صفحات قبطية الجزء الثاني: البطريرك كيرلس مقار

صفحات قبطية الجزء الثاني: البطريرك كيرلس مقار

بقلم: الشماس اسحق مقار ابراهيم

مـقـدمـة عـامـة :
إن ما نقرأه في تاريخ البطريرك كيرلس مقار أول بطريرك لطائفة الأقباط الكاثوليك، ويلقب بكيرلس الثاني مقار إتباعاً لبطريرك الإسكندرية كيرلس الأول الذي أعلن أمومة العذراء مريم في مجمع القسطنطينيه سنة 381، نجد صداه في مقدمة قراءة تاريخ أيٍ من الشعوب والأمم، فعندما يتصفح القارئ كتب التاريخ مراراً ويتوقف أمام المراحل المتعاقبة التي تخوضها الشعوب، فيلاحظ سرعة التدهور والانهيار والهبوط من قمة العظمة والمجد والازدهار إلى الذل والتدهور والاستعباد. من المجد إلى الأنانية التّي تولّد الكراهية والحقد ومن ثم الانقسامات، فتتصدع الوحدة ويتسبب الضعف ثم الخراب. فما يقال عن الشعوب نجده أيضاً ينطبق على الأشخاص، وهذا ما نراه مثلاٍ في حياة البطريرك الذي نحن بصدده، فقد وصل البطريرك كيرلس إلى مراقٍ عاليةٍ من المجد وانتهى بالموت في المنفى بسبب الحقد والكراهية والانانية والانقسامات التي حيكت حوله .
أولاً لمحة عن حياة البطريرك كيرلس مقار :
ولد جرجس مقار في بلدة الشنانية التابعة لمركز صدفا في محافظة أسيوط الواقعة جنوب القاهرة، في السابع عشر من يناير (كانون الثاني) سنة ألف وثماني مئة وسبع وستون، من أبوين صالحين عاشا حياتهما في مخافة وتقوى الرب، كما أنهما من متوسطي الحال، لكنهما غمرا ابنهما جرجس بالمزيد من الحب والحنان والعطف، ومع الأسف الشديد لم يدم هذا الحب طويلاً، نظراً لوفاة الأم، وهو في الثالثة من عمره.
عزم والده على أن يكرس حياته لله بقية أيامه، فتقدم بطلبٍ من الأنبا اغابيوس بشاي المدير الرسولي آنذاك على الطائفة، ملتمساً منه أن يقبله في سلك الكهنوت، وهكذا استجاب المطران بشاي، فقوبلَ والد الصبي في مقر النيابة الرسولية، استعداداً منه لنوال نعمة الكهنوت التي رغب فيها، وبعد فترة من الوقت والاستعداد الكافي نال الكهنوت بسيامته كاهناً على مذبح الرب. أما عن جرجس فقد أودع لدى المقربين إليه من الأهل للعناية بتربيته وشمله بعطفٍ وحنان كما كان بين احضان والديه .
لما بلغ جرجس العاشرة من عمره، أي في سنة 1878م تقَّرر إلحاقه بالكلية الاكليريكية الشرقية التابعة لجامعة القديس يوسف في لبنان والتي يديرها الآباء اليسوعيين. أتم جرجس دراسته بتّفوق وحصل على درجة الدكتوراة في دراسة الفلسفة واللاهوت. كما أجاد اللغات اليونانية واللاتينية والعبرية علاوة على اللغة العربيّة كما أتقن اللغة الفرنسية حتى أنه نظم أشعاراً فيها. وقد ألف وهو طالب روايتين تمثليتين باللغة الفرنسية ونظمهما بطريقةٍ شعرية، وهما: “إيمان لبنان”، و”شهيد الاكواتور : جاد سيامورنيو”، قضى الفتى جرجس أربعة عشرة سنة في مراحل التعليم المختلفة ومن بعدها سيم كاهناً في السنة 1891 في كنيسة جامعة القديس يوسف في بيروت – لبنان متخذاً اسم الأب “جرجس”.
