شئت ( 17:15 ) فلا تقل والحالة هذه : أريد أريـد ولكن الإرادة لا تكفيني. بل تكفيك إذا أردت كما ينبغي وعملت ما يتقاضاه المريد. فقل لي : من أراد أن يتزوج هل يكفي أن يريد ولا يسعى ولا يخطب ولا يطلب العروس؟ وإذا جعت أو عطشت، فهل يكفي أن تريد الطعام أو الشراب ولا تمد يدك إلى المائدة أو إلى الإبريق؟ والأمثلة على ذلك أكثر من أن تعد ، فاسع واصنع ذلك في طلب الملكوت السماوي تنـل ما تسعى إليه فإن تقاعست فالعصا فإن الله قد جعلك متصفاً متمتعاً بحرية الاختيار لئلا تتشكى بأنه سبحانه يدفعك إلى العمل بحكم الاضطرار والقدر فلا نماحك ولا نتفلسف فإن نسيت الله نسيك الله وأتاك بالعصا. وإن تذكرت وعملت أتاك بالمحبة وروح الوادعة.
46- واعلم هنا أن الفضيلة ليست مستصعبة ولا بعيدة المتناول، فهي مستصعبة إذا قابلناها مع ما نكون عليه من التقاعد والتناعس وإذا أبينا أن نقلع عن الرذيلة، أما إذا تنشطنا وأقلعنا فهي سهلة وعذبة وهذا قول المخلص : نيري لين وحملي خفيف ( متى 30:11 ) فإن لم تشعر بأن الحمل خفيف كان من البين أنك ضعيف النفس واهي العزيمة وكان الخفيف لديك ثقيلاً، هذا وإذا نظرت إلى الرذيلة وما يحتاط بها من الشوائب ووساوس الضمير وما تجرّه من الأمراض عرفت أن نيرها قاس وحملها ثقيل. فانتبه إلى ذلك.
47- فانظر هنا إلى ما يبديه من الحكمة في انتقاله إلى موضوع آخر فلما كان كلامه في بدء رسالته في الخصام الواقع بينهم لم يكن كلامه قاسياً فقال : قد أخبرني أهل كلوة أن بينكم خصومـات إلـخ أما هنا فيغير لهجته ويوبخهم أمرّ التوبيخ وهذا ما يبتدئ به.

الفصل الخامس
يوبخهم عل احتمال الزاني بينهم. ينصحهم أن يعملوا الفصح بالطهارة ويمنعهم عن مخالطة المؤمنين المشتهرين بالفواحش.
48 – فقال ( 1 ) ( لقد شاع بين الجميع ) حتى بلغ إلىّ (أن بينكم زنى) غريباً (وأن هذا الزنى لا نظير له ) ليس فقط بين المسيحيين بل (ولا بين الأمم) أي الراقية ( حتى إن رجلاً منكم يحوز امرأة أبيه) وهو حيّ لا ميت ولم يقل خالته بل امرأة أبيه بياناً لفظاعة قبح ذنبه فإن ذكر الأسماء قد يزيد الذنب قبحاً، ومن العجيب كيف يرتكب بينكم مثل هذا الإثم وأنتم منتفخون، ولذلك قال (2) (فما بالكم منتفخون) وكان ذلك الزاني على ما يذهب إليه القديس يوحنا فم الذهب من جملة أولئك الرسل الكذبة ولذلك قد شاع ذنبه وعظم في عيون الناس إلى أن بلغ الرسول فلم يذكر هذه الخطيئة إلا بعد أن أخزى وأبان بطل التعاليم الفلسفية التي يفتخرون بها وأنها ليست شيئاً يُعتَد به في ما يتعلق بتهذيب الأخلاق ولذلك ساء من ينتفخ بها وكان الأولى بهم أن يبكوا فقال : (ألم يكن الأولى أن تنوحوا وذلك حتى يرفع من بينكم الذي صنع هذا الصنيع) ولم يذكر اسمه كما هي العادة في مثل هذه الظروف ولم يشكُ منهم ولا لامهم لأنهم لم يخبروه ولم يطردوه بل لأنهم لم ينوحوا حتى يرفع من بينهم كمرض موبق مشيراً إلى أنهم قادرون على ذلك وإن لم يكن هو نفسه حاضراً ولذلك قال: (3) (أما أنا الغائب بالجسد الحاضر بالروح فقد حكمت كأني حاضر على الذي فعل مثل ذلك). فلم يشأ أن ينتظروا قدومه حتى يبسل ذلك الرجل الزاني بل أبسله بقوله: حكمت كأني حاضر بأن يحرم من شركة المسيحيين وأن يرفع من بينهم ذلك الوباء الوخيم قبل أن يسري المرض فيعدى الآخرين. فاحكموا عليه وأنتم مجتمعون في الكنيسة لأجل إلقاء الرهبة وأنا معكم بروحي وإن كنت الآن بجسدي في أفسس واحكموا عليه من غير فحص لأن ذنبه قد شاع فلا حاجة إلى الفحص عنه.
49- وهو ذا مآل الحكم أو الحرم الذي قرره الرسول (5) (بأن يسلم مثل هذا إلى الشيطان) لكي يعذبه في جسده ولذلك قال (لهلاك جسده) إلى أن يموت الجسد عن الشهوات (ولكي تخلص الروح في يوم ربنا يسوع المسيح ) وقت الموت وخلاص النفس يجرّ وراءه خـلاص الجسد في يوم القيامة. ولا يؤذن للشيطان في أن يتجاوز عذاب الجسد ولذلك قد جاء في أيوب : ولكن احتفظ بنفسه ( 6:2 ) واعلم أنه في بدء الكنيسة كانت الرسل تسلم الخطأة للشيطان لكي يعذبهم في أجسادهم لخلاص نفوسهم وذلك بقوة الحرم الذي يطلقونه عليهم على أنه كما كان لهم أن يطردوا الشياطين، كذلك كان لهم أن يرسلوها إلى الإنسان لكن لا لشرّه بل لخيره. هذا ثم بعد أن حكم وأقر قراره بكلام وجيز ولم يبطئ عاد ثانية يؤنبهم فقال (6) (ليس افتخاركم بحسن) مبيناً أنهم إلى ذلك الوقت لم يهتموا بتوبته وهم يفتخرون به فوجه الكلام إليهم موعزاً إلى أنه إنما يهتم بأكثر مما يهتم به مبيناً أنه يخاف من أن يسرى المرض إليهم فقال بطريق الاستفهام الإنكاري : (أولم تعلموا أن الخمير اليسير يخمر العجين كله) على أن خطيئته وإن كانت شخصية فإذا أغفى عنها سرى سمّها وأفسدت جسد الكنيسة كله ولذلك فإن جلّ اهتمامي في سلامة الكنيسة (7) (فألقوا عنكم الخمير العتيق) لا هذا الرجل الزاني فقط بل كل من تحوقه شرارة الرذائل لأن الخمير العتيق لا يتوقف فقط على الزنى بل على كل شرارة وذلك (لتكونوا عجيناً جديداً) فقد ألقيتم عنكم الخمير العتيق (كما أنكم فطير) في هذا العهد الجديد منزهين عن كل رذيلة (فإنه قـد ذبح فصحنا المسيح ) الذي نفدى به لا في مدة سبعة أيام كما كان يصنعه اليهود بل في كل يوم إلى منتهى الدهور ( 8 ) (فلنعيد لا بالخمير العتيق ولا بخمير السوء والخبث بل بفطير الخلوص والحق ) فإن كل يوم هو عيد للإنسان المسيحي ولا حاجة إلى أيام الفصح أو إلى عيد البنديكوستي فها قد ذبح فصحنا وفاضت علينا الخيرات والرب يدعونا إلى الملكوت أفلا ينبغي أن تكون أيامنا كلها أعياداً والرسول يقول لنا: افرحوا في الرب كل حين وأقول أيضاً افرحوا (فيل 4:4).
50- قال القديس يوحنا فم الذهب: إنه يلوح لي على الخصوص أن ما يقال عن الخمير ينطبق على الرعاة الذين يتناعسون بل يتساهلون في وجود الخمير العتيق وبقائه ولا يلقونه من الكنيسة: “البخلاء واللصوص والزناة” فإن كل واحد من هذه المساقط سمّ إن لم نسرع ونداويه أفسد الجسد كله. غير أن الرسول لا يريد بذلك جميع الذين يقعون في مثل هذه المساقط ولذلك عقب كلامه وقال (9) ( قد كتبت إليكم ) من قبل لا في هذه الوسالة بل في رسالة أخرى (ألا تخالطوا الزناة) أي بالمسايرة وضروب الوداد والصداقة ثم ما كان يريده بكلامه لا تخالطوهم فقال مستدركاً (10) (ولكن لست أعني على الإطلاق زناة هذا العالم أو البخلاء أو الخطفة أو عباد الأوثان وإلا فيلزمكم أن تخرجوا من هذا العالم) وذلك لكثرتهم وتسكنوا في عالم آخر- هذا محال فخالطوا أولئك وتعاملوا معهم هذا ما أردته في تلك الرسالة (11) (والآن كتبت إليكم ألا تخالطوهم أي إن كان أحد ممن يسمى أخاً زانياً أو بخيلاً أو عابد أوثان أو شتاماً أو سكيراً أو خاطفاً فمثل هذا لا تؤاكلوه) فما كان أشد قوانين الكنيسة في بدء نشأتها. قال قوم: يراد بالمؤاكلة الاشتراك مع المبسلين. وقال آخرون: بل المؤاكلة في أي نوع كان . ويظهر لآخرين أنه يراد بها المؤاكلة أو المشاركة في كسر الخبز أي سر الإفخارستيا كما جاء في الأعمال (42:2) أو في الجلوس معه على مائدة عمومية.
51- ثم أخذ يبين لهم أنه لا أهمية للاعتناء بالذين هم في الخارج عن الكنيسة وذلك قبل أن يعتنقوا الإيمان فقال (12) (فإنه ماذا يعنيني أن أدين الذين في الخارج) عن الكنيسة وهم الوثنيون والغير المؤمنين لا الهراطقة والمبسلون لأن هؤلاء وإن كانوا عقوقين ما يزلون بحكم العماد الذي قبلوه أبناء الكنيسة ملتزمين أن يخضعوا لها فإن تمردوا عليها معاندين فلها أن تعاقبهم إذ ما يزالون تحت أمرها ونهيها مطالبين بطاعتها. ثم عقب كلامه مبيناً لهـم ما يصنعونه هم أنفسهم فقال (ألستم أنتم إنما تدينون الذين في الداخل) ولذلك لا ولاية لنا على الذين هم في الخارج ولكن لا يخيل إليكم أنهم يتملصون من الدينونة والحكم عليهم فإن دينونتهم أعظم والديان لا تخفى عليه خافية وهو الله سبحانه ولذلك قال (13) (أما الذين في الخارج فإن الله يدينهم) والويل لهم فلو دينوا هنا لتملصوا من تلك الدينونة الهائلة. والخلاصة (فارفعوا من بينكم الشرير) ذلك الزاني ولا تشاركوه حتى في المؤاكلة. وقوله: الشرير: على الإطلاق يريد به أيضاً كل شرير تفسد به النفوس ولا سيما الزناة. هذا تعليم الرسول، فالويل للرعاة الذين يتناعسون عن طرد أولئك الزناة المشهورين من حضن الكنيسة فإنهم يخالفون رأساً تعليم الرسول!

الفصل السادس
يوبخهم على تقاضيهم أمام غير المؤمنين. يذكر بعض خطايا تحرم صاحبها ميراث الملكوت السماوي. ليس كل ما يحل يوافق. أجسادكم هياكل الروح القدس وأعضاء المسيح. يجب صونها من الدنس.
52- ثم قال (1) (أيجترئ المرء فيكم) وأنتم مسيحيون (إذا كانت لد دعوى على آخر أن يحاكمه لدى الظالمين لا لدى القديسين) وهذه شكوى أخرى قد بلغته فيصلحها بأن يفصلوا ما يقع بينهم من الدعاوى لا في محاكم الغير المؤمنين إلا إذا دعت الضرورة وكان المدعى عليه غير مؤمن بل افصلوها لدى رعاتكم القديسين إذ تحكمونهم في فصلها (2) (أوما تعلمون أن القديسين سيدينون العالم) فإن كنتم أنتم القضاة الذين تدينون العالم فعار عليكم أن تقيموهم عليكم قضاة يدينونكم (فإن كان العالم بكم يدان أفتكونون غير أهل لأن تفضوا في الدعاوى الصغرى) فعار عليكم هذا عظيم. أفتخجلون أن تقوموا أمام أولئك الرعاة القديسين وهم في الداخل ولا تخجلون أن تمتثلوا أمام الكافرين كما يصرّح به فيما بعد وكيف تكونون غير أهل (3) (أما تعلمون أنّا نحن) معاشر المسيحيين (سندين الملائكة) أي الأشرار إذ هم أرواح ونحن في الأجساد ومع ذلك نستمر ثابتين وهم هالكون ولذلك (فبالأحرى نقضي في أمور هذه الحياة) التي هي أدنى مقاماً وشأناً من الأمور الملائكية.
53 – ثم استدرك اعتراضاً كأن يقول الواحد : ليس بين رعـاتنا أو بيننا حكيم ولا من هو أهل لفصل الدعاوى. فحلّ أولاً هذا الاعتراض مشيراً إلى الوجه الذي ينبغي أن يتمشّوا عليه فقال (4) (فإن كانت بينكم دعاوى في أمور هذه الحياة) فهوذا ما ينبغي أن تعملوا (فأجلسوا المحتقرين في الكنيسة للقضاء) أي المدعى عليهم الجهلاء وانظروا في دعاويهم واحكوا وافصلوا. وهذا ما كان يتعاطاه الرعاة في بدء الكنيسة وكذلك بعد انتشارها وانتصار الصليب إلى أن قال القديس أغوسطينوس: ما أثقل ما فرضه علينا الرسول! ثم انثنى وقال إبطالاً لمدعاهم : ( إنما أقول هذا لإخجالكم) فياللعار (أفهكذا ليس فيكم حكيم ولا واحد يستطيع أن يقضي بين إخوته ) والقضاء بين الإخوة لا يكون صعباً (6) ( وإنما يحاكم الأخ أخاه لدى الكافرين ( 7 ) فالآن على كل حـال عيب عليكم أن يحاكم بعضكم بعضاً) مهما كان الأمر فالأفضل أن تحتملوا ولذلك قال: (هلا تصبرون بالحري على الظلم وتحتملوا الخسران) ما أحسن هذه الوصية ولكن ما أقلّ من يتمشى عليها لا سيما بين المسيحيين. ومن العجيب أن نرى جميع الأمم من أقاصي الأرض إلى أقاصيها يفصلون دعاويهم على أسهل طريقة أمام القضاة، وإما أمام حكم يختارونه إلا المسيحيين، فإننا نراهم يتخاصمون ويتنازعون ويتواقعون ويتخادعون وليس لدعاويهم منتهى لا سيما متى استلم الدعوى محامون يصورون لك النور ظلاماً والظلام نوراً وهذا ما يشير إليه الرسول بقوله: (وإنما أنتم تظلمون وتخسرون الإخوة أنفسهم) فلا المصالحة ولا المرافعة بل الخسران ولا إقامة الدعوى كما يعلم الآباء ويرشد العقل إليه.
54- فمن بعد أن أخجلهم بما أتى به من البراهين القاطعة ختم كلامه بما شأنه أن يلقى الرعب في قلوبهم فقال (9) (أما تعلمون) أما تذكرون ما قلته لكم في مدة إقامتي عندكم سنة وستة أشهر، كما جاء في الأعمال (11:18) (أن الأثمة) وهم الذين يهينون الآخرين (لا يرثون ملكوت الله) كما يرث الأبناء آباءهم. (لا تضلوا) معتمدين على أنكم مسيحيون يرحمكم الله ولا يعاقبكم وإن لم تحسنوا أعمالكم، فلا تضلوا (فإنه لا الزناة ولا عباد الأوثان ولا الفساق) وهم رجال مخابيث من أهل الخلاعة والمجون يتكسرون ولا تكسر النساء البغايا (10) (ولا المفسدون ولا مضاجعو الذكران) ومن أجل هذه الخطيئة الفظيعة قد أنزل الله الطوفان فغرّق الأرض وأنزل النار فأحرق سادوم وعامورة وزد على ذلك (ولا الخطفة ولا الشتامون يرثون ملكوت الله) وقد ذكر كل ذلك تحريكاً لضمائرهم لئلا يضلوا ولذلك قد قال النبي من قبل: صنعت هذا فصمت فظننت أني مثلك. لأوبخنك وأنصبن إثمك لعينيك ( مز 21:49 ) وقد جمع بين أولئك الأثمة وإن كانت آثامهم مختلفة جسامة وعذاباتهم في جهنم متفاوتة لأنه إنما يشير بقوله هنا إلى خسارتهم الملكوت ليس غير. ثم قال لهم تسلية لهم (11) (ولقد كان بعضكم كهؤلاء ولكنكم قد اغتسلتم) بماء العماد (وتقدستم ) بالنعمة المبررة التي نلتموها ( وبررتم بـاسم ربنا يسوع
المسيح وبروح الهنا)، فحافظوا على هذه النعم ولا تتناعسوا.
55- ثم قال مشيراً إلى ذوي البطنة والشره (12) (كل شيء) لم تنه عنه الشريعة ( مباح لي ولكن ليس كل شيء ينفع ) في بناء الحياة الروحية والجسدية أيضاً ثم كرر ذلك وقال (كل شيء مباح لي ولكن لا) ينبغي أن (يتسلط علىّ شيء ) فالطعام مباح وشرب الخمر مباح ولكن لا ينبغي أن آكل إلى أن يجرّ إلىّ الطعام بطنة تقتلني أو أشرب إلى أن يتسلط علىّ السكر ، إذ الإفراط في ذلك لا يجرّ السقم إلى النفس فقط بل إلى الجسد أيضاً بدليل الاختبار ثم أخذ يعلل ذلك فقال (13) (إن الطعام لأجل الجوف والجوف لأجل الطعام) فلا ينبغي أن يتسلط على أحدهما فأكون له عبداً وكلاهما في يدى ولكن إن تجاوزت الحدّ صرت أنا عبداً لهما وهما مع ذلك ليسا شيئاً ولا يثبتان بل (سيبيد الله هذا وذاك). ولا حاجة لهما في تلك الحياة الآتية. والكلام في الجسد والجوف لا من حيث هما جسد وجوف بل من حيث الشهوات ولذلك لا يخيل إليك أني أطعن في الجسد من حيث هو جسد فالجسد من هذه الحيثية حسن (وليس هو لأجل الزنى بل لأجل الرب ) فلم يصوره للزنى أو للشره بل إنما جبله ليتبع رأسه وهو المسيح. ولذلك قال (والله قد أقام الرب) من حيث هو إنسان وكذلك (سيقيمنا نحن أيضاً بقوته) فأكرم به من دليل على القيامة، على أنه إذا كان جسدنا هو عضو المسيح والمسيح قد قام فكذلك الجسد يتبع الرأس من الضرورة وذلك بقوة الله ليس غير. وقد قال: بقوته، قطعاً وسدّاً لأفواه أولئك الذين يتعرضون للأدلة الطبيعية في إثبات القيامة. فلا حاجة إلى البرهان فالله قد أقام المسيح وهو الرأس فلابد من أن يقيمنا وكل ذلك بمجرد قوته. فلا تماحك.
56- ثم عاد يحذرهم ويخوفهم من شدة ما يصيبهم من العذاب بدليل آخر يختزله من ذات أنفسهم فقال (15) (أما تعلمون أن أجسادكم هي أعضاء المسيح) الذي هو رأس الكنيسة. فإن كنتم أعضاء المسيح وهذا تعلمونه (أفآخذ) أنا المؤمن (أعضاء المسيح وأجعلها أعضاء زانية؟) واخجلاه! فحاشاي أن أصنع ذلك فإن ذلك لإثم فظيع ولماذا؟ قال: (16) ( أما تعلمون أن من اقترن بزانية يصير معها جسداً واحداً لأنـه قد قيل : ويصيران كلاهما جسداً واحداً ) كما جاء في التكـوين (14:2) نعم إن ذلك قيل عن الزواج غير أن الرسول يطابق على الزنى لأن الفعل واحد. (17) (أما الذي يقترن بالرب فيكون معه روحاً واحداً) إرادته إرادة الله في كل ما يتصوره أو يعمله. أما الزنى فيعمى العقل ويوهي الإرادة ويجعل الإنسان ينسى ما له من المقام فوق الخنافس والخنازيـر ولا سبيل إلى قتل هذه الخطيئة إلا بالحرب ولذلك قال (18) ( اهربوا من الزنى) ولم يقل: تجنبوه أو تحاشوه بل اهربوا فإن الانتصار عليه على خلاف ما يبذله الإنسان من الجهد في الانتصار على سائر الرذائل والمساقط ولذلك قال: (اهربوا من الزنى) وسببه (أن كل خطيئة يفعلها الإنسان هي في خارج الجسد) وإن كان لابد من الجسد للإنسان في ارتكاب الخطيئة، ولكن مهما كانت الخطيئة، غير الزنى، لا تدنس ولا توسخ الجسد مثل الزنى ولا تحتاج إلى غسل ولا إلى تطهير فلذلك قال إن من يزني (فإنه يجرم إلى جسده) فيجرّ إليه من الأقذار ما لا يجرّه غير الزنى ومن الخجل ما يجعل الزاني يتوارى عن عيون الناس. هذا وزد على ذلك فإن الجسد ليس لكم ولذلك قال: (19) (أما تعلمون أن أجسادكم هي هيكل الروح القدس الذي فيكم) ساكن أنتم المبررون (الذي نلتموه من الله) أتجعلونها هيكل الزانية (وأنكم لستم لأنفسكم) بل لله وللروح للقدس الساكن فيكم بالمحبة. فلستم لأنفسكم وسببه (أنكم قد اشتريتم بثمن كريم) بدم يسوع المسيح الذي مات من أجلكم. أو هكذا تدنسون هيكل الله أليس عليكم أن تشكروا الله (فمجدوا الله واحملوه في أجسادكم) كما يحمل الفرس صاحبه فإن نيره لين وحمله خفيف، وذلك إذ تطهرونها لا من الأفعال الزنائية فقط بل من الأفكار أيضاً فإنكم لستم لأنفسكم بل لله سبحانه.
الفصل السابع
جوابه في شأن الزواج والعزوبة. تفضيلها على الزواج. نصيحته للأرامل أن يعشن بدون زواج آخر.
بعد أن وبخهم على تلك المساقط ومدارها: الخلاف والبخل والزنى وهداهم إلى طريق الإصلاح أخذ يجاوبهم عن المسائل التي رفعوها إليه بخصوص الزواج والبتولية ملطفاً كلامه فقال (1) أما من جهة ما كتبتم به إليّ ) أيصح أن ينفصل الرجل عن امرأته فأوعز إليهم بادئ ذي بدء أنه من الحسن أن لا يتزوج المرء فقال (فحسن للرجل أن لا يمس امرأة) ولا ينقض كلامه هنا ما جاء في سفر التكوين قوله: لا يحسن أن يكون الإنسان وحده (18:2) فقد أوصى الله آدم بالزواج ونوحاً لأنهما كانا أرومة الجنس البشري فكان الزواج من باب الضرورة ولم تكن تلك الوصية بأن ملء الأرض مفروض على كل أحد إلا على من كان لا يحتمل ولذلك قال الرسول مستدركاً (2) (ولكن لسبب الزنى فلتكن لكل واحد امرأة ولكل واحدة رجلها) وكلامه هذا عام يتناول الجميع من غير استثناء. ويقتصر على من كان أهلاً للزواج بأن لا يكون عاجزاً أو مرتبطاً بنذر العفة، ولذلك قد ضل لوثر بقوله إن الرسول يدعو الجميع إلى الزواج كهنة كانوا أو رهباناً وكيف يصح أن يدعو الجميع إلى دعوة لم يتممها هو نفسه. وقوله: ولكل واحدة رجلها يتناول من كان له زوجة قبل اهتدائه أو بعده ويشير إلى أن تكون الزوجة واحدة لا أكثر من واحدة وينهي عن المضارة ، لأنها مخالفة لأجل خلـق الإنسـان ، إذ خلقهما الله ذكراً وأنثى ليس غير.