غادر الأب جرجس مقار لبنان عائداً إلى وطنه مصر وحيث توجه في بادئ الأمر إلى مسقط رأسه بلدة الشنانية التابعة لمحافظة أسيوط، واستقبلَ بحفاوة هائلة، من الأهل والأقارب، وبعد فترة من الراحة من عناء التعب والدراسة، أخذ الأب جرجس يفكر بهدوء ويخطط للمستقبل، إذ قد رأى أن من واجبه العمل بجد ونشاط في سبيل إستعادة كنيسة الاسكندرية مجدها وفخرها ولاسيما بعد أن دب فيها الانقسام، منذ زمن بعيد فتراجعت وضعفت قوتها، عليه هو إذاً أن يقوم بدوره من أجل إحياء عهدها الماضي وعودتها إلى الوحدة .
بعد ثلاثة أشهر من عودته إستدعاه المونسنيور انطوان كابس النائب الرسولي على طائفة الأقباط الكاثوليك آنذاك، وعينّه مدرساً في مدرسة الأقباط الكاثوليك، المجاورة للدار البطريركية في منطقة درب الجنينية في حي الموسكي – القاهرة. في خلال فترة التعليم وضع كتابه الأول بعنوان الكنيسة القبطية، وقسمه إلى جزئين: دليل المصريين، والمسيح عمانوئيل. في هذا الكتاب بحث في نقطتين مهمتين بين الكنيستين الكاثوليكية والقبطية الارثوذكسية. رئاسة البابا، وطبيعة المسيح. وقد ألف هذا الكتاب علّ الكنيستين بالاتفاق على هاتين الحقيقتين تتم الوحدة المنشودة بينهما وبهذا يعود إلى الكنيسة المصرية كنيسة الاسكندرية مجدها الأول.
لم يكتف الأب جرجس بهذين البحثين بل قام بإلقاء المحاضرات والتي وصل عددوها إلى تسعة وأربعين، جمعت كلها في مجلدٍ كبير وضخم تحت عنوان: “تاريخ كنيسة الإسكندرية منذ القديس مرقس كاروز إلى يومه هذا”.
قد عقبت المحاضرات تحركات أخرى قام بها الأب جرجس لصالح كنيسته أبرزت شخصيته، فأقيم أسقفاً ونائباً رسولياً للأقباط الكاثوليك في الخامس عشر من شهر مارس (اذار) سنة 1895 متخذاً أسم كيرلس مقار ولقب أسقف قصيرية فيلبس ونائب رسولي على الكنيسة المرقسية الاسكندرانية.
في ذلك الوقت لم يكن عدد الاقباط الكاثوليك يفوق الأثنى عشر الفّاً وكان الكهنة على الأكثر ثلاثين، كانوا من النخبة في العلم والخبرة، يتميزون بعقل ثاق، ذهن وقّاد، وغيرة رسولية. وبسبب هذه الخصال كان لابد أن يأتوا أموراً كبيرة تحت نظر البابا لاون الثالث عشر الأبوي، الذي أراد لمسيحي مصر أن يجددوا سيرة أجدادهم، من خلال ثلاث كلمات: مدرسة الاسكندرية، والحياة الرهبانية، وطغمة الاكليروس مزدانة.
قسم الأنبا كيرلس مقار النيابة الرسولية إلى خمسة أقاليم كنائسية، يقوم بتدبير كلّ منها رئيس بالنيابة عنه يقدم كل سنة حساباً مدققاً عن إدارته، كما أنه جعل الرؤساء الخمسة أعضاء مجلسه الكنسي يجتمعون على الأقل مرة في السنة، ليفصلوا في المسائل الهامة. ويقيموا ما جرى في أقاليمهم، ويتداولوا في الطرق الواجب اتخاذها لاستئصال الضعف والتصرفات السيئة. وبعد ذلك يقدمون تقريراً للنائب الرسولي، فيه يعلمونه بالتفصيل عن حالة كنائسهم المتنوعة وعن احتياجاتها المختلفة الروحية والمادية. إضافة إلى كل ذلك تّم الفصل بين الاشياء المتعلقة حصراً بالاسقف ومجلسه الكنائسي والاشياء التي يطلب من الاخوة العوام من اهل الخبرة والغيرة أن يشاركوا فيها.
جميع هذه التدابير شرحها الأنبا كيرلس مقار في أول منشور له أصدره بعد إرتقائه الدرجة الاسقفية في السابع من شهر مايو (أيار) سنة 1895 يوم عيد القديس مرقس كاروز الديار المصرية، معلناً لأبناء كنيسته الصلة التي يجب أن تكون بينهم وبين قداسة البابا، وتلك التي يجب أن تقوم بينهم وبين المرسلين الذين ضحّوا في سبيل خدمتهم. وأول ما شرع فيه هو تقويم إدارة النيابة الرسولية، فقد وضع فاصلاً واضحاً بين الأمور الزمنية والأمور الروحية. فبالنسبة للأمر الزمنية والأمور الروحية التي يدخل فيها الروحي والزمني انشاء لها مجلسي شورى: الأول مجلس الشورى الأعلى، مكون من أثنى عشر عضواً من أعيان الطائفة، والثاني هو مجلس قضائي، غايته مساعدة المدير الرسولي فيما يتعلق بالأحوال الشخصية التي يجب البتّ فيها. وأما بالنسبة للأمور الروحية الكنسيّةِ الداخلية، فجعلها خارجة كلياً عن نطاق العلمانيين ليتفادى الخلافات التي تحدث عادة بين الاكليروس والعلمانيين.
شعر البابا لاون الثالث عشر بيقظة الكنيسة القبطية الكاثوليكية وبتمسكها الكرسي الرسولي، فقد وردت إليه عدة برقيات ورسائل من الاكليروس والعلمانيين، فوجّه إلى هذه الكنيسة التي أراد أن ينتشلها من وهدة الأحزان، بمد يد المساعدة لها في سبيل الوصول إلى الوحدة، تلك الوحدة المسيحية التي شرع في إحيائها في الأقطار الشرقية، وكانت هذه الرسالة بتاريخ 11 حزيران (يونيو) 1895 وتبعها منشور رعوي للأنبا كيرلس مقار، يعلق فيه على رسالة البابا .
تقبل الاقباط الرسالتين بحماس وتكوّن وفد بزعامة باغوص باشا غالي أحد احفاد المعلم غالي وترأس الوفد الانبا كيرلس مقار وتوجه إلى روما لشكر البابا ولإثبات تمسك الأقباط الكاثوليك بالكرسي الرسولي، ولطلب المزيد من المساعدة في سبيل إحياء الكرسي الاسكندري والارتقاء بالكنيسة القبطية الكاثوليكية
بعد ذلك توجه الأنبا كيرلس مقار إلى النمسا لمقابلة الامبراطور فرنسوا جوزيف وكان معتبراً محامياً للاقباط الكاثوليك. كما أن حكومة النمسا تبرعت له بمبلغ خمسة واربعين ألف فرنك وقد وعد الامبراطور بالمزيد من المساعدة لتشييد الدار البطريركية وكاتدرائية الإسكندرية، وأنعم عليه بوسام فرنسوا جوزيف من الدرجة الثانية، ومنثم الدرجة الأولى .