58- ثم بعد أن نهاهم عن كثرة النساء بين لهم وجه استعمال الزواج وكيف يلتزم كل واحد منهما بتتميم فعل الزواج، ولما كان الزواج عقداً سمى فعله حقاً واجباً من باب العدل لا المحبة فقط فقال (3) (ليقض الرجل امرأته حقها وكذلك المرأة أيضاً رجلها) فالحق بينهما متبادل وليس للواحد أن يمانع في أدائه إلا لداع يجرّ ضرراً كمن يخشى أن يسرى إليه مـرض من قرينه كداء الزهرى وسواه ولما ملك كل واحد منهما جسد الآخر بحكم العهد أصبح لا تسلط له على جسده فيما يتعلق بالزواج ولذلك قال (4) (إن المرأة لا تتسلط على جسدها بل رجلها وكذلك الرجل أيضاً لا يتسلط على جسده بل امرأته) فإذا أباح أحدهما لغريب التسلط على جسده بأن زنى فإنه يخطئ لا ضد العفة فقط بل ضد العدل أيضاً. وهنا يقول فم الذهب: إذا حاول الفاسق أيتها المرأة أن يستبيح فعل الزنى فقولي له: جسدي ليس لي وكذلك أيها الرجل. وأما إذا كان الطلب من أحد الفريقين فحذار من الممانعة ولذلك قال ( 5 ) ( لا يمنع أحدكما الآخر عن ذاته إلا على موافقة إلى حين) وذلك (لكي تتفرغا للصلاة) إذ كان من عادة المسيحيين في ذلك الوقت أن ينهضوا نصف الليل أو باكراً للصلاة ثم يعودوا إلى النوم فقال لهم (ثم بعد ذلك عودوا إلى ما كنتم عليه) وسببه (لئلا يجربكم الشيطان) وذلك لا للذة بل (لعدم عفتكما) ثم استدرك وقال (6) (وإنما أنا أقول ذلك على سبيل الإباحة لا على سبيل الأمر).
59- ثم قال (7) (أودّ) وإن كان ذلك لا يتم ولا يتوفر (أن يكون جميع الناس مثلى) فلم يكشف لنا كيف كان أمتزوجاً كان وقد تعفف تاركاً امرأته جميع أيام حياته أم كان أعزب جميع أيامه فقد اختلف في ذلك، والرأى العام أنه كان أعزب بتولاً فلما قال ذلك وهو أمر صعب وجه الأفكار إلى الله وإلى ما يمدّ به الإنسان من المواهب فقال (ولكن كل أحد له من الله موهبة تخصه فبعضهم هكذا وبعضهم هكذا) قال ذلك كتسلية لهم. وانظر إلى حكمته كيف بيّن لئلا يتقلقلوا أنه يقول لهم ذلك على سبيل المشورة وذلك من عند نفسه وليس عنده فيه أمر الله مفصّلاً بين ما يأمره به الله وما هو من عند نفسه. وعليه قس ما أعقبه لقوله: ( 8 ) ( وأقول لغير المتزوجين وللأرامل ) رجالاً كانوا أم نساء (إنه حسن لهم أن يبقوا على هذه الحال)والتي هم عليها (كما أنا) لا يمسون امرأة ولا النساء يتزوجن ولكن (9) (فإن لم يتعففوا فليتزوجوا) إن لم يكونوا مقيدين أو مقيدان بنذر. وقد أشار الرسول إلى ذلك التقييد في رسالته الأولى إلى تيموتاوس على أنه بعد أن تكلم عن الأرامل الفتيات ونهى عن أن تكتب وأمر برفضهن لأنهن بعد أن يكرّسن ذواتهن للمسيح يبغين الزواج إذ يبطرهنّ الترف قال : فالقضاء عليهن لأنهنّ نقضن العهـد الأول (12:5) وأما إذا لم يكن الواحد منهما أو الفريقان مقيدين (فليتزوجوا فإن التزوج خير من التحرق) من شدة التهاب الشهوة.
60- ثم انتقل يتكلم عن المتزوجين لا من عند نفسه بل بأمر من الله فقال (10) (أما المتزوجون فأوصيهم لا أنا بل الرب) كما جاء في متى: أما أنا فأقول لكم من طلق امرأته إلا لعلة زنى فقد جعلها زانية ومن تزوج مطلقة فقد زنى ( 32:5 ) ( أن لا تفارق المرأة رجلها ( 11 ) وإن فارقته ) لعلة زنى قد ارتكبته ( فلتبق غير متزوجة أو فلتصالح ) محتملة ما يرتكبه ( رجلها ) وكذلك ( يترك الرجل امرأته ) لأن التعاهد الذي بينهما لا ينحل رباطه إذ لم يعد الرجل متسلطاً على جسده ولا المرأة على جسدها فلا يمكنه أن يسلم جسده إلى آخر إذ ليس هو له والمرأة كذلك لأن جسدها ليس لها ولكن إذا وقـع بينهمـا تنافـر فالمصالحة ليس غير ولا سبيل إلى قران آخر مادام أحدهما حيّاً. هذا مراد الرسول فيما يتعلق بزواج المؤمنين، ثم انتقل يتكلم عن زواج الغير المؤمنين.
61- فقال (12) (وللباقين أقول أنا لا الرب إن كان أخ له امرأة غير مؤمنة وهي ترتضى أن تقيم معه فلا يتركها) ويتزوج غيرها فيكون زواجه هذا الثاني باطلاً (13) والمرأة التي لها رجل غير مؤمن وهو يرتضى أن يقيم معها فلا تترك رجلها) وتتزوج آخر، وسبب ذلك (أن الرجل الغير المؤمن يقدس بالمرأة المؤمنة والمرأة الغير المؤمنة تقدس بالرجل المؤمن وإلا فيكون أولادكم نجسين والحال أنهم قديسون) يولدون أهلاً لقبول الإيمان والقداسة معدين بإرادة والدهم المؤمن أو والدتهم إلى قبول سر العماد من دون أن يمانع الفريق الغير المؤمن إذ يرتضى أن يقيم مع الآخر بدون إهانة الرب ولا خطر عليه أن يفقد الإيمان. ولكن (15) ( إن فارق الغير المؤمن فليفارق فليس الأخ أو الأخت مستعبداً في هذه الأحوال) وهنا مسألة لابد من النظر فيها.
62- فليفارق: فمآله أن الفريق الغير المؤمن إذا اغتاظ من اعتناق قرينه للإيمان ففارقه وأبى أن يساكنه أو رضى أن يساكنه ولكن على خطر أن يفقد المؤمن إيمانه فليفارق فالفراق ولا فقدان الإيمان (فليس الأخ أو الأخت مستعبداً في مثل هذه الأحوال) وذلك الفراق هو على خلاف ما قد يحدث بين المسيحيين المتزوجين ويراد به هجر السكنى والفراش لعلة الزنى أو سواه لا حلّ عقد الزواج بل هو فراق يحلّ به عقد الزواج الأول وإن قد تم فعلاً ويباح للفريق المؤمن أن يتزوج بمن يشاء وإلا كان ذلك الفراق استعباداً للأخ المؤمن أو الأخت المؤمنة إذا حرم عليهما الزواج. وذلك لا يفرّق ما جمعه الله بل بحكم إنعام خصوصي متع به المؤمنين وقد أذاع ذلك على لسان رسوله ولذلك نرى أن الرسول نفسه يقول في رسالته إلى أهل رومية: إن المرأة التي تحت رجل هي مرتبطة بالناموس برجلها مادام حياً ( 2:7 ) ولكنه يعني المؤمنين لا غيـر المؤمنين . غير أن الفريق المؤمن لا يصح أن يتزوج ما لم يسأل الغير المؤمن هل يرتضي أن يساكن قرينه من غير أن يضيق عليه في أمر إيمانه أم لا فإن ارتضى كان الزواج الأول صحيحاً ثابتاً، فإن أبى فالفراق، وإذا كان لغير المؤمن قبل اهتدائه نساء كثيرة فالتي تهتدي معه وتعتمد فهي له وإن أبـين كلهن الاهتداء فله الأولى إن ارتضيت أن تساكنه بخوف الله من غير خطر وإلا فليتزوج من يشاء. وفي ذلك مسائل نجد شرحها في الحق القانوني. هذا ثم قال (وإنما دعانا الله إلى السلام) دعانا إلى الإيمان لكي نعيش مسالماً بعضنا لبعض سواء أكان الرجل أم المرأة مؤمناً أو غير مؤمن ولكن بشرط التراضي.
63- ثم حذراً من أن يخيّل إلى المرأة أنها تتنجس من الجماع مع الرجل الغير المؤمن قد قال: (إن الغير المؤمن يقدس بالمرأة المؤمنة) فتشددي ولا تخافي ( 16 ) ( لأنك كيف تعلمين أيتها المرأة أنك تخلصين رجلك أو كيف تعلم أيها الرجل أنك تخلص امرأتك) إذ كانت حرارة الإيمان في أول عهد الكنيسة شديدة وكان الكلام مؤثراً (17) (إلا أنه كما قسم الرب لكل واحد كما دعا الله كل واحد) إذ لابد لقسمة الرب من أن تكون موافقة لدعوة الله (كذلك فليسلك) كل واحد حسب ما قسمه الرب (وهكذا أرسم في الكنائس كلها) التي أقمتها وأبشر فيها ثم أخذ يفصّل ذلك فقال (18) (أدُعىَ أحد وهو مختون فلا يعدْ إلى القلف) ولكن كيف يعود إلى القلف وقد ختن وقطعت غرلته؟ إن المراد هنا بقول الرسول المعنى الروحي أي لا يعود إلى أعمال القلف والأمم. ولا مانع من أن يراد به أيضاً المعنى الحرفي بأن يستر حشفته بجلدة يختزلها من الجلدة المحيطة ليظهر أنه قد عاد إلى القلف. وقد روى يوسيفوس المؤرخ اليهودي في كلامه عن قدميات اليهود (ك 12 ف10) أنه قد كان من العادة الجارية بين اليهود بأن يغطى المبارزون المصارعون وهم عراة حشفتهم بجلدة يجذبونها من جلدة القضيب بصناعة يعرفها أصحاب التشريح ولذلك يبعد من أن يكون قد أراد ذلك الرسول بقوله (فلا يعد إلى القلف) ثم عقب كلامه وقال : ( أدُعى أحد وهو في القلف فلا يختتن ) وسببه ( ليس الختان بشيء ولا القلف بشيء) وذلك فيما يتعلق بالإيمان (بل حفظ وصايا الله) فلا تحاجج إذن ولا تضطرب أيها المسيحي فالإيمان يضرب عن كل ذلك وعليه (20) (فليستمر كل واحد على الدعوة التي دعى فيها عبداً كان أو حراً (أدُعيت وأنت عبد فلا يهمك ذلك ولكن إن أمكنك أن تنال الحرية فعليك أن تغتنمها).
64 – ثم قال ( 22 ) ( قـد اشتريتم بثمن ) وعليه فلستم عبيداً إلا لذاك الذي اشتراكم وهو المسيح (فلا تصيروا عبيداً للناس) فيما إذا أمروكم بأمر يخالف ما يأمركم به ذاك الذي اشتراكم بدمه. فأطيعوا رؤساءكم الجسديين وذلك في كل شيء لا بخدمة العين بل بسلامـة القلب متقين الله بأن لا تأتوا بشيء مخالف لأمره أو نهيه وإن أمروكم به أو نهوكم عنه. ثم ختم كلامه قائلاً: (ليستمر أيها الإخوة كل واحد أمام الله على ما دُعي فيه). ثم بعد أن أنهض أفكارهم وأبان لهم ما فضل التعفف وأعدهم إلى قبول كلامه أخذ يكلمهم عن البتولية فقال ( 25 ) ( وأما البتولية فليس عندي فيها وصية من الرب لكني أفيدكم فيها مشورة بما أن الرب رحمني أن أكون أميناً) فيما أشير به (26) (فأظن أن هذا حسن) أن يستمر الواحد بتولاً. وذلك (لأجل الضرورة الحاضرة) بدليل الموانع التي تصدّ الإنسان عن الخلاص وعراقيل الحبل وتربية البنين وضيق المعاش ووثوب الأمراض وما شاكل ذلك ولذلك قال (إنه حسن للإنسان أن يكون هكذا) مستمراً على البتولية. غير أن ذلك ليس أمراً ولا شريعة بل استحسان ولذلك عقب كلامه وقال (27) (أأنت مقيد بامرأة فلا تطلب الطلاق) وذلك بعد أن تتمم فعل الزواج إذ لا سبيل والحالة هذه إلى الترك ولا بوجه من الوجوه كما يصح ذلك قبل تتمة فعل الزواج الموافق للإيلاد إما بدخول الرهبنة أو بتفسيح خصوصي من الحبر الأعظم. ثم قال : ( أأنت مطلق من امرأة فلا تطلب امرأة ) إن كنت لا تتحرق (28) (لكنك إن تزوجت لم تخطأ ) ، إن لم تكن نذرت العفة ولكـن تكـون لمثل هؤلاء الذين يريـدون أن يتزوجـوا ( مشقة في الجسد ) سواء أكان من جهة الغيرة أم من لوازم المعيشة والتربية . ثم قـال ( وأمـا أنـا فإني أشفق عليكم) فلا أطيل الكلام في بيان ما يجرّه الزواج من المتاعب ردعاً لكم عن زواج ترغبون فيه.
65- ثم أخذ يشرح لهم مبيناً ما الذي حمله أن يوصيهم بذلك فقال (29) (فأقول هذا أيها الإخوة) في المسيح يسوع (إن الزمان قصير) في الحياة الدنيا إلى أن نصل إلى اليوم الأخير فلا مشقة تستمـر ولا لذة (فبقى أن يكون الذين لهم نساء كأنهم لا نساء لهم) لا ينبغي أن يلازموهن إلا على ما تتقاضاه الضرورة بحكم ضعف أحد القرينين عندمـا يطلب من الآخر حقه وكذلك (30) (الباكون) من شقاء هذه الدنيا وتقلب أحوالها (كأنهم لا يبكون) تسلياً بدار الخلد وما فيها من اللذائذ الأبدية. (والفرحون) الذين هم في أرغد العيش والهناء ( كأنهم لا يفرحون ) لأن ما نظن أنه يجرّ إلينا الفرح يكون وبـالاً ومشقـة ، ( والمشترون كأنهم لا يملكون (31) والمستعملون هذا العالم كأنهم لا يستعملونه) وسبب كل ذلك (لأن هيئة هذا العالم في زوال) يوماً فيوماً فلا تبقى على حالة واحدة ، فباطلاً إذن تدع قلبك يعلق بها . فهذه حالة العالم ومـا يجرّه من التعب والهموم وأنا (32) (إنما أريد أن تكونوا بلا همّ) يجرّه الزواج (فإن الغير المتزوج يهتم فيما للرب كيف يرضى الرب) إن لم يكن فاسقاً في قلبه فهناك الشقاء وشدة الاهتمام (33) (وأما المتزوج فيهتم فيما للعالم كيف يرضى امرأته) ورضاء المرأة من باب الضرورة فإن المرأة الحزينة آفة العائلة وضربة مؤلمة (فهو) والحالة هذه (منقسم) بين أن يرضى الله وامرأته ، غير أن الرجل الحكيم يوافق بين الاثنين إذ يوجه كـل شيء لمجد الله سبحانه. وكذلك ( 34 ) ( المرأة الغير المتزوجة والعذراء تهتم فيما للرب لتكون مقدسة في الجسد وفي الروح، وأما المتزوجة فتهتم فيما للعالم كيف ترضى رجلها) لئلا تجفّ محبته لها.
66- ثم قال مستدركاً (35) ( وإنما أقول ذلك ) محرضاً إياكم على اعتناق البتولية لا لغرض أبتغيه بل (لإفادتكم لا لألقي عليكم وهقاً) أي شركا (بل ابتغاء ما يحمل ولأجل المواظبة للرب بغير ارتباك) يقول البرتستان ويغالطون الرسول ولا يخجلون: إن البتولية ليست حسنة ولا جميلة في حدّ نفسها إنما تجمل فقط لأجل المواظبة للرب بغير ارتباك مع أن الرسول يقول (ابتغاء ما يجمل) وهذا برهانه الأول في استحسان البتولية ثم أتى بدليل آخر لقوله: ولأجل المواظبة إلخ.. فأضربوا عن الأول وتمسكوا بالثاني . ولكن (36) ( فإن ظن أحد أنه يُعاب ) في عيون الناس لا أمام الله (في حق عذرائه إذا تجاوزت الأوان وأنه لابد من الزواج فليفعل ما يشاء. إنه لا يخطئ فلتتزوج ( 37 ) وأما من جعل في قلبه وهو مصمم ولا اضطرار به بل له سلطان على مشيئته وجزم في قلبه أن يحفظ عذراءه ) ولا يدعها تتزوج من بعد أخذ رضاها ( فنعما يفعل ) إذا كان ذلك عائداً إلى خلاصها (38) (فإذن من زوج عذراءه يفعل حسناً ومن لا يزوجها يفعل أحسن). ثم صرح لهم بثبات الزواج إلى الموت إثباتاً لقوله: ما جمعه الله لا يفرقه إنسان فقال (39) (إن المرأة مقيدة بالناموس ما دام رجلها حياً) فقد يصادف أن يهجرها أو يطلقها لعلة زنى أو سواه أما عقد الزواج فلا ينحل إلا بالموت ولذلك قال (فإن رقد رجلها فهي معتقة. فلتتزوج بمن تشاء لكن في الرب فقط) طلباً للبنين أو مجانية للزنى. (40) (غير أنها تكون أكثر غبطة إن بقيت على ما هي عليه) وذلك ( بحسب مشورتي وأظن أني أنا أيضـاً فيّ روح الله في إعطـاء هذه المشورة مشيراً إلى أن الله قد ألهمه إليها وإن كان لا يأمره بها.

الفصل الثامن
الامتناع عن تناول ما يقدم للأوثان، متى كان في ذلك ما يسبب معثرة للضعفاء. وجواب اقتران المعرفة بالمحبة.
67- قال (1) (وأما ذبائح الأوثان فنعرف أن لجميعنا علماً بها. العلم ينفخ والمحبة تبني) لابد من الوقوف على ما حمله أن يكتب لهم عن ذلك : فقد كان ذنبهم عظيماً معثراً لكثيرين ، ومـآله أن الكـورنثيين لما علموا أن ما يدخل الفم لا ينجس الإنسان بل ما يخرج من الفم وأن الوثن ليس شيئاً ولا يمكنه أن يضر ولا أن ينفع كانوا يشتركون في ذبائح الأوثان ويأكلون منها من غير رويّة ولا تحفظ، وكان من شأن ذلك الاشتراك عثاراً لكثيرين لا سيما من الضعفاء في الإيمان إذ لم يزالوا خائفين من الأوثان فيشاركون الوثنيين في ذبائحهم إخماداً لغضب الآلهة والشياطين، وكانوا يزيدون تمسكاً بذلك، إذ يرون العلماء يجالسون الوثنيين ويشاركونهم في أكل الذبائح، وهذا ذنب عظيم فكتب لهم ينهاهم عن ذلك ويوبخهم بلطف فقال (إن لجميعنا) ولي سلكم وحدكم أيها العلماء الكورنثيون- علماً بذبائح الأوثان فلا تتفردوا بعلمكم ولكن (العلم ينفخ) فلا تحسبوا الورم شحماً وسمناً فهو بدون المحبة صلف وكبرياء أما (المحبة فتبني) وبدونها كل بناء متزعزع الأركان سواء أكان ذلك في العالم الروحاني أم الجسماني وعليه (2) (فإن كان أحد يظن) معتزاً بنفسه (أنه قد علم شيئاً) من أحوال هذا العالم فلا ينخدع (فإنه لم يعلم بعد شيئاً كما ينبغي أن يعلمه) فلا ينتفخ إذن بعلمه أولاً لأن علمه مشترك فيه آخرون فالذي يعلمه هو يعلمه أيضاً آخرون لقوله: إن لجميعنا لا لي أنا وحدي علماً بها. ثانياً لأن علمه هذا ناقص غير كامل لأنه لا يعلم شيئاً كما ينبغي. ثالثاً بل علمه مضر إن لم يكن مقروناً بالمحبة فيضر صاحبه إذ ينتفخ به على شكل الأدرية ولا ينفع لأن الانتفاخ يفرّق وأما المحبة فتجمع وتهدي على طريق العلم. وهذا يشير إليه إذ قال (3) (أما إن كان أحد يحب الله فهذا يعرفه الله) لأن الله يعرف الذين يحبهم ولا يعرف الذين يبغضهم لقوله: إني لا أعرفكنّ (مت 12:25).
68 – من بعد أن كسر من كبريائهم وأبان أن العلم الـذي لهم لا يغنيهم أخذ يعلمهم كيف ينبغي أن يتصرفوا فقال (4) (فمن جهة أكل ذبائح الأوثان نحن نعلم أن الوثن ليس بشيء في العالم وأنه لا إله غير واحد ) فقد وقع هنا في محذور ضيق المخرج لأنه يريد أن يثبت أمرين متخالفين لا يتوافران معاً وهما: تجنب الأكل من ذبائح الأوثان والجلوس على مائدتهم ثم بيان أن الأكل من ذبائحهم لا يضر أولئك الذين يشاركونهم فيها. على أنه لما تعلموا أن تلك الذبائح لا تجرّ ضرراً لأن الوثن ليس بشيء كان الإقبال إليها سواء لا ضرر فيه، ولكن متى منعوا عن الاشتراك فيها يخيل إليهم أنهم إنما منعوا ونهوا عنها لأن لها قوة في أن تجر ضرراً، ولذلك جعل السبب الأول في مجانبة مائدة الأوثان عثار الإخوة، وذلك بعد أن بين لهم أن الوثن ليس بشيء (5) ( وأنه وإن وُجد ما يقال له آلهة في السماء أو على الأرض وقد وجد كذلك آلهة كثيرون وأرباب كثيرون ) وذلك في اعتقادهم الباطل ( 6 ) ( لكن لنا إله واحد الآب الذي منه كل شيء) لأنه العلة الأولى (ونحن إليه) راجعون (ورب واحد يسوع المسيح الذي به كل شيء ونحن به) كائنون. ثم انتقل قبل أن يذكر السبب يبين لهم أن الجميع ليسوا متساوين علماً فيما يقوله لهم فقال (7) (ولكن ليس العلم في جميع الناس) بحيث يعرفون أن يتدربوا في تهذيب أخلاقهم ومجانبة ما لا يصلح (بل إن قوماً) إلى الآن ( مع اعتقاد الضمير حتى الآن بأن الوثن شيء يـأكلون الذبيحة بحسب ما هي ذبيحة أوثان) وعليه (فضميرهم إذ هو ضعيف يتنجس ) إن يفعلوا ذلك ضد ما يرشدهم ضميرهم الضال . ثم أتى بدليل آخر مبيناً أن الأكل أو عدمه لا طائل تحته فمجانبته عند وقوع الشك أولى فقال (8) (والطعام لا يقربنا إلى الله لأننا إن أكلنا لم نزدد ) نعمة أمام الله (وإن لم نأكل لم ننقص) فعيسو لم يتبرر بأكل العدس (تك 34:25) وإيليا لم يتنجس بأكل اللحم (3ملوك 6:17).
69- بعد أن بين ما في ذلك من الضرر أبدى ما يحدث للأخ الضعيف في الإيمان من العثار الذي ينبغي أن نتحاشاه فقال (9) (ولكن احذروا أن يكون سلطانكم هذا) الذي تعتمدون عليه في مشاركة الوثنيين في مائدة الأوثان (معثرة للضعفاء) فلم يقل: سلطانكم هذا معثرة للضعفاء لئلا يزيدهم قحة بل قال : احذروا فإن أخاكم ضعيف فلا تزيدوه ضعفاً بل داووه (10) (فإنه إن رأى أحدٌ من له العلم متكئاً) أي جالساً علـى مـائـدة ( في بيت الأوثان ) وكان من عادة الوثنيين أن يدعوا إلى تلك المائدة بعض الأصدقاء من المسيحيين وإن لم يحضروا الذبيحة (أفلا يتقوّى ضمير من هو ضعيف على الأكل من ذبائح الأوثان ) فيتقوى لا من جهة ضعفه فقط بل من جهة المثل الذي يجعله أشد ضعفاً (11) ( فيهلك الضعيف بسبب علمك ) أن الوثن ليس شيئاً ( الأخ الذي مات المسيح لأجله) فلا عذر لك ولا مغفرة؛ وذلك أولاً لأنه ضعيف فينبغي أن نساعده. ثانياً لأنه أخوك فعليك أن لا تعثره . ثالثاً لأن الرب مات لأجله لكي يخلصه وأنت تهلكه بمثلك. رابعاً لأنك تعثره لأجل شيء تافه وهو الطعام، ولذلك قال : احذروا أن يكون سلطانكم هذا معثرة للضعفاء.