في 26 نوفمبر (تشرين الثاني) سنة 1895 أصدر البابا لاون الثالث عشر رسالة أعلنها إلى العالم المسيحي في قلب مجلس الكرادلة المنعقد رسمياً تحت رئاسته، أعاد بموجبها إلى الأقباط مقام البطريركية الإسكندرية الكاثوليكية بجميع إمتيازاتها القديمة وقرر للأقباط أمر تدبيرها الروحي والرعوي، كما قرر مؤقتاً تأسيس أسقفيتين خاضعتين للبطريركية، الأسقفية الأولي مقرها في مدينة هيرموبوليس (المنيا) وعين لها البابا الأب مكسيموس صدفاوي أسقفاً. والأسقفية الثانية مقرها في مدينة ديوبوليس (طيبة -الاقصر) كما عين لها الأب بولس قلادة باسم الأنبا اغناطيوس برزي.
في سنة 1896، اندلعت الحرب بين ايطاليا وإثيوبيا، وكان إمبراطور إثيوبيا، قد غنم كثيراً من الأسرى الإيطاليين، وأراد قداسة البابا لاون الثالث عشر أن يتوسط لدى الإمبراطور حتى يطلق سراحهم، فوقع اختياره لهذه المهمة الخطيرة على الأنبا كيرلس مقار، فلبى الأنبا مقار الدعوة واصطحب معه الأب لويس سلامه ورسالة قداسة البابا الموجهة إلى المنليك .
استغرقت الرحلة ستة أشهر كاملة وكانت محفوفة بالكثير من المخاطر، وبقى الأنبا كيرلس مقار في ضيافة ملك اثيوبيا الذي أُعجب بفطنته ومنحه وساماً رفيع الشأن، خمسة عشر يوماً، ثم تركه معه رسالة إلى البابا عبّر فيها الإمبراطور عن استعداده الطيب لتلبية آمال قداسته وآماله الشخصيه في تسريح الاسرى الايطاليين فور إيفاق الحكومة الايطالية أعمالها الحربية إلا أنه وعد بأن تخفف وطأة الأسر إلى حينه إلى أقصى حدّ مستطاع. لم ينسى في مطلع الرسالة أن يفوّه بشكل ظاهر برسول البابا، البطريرك كيرلس مقار. وبالفعل ما كاد هذا الرسول ورفيقه يعودان إلى وطنهما حتى دقت بشائر بعقد الصلح بين إثيوبيا وايطاليا بإطلاق الأسرى.
في عام 1898، دعا الانبا كيرلس مقار إلى عقد مجمع كنسي رسمي للنظر في كلّ ماله علاقة بدستور الايمان ولآداب الكنسية وتوزيع الاسرار المقدّدسة والوسائط المناسبة لخير المؤمنين، وحقوق الرعاة وواجباتهم نحو رعاياهم وأعلن أن البابا وافق على هذا المشروع وباركه وعيّن نائباً عنه يرأس المجمع.
وأفتتح المجمع أعماله في الثامن عشر من شهر يناير كانون الثاني سنة 1898 وسار الموكب يتقدمه الصليب من الدار البطريركية في حي درب الجنينة في الموسكي بالقاهرة إلى الكنيسة الكاتدرائية .
في نهاية المجمع الملي الكبير، حث البطريرك كيرلس مقار أبناء القديس مرقس كاروز الديار المصرية على النهوض والتقدم، ومن ثم كرّس الكنيسة القبطية الكاثوليكية لقلب يسوع الأقدس ملكها وإلهها. بعد الختام تواً، قام الأنبا كيرلس مقار مع مُسجّل المجمع بعمل مضنيٍ دام شهرين، ورتبّا فيه قرارات المجمع في نسخة نهائية وقع عليها كل الاساقفة أعضاء المجمع وأرسلت إلى روما لبحثها والتصديق عليها. وفي 23 ابريل نيسان عام 1899 صدّق عليها الكرسي الرسولي، وطبعت أعمال المجمع في مطبعة انتشار الايمان في روما في مجلدٍ متوسط الحجم ولم تنشر باللغة العربية ما عد ما يتعلق بقوانين الأحوال الشخصية .