70- ثم زاد بياناً لما في ذلك من جسامة الخطأ فقال (12) (وهكذا إذ تخطأون إلى الإخوة) لا بحكم المعثرة فقط بل (وتجرحون ضمائرهم) وهم مرضى وضعفاء فلا يجوز جرح الأقوياء فبأول حجة جرح الضعيف فإن ذنبكم هذا عظيم لو أعملتم الفكر فيه وهو (إنما تخطئون إلى المسيح) أولاً لأن هذا الأخ الضعيف هو عبد المسيح وكل ما للعبد خاص بسيده. ثانياً هو عضو في جسده وجرح عضو يمتد ألمه إلى كـل الجسم . ثالثاً: هو عمل المسيح لأنه افتداه بموتـه وأنـت تهدمه بمثلك . ثم قال : (13) (فلذلك إن كان الطعام يشكك أخي فلا آكل اللحم إلى الأبد لئلا أشكك أخي) هوذا شأن الراعي الصالح الذي بمثله يعلم ما يعظ به فلم يقل : إن كـان ذلك بصواب أو غير صواب بـل كيفما كـان الأمر لا آكل. ولم يقل لا آكل اللحم المقدم للأوثان بل أي لحم كان. لا آكل اللحم ولا في يوم دون يوم بل إلى الأبد ما دمت حيّاً ولا محاثاة لهلاك أخي بل لمعثرته أيضاً إذ من الحماقة أن أشكك من مات لأجله المسيح مـع أني قادر أن أداوي ضعفه بامتناعي عن ذلك الطعام. فاتعظوا أيها الزناة والسكيرون والمجدفون واللصوص والمرابون واعلموا أن الله موجود وأنه لابد من تأدية الحساب. أفما تتذكرون! أفما تكفون عن بذر الشكوك وتشكيك النفوس. واعلموا أيها الرعاة أن ليس الذين يفعلون مثل هذه فقط يستوجبون الموت بل أيضاً الذين يرضون عن فاعليها (رو 37:1) فلا تحتقروا الضعيف وإن كان خسيساً أو فقيراً أو حارث أرض أو صاحب حرفة فإن المسيح قد اشتراه فهو له فلا تزدروا بمن هو للمسيح وإن كان بائساً!

الفصل التاسع
حق الرسول في طلب ما يحتاج إليه لمعيشته. ولكنه ترك ذلك حذراً من المعثرة وعبّد نفسه للكل ليربح الكل.
انظر هنا إلى حكمة القديس ما كان أشده باعاً في طرق الدفاع عن الحقيقة. فلما قال : لا آكل اللحم إلى الأبد لئلا أشكك أخي استدرك ما قد يؤتي به من الاعتراض فأخذ يسد فم من قد يمكنه أن يقول: باطلاً تفتخر بأنك لا تأكل اللحم فإن كان ما تقوله صحيحاً لا كلام متفلسف فأثبت بالعمل مجانية ما قد يكون معثرة للأخ الضعيف، فأخذ يحجهم مبيناً لهم ذلك بأكثر مما كانوا يطلبون بأن لا ينقطع عن أكل اللحم فقط بل عما هو مباح له ولسائر الرسل أن يأخذوه، وذلك لئلا يشكك الإخوة الضعفاء. وأثبت أنه وإن كان رسولاً كسائر الرسل فإنه يتحاشى مع ذلك أموراً كثيرة يتعاطاها سائر الرسل وكل ذلك لئلا يكون معثرة للإخوة. فلا أتحاشى مائدة الأوثان فقط بل كل ما يحق لي أن آخذه وأتعاطاه، ومع ذلك لم آخذ شيئاً منكم ولكن قبل أن يفصح لهم عن ذلك يبين لهم أولاً ما له من المقام على أنه وإن لم يقبل منهم شيئاً فمقامه لا يمسّ فقال (1) (ألست حراً) أن أعيش من الإنجيل مثل سائر الرسل؟ ماذا (ألست رسولاً؟) أأنا سقط وآخر الرسل لأني لم أتردد مع المسيح وهو في الجسد. ماذا؟ (أما رأيت يسوع المسيح ربنا؟ ) وأنا ذاهب إلى دمشق كما جاء في الأعمال (3:9) وقد تراءى لي أيضاً كأنه للسقط (1كور 15 : 8 ) وهذا ليس قليلاً : فإن كثيرين مـن الأنبياء والصديقين اشتهوا أن يروا ما أنتم راءون ولم يروا ( متى 17:13 ) ولكن ما هذا كله فأني لك أن تأخذ وتقبل الجعالة إن كنت لا تعمل عمل الرسول فقال (ألستم أنتم عملي في الرب) نعم نعم لا يكفي الواحد أن يكون حراً ورسولاً وقد رأى الرب فإن لم يفعل لا يستحق الأجرة وأنا عملت: وأنتم أنتم عملي في الرب، وقد اكتفى أن يشهدهم هم أنفسهم خزياً لهم ولم يقل أما تذكرون كيف أجول العالم كله وأبشر (2) (فإن لم أكن رسولاً إلى آخرين فإني رسول إليكم لأن خاتم رسالتي هو أنتم) ما فعلته عندكم من ردكم إلى الإيمان ومن الآيات وإيلاد مواهب الروح القدس الثابتة فيكم هو شاهد لي وخاتم مصدق لرسالتي كما أن الخاتم يصدق الرسالة أو الكتابة ويحققها. وذلك بقوة (الرب) يسوع الذي أيد رسالتي بالآيات والعجائب.
72- (3) (وهذا احتجاجي عند الذين يفحصونني) وهم يسألون من أين صرت رسولاً. ولماذا أقبل أو لا أقبل دراهم. أو يريدون أن يثبتوا أني لست رسولاً ؟ فاحتجاجي هو أنتم بل ما نلتم من الهداية على يدي ثم ما أبديه لكم وهو: (4) (أما لنا سلطان أن نأكل ونشرب ) من الإنجيل مع ذلك لم نستعمله (5) (أما لنا سلطان أن نجول بامرأة أخت كسائر الرسل) بل (إخوة الرب) وهم يعقوب الصغير ويهوذا وبوسى وسمعان وهم في الحقيقة ليسوا إخوته بل أقرباؤه إذ كان من عادة اليهود أن يسموا الأقرباء إخوة كما جاء في التكوين عن قـول إبراهيم للوط ابن أخيه : إنما نحن رجلان أخوان (8:13) بل (وكيفا) وهو إمام الرسل وزعيمهم فقد كانت العادة عند اليهود أن يجول الرسول بامرأة تخدمه في الرسالة ولم يكن من يتشكك في هذا الأمر إذ لم تكن لديه إلا في منزلة الأخت فإن المسيح نفسه كانت ترافقه نساء يبذلن من أموالهن في خدمته (لوقا 3:8) أما الأمم فكانوا يتشككون في هذا الأمر ، ولما كـان بولس وبرنابا قد أفرزا لبشارة الأمم امتنعا من إرادتهما أن يجولا بامرأة لئلا يشككوهم مع أن ذلك كان مباحاً لهما مثل سائر الرسل ولذلك قـال ( 6 ) ( أم أنا وبرنابا وحدنا لا سلطان لنا أن نفعل هذا) لهما السلطان ولكنهما امتنعا عن استعماله لئلا يشكك الآخرون. قال ثوفليكتوس: إن الرسول لم يشأ أن يستعمل ذلك السلطان الذي له بأن يأكل ويشرب ويجول بامرأة أخت وذلك عند أهل كورنتس إذ كان في تلك المدينة رسل كذبة أغنياء يفتخرون بأنهم يعيشون على حسابهم لا على نفقة المؤمنين وكان جلّ قصدهم أن يذلوا الرسل الذين يعيشون على نفقة المؤمنين، فأراد الرسول أن يبدد أولئك الرسل فأتى بأمثلة بديعة تخزى أولئك المتغطرسين.
73- فقال (7) (من يسعى إلى الحرب والنفقة على نفسه) وهذا أعظم مثل وهو تشبيه الرسل بجنود يقتحمون غمرات الحرب فلا يسعون إليها والنفقة عليهم مهما كان الملك ظالماً فكيف يصنع ذلك المسيح وهو يرسل جنوده ولا لمحاربة هذا العالم فقط بل لمحاربة الأبالسة أيضاً ولم يكتف بهذا المثل وهو عام يتناول مآله الجميع، بل ثم عقبه بآخر وقال (من يغرس كرماً ولا يأكل من عنبه) مشيراً إلى ما يقاسيه الغارس من التعب في استثماره ما يغرس. ثم أعقبه بمثل ثالث وقال: (أو من يرعى قطيعاً ولا يأكل من لبن القطيع) مبيناً هنا ما يترتب على الراعي من بذل الاهتمام. وانظر في هذه الأمثلة كيف أنه لا ينظر إلى وجه الشبه إلا من جهة ما فيه نفع وإفادة. فلم يقل: من يسعى إلى الحرب ولا يصير غنياً. ومن يغرس كرماً ولا يستغنى أو يأكل كل ثمره. ومن يرعى قطيعاً ولا يتاجر بحملانه وصوفه بل أن يأكل من لبنه لا من لحمه موعزاً إلى أن الراعي أسقفاً كان أو كاهناً إنما يترتب عليه أن يكتفي بما هو ضروري للقيام بمعاشه. لينتبه أولئك الذين يريدون أن يستولوا على كل شيء فإن الفاعل إنما يستحق طعامه. هذا ما يريده الرب. ويترتب فوق ذلك على راعي النفوس- وهذا ما يريده الرسول- أن يكون له قوة الجندي وعناية الغارس واهتمام الراعي. ولا يسأل فوق ذلك إلا ما كان من باب الضرورة كالطعام والكسوة لا إغناء الأهل والإخوة!
74 – ثم لئلا يخيل إليهم أنه يقول ذلك ويـأتي بتلك الأمثلة على ما هو جار بين البشر ولم يأمر به الكتاب قال (8) (ألعلني المتكلم بهذا بحسب البشرية أم ليس الناموس أيضاً يقول هذا ) فلا تظنـوا ذلك لأني لم أذكر بعد شيئاً من الكتاب فاعلموا (9) (أنه قد كتب في ناموس موسى لا تكمّ الثور في دياسه ) (تكو 4:25 ) وهـذا يثبت مـا نحن فيه ولكن ما قولكم (ألعل الله تهمه الثيران) نعم تهمه لأن عنايته تتناول الجميع ولكن لا بحيث يرسم لأجلهم شريعة خصوصية ولذلك فإنه يشير بقوله هذا إشارة خصوصية إلى اليهود حملاً لهم على الشفقة على الرعاة الذين يهدونهم في طريق الخلاص بأن لا يكموهم إذ يمنعوهم عن الوعظ والتبشير ولذلك أعقب كلامه وقال (10) (أم قال ذلك من أجلنا على الأحرى) أو على الخصوص . ثم تابع الاستعارة وقال مبيناً ( بل إنما كتب من أجلنا) وذلك (لأنه ينبغي للحارث أن يحرث على الرجاء) أن يحصل على الثمرة وكذلك (للدائس على رجاء أن يكون شريكاً في الغلة) ثم أتى بحجة أخرى مبيناً أن ما يأخذ الرسل منهم هو أقل وأخس مما ينبغي أن يؤدّوه لهم.
75- فقال (11) (إن كنا قد زرعنا لكم الروحيات أفيكون عظيماً أن نحصد منكم الجسديات) ففي الأدلة السابقة تبين أن الزرع جسديّ وكذلك الثمرة أما هنا فأعظم، فالزرع روحي وهو زرع الإيمان والخلاص والثمرة جسدية وهي الطعام وهذا أخسّ وأحط شأناً. ثم زادهم خجلاً وقال: (11) (إن كان آخرون يشتركون في السلطان عليكم أفلسنا نحن أولى) فلا يعني بقوله هذا وكيفا وآخرين من الرسل بل أولئك الرسل الكذبة الذين يبهرون ويفتخرون عليهم ويغرونهم وهم مع ذلك يؤدّون لهم الجعالة، هذا وإن كان لنا من الحق على الأقل ما لغيرنا من الرسل الكذبة من السلطان عليكم فلا نستعمله ولذلك قال (لكنا لم نستعمل هذا السلطان بل نحتمل كل شيء) الجوع والعري والتعب ونشتغل بأيدينا وكل ذلك (لئلا نعوق بشارة الإنجيل بشيء) هو ذا الغرض الذي يجعلنا أن لا نستعمل
السلطان الذي لنا عليكم.
76- ولم يكتف بما قاله مبيناً أنه من المباح له أن يقبل منهم ما ينبغي أن يقدموه له لا بمثل عدم كمّ الثيران ولا بجعالة الكهنة ولا بوظائف الجندي بل جاء بما هو أنسب بالمقام فقال ( 13 ) ( أولا تعلمون أن الذين يتولون الأعمال الكهنوتية) وهم الكهنة (يأكلون من الهيكل) من التقادم التي يقدمها الشعب والأوقاف التي يوقفها إذ لم تبق له ولم يعد يملكها بل تصير معاشاً للذين يتولون الأعمال الكهنوتية ومدارها خدمة النفوس وتوزيع الأسرار فهؤلاء يأكلون ولم يقل: يستغنون من التقدمات التي ترفع إلى الهيكل وكذلك ( الذين يلازمون المذبح يقاسمون المذبح ) إذ لم يعد يمكنهم أن يسعوا في معاشهم لملازمتهم المذبح ولذلك كانوا في العهد القديم متى قدموا ذبيحة يحرقون جزءاً منها والجزء الآخر يقسمونه بينهم و (14) (هكذا قد رتب الرب أيضاً) لقوله: إن الفاعل مستحق طعامه (متى 10:10) وقوله: وامكثوا في ذلك البيت تأكلون وتشربون من عندهم لأن الفاعل مستحق أجرته (لوقا 7:10) وقد رتب ذلك اقتداء بالناموس القديم كما جاء في سفـر الأحبار ( 31:7 و 32 و 33 ) غير أن المسيح له المجد لم يأمر بذلك جازماً به إنما يشرك الفاعل مخيراً بين من يستعمل ذلك السلطان الذي له أو لا يستعمله مع أن المسيح قد أباح ذلك لقول الرسول (أن الذين يبشرون بالإنجيل يعيشون من الإنجيل) ولكنه لم يشأ أن يستعمل ذلك فقال:
77- (15) (إلا أني لم أستعمل في ذلك شيئاً) مع أني قد أثبت لكم بأدلة وافية اختزلتها من شهادة الكتاب وأيدتها بالبراهين العقلية والأمثلة الوافية بأن لي السلطان أن أفعل ذلك ولم أفعله (ولا كتبت هذا لكي يجري لي مثل ذلك) الآن أو في ما بعد (لأنه خير لي أن أموت جوعاً من أن يعطل أحد فخري) في أن أبشر من غير نفقة (16) (لأني إذا بشرت فليس لي فخر لأن ذلك ضرورة موضوعة عليّ) وهي ضرورة الوصية بأن أبشر لا ضرورة تعدمني حرية الاختيار (والويل لي إن لم أبشر) فالعذاب من وراء الانقطاع عن التبشير أبدي (17) (فإني إن كنت أفعل هذا طوعاً فلي ثواب) إذ لا آخذ شيئاً منكم (ولكن إن كرهاً فإنما أنا مؤتمن على وكالة) أقوم بها ولي على ذلك أيضاً أجر ولكن أجر من يتم الوصية لا أجر من بأعماله المجيدة يتجاوز الوصية، فليس على الوكيل أن يشتغل فإذا اشتغل في أرض سيده كان أجره أعظم . ولكنه سأل وقـال ( 18 ) (فما ثوابي إذن) وأنا مؤتمن على وكالة فأجاب (هو أني إذا بشرت أجعل البشارة بغير نفقة) ولما كان مثل هذا الكلام يعاب به الرسل الآخرون الذين يبشرون على نفقة المؤمنين بين السبب في امتناعه عن أخذ النفقة فقال (حتى لا أستوفي سلطاني في الإنجيل) هذا شأني في التبشير ولم يكتف بذلك بل زاد على ذلك ما يقضي العجب من تجرّده عن كل شيء في بشارة الإنجيل فقال:
78- (19) ( لأني إن كنت حراً من الجميع ) وهنا تراه يأتي على
أسلوب الإطراء بكلام يعرب عما كان يسكن في قلبه من نيران الغيرة على خلاص النفوس فلم يكتف أن امتنع عن أخذ النفقة ولا أنه كان حراً من الجميع فقد أراد أن يكون مستعبداً لا لواحد فقط بل للعالم كله ولذلك قال ( عبّدت نفسي للجميع ) مـن غير استثناء ( لأربـح الكثيرين ) إن لم يتسنّ لي ان أربح الجميع لأنه وكل إليّ أن أبشر. ثم أخذ يعدّد أنواع العبودية التي فرضها على نفسه فقال (20) (فصرت لليهود كيهودي لأربح اليهود) أي متشبهاً باليهودي في حفظ رسوم الناموس، فقد ختن تيموتاوس من أجل اليهود عندما أراد أن ينطلق معه للبشارة كما جاء الأعمال (3:16) وقد حلق هو رأسه وهو في كنكرية لأنه كان عليه نـذر (أعمال 18:18) وقد تطهر مع اليهود وهو في أورشليم (أعمال 21 : 26) وقد صنع كل ذلك لا بحكم المراوغة بل بحكم الشفقة لأن الناموس وإن كان قد مات فلم يكن بعد مميتاً. ثم قال أيضاً وقد صرت (21) (للذين تحت الناموس ) والمراد بـه ناموس موسى ( كأني تحت الناموس مع أني لست تحت الناموس لأربح الذين هـم تحت الناموس ) قال قوم إنه يعيد الكلام السابق بصورة أخرى والأصح ما ذهب إليه القديس يوحنا فم الذهب وهو أن المراد بأولئك الذين تحت الناموس: أولئك الدخلاء وأولئك الذين كانوا قد اهتدوا إلى الإيمان ولكنهم ليسوا بحكم ضمير ضالّ متعلقين بالناموس القديم فلم يسمِّ جميع هؤلاء يهوداً في حد أنفسهم بل تحت ناموس اليهود. ولم يكتف بذلك بل واصل كلامه وقال وصرت (للذين بلا ناموس) وهم الأمم الذين لا يعرفون موسى (كأني بلا ناموس مـع أني لست بلا ناموس الله بل أنا تحت ناموس المسيح لأربح الذين بلا ناموس) أي ناموس موسى كأني فرد من جملتهم لا أعمل بالرسوم الموسوية بل بما يرسمه الناموس الطبيعي المكتوب في قلوبهم أجادلهم بما أراه مرسوماً على مذابحهم وأذكرهم بما قاله شعراؤهم كما جاء في الأعمال قوله: يا رجال أثينا … صادفت مذبحاً (عند معاينتي لمناسككم) مكتوباً عليه للإله المجهول فهذا الذي تعبدونه وأنتم تجهلونه أنا أبشركم به (أعمال 17 : 23 ) وقال أيضاً في الفصل نفسه وهو يحاجج أهل أثينا: إن الله غير بعيد من كل واحد منا فإنا به نحيا ونتحرك ونوجد كما قال بعض شعرائكم إنا نحن ذريته (28:17).
79- ولم يقف عند ذلك الربح بل قال (22) (وصرت للضعفاء ضعيفاً لأربح الضعفاء) بالعقل كان أو بالإرادة منعطفاً إليهم وقصاراي أني ( قد صرت كلا للكل لأخلص الكل ) فهذه رغبتي عندما أبذر بشارة الإنجيل رغبة الزارع في أن ينبت كـل البـذر الذي يبذره وإن لم ينبت كله. ثم قال ( 23 ) ( وأنا أصنع كل شيء لأجل الإنجيل لأكون شريكاً فيه) بحيث أظهر أني شاركت المبشرين به فأستحق أن آكل من ثمره وأن أنال الحياة الأبدية مع أولئك الذين يؤمنون به ويعملون على ما تتقاضاه رسومه. وقد جاء بكل ذلك لا بحكم المباهاة بل بحكم الشوق والرغبة في خلاص الجميع. فأكرم بها من رغبة. ولكن هل من الممكن خلاص الجميع ؟ فما المانع لو أراد الإنسان ذلك كأن لا يزيغ عن جادة الاستقامة فالنعمة كافية وهي تتناول الجميع من غير استثناء وما على الإنسان إلا أن يجاوبها. يارب يسوع: يا مخلصي ومخلص الجميع ارحمني فأعمل إرادتك!
80- بعد أن يبين لهم أن التعفف عن الأخذ مفيد وأخذهم على ما يفتخرون به من العلم الذي لا يشبع بدون المحبة عاد إلى ما كان قد أشار إليه من لزوم العمل مسترسلاً إليهم على سبيل السؤال الإنكاري فقال (24) (أما تعلمون أن الذين يسابقون في الميدان كلهم يسابقون ولكن واحداً ينال الجعالة) فلا يريد بقوله هذا أن واحداً فقط ينال الإكليل والمجازاة إنما الغرض من كلامه أن يحمل الجميع على المسابقة، ولذلك كلهم يسابقون ولكن لا يكفي الواحد أن يدهن بالزيت وأن يسابق إنما عليه أن يستمر في متابعة السباق إلى النهاية ولذلك قال (فتسابقوا أنتم حتى تنالوا) فالعلم الذي تزدهون به غير كاف ما لم تمسكوا أنفسكم عن كل شيء (25). (فإن كل من يجاهد) في السباق كما تعلمون (يمسك نفسه عن كل شيء) يوهي قواه كالسكر والزنى وعن كل ما من شأنه أن يضعفه ويلهيه عن الاحتمال في السباق. هذا يتحملونه ويتمرنون عليه لنيل إكليل فانٍ بخلاف ما تنالونه من الأكاليل الأبدية ولذلك قال (أما أولئك فلينالوا إكليلاً يفنى وأمـا نحن فإكليلاً لا يفنى ) ثم بعـد أن أخجلهم بمثل الآخرين جاء بمثل نفسه فقال (26) (فأسابق أنا لا على الارتياب) بل اطلب غرضاً وهو نصب عيني وإليه أسعى (وألاكم لا كمن يلاكم الجو) عبثاً من غير فائدة. بل فوق ها إني أباشر من الأفعال ما لابد منه لنيل الإكليل ولا أكتفي بما لي من العلم (27) (بل أقمع جسدي وأستعبده حذار أن أكون أنا نفسي مرذولاً بعد ما وعظت غيري) هذا ما يقوله القديس بولس الذي اصطفاه الله وقد قاسى حباً بالمسيح ما لم يقاسه سواه وهذا قوله وهذا خوفه فكيف تكون حالتي وأنا لا أكاد أهزّ في خلاصي ولا أخاف. فالإيمان وحده لا يكفي إن لم تقمع جسدك أيها المؤمن المسيحي بل إن لم تمسك نفسك عن كل شيء يجعلك تزيغ عن طريق الاستقامة وحمل الصليب واستبعاد الجسد. فرحماك يارب!
الفصل العاشر
يحذر الكورنثيين مما أصاب العبرانيين من الشرور والعقوبات لأجل عبادتهم الأوثان وارتكابهم الفحشاء.
81- ثم انتقل إلى إيراد أمثلة أخرى من شأنها أن تحملهم على العمل وإلا كانوا كمن يقرعون ويلاكمون الجو فأخذ يذكرهم بما أصاب آباءهم في العهد القديم إذ كان البعض منهم يجهلون ذلك لا سيما اليونانيون المهتدون حديثاً فقال ( 1 ) ( فإني لا أريد أن تجهلوا أيها الإخوة ) مشيراً إلى أنهم لم يكونوا على علم كاف في ما يريد أن يذكرهم به وما يكون ذلك (أن آباءنا كانوا تحت الغمام وكلهم جازوا في البحر (2) وكلهم اصطبغوا على يد موسى وفي الغمام في البحر (3) وكلهم أكلوا طعاماً روحياً واحداً (4) وكلهم شربوا شراباً روحياً واحداً فإنهم كانوا يشربون من الصخرة الروحية التي كانت تتبعهم والصخرة كانت المسيح (5) ولكن أكثرهم لم يرضَ الله عنهم فإنهم صُرعوا في البرية) كل ذلك تجده موضحاً في التكوين والرسول يتخذه مثالاً ويذكرهم به بيان أن ذلك كله كمـا أنه لم ينفعهم كذلك ما قبلتموه أنتم أيها المؤمنون من النعمة سواء أكان في سر المعمودية أم سر الإفخارستيا لا ينفعكم إن كنتم لا تحسنون سيرتكم وتجعلونها مطابقة لتلك الرموز ولذلك ذكر رموز الاصطباغ أي المعمودية والإفخارستيا تحت طيّ المن والشراب: فيراد بقوله (كلهم اصطبغوا على يد موسى) مشابهة مآلها أنه كما أننا بإيماننا بالمسيح وقيامته نصطبغ بماء المعمودية بحيث نصير شركاءه في الأسرار كذلك هم بثقتهم بموسى ساروا وراءه إذ شق البحر ولم يخشوا، وأراد بذكر الرموز الحقائق التي تدل عليها، فالاصطباغ رمز المعمودية وأما ما يلي فرمز المائدة المقدسة. فكما أننا نأكل جسد الرب، كذلك هم أكلوا المن. وكما أننا نشرب الدم الإلهي، كذلك هم شربوا الماء المتفجر من الصخرة الروحية. وكان الماء يجري وراءهم في الغدران يشربون منه ويسقون مواشيهم، وأما تلك الصخرة (فكانت المسيح) فإن الصخرة لا تجري من طبعها ماءً بل المسيح يستجريه من الصخور وذلك بحكم قوته الإلهية، ولكن هل استفاد اليهود من جميع ما أفيض عليهم من النعم؟ كلا!!
82- ولذلك قال (5) (ولكن أكثرهم لم يرض الله عنهم) وإن كان قد غمرهم بفضله فلم ينفعهم ذلك بل هلكوا جميعهم في البرية إلا يشوع ابن نون وكالب كما جاء في العدد (30:14) وقد صرع أكثرهم إذ خالفوا كقورح وداثان ومن رافقهما ( 32:16 ) وقد نال أكثرهم لا كلهم لئلا يفشلوا وقد نسوا الله فنسيهم وتركهم في غمرات الشقاء يعمهون. وقد ذكرهم بكل ذلك لا بما يقاسي المخالفون من شدة العذاب في جهنم لأن عذاب جهنم لا يرونه وهو مستقبل أما ذلك العذاب فقد اقتص من اليهود بعد أن غمرهم بفضله ولم يدعهم يرون أرض الميعاد التي كان قد وعدهم بها ولم يشفق؛ هذا وكأني بك تقول: هذا ما أصاب اليهود فما الذي يعنينا نحن؟ فقال (6) ( وهذه الأمور حدثت رمزاً لنا وذلك لئلا نشتهي الشرور كما اشتهى أولئك ) فيصيبنا ما أصابهم . ومن بعد أن ذكر الشرور إجمالاً أخذ يعدّدها وأولها عبادة الأوثان فقال (7) (فلا تكونوا عابدي أوثان كما كان قوم منهم كما كتب جلس الشعب يأكلون ويشربون ثم قاموا يلعبون) وذلك عندما سبكوا عجلاً من ذهب وسجدوا له وذبحوا له الذبائح كما جاء في سفر الخروج (6:32 وما يليه) وعاقبة الشرب اللعب وعبادة الأوثان والانغماس في حمأة الشهوات، فإن عملتم ذلك وإن لم تكونوا وثنيين فإنكم تشابهونهم في أعمالهم وتكونون عابدي أوثان. ثم نهاهم عن خطيئة أخرى غير الشره الذي يجر عبادة الوثن وهي الزنى فقال (8) (ولا تزن) فالزنى ثمرة الشره ورغد العيش، وهذا ما أنزل النار على صادوم وعامورة وهو يحبل ويلد كل نوع من الرذائل وذلك (كما زنى قوم منهم) وماذا حدث (فسقط منهم- في يوم واحد ثلاثة وعشرون ألفاً) مع الرؤساء الذين صلبهم موسى أمام الشمس لتنصرف شدة غضب الرب فإن الرسول لم يذكر إلا الذين أمر موسى القضاة أن يقتلوهم وكان عددهم ثلاثة وعشرين ألفاً.
83 – ثم نهاهم أخيراً عـن تجربة في طلب الآيات فقال ( 9 ) (ولا تجرب المسيح) بطلب العجائب والآيات ( كما جربه قوم منهم ) لأن المسيح وهو كلمة الله كان يرافقهم دائماً ( فأهلكتهم الحيات ) أي أن صنع موسى بأمر الرب حية ورفعها على سارية وكان كل لديغ ينظر إليها يحيا (عدد 8:21 وما يليه) ثم (ولا تتذمروا كما تذمر قوم فهلكوا على يد المهلك ) قالوا إن المهلك هو ملاك أباح له الله سبحانـه أن يتردّى رداء البشرية أنزله لما يأذن به الله من القصاص على أولئك الذين يخالفون أوامره ويعيثون في الأرض فساداً وهو الذي شق الأرض فابتلعت داثان وقورح وأبيدام كما جاء في سفر العدد (31:16) ويذهب قوم إلى أنه هو الملك ميخائيل الذي ينفذ على الأرض أوامر الله كما نفذها في السماء ثم استنتج وقال (11) (فهذه الأمور عرضت لهم رموزاً وكتبت لموعظتنا نحن الذين انتهت إلينا أواخر الدهور ) تلك الأمـور وما يعتورها من أنواع العذابات الزمنية إنما كانت رمـوزاً لتلك الأمور لما يحدث في العهد الجديد من القصص والأحوال وقد كتبت لكي نتعظ بها ونعرف أنها قد تمت في المسيح وهذا ما يسر الرب لقوله: لو كنتم تؤمنون بموسى لكنتم تؤمنون بي لأنه كتب عني (يوحنا 46:5) كما فسره القديس أغوسطينوس. وقد كتب ذلك لموعظتنا نحن الذين انتهت إلينا أواخر الدهور ، وتلك الدهور ستة أولها من آدم إلى نوح . ثانيها من نوح إلى إبراهيم؛ ثالثها من إبراهيم إلى داود الملك. رابعها من داود إلى جلاء بابل. خامسها من جلاء بابل إلى المسيح. سادسها من المسيح إلى منتهى العالم. هذا ما ذهب إليه المفسرون ولم نذكر عدد السنين في كل دهر لأنه مختلف فيه. وهذا ما يشاهد في عمر الإنسان: الطفولة والصبوة والشبيبة والحداثة والرجولة والشيخوخة.
89- فمن بعد أن ذكرهم بجميع ذلك رفع عقولهم حذرهم من السقوط لئلا يصيبهم ذلك العذاب الذي ليس له نهاية فقال (12) (فمن ظن أنه قائم) وهو يفتخر بعلمه وإيمانه (فليحذر أن يسقط) فلا أمان ولا سلام طالما نحن في الحياة الدنيا ولم نبلـغ الميناء؛ فليحـذر أن يسقط . هـذا ما يقوله الرسول لأهل كورنتس أما نحن فالأوفق أن يقال لنا: الذي أضجع لا يعود يقوم (مز 9:40) لأننا جميعاً سقطنا واضّجعنا ولذلك كان علينا أن نقوم قبل السبات ونحن قائمون. ولكن متى يستمر الإنسان مضجعاً ساقطاً ولا يقوم؟ طالما يستمر وسباته السكر والزنى والتجديف والاختلاس والبخل وإلقاء الفتن إلخ… ولكن أنفشل؟ ونعجز عن النهوض؟ حاشى. فالطبيب حاضر والبلاسم التي يضعها تشفي من كل جرح وإن كان كبيراً بشرط أن نشعر به وهوذا بعض البلاسم التي يضعها هذا الطبيب الإلهي: اغفر للناس زلاتهم (متى 14:16) افتد خطاياك بالصدقة (دانيال 24:4) صلِّ ولا تمل كما صلت تلك الأرملة فنالت ما تمنت . اعترف بخطاياك لكي تتبرر ( أشعياء 26:43 ) وقصارى القول انظر إلى خطاب الرب وهو على الجبل تلق كل ما ترغب فيه من الأدوية التي من شأنها أن تثبتك إن كنت قائماً وأن تنهضك إن كنت ساقطاً. فالتوبة في الحاضرة لا في الآجلة.
90- من بعد أن خوّفهم بما أورده من الأمثلة وألقى الكآبة في نفوسهم لقوله: فمن ظن أنه قائم فليحذر أن يسقط ومن ذلك كانوا قد تمرنوا على كثير من التجارب فحذراً من أن يقولوا: ما لك تخفونا وتلقي الرعبة في قلوبنا وقد احتملنا كثيراً من أنواع الضيق والشدة ولم نفشل ولم نسقط أراد أن يكسر من مثل هذا الاعتماد فعقب كلامه وقال: ( 13 ) ( إنه ما أصابكم من التجارب إلا ما هو بشريّ ) أي شيء قليل لا يعبأ بـه فلا تفتخروا فإنكم إلى الآن لم تقاوموا بعد حتى الدم في مجاهدتكم الخطيئة (عبر 4:12) ثم من بعد أن خوّفهم أخذ يستنهضهم شأن الحكيم الماهر الذي بعد أن يقطع يداوي فقال مستدركاً (لكن الله أمين لا يدعكم تجربون فوق طاقتكم) والأمر في يده وما علينا إلا أن نلتمس منه ما يمكنا من احتمال التجارب إذ بدون مساعدته لا نقدر علـى مجانبة التجارب فلا يدعكم تجرمون فوق طاقتكم (بل يجعل مع التجربة مخرجاً لتستطيعوا أن تحتملوا) وأنتم ثابتون في الإيمان لا تتزعزعون (14) (فلذلك يا أحبائي اهربوا من عبادة الأوثان) وكانوا يخالطون الوثنيين في الموائد المقامة احتفالاً بأعياد الآلهة. فاهربوا من تلك العبادة لا خوفاً من إلقاء الشكوك فقط بل من أجل محاشاة الوثنية في حد نفسها.
91- ثم بعد أن بين لهم تلك الأسباب وشدد عليهم النكير في الهرب من المشاركة في مائدة الأصنام أخذ مأخذ مدّع متيقن من دعواه يستفتي خصمه نفسه في صحتها فعرض عليهم مائدة أخرى ستنزل عليهم من السماء نفسها فقال (15) (أقول كما يقال للحكماء فاحكموا أنتم فيما أقول) فثقتي بما أنتم عليه مـن الإنصاف كبيرة وإنما فيما ألقيه عليكم لا أقضي بل أستشيركم منتظراً حكمكم فيه ولا أستعين بقضاة آخرين فأنتم أنتم القضاة في ما أقول وهو (16) (كأس البركة التي نباركها أليست هي شركة دم المسيح) فكيف بعد أن تعرفوا أن الله قدم نفسه لكم مائدة تتراكضون إلى مائدة الأصنام أي الشياطين، فإن الخمر التي نباركها هي دم المسيح نفسه الذي أنقذكم من عبادة الأوثان ونحن جميعـاً مشتركون فيها وذلك بعد أن نباركها فما تذكرون؟ أفما تخجلون؟! هذا (والخبز الذي نكسره أليس هو شركة جسد المسيح) وليس هو شركة فقط بل أعظم من ذلك لأن تلك الشركة تجعلنا جميعاً واحداً ولذلك قال (17) (فإنا نحن الكثيرين) المنتشرين في كل مكان (خبز واحد جسد واحد لأننا جميعاً نشترك في الخبز الواحد) فإنه لمن شأن قوة هذا الطعام لا أن يتحول إلى الجسد الذي بداخله بل أن يحوّل جسد آكليه إليه بحيث يصير الكثيرون واحداً وإنما مفعول هذا الغذاء المحبة التي إنما رسم لأجل إثارتها ولأجل جعل الجميع واحداً في يسوع المسيح، هذا وقد رسمه تحت شكلي الخبز والخمر لأن الخبز يتألف من حبوب كثيرة فيصير واحداً وكذلك الخمر يتألف من حبات كثيرة. ومن العجيب كيف أن البروتستان يقرأون هذه الآية الصريحة وينكرون حقيقة سر الإفخارستيا؛ وهو يصرح بقوله: الذي نباركه والذي نكسره. إن هذا العمل لخاص بالكهنة ليس غير ولذلك لم يقل: الذي تباركونه ولا الذي تكسرونه. ولماذا قال: الذي نكسره أليس لكي يوزعوا على الآخرين لأجل الاشتراك فيه. فانتبهوا أيها المسيحيون عندما تدنون إلى هذه المائدة الإلهية وطهروا نفوسكم!
92- ولما كانوا ما يزالون ضعفاء ولا يدركون شأن ما يقوله لهم عاد يقويهم بمثل الأولين فقال (18) (انظروا إسرائيل الجسدي أليس الذين يأكلون الذبائح هم شركاء المذبح) فقال: الجسدي- تمييزاً له عن إسرائيل الروحي وهم المسيحيون، وقال هم شركاء المذبح لا شركاء الرب ولا جسد المسيح. وكان اليهود في عصره يقدمون الذبائح في هكيل أورشليم وكانوا يحرقون جزءاً من الذبيحة على المذبح والجزء الآخر يتناوله الكهنة والمقدمون الذبيحة ولذلك قال: هم شركاء المذبح وعليه فإن أكلتم من ذبائح الأصنام تكونوا شركاء مذابحهم في أكل الذبائح المقدمة للشياطين. ولما قال المذبح استدرك ألا يخيل إليهم أنه يتكلم عن ذبائح الأوثان أو أن للوثن قوة وأنه يمكنه أن يجر ضرراً فقال: (19) (فماذا أقول أإن ذبيحة الوثن شيء) لها قوة أن تجر ضرراً. حاشى (أو أن الوثن شيء) يتخلله روح يمكنه أن يضر. حاشى. وكان العلماء من الوثنيين يعتذرون بأن الوثن وإن لم يكن شيئاً فيه روح عامل حالّ في التمثال الـذي يمثله . كما رواه أغوسطينوس. ثم زاد على ذلك إبعاداً لهم عن مشاركة الوثنيين فقال (20) (بل عن الذي تذبحه الأمم إنما تذبحه للشياطين لا الله) وعليه (فلا أريد أن تكونوا شركاء الشياطين) فإذا خالطتموهم في موائدهم كنتم لا محالة شركاءهم إذ (أنكم لا تستطيعون أن تشربوا كأس الرب وكأس الشياطين) وقد كان في العادة في بدء الكنيسة أن يشترك الذين يتناولون في شرب الكأس، كما كانت عادة الوثنيين، غير أن الكنيسة قد غيرت تلك العادة لأسباب صوابية قضت بذلك إذ قد يصادف أن الـذي يمصّ الكأس يكون مريضاً فيعدي الآخرين ، فضلاً عـن ذلك فإن الجسد الذي نتناوله حيّ هو والحي لا يكون بدون دم.
93- بعد أن بين بحكم المقابلة بين مائدة المسيح وبين الشياطين موعزاً أن مائدة المذبح إنما هي حقيقة على شكل مائدة الشياطين التفت وزادهم خجلاً وقال ( 22 ) ( أنغير الرب ) بأن نجربه هل يقدر أن يقتص منا أم نثيره على الأعداء الذين يناصبونه العداء (ألعلنا أقوى منه) يذكرهم بما كان يرتكبه اليهود من التمرد على موسى ذاكراً ألفاظه لقوله على لسان الرب: هم أغاروني بمن ليس إلهاً وأغضبوني بأباطيلهم (تثنيه 21:32) ، ألعلهم هم أقوى مني ، فيا لله ما أمرّ وما أشدّ هذا التوبيخ! ولم يقل لهم ذلك منذ البدء لئلا يغشهم فلا تقطع الضربة فيهم ثم استدرك اعتراضاً قد يمكن لهم أن يتصوروه بأن الأكل من ذبائح الأوثان مباح فلماذا تنهانا عنه فقال (كل شيء يجوز لي) إن لم ينه عنه الناموس الطبيعي والوضعي ( ولكن ليس كل شيء ينفع ) في الحياة الروحية (23) ( كل شيء يجوز لي ولكن ليس كل شيء يبني ) الفضيلة في قلوب الآخريـن إذ علينا أن (24) (لا يطلب أحد ما هو لنفسه بل ما هو لغيره) بحيث يضرب عن الآخرين ولا يلتفت إليهم كما كان يصنع أولئك الذين يجلسون إلى موائد الأوثان ولا يلتفتون إلى أولئك الذين يعثرونهم ولا إلى ما كان يصنعه المسيح نفسه الذي لم يرض نفسه وكثيراً ما أثبت لهم أنه إنما يصنع ما شأنه أن يفيد الآخرين لا نفسه وهذا ما يتقاضاه الحب المسيحي الذي لا ينظر إلا إلى مجد الله وخلاص القريب.
94- من بعد أن نهاهم ذلك النهي القاطع عن مشاركة الوثنيين في موائد آلهتهم خاف أن يداخلهم بعض الوساوس فيخطأون حيث ليس خطيئة فقال (25) (كل ما يباع في سوق اللحم كلوه غير باحثين عن شيء) إذ كانوا يبيعون في سوق اللحم ما يفضل عن أكلهم أو يوفرونه فلا تبحثوا عنه وذلك (من جهة الضمير) أي ضمير أخيك الذي يراك تأكل فيشكك أو بالأحرى ضمير من يراك من اليهود أو الوثنيين فيشكك في ما يعتقد به منزلاً إياه منـزلة حكايات وخرافات وكأنه يقول : وأنا لا أنهاكم عن ذلك من جهة أن الوثن أو مائدته شيء مضر في حد نفسه (26) ( فإن للرب الأرض ) التي خلقها ( وملأها ) مما تأتي من الإثمار ، ولذلك (27) (إن دعاكم أحد من الكفرة) إلى وليمة خصوصية (وأحببتم أن تنطلقوا معه فكلوا من كل ما يقدم لكم غير باحثين عن شيء من أجل الضمير ) فإن المسيح قد أكل مع العشارين والخطأة وهذا أبيحه لكم ولا آمركم به ولكن (28) ( إن قال لكم أحد هذه ذبيحة أوثان فلا تأكلوا ) فلماذا ؟ ( لأجل الذي أعلمكم ) لئلا يعدّ اعتقادكم خرافة ( ولأجل الضمير ( 29 ) ولست أعني ضميرك ) أنـت الـذي تعرف أن ذلك شيئاً بل ضمير الوثني أو ذلك الضعيف الـذي يراك ، ولذلك قال (بل ضمير غيرك) ثم ستدرك اعتراضاً وقال:
95- (فلماذا تدان حريتي من ضمير غيري) ولقائل هذا القول: أنت تشفق على الإخوة الضعفاء وتنهانا عـن أن نأكل على موائد الأوثان لئلا نشككهم فتمنعنا عن الأكل منها. حسن ولكن ماذا إليك إذا كان المشكك وثنياً ألست أنت القائل : ماذا يعنيني أن أديـن الذين في الخارج ( 1كور 12:5 ) فلماذا تعود تنعطف إليه وتعتني بـه مثل هذا الاعتناء؟ ولكنه يقول ليس اعتنائي به بل بك أيها المؤمن ولذلك قال ( لماذا تدان حريتي من ضميري ) فإن الله قد جعلني حراً فـوق كـل علم لكن الوثني لا يعرف ذلك ولا يرى كيف أنقله من فضل الرب ولكنه إذا رآني أشاركه في موائد أصنامه الشياطين يخيل إليه أني مراء في اعتقادي فيلزمني أن أكف عن مشاركته دفاعاً عن صحة اعتقادي ولذلك (30) (إن كنت أتناول بشكر فلماذا يفترى عليّ فيما أنا شاكر عليه) ولذلك فإن شكري يبرر نفسي والأكل لا يبخسها كما أن الأقذار لا تنجس أشعة الشمس . وإنما أنهاك عن ذلك لأن حريتك تدان بل رفقاً بخلاص الآخرين وجذبهم إلى الإيمان وعليه (31) (فإذا أكلتم أو شربتم أو عملتم شيئاً ) يليق أن تعملوه فاعملوا كل شيء لمجد الله) فأكرم بها من وصية . ثم ختم كلامه يوصيهم أن يتحاشوا كل معثرة فقال ( 32 ) ( كونـوا بلا معثرة لليهود وللوثنيين ولكنيسة الله) فالأخ يعثر بمثلكم واليهودي يزيدكم بغضاً وكيداً والوثني يحسبك جشعاً ومرائياً فتحاشوا كل ذلك وإذا أردتم مثلا تقتدون به فهوذا أنا نفسي فقال (33) (كما أنا أيضاً) وإن كنت رسولاً ممتازاً (أرضي الجميع في كل شيء) يجوز لي وليس شراً (غير طالب ما يوافقني) فكم قد جعت وكم قاسيت من الأهوال حباً بخلاص الآخرين لأني لا أطلب ما يوافقني (بل ما يوافق الكثيرين لكي يخلصوا) فاقتدوا بي كما أقتدي بالمسيح).
96- هذه هي القاعدة الشريفة التي ينبغي أن يتمشى عليها الإنسان المسيحي، هذا تعريفها وذروة مجدها بل خلاصة مجد الله الاعتناء بخلاص القريب وجر النفع إليه وأية حاجة لإنسان بعمر يعيش فيه رغداً وجاره بل خليطه في الإنسانية بقربه غير منتفع به فإن لم تفد ولم تنفع فلست شيئاً وإن صمت ونمت على الحضيض. ومن يسع في نفع غيره ينجح والرب يؤتيه خيراً، والأمثلة أكثر من أن تعدّ ليس في الكتب المقدسة فقط كإبراهيم وموسى وطوبيا البار وداود وبولس وآخرين لأن أشرف العواطف البشرية مساعدة الآخرين ونفعهم ولا بأس مـن ذكر ما جاء في شعر عنتره قوله:
ولا أكون كمن يسعى بهمته ومنتهى سعيه للرى والشبع
لا حاجة لي بعمر قد أعيش به رغداً وجاري بقربي غير منتفع
فلا رعى الله أرضاً لا أكون بها غوثاً لذي أمل غيثاً لمنتجع
أما القديس بولس فقد فاق الجميع بما كان يبذله من العناية في نفع الآخرين وخلاصهم أي أنه لم يحجم أن يدعو الآخرين إلى الاقتداء به كما يقتدي هو بالمسيح.
الفصل الحادي عشر

امتناع النساء عن كشف رؤوسهن في الصلوات الحافلة. يوبخ على الانشقاق وعدم الاحترام في الاجتماعات. بيان لغاية عشاء الرب وكيفية الاستعداد له.
97- تبصرة. لما ختم كلامه عن مشاركة الوثنيين وأنجزه كما يليق مستوفياً بيان كل ظروفه انتقل إلى شيء آخر هو ذنب ولكنه غير جسيم وهذه عادته التي يجري عليها في رسائله فتراه تارة يشجّ وأخرى يبرئ ويوحش ويؤنس بين الرضاء والسخط والإقدام والإحجام لئلا يكون كلامه ثقيلاً على سامعيه، فإذا كان الذنب ثابتاً واضحاً وبخ عليه بفظاظة وإن كان مرتاباً فيه فيثبته أولاً ثم يوبخ عليه . ومتى تبين ما في الذنب من الفظاعة لا يكتفي أن ينهي عنه بل يستحث على اعتناق الضد فلم يرض أن ينهاهم عن الزنى بل أوجب القداسة ولذلك قال: مجدوا الله واحملوه في أجسادكم ( 1كور 20:6 ) ولم يكتف بأن ينهى عن الافتخار بالحكمة الخارجة بل يوعز إلى أن يكون جاهلاً ولم ينه عن أن نكون معثرة للإخوة فقط بل لليهود أيضاً والوثنيين، فلما تكلم عن كل ذلك انتقل إلى أمر آخر. وما يكون ذلك الآمر؟ فقد كان من العادة إذ ذاك أن تتنبأ النساء وهن مكشوفات الرأس والرجال كانوا يصلون ويتنبأون وهم مغطو الرأس. سنة قد تمشى عليها اليونانيون، فلما كان بينهم وقد نبههم على ذلك ومنعهم فمنهم من انقاد لنهيه ومنهم من كابر ولم يطع ولذلك جاء في رسالته هذه يصلحهم مثل طبيب حكيم، ولما تكلم عن باقي المساقط ولم يذكر ذلك قال بعد أن حرضهم على الاقتداء به (2) (وإني أمدحكم أيها الإخوة) ولماذا؟ (لأنكم تذكروني في كل شيء وتحافظون على التقاليد التي سلمتها إليكم) قال القديس توما إنه قال لهم ذلك على سبيل التهكم. وقال القديس يوحنا على سبيل الحقيقة وهو الأصح غير أن جميعهم لم يحافظوا على وصاياه كما سلمها إليهم فالذين حافظوا وذكروه يمدحهم والذين لم يحافظوا وبخهم في ما بعد لقوله : فإن رأى أحـد أن يماري ( 16:11 ) فليس لنا عادة مثل هذه.
98- قال “أمدحكم لأنكم تذكروني في كل شيء”. فما يكون ذلك؟ شيء؛ فإنه لا يتكلم هنا في رسالته إلا عن تربية الشعر وحلقه فلابد من أن يكون قد سلمهم أشياء كثيرة مشافهة وهم يتذكرونها غير أن البعض منهم على ما يؤخذ من كلامه لم يحافظوا على ما تسلموه كما سلم إليهم لأنه لم يعلله ولم يقل: لأن منكم من يطيع ويسترسل لقولي ومنكم من لم يطع بل أشار إلى ذلك إشارة خفية بقوله التالي (3) (وأريد أن تعلموا) السبب الذي حملني أن أوصيكم بما سلمته إليكـم هو ( أن رأس كل رجل هو المسيح ورأس المرأة هو الرجل ورأس المسيح هو الله) فمن كان عالماً فيكفيه النصّ فيتمثل ويتصيد السبب وأما من كـان جاهلاً فمتى وقف على السبب الذي أوجب الوصية يمتثل لها ويتممها بنشاط ورغبة، ولذلك لم يذكر السبب إلا بعد أن علم خرق حرمة الوصية والسبب هو أن رأس كل رجل هو المسيح. هل هو رأس الكفرة الغير المؤمنين؟ حاشى. لأنهم ليسوا من أعضائه ولا اصطبغوا بصبغته. واعلم أن كلامه هنا على سبيل الاستعارة بحكم التدبير والسياسة على أن الرأس في الجسم الحيواني تجتمع فيه جميع الحواس التي تتوقف عليها سياسة الهيكل الحيواني والمسيح هو الرأس بحكم اتحاده الأقنومي بالطبيعة البشرية وبحكم افتدائه للبشر. وأما رأس المرأة على الخصوص فهو الرجل، وذلك بحكم ترتيب الطبيعة وبنيتها وقوة المرء التي هي أكمل في الرجل منها في المرأة. وأما الله فهو رأس المسيح من حيث هو إنسان.
99- ثم أخذ يوصيهم كيف ينبغي أن يمتثلوا في وقت الصلاة العمومية لا الخصوصية فقال (4) (فكل رجل يصلي أو يتنبأ ورأسه مغطى فإنه يشين رأسه) فإنه يدل بذلك على أن رأسه رأس عبد لأن غطاء الرأس كان يدل على التذلل والخضوع وهذا لا يليق بالرجل بـل بالمرأة إذ لا يعرف الرجل على الأرض رأساً إلا المسيح وإلا الله في السماء. وكان من عادة الرومانيين أن يتمشوا ورؤوسهم مكشوفة إلا في الأعياد الكبيرة كذلك اليونانيون بخلاف النساء ولذلك تماثيل الرجال مكشوفة الرأس بخلاف تماثيل النساء. هذا (5) ( وكل امرأة تصلي ) في الكنيسة ( أو تتنبأ ) بذكر آية من الكتاب أو بإبداء إلهام (ورأسها مكشوف فإنها تشين رأسها) إذ من العار أن ترفع الغطاء وقت أن تصلي أو تتنبأ وتقبل إلى ذلك وهي مكشوفة الرأس كأنها تتمرد ولا تتذلل على خلاف ما هي معدّة له (لأنها إنما تكون والحالة هذه كما لو حلق رأسها) يلحقها من العار ما يلحقها لو كان رأسها محلوقاً، وسببه (6) (لأن المرأة إن لم تتعظ فليُقص شعرها، وإن كان عيباً على المرأة أن يقصّ شعرها أو يحلق فلتتعظ) على ما نتقاضاه الحشمة والعقل. قال ترتوليانوس: إن البتول بينما ترمقها العيون تكون في خطر، ولذلك يلزمها أن تتردّى غطاء يكـون لها بمنـزلة خوذة بحيث لا تسرح نظرها ولا تكون هدفاً لسهم ألحاظ الآخرين. وما يقوله الرسول هنا لا يتجاوز حد المشورة، أما إذا وقعت الشكوك في كشف الرأس فأمر وخطأ. ولا تحسد الرجل (7) (فإن الرجل لا ينبغي له أن يغطي رأسه) وهو يصلي أو يتنبأ في الكنيسة (إذ هو صورة الله ومجده) لا من حيث إنه ذو عقل وإرادة فإن المرأة مشتركة معه في ذلك بل من جهة كونه أمير العالم وقد أخضع الله له كل شيء حتى المرأة أيضاً ولذلك كان صورة الله على أخص وجه وكأنه إله ثنويّ وهو مجد الله لأنه صورته على الخصوص.
100- ثم قال (أما المرأة فهي مجد الرجل) على أنها هي المادة التي يتجسد بها الرجل لأنه مبدأ وغاية عمل كلي الشرف (8) (لأن الرجل ليس من المرأة) بل خلقه الله رأساً (بل المرأة من الرجل) إذ استلها الله ضلعاً من أضلاع الرجل (تكو 22:2) وزد على ذلك (9) (ولم يخلق الرجل لأجل المرأة بل المرأة لأجل الرجل) ومنزلتها منزلة علّة غائية تعاونه على إيلاد البنين وتربيتهم وإطفاء الشهوة، ولذلك قد لزم أن يخلق قبل المرأة بحكم أولية المبدأ على الفرع المعاون له. (10) (لذلك ينبغي للمرأة أن يكون لها سلطان على رأسها بأن تغطيه دلالة على تسلط الرجل عليها. فإن لم يكن ذلك إكراماً لرجلها فمن أجل الملائكة) الذين يرفعون الصلوات إلى الله سبحانه. وقال قوم إنه يراد بالملائكة الكهنة على أن ملاخي النبي يسمى الكاهن ملاكاً لقوله: لأن شفتي الكاهن تحفظان العلم ومن فيه يطلبون الشريعة إذ هو ملاك رب الجنود ( 7:2 ) ولذلك ينبغي أن تتغطى المرأة لئلا تكون للكاهن الذي يباشر الأسرار معثرة. قال ترتوليانوس: مزاج الرجل أشد ميلاً ودواء عفافه أشد وأتعب. ولكنه لما رفع مقام الرجل وقال إن المرأة من الرجل ومن أجل الرجل وتحت سلطانه فلئلا تفشل أو تزيد إنكساراً قال (11) (ألا إنه ليس الرجل من دون المرأة ولا المرأة بدون الرجل في الرب) فإن الله هو الذي بقدرته يحيي الزرع وينميه وهو الذي يفعل بتوسط العلل الثنوية وذلك (12) (لأنه كما أن المرأة هي من الرجل كذلك الرجل أيضاً هو بالمرأة والجميع من الله.
101- ثم بعد أن بين لهم ذلك استرسل إليهم وأقامهم قضاة على أنفسهم اعتماداً على صحة دعواه وإخجالاً لهم فقال (13) (احكموا فيما بينكم) ما يأتي وهو (أيليق بالمرأة أن تصلي إلى الله وهي مكشوفة الرأس) بدون أن تغطي شعرها ( 14 ) ( وأما تعلمكم الطبيعة نفسها ) بما لكم من الميل الطبيعي (أن الرجل إذا كان يربي شعر رأسه فهو عار له) إلا إذا كان نذيراً. لا سيما متى سرّحه وحففه على رأسه وحول عنقه وكتفيه إذ يشتم منه رائحة التخنث. يروى عن الفيلسوف ديوجينوس أنه رأى شاباً مسترسلاً شعره على جبينه فحياه ذلك الشاب فلم يجبه فغضب الشاب وقال: لم لا ترد السلام فأجابه : أرد السلام متى عرفت أفتى أنت أم فتاة! وتلك العادة كانت جارية بين الأمم الراقية مثل الرومان واليونان، أما البرابرة فكانوا يربون شعورهم ويرسلونها. (15) ( أما المرأة إذا كانت تربي شعر رأسها فهو مجد لها لأن الشعر وهب لها برقعاً) وذلك بحكم الطبيعة فإذا أضافت إليه برقعاً آخر كان ذلك عن إرادة وكان فضلها أعظم. وتلك عادة كانت جارية في زمانه وعليه فمن يناقضها يكون مكابراً محباً للخصام والمماراة على خلاف ما يتقاضاه الصواب بل على خلاف ما هو جار في الكنيسة كلها ولذلك قال (16) (فإن رأى أحد أن يماري) فيما قلته (فليس لنا عادة مثل هذه ولا لكنائس الله) وهذا شأن ذوي المشاغبة فإنك تراهم يذهبون ويعودون ويكابرون جاز لهم ذلك أو لم يجز حتى يؤيدوا رأيهم وإن كان وخيماً فاسداً. وهذا ما كان جارياُ بين أهل كورنتس. إن غطاء الرأس أمر مباح فسواء على المـرأة أغطت رأسهـا أم لم تغطه وكذلك الرجل فقال لهم: هذه عادتنا ولسنا ممن يحب المماحكة والمماراة وأنا آمركم به بأن لا تنحرفوا عن العادة الجارية في كل الكنيسة. ونحن والحق يقال إننا نقضي العجب ممن يقرأون كلام الرسول وهم مع ذلك يكابرون وينكرون على الكنيسة تمسكها بالعادات والتقاليد الكنسية. فما أشد وطأة التحزّب وحب المشاغبة!
102- ثم انتقل يوبخهم على ذنب آخر فقال (وهذا ما أنا مزمع أن أقوله (آمر من غير أن أمدح) كما مدحتكم من قبل لأنه أمر جليل (لأنكم تجتمعون لا لفائدتكم بل لخسارتكم) كلام شديد الوطأة فلابد من بيان السبب قبل أن نأخذ في بيانه فيسهل الوقوف على ما نأتي به؛ فما يكون السبب؟ قال القديس يوحنا فم الذهب ما ملخصه: قد كان في عهد الرسول عندما كتب هذه الرسالة أن يجتمع المؤمنون إلى مائدة عمومية اقتداء بما كان يصنعه أولئك الثلاثة الآلاف الذين آمنوا وقبلوا كلام بطرس واعتمدوا كما جاء في الأعمال (41:2 وما يليه) وكان كل شيء مشتركاً بينهم غير أن تلك الحمية كانت قد فترت وبقى منها شيء سرى إلى الخلف ولكن لما كان يصادف أن يوجد بينهم البعض أغنياء والبعض فقراء لم يكونوا يجعلون كل شيء مشتركاً بينهم، بل كانوا يهيئون تلك الموائد في أيام معينة ومن بعد كسر الخبز والشركة في الأسرار يجتمعون على مائدة واحدة والأغنياء يوزعون على الفقراء ما يحتاجون إليه غير أن تلك العادة قد بطلت وسبب ذلك انقسامهم فإن منهم من كان يقول: أنا لهذا وأن لذلك كما أشار إليه في أول هذه الرسالة: ولما كان إبطال تلك العادة الحميدة مخلاً بالمحبة والإخاء قام موبخاً إياهم أشد التوبيخ وقال : وهذا آمر به من غير أن أمدح، كما مدحتكم من قبل لأن الأمر جليل وفساده وراءه الهلاك، ولذلك قلت: لا أمدح؛ لأني لست راضياً عما تعملون لأنه لا يعود إلا فائدتكم بل إلى خسارتكم فقد تراخت علامة المحبة بينكم وما يكون ذلك؟ (18) (فأولاً فإنه قد بلغني) إذ قد أخبرني أهل كلوة (أنها تحدث بينكم شقاقات) لا أن يكتفي الواحد أن يقول : أنا لبولس أو أنا لكيفا بل أعظم من ذلك وهو أن تلك إنما تحدث (عند اجتماعكم في الكنيسة) وهو أعظم محل ينبغي أن يظهر فيه حب بعضكم لبعض. هذا ما بلغني (وأنا أصدق بعضاً من ذلك).
103- فانظر إلى حكمته وحسن التفاته فقال: وأنا أصدق بعضاً من ذلك: لئلا يقول أولئك الذين يوبخهم لقد كذب أولئك الذين بلغوك ذلك، ولم يقل أصدق كل ما بلغني لئلا يستحوا، ولا إنه لا يصدق شيئاً لئلا يقال له: وما الداعي إلى هذا التوبيخ؟ بل أصدق بعضاً مما بلغني، فمثل هذا القول يقلقهم ويدعوهم إلى النظر في الإصلاح فقال: أصدق بعضاً، وذلك (19) (إذ لابد من البدع فيما بينكم ليظهر فيكم المزكّون) فالمراد بالبدع هنا الشقاقات لا الهرطقة في حد نفسها التي تقطع حبل الإيمان، وإلى تلك الشقاقات يشير الرب بقوله: لابد أن تقع الشكوك (متى 7:18) واعلم أن قوله: لابد من البدع؛ لا يهدّ أركان حرية الاختيار ولا يجر ضرورة في أمر الحياة ولكنه ينبئ عما سوف يحدث بحكم الإرادة التي تسئ العمل وذلك لابد من حدوثه لا من حيث ما ينبئ عنه بل من حيث إن الإرادة السيئة الخلق لا ترتدع من غيها فتنبأ وأخبر عنها ولو كان ذلك من باب الضرورة كما قال الرب: ولكن الويل لذلك الإنسان الذي تقع الشكوك عن يده (متى 7:18) وفي ذلك كلام ليس محل استيفائه هنا لأن كلامه هنا يدور على تلك الخصومات التي تقع بينهم عند اجتماعهم على الموائد ثم أخذ بتفصيلها فقال (20) (فإنكم عندما تجتمعون ليس ذلك أكل عشاء الرب ) الذي تجتمعون لا للاحتفال بذكره بل لأكله فإن عشاء السيد المسيح الذي تمثلونه حقيقة كان مشتركاً فيه بين الجميع، والسيد المسيح لم يستثن أحداً من الرسل حتى يوداس نفسه بخلاف ما تصنعون (21) (وكل واحد يبادر إلى أكل عشاء نفسه) الذي جاء به من بينه (فيجوع الواحد) وهو الفقير الذي لم يأت بشيء من بيته أملاً أنه يأكل ما يتكرم به ويفضل عن الأغنياء (ويسكر الآخر) وهو الغنى اقتداء بالوثنيين الذين كانوا يستبيحون السكر على موائد آلهتهم.
104- ثم يوبخهم بلطف فقال ( 22 ) (أفليس لكم بيوت تأكلون
فيها وتشربون) وذلك إذا أردتم أن تتحاشوا الفقراء، أوليس الأولى أن تتجنبوا العثار (أم تزدرون كنيسة الله وتخزون الذين لا شيء لهم) فكم يركم عليهم من الذنوب: الجشع والسكر واحتقار الفقير وجوعه وازدراء كنيسة الله وخزي الفقراء. فمن بعد أن ذكرهم بذلك خزياً لهم استرسل إليهم وقال ( ماذا أقول لكم ، أأمدحكم ؟ أني لست في هذا أمدحكم ) وإن كنت قد مدحتكم في أمور أخرى فاعلموا ذلك. ثم أراد أن يزيدهم خجلاً فأخذ يذكرهم بأهم شيء يبدونه في ذلك العشاء، وأخذ يصف لهم ما تسلمه لا من الرسل ولا من الصفا نفسه بل من الرب ذاته، ولذلك، لا أمدحكم لأنكم لا تحسنون العمل وكأنكم تنسون ما هديتكم إليه ووعظتكم به، والآن أعيده مكرراً (23) ( لأني تسلمت من الرب ما سلمته إليكم ) مشافهة إذ لبثت عندكم سنة وستة أشهر وهوذا أكتبه إليكم، وكان الرب قد سمح بذلك الخلاف الذي وقع بينهم حتى يكتب القديس بولس أيضاً ويشرح رسم سر الإفخارستيا المذهل للعقول مثبتاً ما كتبه الإنجيليون وهم متى (26:26 وما يليه ) ومرقس ( 22:14 ومـا يليه ) ولوقا ( 17:22 وما يليه ) ويوحنا ( 47:6 إلى آخره ) ولـو لم يتخاصم أهل كورنتس لما كان كتب ذلك بل كان لبث اعتقادهم كما تسلموه بحكم التقليد منه.
105- فما الذي تسلمه من الرب قال (إن الرب يسوع في الليلة التي أسلم فيها أخذ خبزاً) نراه يذكر الزمان والليلة والخيانة. ولماذا يذكر الزمان وتلك الليلة التي أسلم فيها؟ فقد ذكرها لكي ترفع عقلك أيها الكورنتي وتتمثل تلك الليلة التي أسلم فيها وما قاسى ربك ومخلصك وإلهك من الإهانة والعذابات وكيف حكم عليه بالموت مصلوباً ولم يبخل بأن يعطي جسده مأكلاً حتى ليوداس الذي خانه وباعه وأنت تبخل على أخيك بقليل من الطعام! مع أن الذي سلمته إليكم قد تسلمته لا من الرسل بل من الرب نفسه بطريق الوحي كما أوضح ذلك في رسالته إلى أهل غلاطية لقوله: لم أتسلمه أي الإنجيل الذي أبشر به من إنسان بل بوحي يسوع المسيح (12:1) فليس لذاك العشاء ما ليس لهذا العشاء الذي تجتمعون إليه لأن الذي يصنع الآن كل شيء ويسلمه هو ذاك الذي صنعـه في ذلك العهد أي المسيح نفسه وهو يذكر ذلك الكلام نفسه الذي قاله الرب نفسه بحكم وصية أتى بها في ساعة موته لكي يكون ذكراً دائماً بين أبنائه إلى منتهى الدهر وهو له المجد يفعل فيها نفس ما فعله في ذلك العشاء السماوي وهذا كلامه الأخير الذي لم يزد عليه ثم أخبر عما قاله وهو:
106- (أخذ خبزاً) مفصحاً عما رسمه المسيح (3) (وشكر وقال خذوا كلوا هذا هو جسدي الذي يكسر لأجلكم) فقد شكر الله الآب على تمكينه إياه من رسم هذا السر العجيب بأن يعطي جسده مأكلاً شكراً قد تذرّع به كما كان قد أبداه في إقامة أليعازر (يوحنا 4:11) وفي تكثيره الخبز والسمك كما رواه متى (19:14) وقد أبدى ذلك حملاً لنا على أن نشكر الله في كل عمل نبديه . غيـر أن الرسـول هنا لا يذكر كلمة : وبارك ، التي يذكرها الإنجيليون وكما نذكرها في التقديس لأن الشكر يسبق البركة التي أعدت الخبز وتحوله إلى الجوهر الإلهي ولذلك قد أجمع علماء الكنيسة على أن السيد المسيح قد قال في إحالته الخبز إلى جوهره هذا الكلام نفسه الذي رسم على تلاميذه أن يقولوه في مباشرة هذا السر الإلهي ذلك الكلام نفسه وهو (هذا هو جسدي) فلم يقل: هاهنا هو جسدي أو أن هذا الخبز يتضمن جسدي كما يدعي أنصار لوثر بل هذا الذي أكسره على عددكم أنتم رسلي وأناولكم لتحفظوه من غير أن تأكلوه بل لكي تأكلوه هذا هو جسدي (فهذا هو جسدي الذي يكسر لأجلكم) قوتاً روحانياً شأنه مغفرة الخطايا. ثم بين لهم السيد أنه لا يقتصر على رسمه لهذا السر في الوقت فقط بل يريد أن يصنعوا ذلك دائماً إلى منتهى الدهر بحكم تفويضه إياهم ذلك السلطان نفسه في ‘حالة الخبز إلى جوهر ولذلك قال (اصنعوا هذا لذكري) من خروجي من هذا العالم إلى الآب بإراقة دمي الذي افتديتكم به من سلطان الظلام كما افتدى ذلك الفصح إسرائيل من أسر الفراعنة.
107- ثم قال (25) ( وكذلك الكأس ) أخذها بيده كما كان قد أخذ الخبز وذلك (من بعد العشاء) وقد خلطها من المحتمل بقليل من الماء دلالة على اتحاد الشعب المسيحي بالمسيح بتوسط دمه ، فإن الماء يدل على الشعب كما جاء في الرؤيا: أما المياه التي رأيت حيث الزانية جالسة فهي شعوب وجموع وأمم وألسنة (15:17) وقد أخذها (قائلاً هذه الكأس) أي ما هو فيها (هي العهد الجديد بدمي) مستعملاً اللفظ الذي استعمله موسى بقوله : هوذا دم العهد ( خروج 8:24 ) فكما كان ذلك الدم حقيقياً كذلك هذا الدم أيضاً بدليل ما قاله لوقا في كلامه عن هذا السر: هذه هي الكأس العهد الجديد بدمي الذي يسفك من أجلكم (لوقا 20:22) على الصليب وكما يكون ذلك الدم حقيقياً كذلك هذا الدم الذي في الكأس (اصنعوا هذا) الذي أصنعه وآمركم به أنتم الذين اخترتكم وأنا أكون معكم إلى منتهى الدهر لأنكم تحيون في الأشخاص الذين يخلفونكم أنتم رسلي الذي اخترتكم واصنعوا ذلك (كلما شربتم لذكري ) لا في أي وقت كان بـل متى صنعتم ذلك لذكري كما سلمتكم إياه (26) (فإنكم كلما أكلتم هذا الخبز وشربتم هذه الكأس تخبرون بموت الرب إلى أن يأتي) في آخر الزمان لكي يدين الأحياء والأموات مشيراً بذلك إلى سلسلة اللاهوت إلى يوم الدينونة الأخيرة وعليه (27) (فأي إنسان أكل خبز الرب) أي ذلك الخبز الذي نقدمه (أو شرب كأسه وهو على خلاف الاستحقاق) ملطخاً بخطيئة مميتة أو نصف سكران (فهو مجرم إلى جسد الرب ودمه) لوجودهما حقيقة أمامه وضمن الكأس التي يشربها وقد زاد ذلك إيضاحاً فقال (29) (لأن من يأكل ويشرب وهو على خلاف الاستحقاق إنما يأكل ويشرب دينونة لنفسه إذ لم يميز جسد الرب).
108- فإن مثل من يأكل جسد الرب ويشرب من دمه من دون أن يختبر نفسه مثل رجل تكويه الحمى فيأكل طعاماً لذيذاً فيقتله وإن كان مقوياً في حد نفسه فزمان المناولة لذلك الجسد الإلهي لا زمان الآحاد والأعياد بل زمان يكون الضمير فيه نقياً. فإن كان لا يجوز للمحموم أن يتناول وقت تلعب به الحمى كذلك لا يجوز لمن تلعب فيه الشهوات أن يتقدم إلى تلك المائدة السماوية، فإن عرفت أن تقوم من تلك المساقط وأن تقطع رباط البغض والحسد والافتراء والعهر والخصام وما شاكل ذلك، فتقدم وكل من ذلك الخبز الإلهي كل يوم إذ كل يوم نقي هو لك أحد وعيد. ولذلك قال: فليختبر الإنسان نفسه ويقبل إلى تلك المائدة، فليختبر الإنسان هو نفسه ولا يكل الأمر إلى غير نفسه وإلى غير شهادة ضميره إلا إذا كان متردداً بين أن يكون خطؤه مميتاً أو عرضياً فليستشر ثم يرجع إلى شهادة ضميره وعلى ذلك شروحات نجدها في علم اللاهوت الأدبي. فقد اكتفى الرسول أن يقول لنا هنا : فليختبر إلخ . فإن أقبلت ولم تختبر نفسك فالويل لك وهذا ما يشير إليه الرسول بقوله (30) (ولذلك كثر فيكم المرضى) بأمراض مختلفة تعتري أجسادكم (والسقام ورقد كثيرون) وهذا ما كان يحدث كثيراً في بدء الكنيسة لتوطيد الإيمان. ولكن ألم يخطئ أولئك الذين عاشوا إلى الشيخوخة فلماذا لا يعتريهـم ما يعتري غيرهم من أنواع السقام؟ فإن لهم ولابد من بعض أفعال صالحة فيجازون عليها في الحاضرة وفي جهنم عاقبة أولئك الذين يرقدون وهم مثقلون بالخطايا المميتة.
109 – وأما نحن فقد يمكنا أن نتملص من كلا الأمريـن وذلك
متى عرفنا أن نـديـن أنفسنا ونحن في الحاضر ولذلك قال : ( 31 ) (ولو كنا ندين أنفسنا لما كنا ندان) بأن نفحص ضميرنا ونقطع بسلطان التوبة والاعتراف حبائل تلك المساقط الثقيلة قبل أن نتقدم إلى المائدة المقدسة لما كان يديننا الله ولا يعاقبنا لإقبالنا إلى المناولة على خلاف الاستحقاق. ولا تفشلوا لما يكثر فيكم من المرض والسقام (32) ( فإن في دينونتنا هذه إنما يؤدبنا الرب) كما يؤدب الأستاذ تلميذه والأب ابنه وذلك (لئلا يحكم علينا مع العالم) ذلك الحكم الهائل الذي يتناول أولئك الذين يموتون وهم مصرّون على الخطايا ولا يتوبون فافرحوا إذن ولا تحزنوا مما يصيبكم من المصائب والأمراض (33) (إذن يا إخوتي متى اجتمعتم للطعام) عند المساء (فلينتظر بعضكم بعضاً) إلى أن يجتمع الفقراء أيضاً (34) (وإذا جاع أحد) وكان لا يقدر أن ينتظر إلى وقت العشاء وهو صائم (فليأكل في البيت) وكان ذلك إذ ذاك صباحاً بأن يأكل الواحد قبل المناولة وذلك عند مسيس الحاجة كما علم القديس أغوسطينوس وآخرون وقد أباح لهم ذلك كما يبيح الأب لابنه الصغير (لئلا يكون اجتماعكم للدينونة) بأن يجوع الواحد ويسكر الآخر فيقع بينكم الخصام على خلاف المقصود من اجتماعكم. فلما خوفهم بحكم عظمة السر الذي يباشرونه والمرض والسقام والموت ولم يرضَ بذلك زادهم تخويفاً إذ توعدهم بأكثر من ذلك عند قدومه إليهم فقال (35) (أما ما بقى فسأرتبه متى قدمت إليكم) إذ قد يتعذر إصلاح كل شيء بالكتابة لا سيما فيما يتعلق باحتفال سر الإفخارستيا وغيره، هذا ولم يكن قدومه مما لا يعبأ به فقد قال مـن قبـل : لقد انتفخ قوم كأني لا آتيكم ( 1كور 18:4 ) وقال أيضاً في محل آخر: اعملوا لخلاصكم بخوف ورعدة لا كما تفعلون عند حضوري ( فيلبي 12:2 ) ولم يعدهم فقط بل بيّن لهم أيضـاً سبب قدومه إليهم بقوله (أما ما بقي فسأرتبه متى قدمت إليكم) مبيناً لهم أن إصلاح ما بقي يستدعيه إليهم وإن لم يسرع بقدومه الآن. هذا كلامه الصريح والبروتستان ينكرون علينا قوة التقليد والرسول يقول: سأرتبه متى قدمت إليكم.
الفصل الثاني عشر
مواهب الروح مختلفة والغاية منها واحدة وهي النفع العام. كأعضاء الجسد فإنها مختلفة ولكن غايتها واحدة وهي انتفاع بعضها ببعض.
110- قال (1) ( أما من جهة الروحيات أيها الإخوة فلست أريد أن تكونوا جاهلين) قال القديس يوحنا فم الذهب ما معرّبه: هذا المكان غامض جداً والمولّد لذلك الغموض جهالة ما كان يحدث إذ ذاك ولا يحدث الآن. ولماذا لا يحدث الآن وهوذا سبب الغموض يولّد لنا مسألة أخرى وهي: لماذا كان يحدث إذ ذاك وأما الآن فلا. أما هذا فسنأتي به فيما بعد، وأما الآن فنذكر ما كان يحدث إذ ذاك. فماذا كان؟ فاعلم أنه قد كان في ذلك العهد إذا تعمد الواحد يتكلم في الحال الألسنة لا الألسنة فقط بل كان كثيرون يتنبأون، ولما كان المقتربون لم يتعلموا شيئاً من الأصنام ولا تخرجوا على الكتب المقدسة، كانوا متى تعمدوا يقبلون الروح في الحال ولكنهم لم يكونوا ليروا الروح لأنه غير منظور. غير أن النعمة كانت تمنح علامة محسوسة تدل على الفعل الذي يبدونه وكان الواحد يتكلم في الحال اللغة العجمية والآخر الرومية والآخر الهندية وآخر غير لغة مما كان يدل على أن الروح القدس هو المتكلم فيهم إذ يعطي كل واحد إظهار الروح للمنفعة فكما أن الرسل قد قبلوا تلك العلامة وكذلك المؤمنون قد قبلوا موهبة اللغات وليس ذلك فقط بل أموراً أخرى كثيرة إذ كثيرون كانوا يقيمون الموتى ويطردون الشياطين ويعملون أعمالاً أخرى عجيبة على اختلاف في مساواة الأفعال بين الكثير والقليل، وأعظم موهبة كانت موهبة اللغات.
111- وذاك التفاضل في المواهب كان سبب النفاق بينهم والتحاسد وبذلك تنحل ربط المحبة والاتحاد فأخذ يبذل الجهد في إصـلاح ذلك لئلا يعظم المرض. ولما كانت كورنتس يكثر فيها العرّافون أخذ بادئ ذي بدء يبين لهم ما الفرق ما بين العرافة والكهانة والنبوة ولذلك قد قبلوا أيضاً الأرواح متمايزة لكي يعرفوا ويميزوا بين الروح الصالح والروح النجس الذي يتكلم فيهم، ولما كان لا يتوفر بيان ذلك لا من النبوة في حد نفسها لأن مدارها المستقبل ولا من التكهن وكان لا يمكن الفصل بين النبي الصادق والنبي الكذاب قبل وقوع الحادثة، فما صنع؟ فقد أخذ يهديهم إلى علامة تدل على النبي الكذاب قبل وقوع الحادثة فقال ( فلا أريـد أن تكونوا جاهلين) من جهة الروحيات أي العلامات التي تبدو لكم ساعة تقبلون سر العماد فإنها كله أعمال الروح القدس وليس للإنسان يد فيها ولا بوجه من الوجوه وهي تدلكم على الفرق بين النبوة والعرافة. فأخذ يبين لهم بل يذكرهم- وكلامه هنا موجه إلى المؤمنين بما كانوا يقاسونه وبما كان يبديه لهم الأبالسة فقال (2) (قد علمتم أنكم حين كنتم أمماً كنتم تنجرون إلى الأوثان البكم كما كنتم تقادون) فإن العرّاف كما تعلمون من الروح الذي يسكنه مكدون كثور غير مدرك ولا عارف ما كان يقول فيفسده الشيطان ويخبطه خبطاً يجعله فاقد الشعـور بخلاف النبي فإنه لا يزال ساكن الجأش عارفاً بما يقول ولا يحبط مسعاه. وهذا تعلمونه عندما كنتم أمماً وهو الفرق الناطق بين النبي والعرّاف . قال أفلاطون : أن العرّافين يأتون بأمور كثيرة وجميلة ولكنهم لا يعرفون ما يقولون.
112- فلما ذكرهم بذلك عاد إلى مقصده ولكن ما معنى: إلى الأوثان البكم التي كان ينجر إليها أولئك العرّافون. فإن كانوا بكماً فكيف يستخدمونهم؟ ولماذا كان الشيطان يجرهم إليها جر أسرى يقادون كالبهائم؟ فأقبح به من خبيث كان يجرّهم إليها وهي على صورة البشر لكي يجعل الضلال محتملاً وكان يقودهم إلى تلك الأصنام لئلا يظهر أنه صخر أصمّ فيتكلمون مرغمين بما يتكلم هو نفسه فيهم بخلاف الأنبياء فهم أحرار لهم أن يتكلموا وألا يتكلموا فيونان هرب وحزقيل أخر وأرميا رفض والرب لم يجبرهم على ذلك ولم يحملهم إلى الإنباء إلا بحكم الإيعاز والمشورة. وهذا أيضاً مما يدل على الفرق بين النبوة والعرافة. وعلاوة على ذلك أوقفكم على فرق آخر (3) (فلذلك ) حتى تعرفوا ما هو ( أعلمكم أنه ليس أحد ينطق بروح الله ويقول: يسوع مبسل) فإن قال ذلك كان روح الشيطان هو الذي ينطق به وكذلك (لا يستطيع أحد أن يقول: يسوع رب) سام قادر على كل شيء وقد افتدى الجنس البشري وهو رب الجميع، فمن يقول ذلك وهو معتقد بكل ذلك فليس له أن يقول ذلك ( إلا بالروح القدس ) وهذا فعل الإيمان الحقيقي وليس لأحد أن يبديه إلا بنعمة وقوة الروح القدس. فقد يمكن للبعض أن يقولوا ذلك ولكن لا بنعمة الروح القدس الساكن فيهم وعليه قول متى الرسول: ليس كل من يقول لي يارب يارب يدخل ملكوت السماء (21:7) وبلعام قد تنبأ ولم يكن الروح القدس ساكناً فيه ( عدد 4:24 ) وعليـه قس قيافا ( يو 50:11 ) . فلما تكلم عن الفرق بين الأنبياء والعرّافين بما ذكره انتقل يتكلم عن المواهب قطعاً لدابر الخلاف بين الذين قد قبلوا كثيراً منها أو قليلاً فلا ينتفخ القابل منها كثيراً ولا ينخذل القابل قليلاً ولا يحسد فقال:
113- (4) (إن للمواهب أنواعاً لكن الروح واحد) فلا تنخذل أنت الذي قبلت منها أقل ولا تنتفخ أنت الذي قبلت أكثر فاعلموا جميعكم أن ما تمنحونه إنما هو موهبة لا واجب وأن الذي يمنحكم ذلك إنما هو الروح؛ وإن كانت المواهب أنواعاً فالواهب واحد والنوع واحد (5) (وللخدمة أنواعاً لكن الرب واحد) والخدمة تقتضي التعب. وفوق ذلك (6) (وللأعمال أنواعاً لكن الله واحد الذي يعمل الكل في الكل) فهوذا الروح والرب والله (7) (وإنما يعطي كل واحد إظهار الروح للمنفعة) في تلك المواهب والخدم والأعمال لا لأجل الانتفاخ والتحاسد بل لأجل المنفعة وبنيان المؤمنين وهدى الذين في الظلام . وكـل يقبل ما هو أهل له ويستطيع أن يحمله وقد قضت به حكمة الله (8) (فيعطي واحد بالروح كلام الحكمة ) بحيث يؤثر كلامه في السامعين ( وآخر كلام العلم) الذي يتمكن الواحد من شرح التعليم بطرق العلم والأمثلة التي يختزلها من المخلوقات ويعطي ذلك (بذلك الروح عينه) (9) (وآخر الإيمان) أي الثقة بقدرة الله (بذلك الروح عينه وآخر مواهب الشفاء بذلك الروح الواحد (10) وآخر صنع القوات، وآخر النبوة وآخر تمييز الأرواح) وليس ذلك هيّناً بأن يميّز الواحد أروح الله هو المتكلم أم الروح الخبيث لأنه قد يتزّيا بزي ملاك النور. قال العلامة جرسون: كما يمتاز الذهب الخالص عن المزيف بخمس علامات كذلك الروح الصالح يمتـاز عن الروح الشرير. أما تلك العلامات فهي: الثقل واللين والبقاء والشكل واللون. وعليه فمن كان له رزانة التواضع ونقله ولين الاسترسال لمشورة الآخرين والبقاء والصبر على الشدائد والشكل الثابت من غير تلوّن في العقائد الكاثوليكية ولون المحبة الصادقة فالروح القدس يتكلم على فمـه لا الروح الخبيث . هذه علامات تدلك على أن روح الله في ذلك الإنسان. هذا (وآخر يعطي الألسنة) كما أعطى الرسل (وآخر ترجمة الألسنة) لأولئك الذين لا يفهمون اللغة أو تلك الأسرار الغامضة، وقد ذكر ترجمة الألسنة في آخر المواهب لمزيد افتخارهم بها ثم عقب كلامه وقال (11) (وهذا كله يعمله الروح الواحد) فهو ذا الينبوع الذي تستقون منه جميعكم وهو يعمله (موزعاً على كل واحد كيف شاء) لأنه هو الله عينه وليس فوقه فوق.
114- بعد أن عزاهم بما ذكرهم به وذلك بحكم مجانية المواهب وقبول الروح الواحد وحكم المنفعة وإظهار الروح وسد أفواه الممارين بضرورة الاسترسال إلى سلطان الروح القدس الذي يوزع على كل واحد كيف شاء انتقل يعزيهم بمثل آخر اتخذه من الطبيعة نفسها كما هي عادته فقال (12) (لأنه كما أن الجسد واحد وله أعضاء كثيرة وجميع أعضاء الجسد مع كونها كثيرة إنما هي جسد واحد) لا خاصة بجسد واحد بل كلها جسد واحد من حيث هو جسد لا من حيث إنه مركب من أعضاء كثيرة (كذلك المسيح أيضاً) وكان عليه بحكم الاستنتاج أن يقول: كذلك الكنيسة: فلم يقل ذلك بل ذكر الرأس وهو المسيح وأقامه مقام الكنيسة كلها، فكما أن الرأس والجسم جسد واحد كذلك المسيح والكنيسة واحد. قال القديس أغوسطينوس في شرحه لمزمور 130 ما تعريبه: ومن ثم وإن لم يكن لأحد أن يمس الرب فيهتف مع ذلك من السماء قائلاً: شاول شاول لماذا تضطهدني، أي مقيماً الرأس مقام الجسد الذي كان يتعب في الأرض. فمن بعد أن سلاهم بذلك المثل العام لنتقل إلى مثل آخر مشيراً إلى ذلك الرأس الروحي وإلى ما يشف عن مطلق المساواة بين الجميع غنيّاً كان الواحد أم فقيراً ورفيعاً كان أم وضيعاً فقال:
115 – فإنما جميعنا اعتمدنا بروح واحد لجسد واحد يهوداً كنا أم يونانيين عبيداً أم أحراراً) بحيث كلنا جسد واحد وقد ولدنا ثانية روحاً واحداً، والروح الذي به قد اعتمدنا واحد لكي نكون جميعنا واحداً، ولذلك فالذي بنى الجسد واحد وما بنى الجسد من أجله واحد، وأنا وإن كنت رسولاً فليس لي أكثر مما لكم لأن رأس جميعنا واحد والميلاد واحد ولذلك كنا جميعنا جسداً واحداً مهمـا كـان أصـل ذريتنا فقـد كنا من قبل متفرقين أما الآن فقد توفر التضام إلى أن صـرنا واحداً أفيصح أن نتفرق الآن (وجميعنا سقينا روحاً واحداً) فأكرم بها من استعارة فإنه يشبه الكنيسة بحديقة تسقي من ينبوع واحد، وذاك الينبوع في الكنيسة هو الروح القدس (14) ( فإن الجسد ليس عضواً واحـداً بل أعضاء كثيرة) وهذا عجيب بأن يتألف من أعضاء كثيرة جسد واحد، ثم عاد يتكلم عن كل عضو بمفرده فقال (15) ( فإن قالت الرِجل لأني لست يداً لست من الجسد أفلذلك ليست من الجسد (16) وإن قالت الأذن لأني لست عيناً لست من الجسد أفلذلك ليست من الجسد) وكل عضو يساعد الآخر، فإن عثرت الرِجل صرخ الفم (آي آي) فتسمع الأذن فتسرع للمساعدة . وعليه ( 17 ) ( لو كان الجسد كله عيناً أين كان السمع ولو كان كله سمعاً أين كان الشم) فلا يؤخذ إذا كان هذا هنا وذاك هناك أنه ليس من الجسد. ثم لما كان الحسود يحسد من كان أقرب إليه لا من كان بعيد الرفعة لم يذكر مع الأذن الرجل بل العين فهي أقرب إليها ولكن كيفما كان الأمر فإن الله هو الذي رتب كل شيء ووضعه في نصابه ولذلك قال (18) (والحال أن الله قد وضع الأعضاء كلا منها في الجسد كيف شاء) سواء أكان في الجسد الطبيعي أم في الجسد السري وهو الكنيسة. ولكل عضو مقام وعمل لا يتجاوزه لئلا يختل النظام فللعين عمل وللأذن عمل إلخ كذلك للرئيس الأعلى عمل وللأدنى عمل (19) (ولو كانت كلها عضواً واحداً أين كان الجسد (20) والحال أن الأعضاء كثيرة والجسد واحد) هذا ترتيب مقدس فلا تماحك قضت به حكمة الله . وبـه يقوم جمـال الإنسان وإن كنت في ريب من ذلك فاجدع الأنـف أو افقأ العين أو خدّش الوجه أو اقطع الإصبع أو أعط العين مثلاً ما هو خاص بالرِجل أو غير ذلك ترى كيف ينقلب الجسم قبيحاً وكيف تتزعزع أركانه وهكذا في كنيسة الله فلكل من أربابها مقام من رأسها الأكبر الذي هو خليفة القديس بطرس هامة الرسل إلى خادم الرعية فإذا تزعزع مقامه اختل النظام وتزعزعت أركان الكنيسة.
116- ثم قال (21) ( فلا تستطيع العين أن تقول لليد لا حاجة لي إليك ولا الرأس للرجلين لا حاجة لي إليكما) قال هذا زيادة في تعزية الصغار في الوظائف، على أن عملك وإن كان حقيراً فهو مع ذلك ضروري فلا يمكن للعين وإن أرادت وهي أشرف الحواس وأرفعها مقاماً أن تقول لليد وهي أوسط شأناً ليس لي بك حاجة فـإن مرضت العين أو عورت لا تقدر أن تداوي نفسها ولا أن تدافع، وزد على ذلك فإن الرأس وهو مجتمع جميع الحواس باطنية كانت أو خارجيـة لا يستغني عن الأرجل وإن كانت تزحف على الحضيض. بل زاد على ذلك وقال (22) ( بل ما يحسب الأضعف من أعضاء الجسد هو ما تكون الضرورة إليه أشد) كالبطن والأمعاء التي تطبخ الأطعمة وبها تقوم الحياة النامية وهي أحط درجة في سلم الحياة فالضرورة إليها أشد إذ بدونها يهلك الحيوان ويموت مع أنه لا يموت لو فقد عينه أو أذنه أو حاسة الشم. قال القديس توما هكذا لا يمكن لنا أن نعيش في الكنيسة أو المملكة بدون الفلاحين وبدون أصحاب الحرف وإن كانت تلك الأعمال دنيئة مع أننا نقدر أن نعيش عباداً يتجردون لعبادة الله وإن كانوا ” إذا أحسنوا ” زينـة في الكنيسة وزد على ذلك (23) ( وما نحسبه الأحقر في الجسد ) كالأرجل ( هو ما نشمله بأعظم الكرامة) اعتناء بحفظه (بل ما يقبح منا له أعظم الاحترام) فإن الأعضاء الرئيسية تحتاج في ذات قوامها إلى الأعضاء الثنوية والطبيعة نفسها تدفعنا إلى صيانتها فإن الإنسان وإن كان فقيراً مدقعاً يصون أعضاءه التناسلية ولا يدعها مكشوفة وهي أهم شيء في الإنسان لتوقف النسل عليها. قد بحث القوم في الحياء الذي يستولي على الإنسان في كشف أعضاء التناسل. فقال البعض: لما كانت حركات الأعضاء تخضع لحكم الإرادة وكانت حركات تلك الأعضاء لا تكبحها ولا تقدر أن تستوقفها الإرادة اضطر الإنسان صيانة لشرف إرادته ومقامه أن يغطيها وذلك منذ يبلغ أشده ويبتدئ يميز بين ما هو خير أو شر . وقال آخـرون : إن أبوينا الأولين لم يكونا ليخجلا من عورتهما وذلك قبل أن خالفا وكانت أعضاء التناسل تخضع لحكم إرادتهما خضوع الأيدي والأرجل، أما بعد أن تمرد الإنسان وخالف تمردت عليه تلك الأعضاء قصاصاً مشيرة إلى أنها لم تكن كذلك من أصل وضعها. وقال آخرون: إن الإنسان إنما يشابه البهيمة في هذا الفعل كل المشابهة فيخجل فيتوارى عن العيان عند مباشرته. ومهما كان الأمر من ذلك فهذه حالة الإنسان بعد سقوطه.
117 – ثم قال ( 24 ) ( أما ما يجمل منا فلا يحتاج إلى شيء ) من الأغطية والزينة كالعين والوجه والأيدي (لكن الله مزج الجسد) بأجزاء متخالفة الأمزجة والأشكال متضامة الأطراف محكمة الوضع وذلك (حتى يخصّ العضو الناقص بكرامة أعظم) مما تخص به الأعضاء الشريفة وذلك بحكم غريزة تدفع الإنسان إلى تغطيته وزينته وكل ذلك (25) (لئلا يكون في الجسد شقان) بأن تتذمر الأعضاء السافلة من عدم الاهتمام بها لا من جهة الطبيعة ولا العناية (بل يكون للأعضاء اهتمام واحد بعضها ببعض) ولذلك كان لكل عضو وظيفة واهتمام خاص به (26) (فإذا تألم عضو تألم معه سائر الأعضاء، وإذا كرم عضو فرح معه سائر الأعضاء) وهذا ظاهر البيان. وهذا أحسن مثل في ضرورة الانضمام
وتحكيم عري الإخاء في الهيئة الاجتماعية وآفة التضام الحسد والبخل!
118- ثم حذراً من أن يقول الواحد: ما لنا وهذا المثل ذاك شأن الطبيعة أما في الإنسان فالعقل يستتم الأفعال في الهيئة الاجتماعية وفي الكنيسة فأفصح أنهم هم أيضاً جسد فقال (27) (فأنتم جسد المسيح وأعضاء من عضو) فلستم أنتم جسد المسيح السري كله بل عضو من أعضاء جسده المنتشر في الكرة كلها ، فـإن كنيستكم إن هي إلا جزء من الكنيسة الجمعة ولذلك يترتب عليكم أن تسالموا جميع الكنائس إن كنتم في الحقيقة أبراراً وأعضاء من جسد المسيح وها هي ذي الأعضاء التي وضعها في جسده هذا السري (28) (فوضع الله) وهو المسيح واحد (في الكنيسة) التي شادها على بطرس بقوله: أنت الصخرة وعلى هذه الصخرة أبني كنيستي (أناساً أولا ورسلاً) وهم الذين قبلوا باكورة الروح القدس كما جاء في رسالته إلى أهل رومية (23:8). وهم الاثنا عشر أساساً فيها أسماء رسل الحمل الاثني عشر كما جاء في الرؤيا (14:21) وقد أضيف إليهم بولس وبرنابا ومن قبلهما متيّا مكان يوداس. وقد وكل الله إليهم على الخصوص سياسة الكنيسة الجامعة وكانوا متساوين مقاماً وعصمة في الرسالة لا في الأولية المختصة ببطرس لئلا تنثلم وحدة الكنيسة. هذا ثم وضع (ثانياً أنبياء) يخبرون عن المستقبلات ويشرحون ما يغمض من آيات الكتاب بما يوحي إليهم ويعاونون الرسل وكان عددهم كبيراً في كل كنيسة. وأما قول متى الرسول: جميع الأنبياء والناموس تنبأوا إلى يوحنا (13:11 ) فيراد بهم أولئك الأنبياء الذين تنبأوا عـن مجيء المسيح وبشروا به. ثم وضع (ثالثاً معلمين) باجتهادهم بقوة إلهام الروح القدس يشرحون للشعب ما جاءت به الأنبياء ويعلمه الرسل وذلك يقتضي تعباً وتجرداً، ثم وضع (قوات) تمكن من صنع العجائب ثم (مواهب شفاء) سواء أكان بأعجوبة أم بالصلاة (فإعانات) تمكن المرء من مساعدة المرضى وشفائهم لا بأعجوبة بل ببذل الاعتناء بالمرضى ومداواتهم ومعاونتهم بالصدقة وغير ذلك من أنواع الاعتناء ثم (تدابير) مدارها تدبير الأرزاق العائد ريعها إلى منفعة الفقراء ومعاضدة الأعمال الخيرية. ثم ختم كلامه مكرراً ما قاله من قبل ( فأنواع ألسنة فترجمات ألسنة ) فقد وزع الله كل ذلك كما شاء.
119- بعد أن سلاهم التسلية الوافية عاد يوبخهم فقال (29) (ألعلّ الجميع رسل. كلا. ألعل الجميع أنبياء . ألعلّ الجميع معلمون . ألعل الجميع صانعو قوات. (30) ألعل للجميع مواهب الشفاء. ألعل الجميع ينطقون بالألسنة. ألعل الجميع يترجمون). كلا، كلا. وهذه سنة تجدها في جميع طبقات الأرض ودرجات الحياة وفسحات الأفلاك فإن لكل شيء نصيباً لا يتعداه. ثم بعد ذلك أتى بكلام يسلي غمة قلبهم ويستنهضهم فقال (31) (ولكن تنافسوا في المواهب العظمى وأنا أريكم طريقاً أفضل جداً) فالتنافس يقتضي الاجتهاد والجد فإن لم تجدوا ولم تتنافسوا لكي تحصلوا على مواهب أعظم وأفضل فالذنب محمول عليكم فتنافسوا وأنا أريكم طريقاً أفضل جداً مما ذكرته لكم مـن المواهب ، ولم يقل لهم أريكم أو أهديكم إلى موهبة عظمى بل إلى طريق تسوقكم إليها وهي طريق يمكن الجميع أن يسيروا عليها مهما كان المقام الذي يشغله الواحد منهم وهي طريق المحبة فأكرم بها وليس محبة الله فقط بل محبة القريب أيضاً ثم أخذ يصفها كما تراه في الفصل الآتي بما ليس وراءه ما يُبتغى.
الفصل الثالث عشر

المحبة تفضل سائر المواهب لأنها ضرورية بالإطلاق. ولا منفعة بدونها لسائر المواهب. ومنفعتها عامة ومنافع المواهب خاصة. والمحبة تدوم في الدنيا والآخرة وسائر المواهب تبطل بعد هذه الحياة.
120- قال على سبيل الغلو والإطراء موعزاً إلى أفضل المحبة ومزيد ضرورتها لكي يكون الإنسان إنساناً كاملاً (1) (لو كنت أنطق بألسنة الناس) جميعاً لا بذلك فقط بل بألسنة ( الملائكة ) أيضاً ( ولم تكن فيّ المحبة فإنما أنا نحاس يطنّ أو صنج يرنّ) ولا يشعر ولا يحسّ؛ ولم يقف عند ذلك بل زاد إطراء وانتقل إلى النبوة وقال (2) (ولو كانت لي النبوة) لا النبوة فقط بل (وكنت أعلم جميع الأسرار والعلم كله ) بل ( لو كان لي الإيمان كله ) بأن أنقل الجبال ( ولم تكـن فيّ المحبة فلست بشيء ) بل (3) ( ولو بذلت جميع أموالي ) لا جزءاً منها ( لإطعام المساكين ) بل أعظم من ذلك (وأسلمت جسدي لأحرق ولم تكن فيّ المحبة فلا أنتفع شيئاً) إن كنت لا أحب القريب، فالمحبة أساس الصلح والسلام. فمن بعد أن قال إن الإنسان لا ينتفع شيئاً من النطق بالألسنة ولا من النبوة ولا من بذل أمواله على المساكين ولا من حريق جسده بالنار إن لم تكن فيه المحبة أخذ يصفها بما ليس وراءه ما يرام فقال:
121- (4) (المحبة تتأنى)، فالتأني وهو الصبر أساس كل فلسفة وحكمة ولذلك قال الحكيم: الطويل الأناة كثير الفطنة والقصير الصبر ينوّه بسفه ( أمثال 29:14 ) والرجل الصبور الطويل الأناة بـرج حصين تتزعزع الدنيا ولا يتزعزع. ولما كان من الناس من يصبر على كيد مترقباً فرصة نمكنه من الانتقام من خصمه أزاح ذلك منـزهاً المحبة من قبح هذه الشائبة، وبعد أن قال المحبة تتأنى قال (وترفق) ولا تزيد النار اشتعالاً، والمسلمون أنفسهم يسمون النصارى أصحاب شفقة ولا يستكبرون وهذا شأن المحبة المسيحية شأن أم ترفق بابنها مهما كان، وزد على ذلك (المحبة لا تحسد ولا تتباهى ولا تنتفخ ) ولا تـحب أمـراً جليلاً جميلاً ، إلا ما تنفع به القريب ومن تحبه، فانظر إلى يعقوب فإنه قد خدم خاله أربع عشرة سنة حباً براحيل ابنته، ومن لا يرى كيف تناغي الأم ابنها وكيف ترفق بـه ولا تكلّ ليلاً ولا نهاراً ، زد على ذلك فالمحبة الصادقة (لا تأتي قباحة) لأن المحب يحسب كل ما يعمله حباً بمحبوبه حسناً وجميلاً لا قبيحاً، ذلك إذا كان الحب يدعوه إلى ذلك لا التباهي والانتفاخ وسببه أن المحبة (لا تلتمس ما هو لها) لأن المحب يجعل منفعته في منفعة محبوبه وعلاوة على ذلك فالمحبة (لا تحسد ولا تظن السوء (6) ولا تفرح بالظلم بل تفرح بالخير ) وقد عـدّد كل هذه الخيرات فقال ( لا تلتمس ما هو لها، وتحتمل كل شيء) كما كان داود يحتمل ابنه أبشالوم الذي تمرّد عليه بل (تصدق كل شيء) مما يقال من الخير عن محبوبها (وترجو كل شيء وتصبر على كل شيء . والمحبة لا تسقط أبداً ) لأن من يحب لا يمكن أن يبغض من يحب. وهذه صورة تلك المحبة التي كانت تضطرم نارها في قلب القديس بولس. فأين محبتكم يا رعاة القوم!
122- قال (8) (المحبة لا تسقط أبداً. أما النبوات فستبطل والألسنة تزول والعلم يبطل) بعد أن وصف لهم عظمة المحبة وجليل مقامها في سلم الفضائل كما سبق الكلام آنفاً عاد يطرئها بحكم آخر اختزله من مقابلتها بسواها فقال ( أما النبوات فستبطل والألسنة تزول ) على أن النبوات والألسنة إنما وهبت تأييداً للإيمان، فإذا ما انتشر الإيمان كان لا طائل تحتها. أما المحبة فلا تسقط بل تزيد اضطراماً. ولكن كيف يبطل العلم؟ أنكون والجهل يحتاط بنا؟ حاشى فإن النبوات والألسنة لا حاجة لنا بها في السماء ولا العلم الذي لنا في الحاضرة فهو قاصر وهذا يبطل إذ يترقى إلى درجة عليا فبطل الناقص، ولذلك عقب كلامه وقال (10) (فمتى جاء الكامل يبطل الناقص) وهو علمنا وتنبؤنا في الحاضرة فالناقص فينا بطل وفي مقامه يقوم الكامل. فالآن نعرف أن الله موجود في كل مكان ولكن كيف يوجد؟ لا نعلم؛ وأنه سبحانه خلق كل شيء من العدم ، ولكن متى كان ذلك؟ لا نعلم؛ وأنه ولد من بتول، ولكن كيف تم ذلك؟ لا نعلم. أما في الآخرة فليس كذلك. ثم أتى بمثل مبيناً به ما الفرق بين العلم في الحاضرة والآجلة فقال (11) (إني لما كنت طفلاً كنت أنطق كالطفل وأعقل كالطفل وأفكر كالطفل ، فلما صرت رجلاً أبطلت ما هو للطفل) فالطفل ليس مجنوناً ولا حكيماً إنما قوة العقل فيه قاصرة ولا اختيار له. وقد بين بهذا المثل قصر النظر فقال (12) (لأننا الآن ننظر في مرآة على سبيل اللغز أما حينئذ فوجهاً إلى وجه) ليس أن لله وجهاً إنما قال ذلك بياناً لظهور ما نعاينه، وقد أوضح ذلك وقال (إني أعلم الآن علماً ناقصاً أما حينئذ فأعلم كما علمت) أي كما علمني الله منذ الأزل فأرى كل شيء فيه سبحانه وإن لم أحط به علماً ولذلك قال: كما علمت، ولم يقل بمقدار ما علمت لأن الله سبحانه لا يحاط به علماً . وأما (3) ( الذي يثبت الآن فهو الإيمان والرجاء والمحبة وأعظمهن المحبة) فهي أساس الفضائل وحصنها المنيع.

الفصل الرابع عشر
الحث على المحبة وتفضيل موهبة النبوة على موهبة الألسن. نهى النساء عن التكلم في الكنيسة
123- لما ذكرهم في الفصل السابق بكل فضيلة المحبة قال (1) (اتبعوا المحبة) ولا تتثبطوا إلى أن تمسكوها وتضموها إليكم، هذا ولا يخيل إليكم أني في حملي إياكم على تتبع المحبة أضرب عن سائر المواهب، ولذلك قال (وتنافسوا في الروحيات) وهي مواهب الروح القدس (وبالأحرى أن تتنبأوا) في أسرار الكتاب وغوامضه وهذا أولى من سواه (2) (فإن الذي ينطق بلسان لا يكلم الناس) لأنهم لا يفهمون ما يقول كمن يتكلم اللغة الهندية في باريس ( بل الله ) الذي لا تخفى عليه خافيـة ويعـرف أسرار القلوب (إذ لا يسمع أحد) إلا رنة الصوت (غير أنه بالروح ينطق بأسرار) خفية على الآخرين (3) ( أما الذي يتنبأ فيكلم الناس كلام بنيان وموعظة وتعزية) فيبني المبتدئين ويعظ الكاملين ويعزي الضعفاء المتقلقلين. لذلك كانت النبوة أفضل من تلك المواهب المجانية بما يبدو عنها من المنفعة في البنيان والموعظة والتعزية، ولذلك قال (4) (الناطق بلسان إنما يبني نفسه، أما الذي يتنبأ فيبني كنيسة الله ) ولا يخيل إليكم أني أحسدكم على أنكم تنطقون بألسنة على (5) (أني أحب أن تنطقوا جميعكم بألسنة ولكن بالأحرى أن تتنبأوا لأن الذي يتنبأ أعظم ممن ينطق بألسنة إلا إذا كان يترجم لتنال الكنيسة بنياناً) إما هو نفسه يترجم أو آخر.
124- ثم مثل لهم بنفسه وهذه عادته أن يمثل بنفسه متى كان الأمر
الذي يأتي به ثقيلاً على سامعيه فقال (1) (فالآن أيها الإخوة إذا قدمت إليكم وأنا ناطق بألسنة فماذا أنفعكم) وأنتم لا تفهمون ماذا أقول (ما لم أكلمكم إما بوحي) أفسر لكم ما أنزل إلى (أو بعلم) حصلته باجتهادي (أو بقوة أو بتعليم) أفيدكم به . وما الفائدة من صوت لا نفهمه . فإن لم يكن الصوت مفهوماً فلا طائل تحته، وهذا ما نراه في الجمادات نفسها (7) (التي تصوت مزماراً كانت أو كنارة إن لم تبد فرقاً بين الأصوات فكيف يعرف ما زمر أو عزف به) هذا ( 8 ) ( فإن أبدي البوق صوتاً غير بين فمن يستعد للقتال) إقداماً كان أم إحجاماً. وهذا خاص بكم ولذلك قال (9) (فلذلك أنتم إن لم تبدوا باللسان كلاماً مفهوماً فكيف يعرف ما يقا. إذن يكون كلامكم في الهواء) يتموج به ولا يفهمه أحد (10) (إن في العالم أنواعاً كثيرة من الأصوات) يتفاهم بها البشر على اختلاف لغاتهم (ولا شيء بلا صوت) لأن الصوت حركة والحركة عامة (11) (فإذا كنت لا أعرف قوة الصوت أكون عند الناطق به أعجمياً) لأنه لا يفهم ما أقول (ويكون الناطق أعجمياً عندي) فيلزم أن أترجم له وأفهّمه.
125- فمن بعد أن وبخهم وبين لهم أن لا فائدة من ذلك نصحهم فقال (12) (هكذا أنتم بما أنكم تتنافسون في مواهب الروح) وراغبون في الحصول عليها فليكن ذلك (لبنيان الكنيسة) ولكمالها بما تبذلون من الاجتهاد والتعليم ( ابتغوا أن تفيض فيكم ) مواهب غير النطق بألسنة لأن الغرض من المواهب إنما هو إفادة الكنيسة وأحب أن تفيض فيكم بشرط أن تستعملوها لخير الكنيسة ولكن كيف يكون ذلك فقال (13) (فلذلك من ينطق بلسان) لا يفهمه السامعون (فليسأل) الله أن يهبه موهبة الترجمة ( بأن يترجم ) ما ينطق به بلسان أعجمي ( 14 ) ( لأني إن كنت أصلي بلسان فنَفَسي يصلي أما عقلي فهو بلا ثمر (15) فماذا إذن. إني أصلي بالنَفَس وأصلي بالعقل. وأرنم بالنَفَس وأرنم بالعقل) نعم هذا تقدرون عليه وتنالون موهبة الترجمة إن اجتهدتم وطلبتم من دون أن تملوا. (16) (فإنه إذا باركت بالنَفَس فكيف الذي يقوم مقام الأمّي يقول آمين عند شكرك وهو لا يعرف ماذا تقول) فترجم له. أما الآن وقد شرحت الكنيسة جميع الأسرار فلا التباس ولا ريب فيما يبديه المصلي من توقيع الحقائق سواء فهم السامعون أم لم يفهموا. فالنية كافية فيستفيد الواحد والحالة هذه وإن لم يفهم. والأحسن مع ذلك أن تكون الصلوات العمومية التي يشترك فيها الشعب بلغة الشعب فيزيد تأثراً لما يبدو فيها من الابتهالات الجليلة والنهاضات الشريفة. ومن المستحسن أيضاً أن لا يصلي الواحد إلا باللسان الذي يفهمه وإلا كان نَفَسه يصلي لا عقله كما يقول الرسول.
126- ثم لا يخيل إليكم أني أجهل الألسنة فأنا (18) (أشكر الله أني أنطق بالألسنة أكثر من جميعكم) فلا تنتفخوا بما تنطقون به من الألسنة (19) (ولكني أوثر أن أقول في الكنيسة خمس كلمات بعقلي أعلم بها آخرين) لأني أفهم معانيها وأعرف كيف ألقيها على الآخرين (على أن أقول عشرة آلاف كلمة بلسان) ولا أنفع غيري. فمن يتباهى بما يعلمه من غير أن ينفع الآخرين إنما يدفعه إلى ذلك المجد الباطل وهو أعظم آفة لها ينابيع لا تكاد أن تُحصى حتى إنها تستقي مما هو ضد المجد الباطل كالفقر والتطبع والشدة والقطيعة والمجانية والخسران والصمت والقناعة والضعف والخذلان والتقتير والإبطاء والجوع إلى غير ذلك مما لا شأن له في حد نفسه في المجد الباطل. وهذا ما يتكلفه بعض المتفلسفة لا لمنفعة الآخرين أو بنيانهم بل رغبة في المباهاة وطلباً للمجد الباطـل . بخلاف ما كان عليه الرسل فإنهم والحق يقال كانوا يحتقرون كل شيء ويعدّونه كالزبل حباً بخلاص النفوس . قال القديس تومـا في الخلاصة اللاهوتية ( جزء ثان مبحث 132 ف 5 ) . . أما طالب المجد الباطل فغايتـه إظهار الفطنة الذاتية “بأن يمجده الناس”. والميل إلى العظمة نوعان إما مباشرة وإما بواسطة، فإن كان الأول فإما بالكلام وتتولد عنه المباهاة. وإما بالعمل فإن كان العمل حقيقة فالعجب وإن كان كاذباً فالرياء. هذا وإن كان الثاني بأن يظهر الواحد أنه ليس أحط شأناً من سواه فيكون ذلك إما بالنظر إلى العقل ومن ثم فالعناد إذ يتمسك الواحد برأيـه ويأبى أن يسترسل لرأي غيره . وإما بالنظر إلى الإرادة ومـن ثـم فالخلفـة والشقـاق إذ لا يريد الواحد أن يحيد عن إرادته. وإما بالنظر إلى الكلام ومن ثم فالخصومة والمحاجة. وإما بالنظر إلى العمل ومن ثم فالإباء وعدم الطاعة لأمر الرئيس والمجد الباطل ولا يتجاوز الخطيئة العرضية إلا من وجوه أولاً: الافتخار بما ليس له . ثانياً : إيثار مجد الناس على مجـد الله . ثالثها : جعل المجد غاية العمل. ولكنه مع ذلك آفة ترعى كالآكلة إن لم تقطع أهلكت الجسد كله. عود.
127- ثم قال (20) (أيها الإخوة لا تكونوا أطفالاً في أذهانكم بل كونوا أطفالاً في الشر أما في أذهانكم فكونوا كاملين) فأكرم به من مثل من بعد ذلك الإثبات ، ثم أخذ يوصيهم كيف ينبغي لهـم أن يكونوا في الكنيسة التي يجتمعون فيها للصلاة وكيف ينبغي أن ينتظروا بعضهم إذا تنبأوا أو تكلموا بألسنة وكيف يترتب على النساء أن لا يتكلمن في الكنيسة، وكل ذلك لئلا يتشكك فيهم كافر إذا دخل الكنيسة ورآهم يضجون ويتسابقون في الكلام إلا ما هنالك من الوصايا الجليلة التي ما تزال محفوظة في الكنيسة الكاثوليكية.
الفصل الخامس عشر
قيامة المسيح وإقامتها دليلاً على قيامة الأموات ضد الذين ينكرون قيامة الجسد.
128- بعد أن أنجز كلامه في الروحيات انتقل إلى بيان أهم وألزم أمر في الدين المسيحي ألا وهو الاعتقاد بالقيامة . فالقيامة حجـر عثار ما أكثر ما يتعثر به الإنسان بل ما أكثر ما يبذل الشيطان من الوساوس والحيل في اقتلاع ذلك الاعتقاد من فكر الإنسان، فتارة يوسوس للإنسان بأن القيامة قد تمت وهذا ما يشير الرسول إليه في رسالته الثانية إلى تيموتاوس لقوله: اللذان- وهما هومناوس وفيلاتوس- زاغا من الحق بقولهما إن القيامة قد تمت آنفاً فيقلبان إيمان بعض الناس ( 2تيمو 17:2 ) وتارة يوسوس له بأن الجسد لا يقوم وأن القيامة إن هي إلا تطهير النفس. وطوراً أن قيامة الأجساد ضرب من المحال . وحيناً أن المسيح لم يمت حـتى يقوم بل شبّه به. وحيناً أن قيامة المسيح إنما أذاعها في العالم امرأة خرِفة كما قال فلتس وتبعه رنان الجاحد وقطعان الكفرة عادّين القيامة ضرباً من الخرافات، على أن الشيطان متى أقنع الناس أن الأجساد لا تقوم تدرج شيئاً فشيئاً إلى أن يقنعهم بأن المسيح لم يقم ومن ثم إنه لم يأت ولم يصنع ما صنعه ولا افتدى البشر. ها هي ذي حيل إبليس وهوذا ما يقع فيه الكفرة من المساقط الوخيمة، وها هي ذي المكايد التي ينصبها الشيطان، فإنه من خبثه لا يجاهر بادئ ذي بدء بما يريد أن يجرّه من الفساد والإغراء فإنه يتلّون ولا تلوّن الحرباء ويمكر بالناس ولا تجهل أفكاره. ولما كان قد وعظهم بكل ذلك أخذ يذكرهم بما وعظهم به كما تدل عليه كلمة “إنجيل” لقوله (أذكركم أيها الإخوة الإنجيل الذي بشرتكم به) مبيناً لهم أنه لا يأتيهم بأمر جديد أو غريب عنهم ولكن قد يصادف أن يجرّ عليه ذبل النسيان فيذكرهم به وهو الإنجيل وخلاصة الإنجيل: إن الله صار إنساناً وصلب وقام. هذا ما بشر به الملاك البتول مريم وهذا ما تنبأت به الأنبياء، وهذا ما بشرت به الرسل في كل العالم، وهذا هو أساس الدين المسيحي الذي بدد الظلام وأنار العالم (وهذا ما بشرتكم به وقبلتموه وأنتم قائمون فيه) فلا يمكنكم أن تنكروا عليّ ذلك وأنا الآن لا أعلمكم إياه بل أذكركم به ولستم فقط قائمين فيه معتقدين بما بشرتكم به بل (2) (وبه تخلصون) وبدونه لا خلاص لكم ولا تزالون في خطاياكم بل به تخلصون وذلك (إن حافظتم على الكلام الذي بشرتكم به إلا أن تكونوا آمنتم باطلاً) فلم تتحروا الوسائط التي تحيي إيمانكم وهي الأعمال الصالحة كما جاء في رسالة يعقوب الرسول (20:2) فإن لم تحصل الغاية كانت الواسطة باطلة. فأيقظوا قلوبكم (3) (فإني سلمت إليكم أولاً) وهو أساس الدين المسيحي وذلك (ما تسلمته أن المسيح مات من أجل خطايانا على ما في الكتب) لا شبّه به.
129- على ما في الكتب: إن شهادات الكتب في موت المسيح عن الخطايا أكثر من أن تعدّ: منها قول داود النبي: ثقبوا يديّ ورجليّ (مز 17:21) ومنها قول أشعيا النبي: جرح لأجل معاصينا وسحق لأجل آثامنا (ف 5:53) فإن كلا من الأنبياء ، ولا سيما داود وأشعيا قد رمز إلى تاريخ المسيح قبل أن أتى بأكثر من ألف سنة. ولذلك قال الرسول: (على ما في الكتب) (4) (وأنه قبر وأنه قام في اليوم الثالث على ما جاء في الكتب) لما قال: وأنه قام في اليوم الثالث بعد أن قبر، قال: على ما جاء في الكتب. وقد عين الوقت الذي قام فيه، إذ لم يكن ذلك مشتهراً عند الجميع. أما أنه قد قام في اليوم الثالث، فالكتب قد أشارت إلى ذلك في محالّ كثيرة منها قول متى الرسول: مثلما كان يونان في بطن الحوت ثلاثة أيام وثلاث ليال كذلك يكون ابن البشر في قلب الأرض ثلاثة أيام وثلاث ليال ( 40:12 ) ومنها ما ذكره موسى النبي عن العليقة التي توقدت كنار فيها ولم تحترق ( خرو3 ) وهكذا كان ذلك الجسد الذي مات ولكنه لم يفن ولم يتسلط عليه الموت الأبدي. فهذه رموز. وها هي ذي أقوال صريحة قال داود النبي: لا تترك نفسي في الجحيم ولا تدع قدوسك يرى فساداً ( 10:15 ) وقال أشعيا : لأجل معصية شعبي أصابته الضربة… وتطول أيامه إلى ما هنالك من وصف المخلص وآلامه (ف 53) وهذا قليل من كثير ليس محل استيفائه هنا.
130- من بعد أن ذكرهم بما جاءت به الكتب ولم يقل: قد جاء في النبي فلان وفلان لأنه قد شرح لهم ذلك من قبل وهـو يذكرهم هنا بما نسمعه منه ومن الآخرين مشافهة، انتقل إلى إثبات ما يقوله بشهود عيانيين فقال (5) (وأنه تراءى لكيفا) ولم يذكر أنه تراءى أولاً للمجدلية، مع أن مرقس يذكر أنه تراءى لها أولاً ، وذلك لضعف شهـادة النساء ولذلك نرى الحق القانوني يرفض شهادة النساء، لا سيما في الأمور الجنائية . ( ثم تراءى للأحد عشر ) وهنا موضع نظر . قال القديس أغسطينوس : إن الرسل كانوا إذ ذاك عشرة ، لأن يـوداس كان قد شنق نفسه وتوما كان غائباً ولكن بحكم الكناية ومجاز التضمن متى حضر العدد الأكثر في المجتمع يقال قد التأم وحضر الجميع. وقال: عندي أن كلمة الأحد عشر تحريف أو سهو مـن الكاتب وأصلها : الاثنا عشر . ثم بعد أن تراءى لكيفا رئيس الرسل وهامتهم وذلك في اليوم نفسه (6) (تراءى لأكثر من خمسمائة أخ معاً) كانوا قد اجتمعوا في الجليل. وهم غير الذين اجتمعوا في أورشليم وكان عددهم مائة وعشرين (أعمال 15:1) (أكثرهم باق إلى الآن وبعضهم قد رقدوا) إلى أن يقوموا يوم القيامة. (ثم تراءى ليعقوب أخي الرب ثم لجميع الرسل) ومن جملتهم التلاميذ وذلك قبل صعوده. ثم بحكم التواضع والاسترسال قال: (8) (وآخر الكل تراءى لي أنا أيضاً كأنه للسقط) فأول من تراءى له: كيفا؛ لأن كيفا كان أول من آمن به، وآخر من تراءى له: هو أنا بولس، فشهادتي قوية لا تجرّح ( 9 ) ( لأني أنا أصغر الرسل ولسـت أهلاً لأن أسمّى رسولاً، لأني اضطهدت كنيسة الله ) فلو لم أكن متيقناً أنه قام وظهر لي ، لكنت كذاباً وشهادتي باطلة . (10) ( ولكني بنعمة الله صرت على ما أنا عليه ) بأن لا أكون أصغر الرسل لأني لم أتقاعد عن العمل وعن مجاوبة النعمة ولذلك ( نعمته التي فيّ لم تكن بـاطلة ) لم تثمر، ولم تثمر إلا لأني لبيتها ولذلك قال: (بل تعبت أكثر من جميعهم) لأنهم لم يطوفوا ما طفت من البلاد ولا قاسوا ما قاسيت من الأهوال، ولا جاعوا كما جعت. ولما كان يشتمّ من هذا الكلام رائحة الافتخار بنفسه عقب على كلامه بـقولـه : ( لا أنا بل نعمة الله التي معي (فهي الدافع الأول والإرادة تخدمها ولابد من الاثنين النعمة والإرادة النعمة والعمل ولذلك قال إن نعمة الله لم تكن فيّ باطلة.
131- بعد أن رفع شأن الرسل وأذل نفسه رفع شأن نفسه بياناً للمساواة بهم ورغبة في الثقة به وضمّ نفسه إليهم مرشداً إلى ما بينهم من الاتفاق في المسيح يسوع وإلى أنه داخل في رتبتهم وأنه مساو لهم في البشارة، فقال: (11) ( فسواء أكنت أنا أم أولئك، الرسل ، هكذا نكرز) فلا فرق أقبلتم التعليم مني أم منهم فسلطاننا واحد، وإن اختلفت الأشخاص لا فرق فيما نكرز به علانية (وهكذا آمنتم) فلا تتزعزعوا عن إيمانكم الذي شهد به الله بآيات وعجائب وقوات متنوعة. وتوزيعات الروح القدس على حسب مشيئته وأنتم شهود في جميع ذلك (12) (فإن كان المسيح يكرز به أنه قد قام من بين الأموات، فكيف يقول قوم بينكم بعدم قيامة الأموات) قال: قومٌ، لا جميعكم وهم على الخصوص المتفلسفة الذين هزءوا بالقديس بولس عندما بشر بقيامة الأموات وهـو في أثينا . كما جاء في الأعمـال ( 32:17 ) وهـذا دأب المتفلسفة في كل مكان وزمان أن يستهزئوا ويماحكوا، وهم لا يفقهون ولا يرعوون. فقال : (13) ( فإنها إن لم تكن قيامة الأموات ، فالمسيح إذن لم يقم ) هذا البرهان مبدأ العلة المثلية بحكم المناسبة بين الأعضاء والرأس . فالمسيح هو رأس الكنيسة وهذا قد عرفتموه وآمنتم به وهو قد قام كما ثبت لكم فإذن لابد للأعضاء أن تقوم معه كما قام المسيح الذي هو الرأس إذ لابد من التناسب بين الرأس والأعضاء. والأشرار أيضاً يقومون ولكن لا بحكم استحقاقات المسيح كالأبرار بل بحكم تأدية الحساب والجزاء عما ارتكبوه وهم في الجسد من المعاصي.
132- وأعظم من ذلك ما يشتم منه رائحة المحال فقال (14) (وإن كان المسيح لم يقم، فكرازتنا باطلة وإيمانكم أيضاً باطل) باطل ما وعظتكم به من أنه قد مات لأجل خطايانا وأنه أبطل شوكة الموت، وكان أيضاً ما أنتم به باطلاً. وهذه أمور تتجاوز حدود الصواب. بل أعظم من هذا (15) (أصبحنا شهود زور لله) كأن الله قد استشهدنا لنشهد له شهادة زور ( أنه أقام المسيح ولم يقمه ) وهذه نتائج لابد منها ( إن كان الأموات لا يقومون) ثم كرر ذلك إثباتاً وقال (16) (لأنه إن كان الأموات لا يقومون ، فالمسيح إذن لم يقم ) ولم لم يكن مزمعاً أن يقوم لما كان أتى ولا مات لأجل خطايانا. ثم كرر ذلك وقال: (17) (وإن كان المسيح لم يقم فإيمانكم باطل) فاعقلوا ولا تكونوا متقلقلين كالأطفال، زد على ذلك (وأنتم بعد في خطاياكم) فإن كنتم بعد في خطاياكم (18) (فالذين رقدوا في المسيح أيضاً قد هلكوا) هلاكاً أبدياً لأنهم لا يقومون وكذلك (19) (إن كان رجاؤنا في المسيح في هذه الحياة فقط فنحن أشقى الناس أجمعين) لما نقاسيه من أنواع الضيق والشدة لوجوب سلوكنا في الطريق الضيق. وهنا محل اعتراض مآله أن النفس خالدة فمتى انفصلت عن الجسد تتملص من عراقيله وتتمتع بلذائذ السعادة ولا حاجة لها إلى جسد كان يضايقها، فيجيب القديس توما عنه بقوله : إنه لمن المحال أن ما كان طبيعياً يستمر قليلاً وما كان ضد الطبيعة يستمـر إلى مـا ليس له نهاية، ومن ثم فإن لم تكن قيامة الأجساد، فالنفس لا تكون خالدة وعليه فمتى انفصلت عن الجسد لا تتمتع بخيرات حياة أخرى لأن اتحادها بالجسد طبيعي وانفصالها مخالف للطبيعة.
133- ثم قال (20) (لكن الحال أن المسيح قد قام من بين الأموات وهو باكورة الراقدين)، فمن بعد أن أشار إلى النتائج الوخيمة التي تحصل من عدم الإيمان بقيامة الأموات، كرر كلامه وقال : والحال أن المسيح قد قام من بين الأموات. وزد على ذلك (وهو باكورة الراقدين ) فلابد من أن يقوم الآخرون أيضاً تبعاً للباكورة . ثم أخـذ يعلل ذلك فقال (21) (لأنه بما أن الموت بإنسان) دخل العالم وهو آدم أبونا (فبإنسان أيضاً قيامة الأموات) وذلك دفعاً للعار الذي لحق الطبيعة، بأن الطبيعة التي أذلها الموت هي نفسها تذل الموت وتطرحه وتجدد ما أضاعته وهكذا تزيل العار عنها. والموت الذي أبطل هو الموت الذي جره آدم أي موت الجسد فقال: (22) (فكما في آدم يموت الجميع كذلك في المسيح يحيا الجميع) ولكن لا يخيل إليك أن الجميع يخلصون. ولذلك عقب كلامه وقال: (23) (كل واحد في رتبته) التي سبق الله وحددها (المسيح على أنه باكورة ثم الذين للمسيح عند مجيئه) وقد خرجوا من القبور بعد قيامته (24) (وبعد ذلك المنتهى) أي عند مجيئه وذلك (متى سلم الملك لله الآب، متى أبطل كل رياسة وكل سلطان وكل قوة) والكلام هنا في الابن من حيث هو إنسان. ثم أخذ يصف ما يكون بعد ذلك فقال: وبعد ذلك المنتهى وإبطال كل سلطان وقوة. (25) (لأنه لابد أن يملك حتى يضع جميع أعدائه تحت قدميه (26) وآخر عدو يبطل هو الموت لأنه أخضع كل شيء تحت قدميه وفي قوله (27) إن كل شيء قد أخضع مـن الواضح أنه يستثني الذي أخضع له كل شيء (28) ومتى أخضع له كل شيء ، فحينئذ يخضع الابن نفسه للذي أخضع له كل شيء ليكون الله كلاً في الكل) ولا حاجة إذ ذاك إلى شيء.
134- ثم قال: (29) (وإلا) أي وإن لم تكن قيامة الأموات (فماذا يصنع الذين يصطبغون من أجل الأموات) أي من أجل الأجساد وهم على أسرة الموت . فمـا الإفادة من اصطباغهم إن كانت الأجساد لا تقوم، فإنكم تعتمدون لأنكم تؤمنون بأن الجسد يقوم وذلك بعد أن يدفن والتغطيس في الماء والخروج منه دلالة على النزول إلى القبر والخروج منه في يوم القيامة. ولذلك فإن الرسول نفسه يسمى المعمودية قبراً لقوله: دفنّا معه في الموت (رومة 4:6) لكي نقوم معه. (30) (فإن كان الأموات لا يقومون البتة فلماذا يصطبغون من أجلهم) يراد بالأموات كما أشرنا سابقاً الأجساد والأصح فيما نظن ما قاله البعض من الشرّاح وهو أنه يراد بالأموات لا الأجساد فقط بل الأموات أنفسهم وحجتهم أنه كان من عادة اليهود أن يتطهروا قبل أن يقدموا الذبائح عن الأموات. وعلاوة على ذلك (31) (فها انا ذا .. أيها الإخوة أقسم بالفخر الذي لي بكم) لأنكم آمنتم وأنا أفتخر بكم (في يسوع المسيح ربنا أني أموت كل يوم) لأني ما أزال مستعداً للموت. وما منفعتي من ذلك إن لم تكن قيامة الأموات وكذلك (32) (إن كنت حاربت الوحوش في أفسس بحسب البشرية فما المنفعة لي) في الحياة الحاضرة (إن كان الأموات لا يقومون) وكان الأجدر بنا (أن نأكل ونشرب فإنا غداً نموت) كما يهذي الكفرة المنافقون.
135- بعد أن أطال بيان مـا ينتج مـن المحالات إن كان الموتى لا يقومون، ليّن خطابه والتفت يستنهضهم فقال: (33) (لا تضلّوا) فتقعوا في أضاليل الأبيكورية المنتشرين بينكم فتجنبوهم وسببه (أن العشرة الرديئة تفسد الأخلاق السليمة) كما قال أحد الشعراء وهو مينندروس الأثيني . (34) (استفيقوا) من سكرتكم (للبرّ) الذي يهديكم ويفيدكم لا كمن يستفيق للشر (ولا تخطأوا) إذ تعودون إلى السكر والانهماك في اللذات البدنية (فإن قوماً منكم لا معرفة لهم بالله) بأنه قادر أن يقيم الأموات (وأنا أقول لكم ذلك لإخجالكم) حتى ترعووا وتعودوا إلى الكنيسة وتتجنبوا أولئك الممارين الماكرين.
136- ثم انتقل يعترض على نفسه بأقوال الملحدين فقال (35) (ولكن يقول قائل: كيف يقوم الأموات وبأي جسد يبرزون؟) كيف يقومون وأجسادهم قد انحلت وصارت هباء ودخلت في أركانها الأولى، وما تكون صفة تلك الأجسام التي تقوم؟ هل هي عين التي كانت لهم من قبل أم غيرها؟ فقال : ( 36 ) ( يا جاهل ) إن الدليل على ذلك تجده في نفس ما أنت تعمله كل يوم ، وأنت مع ذلك في ريـب منه . لذلك لا تؤاخذني إذا دعوتك أنـت الـذي تأتي بمثل هـذا الاعتراض جاهلاً لما تصنعه وتعانيه كل يوم. فأنت فاعل القيامة وتشكك في قدرة الله؟ ولهذا قال مفخماً قوله: (إن الذي تزرعه أنت) وأنت رجل قابل الموت (لا يحيا إلا إذا مات) مبرهناً من ضد ما يقولون بأنه لا يقوم لأنه مات، وهو يثبت لهم أنه يقوم لأنه مات. وهذا ما أشار إليه المسيح نفسه بقوله: إن حبة الحنطة التي تقع في الأرض إن لم تمت فإنها تبقى وحدها وإن ماتت، أتت بثمر كثير ( يو 24:12 ) وعلاوة على ذلك ، ( 37 ) (وما تزرعه ليس هو ذلك الجسم الذي سوف يكون بل مجرّد حبة من الحنطة مثلاً أو غيرها من البذور (38) إلا أن الله يجعل لها جسما كيف يشاء. ولكل من البذور جسمه المختص به) كما أعدّه الله له. فجوهر الزرع يبقى ولكن هيئته تتغير هذا (39) (ليس كل جسد جسداً واحداً، بل للناس جسد وللبهائم جسد آخر، وللطيور آخر وللأسماك آخر. وكذلك من الأجساد أجساد سماوية وأجساد أرضية، ولكن مجد السماويات نوع ومجد الأرضيات آخر ( 41 ) ومجد الشمس نوع ، ومجد القمر نوع آخـر ، ومجد النجوم نوع آخر . لأن نجماً يمتاز عن نجم في المجد ) فمن بعـد أن وصف كل ذلك قال ( 42 ) ( وهكذا قيامة الأموات ) فإنهم
لا يقومون جميعهم وصفتهم ليست واحدة بل مختلفي الصفات.
137- بعد أن بين ذلك أخذ يشير مبيناً وجه القيامة فقال (42) (الزرع بفساد والقيامة بغير فساد (43) الزرع بهوان والقيامة بمجد، الزرع بضعف والقيامة بقوة (44) يزرع جسد حيواني ويقوم جسد روحاني. بما أنه يوجد جسـد حيواني فإنه يوجد جسد روحاني أيضاً كما كتب. (45) جعل الإنسان الأول آدم نفساً حية وآدم الآخر روحاً محيياً (46) ولكن لم يكن الروحانيّ أولاً، بل الحيوانيّ وبعد ذلك الروحاني) ثم أتى بفرق آخر (47) (الإنسان الأول من الأرض أرضي والإنسان الثاني من السماء سماوي) لأن الله أبوه (48) (على مثال الأرضي يكون الأرضيون وعلى مثال السماوي يكون السماويون (49) وكما لبسنا صورة الأرضي كذلك سنلبس صورة السماوي) ولكن ما لنا والإطالة في شرح ذلك وبيانه فاعلموا أيها الإخوة وأنا أقول لكم: (50) (إن اللحم والدم لا يستطيعان أن يرثا ملكوت الله) فهذا الجسد الحيواني الذي يشغلنا في الحاضرة وهذا الدم الذي نغتذي به لا وجود لهما في الآخرة فلا مأكل هناك ولا مشارب ولا… بل يكون كل شيء روحانياً فالأجساد تقوم كما قام جسد المسيح السيد، ولكنها بحكم المجد الذي تناله لا يعتورها فساد ولذلك قال (وإن الفساد لا يرث ما ليس بفساد) طالما هو فساد ولا يتطهر قبل أن يموت، والمراد بالفساد هنا الفاسد نفسه. ثم عاد يذكرهم بالقيامة وهي السر العجيب والأساس الوطيد فقال (51) (وها إني أكشف لكم سراً).
138- أكشف لكم سراً عجيباً في كشفه تنكشف جميع الأسرار، سراً لم يعرفه البشر وما هو ذلك السر؟ (انا سنقوم كلنا ولكن لا نتغير كلنا)، كلنا: يعم جميع البشر أشراراً كانوا أم أبراراً، وأما كلنا الثانية فتتناول الأشرار الذين لا يتغيرون بحكم المجد ولكنهم يقومون للعذاب. وقال البعض أي أننا لا نتغير بأن يلبس الواحد منا غير الجسد الذي كان له قبل أن مات وقام، بل يلبس عين الجسد الذي كان له فإن لم يلبسه في جميع أجزائه التي كانت له عند الانفصال، فإنه يلبس منها ما شأنه أن يميزه عن سواه. ثم أخذ يبين لنا كيف تكون القيامة فقال (52) (في لحظة وطرف عين) وهذا عجيب بل أعجب مما سبق الكلام فيه من تغير الأجساد وقيامتها مجدّدة بالمجد والبهاء (ففي لحظة عند البوق الأخير فإنه سيهتف فيقوم الأموات عادمي الفساد ونحن نتغير) أما نحن المختارين فعلاوة على أننا نقوم عادمي الفساد نتغير إذ نلبس جسداً ممتعاً بصفات المجد والبهاء (53) (لأنه لابد لهذا الفساد أن يلبس عدم الفساد ولهذا المائت أن يلبس عدم الموت) فالجسد قابل الفساد وقابل الموت. إذن الجسد يبقى لأنه هو الموضوع الذي يلبس، وقابل الفساد وقابل الموت هما المحمول فالمحمول هذا يزول والموضوع يبقى غير قابل الفساد وغير قابل الموت وذلك متى لحقته صفة الخلود وعدم الفساد، وعليه فلا سبيل إلى الشك في كيفية خلوده (54) ( ومتى لبس هذا الفاسد عدم الفساد ولبس هذا المائت عدم الموت، فحينئذ يتمّ القول الذي كتب ) في أشعيا : ويبيد الموت على
الدوام (8:25) (أن قد ابتلع الموت في الغلبة).
139- هل أمكن الرسول أن يأتي بما أتى به من وصف القيامة من عند نفسه. فمن أين اختزله وكيف أمكنه أن يتصوّره، أمن سبيل إلى معرفة ذلك بغير طريقة الوحي والإلهام؟ فلما فاض عليه النور الإلهي، هتف متهكماً على الموت وقال: (55) (فأين غلبتك أيها الموت وأين شوكتك أيها الموت (56) إن شوكة الموت هي لخطيئة) والمسيح قد محاها (وقوة الموت الناموس) وقد أبطل (57) (فشكراً لله الذي منحنا الغلبة بربنا يسوع المسيح) (58) إذن أيها الإخوة الأحباء كونوا راسخين غير متزعزعين) بل كونوا (مستزيدين في عمل الرب كل حين إذ تعلمون أن عملكم ليس بباطل في الرب). وبعد أن أنجز كلامه في التعاليم الاعتقادية، أخذ يحرضهم في الفصل الآتي والأخير على تهذيب الأخلاق كما هي عادته في جميع رسائله.
الفصل السادس عشر
حث الكورنتسيين على سد احتياجات الإخوة في أورشليم. نصائح وتحيات.

يحرّضهم على جمع إحسانات ترسل إلى أورشليم إلى المسيحيين الذين فقدوا أملاكهم بسبب اضطهاد اليهود، ويوصيهم بتيموتاوس، ويختم رسالته هذه بإهداء السلام المتبادل. وتجد في هذه الرسالة أخص ما تعلمه الكنيسة بخصوص وحدانية الإيمان، والزواج، وسر الإفخارستيا، والقيامة. ونحن ذاكرون هنا بعض اعتراضات يأتي بها المتفلسفة بخصوص القيامة. فترى ما يهرف به أولئك الفلسفيون وهم لا يعقلون.
140- يقولون أولاً: إن الأجزاء المتركب منها الجسد التي انتشرت في أجساد لا تحصى وقد تغيرت لا يعقل كيف يتوفر جمعها ثانية وردّها إلى ما كانت عليه. والجواب: هذا والحق يقال يتجاوز دائرة العقل إذا أضربنا عن قدرة الله الخالق إذ له سبحانه أن يجمع ما تفرق من الأجزاء التي لا يمكنها أن تتوارى عن نظره الإلهي، ولا سيما أن الأجزاء الأصلية لا تتغير في حدّ نفسها ولا تتلاشى وما انتقالها من جسد إلى آخر إلا على سبيل العرض كما يوضحه علم الفسيولوجية. والذي أمكنه أن يخلقها من العدم يمكنه أن يعيدها إلى ما كانت عليه.
يقولون ثانياً: إن المواد عند انتقالها من جسد إلى آخر تتحول إلى جوهر آخر مختلف كل الاختلاف عن الجوهر والجسد الذي كان يتقوّم بها من قبل وقالوا: زد على ذلك أن من الناس من يأكل بعضهم بعضاً رأساً وإما بواسطة أكلهم لحوم حيوانات وطيور وأسماك قد تحولت إليها اللحوم البشرية بعد أن أكلوها. فكيف تجمع تلك الأجزاء المتبددة. وقالوا: وفوق ذلك أن المادة في الإنسان الواحد تتغير دائماً بحيث يصير الجسد بعد سبع سنين غير الجسد الذي كان من قبل فكيف يمكن جمع أجزائه. وقالوا أخيراً، وهم متغطرسون: إذا أحصيت البشر مذ كان الإنسان إلى منتهى الدهر وهم ألوف المليارات لا تكاد الأرض تسعهم أحياء فكيف يقومون؟
الجواب عن ذلك على سبيل الإجمال: من المجمع عليه بين العلماء أن الأركان الأولية المولدة للمادة عادمة الفساد والفناء. وعليه فمهما يعتورها من التحولات والانتقالات تستمر على ما هي عليه في حدّ نفسها ولذلك فإن الله سبحانه أن يردها إلى ذلك الجسد الذي شغلته مدة من الزمان. زد على ذلك أنه ليس من باب الضرورة أن ترد إلى الجسد جميع الأجزاء التي كانت له وقت الانفصال يكفي أن يردّ إليه ما من شأنه أن يميزه عن غيره. والجسد واحد كثرت أجزاؤه أم قلّت. وأما قولهم في إحصاء البشر وضيق الأرض عن وسعهم فذلك ضرب من الهذيان.
هذا واعلم أن الاعتقاد بقيامة الأموات إنما هو صادر عن الاعتقاد بخلود النفس وهذا بالإجماع ولا ينكره إلا الماديون والسفسطائية. والإنسان يقوم كامل الأعضاء رجلاً كان أم امرأة.
141- إن العلامة ترتوليانوس كتب كتاباً يثبت فيه قيامة الأموات وهوذا ملخص ما جاء به من الأدلة التي اختزلها أولاً من شرف الإنسان ورفيع مقامه في سلم الكائنات، ثانياً من قدرة الله تعالى، ثالثاً من عدل الله، رابعاً من وعده الذي لابد من إنجازه.
أولاً : من شرف الإنسان ، قال ما ملخصه : إن الله ، سبحانه ، قد تنازل وصنع جسد الإنسان بيده ونفخ فيه نسمة حياة، وجعل فيه نفساً على صورته ومثاله إلى أن صار الإنسان ليس فوقه فوق في سلم الكائنات إلا الله تعالى. وقد رفع مقام الجسد إلى أن جعله يشارك النفس في أشـرف أفعالها ، إذ لا يمكنها أن تدرك أمراً ، منفصلة عـن الجسد إذ أقامه خادماً لها أميناً بل عوناً كريماً بل جعله آلةً لابد منهـا لقبـول ما يفاض على النفس من النعم الخلاصية. فإذا ما اصطبغ بماء العماد تطهرت النفس وهو هو يغذيها روحاً وحياة بمناولته جسد الرب وشربه دمه الأقدس وبما يباشره من أنواع الإماتات والصوم والعفاف والآلام يقدم ذاته ذبيحة مرضية لله وأعظم من ذلك فإن القديس بولي يذكّرنا بأن أجسادنا هي أعضاء المسيح وأنها هيكل الروح القدس. ماذا؟ فهل يدعها الله تتلاشى وهي عمل يديه، وطرفة قدرته، ومستودع نفخته، وملك الخليقة كلها ووريث ووارث نعمه. فكيف يدعه يتلاشى وهو سبحانه لا يدع ذرة واحدة تتلاشى. فإن كان الله قد قضى عليه بالعذاب لأنه خالف، فالابن الوحيد قد أتى ووفى عنه وأصلح. وكما أن المسيح قد قام فكذلك الإنسان يقوم كاملاً وإلا جهلنا ما تمتدّ إليه رحمة الله.
ثانياً : من قدرة الله سبحانه: لا ينكر قيامة الأموات إلا من يشكك في قدرة الله الخالق. ما من شيء يفنى ويتلاشى بكليته في سلم الكائنات. فالأشكال تتغير ولكن كل شيء يتجدّد وكأنه يعود إلى الشبيبة. لقد قضى الله وختم الكائنات بخاتم الخلود، فالنهار يعقب الليل والكواكب تخسف وتعود إلى حالها. والربيع يرتق فتق الشتاء. فتتجدّد الأزهار وتعقبها الثمار وتنبعث الحيوانات ، وكـان يبدو أنها ماتت كدودة القز وغيرها. فإنه تعالى قد جعل لنا الطبيعة صحيفة نقرأ فيها، فنرى آثار القيامة، قبل أن أوحاها إلينا. فأعظم بها من حكمة ومن قدرة.
ثالثاً : العدل يقتضي القيامة : لابد مـن القضاء على الإنسـان وإلا كان الله غير عادل فيجازي الإنسان كله خيراً كان قد عمل أم شراً فإن الجسد آلة النفس سواء أعملت للفضيلة أم للرذيلة وهي آلة حية تشارك فعلاً في الأعمال بدليل أن حركات النفس وإن كانت سرية خفية تظهر في الغالب ناطقة على وجه الإنسان، ولا سيما في عينيه إذ لا يمكن النفس أن تفرح أو تحزن دون أن يشعر الجسد بذلك بشدة اشتراكه معها في الأعمال خارجية كانت أم باطنية- نعم إن الإنسان عنده من ذات طبعه قوة الإدراك، ولكنه لا يدرك شيئاً ما لم يتناوله عن الحواس الجسدية. فمن العدل إذن أن يكافأ على معاونته الجميلة وأن يجازي على مساعدته السيئة فكان عليه ، ولابدّ ، أن يقوم لتأدية الحساب في ذلك اليوم الهائل . وعليه قول المخلص: فيذهب هؤلاء إلى العذاب الأبدي والصديقون إلى الحياة الأبدية (متى 46:25).
رابعاً: وعد الله: المواعيد في العهد القديم ولا سيما في العهد الجديد أكثر من أن تعد. وحسبك ما عرفته من كلام القديس بولس، وهذا القدر كاف
إن كان رجاؤنا في المسيح في الحياة فقط فنحن
أشقى الناس أجمعين (1كور 19:15).