لقد أتى الانبا كيرلس مقار بأعمال جليلة كثيرة في مدّة وجيزةٍ تحسيناً لشؤون كنيسة الأقباط الكاثوليك، فضلاً عن المهام الخطيرة التي قام بها أمام الملوك والسلاطين. فبمساعيه تعين النائب الرسولي أسقفاً وتجدد مقام البطريركية الإسكندرية، بُنى المعهد الاكليريكي في طهطا .
ثانيا الأنبا كيرلس بطريركا للأقباط الكاثوليك
لبّي الانبا كيرلس طلب البابا للتوسط لدى منليك سلطان اثيوبيا لإطلاق سراح الاسرى الايطاليين وبجهدوده أجتمع أساقفة الكنيسة المصرية الكاثوليكية في الدار البطريركية، تحت رئاسة القاصد الرسولي. كما سعى إلى تجديد قانون الكنيسة القبطية مع مراعاة ظروف الزمنية والمكانية، وساهم بشكل فعال في بناء كاتدرائية القيامة في مدينة الاسكندرية لتكون منارة للكرازة المرقسية على ذات الأسس التي قامت عليها كنيسة الاسكندرية في عهد البطاركة الاقدمين .
إزاء هذا، فإن البابا لاون الثالث عشر أعلن كيرلس مقار بطريركاً على الكرسي الاسكندري لما رأى فيه من العلم والتقوى وحسن الإدارة والوساطة. وقد تم سيامتة وتجليسه في الكاتدرائية الجديدة بمدينة الاسكندرية في 31 يوليو 1899م. بعد ذلك قام البطريرك الجديد مع وفد من الكنيسة القبطية الكاثوليكية برئاسة بوغوص بك غالي برحلة إلى روما لتقديم الشكر إلى البابا لاون الثالث عشر وللتعبير عن إتحاد الاقباط الكاثوليك بكنيسة روما “الكرسي الرسولي”. ومن بعد هذه الزيارة تقّلد البطريرك كيرلس مقار درع التثبيت في حفل أُقيم في كاتدرائية درب الجنينة في حي الموسكي –القاهرة، في خلال الحفل تُليت أول رسالة بطريركية للبطريرك كيرلس الثاني مقار دعا فيها إلى قيام عيد كبير أعلنه البابا لاون الثالث عشر وهو سنة اليوبيل المقدسة وهي تعبير عن بدء القرن العشرين .كان من الصعب على أي بطريرك أن يمارس سلتطة مالم يكن هناك علم وخبر لدى السلطة العثمانية به.فلم يكن هناك بطريرك في عهد الامبراطورية العثمانية أن يباشر أي سلطة أو ولاية، حتى بعد انتخابه إن لم يمنحه السلطان براءة التثبيت التي كانت تقّره رسمياً حاكماً على كنيسته، وفي هذه البراءات كانت تُعيّن حدود السلطة والانعامات الممنوحة لكل بطريرك. وكان البطاركة يعتبرون حكاماً حقيقيين ذوي سلطان داخل السلطة العثمانية وكانت التولية تصدّر عن الباب العالي بالنسبة للرؤساء الروحيين في مصر هم أصلاً مصّريون ويمارسون ويباشرون ولايتهم في مصر فكان يكفي أن يعترف الخديوي بولاية الرئيس الديني المصري. هكذا اعترفت الحكومة المصرية بالأنبا كيرلس مقار بطريركاً بموجب قرار خديوي صدر في 29 يناير كانون الثاني سنة 1900م. في ذلك الوقت، كانت فرنسا تعتبر نفسها الدولة الوحيدة، دون سواها، المختصة بحماية المصالح الكاثوليكية في الشرق مستندة في ذلك على التقاليد والمعاهدات والمبادئ العامة لحق الامتيازات الأجنبية. إلا أنه في الواقع لم تكن حماية فرنسا شاملة بل حدثت لها بعض التقييدات، إحداها يتعلق بالأقباط الكاثوليك التي تقوم نحوهم دولة النمسا والمجر بدور الدولة الحامية وقد أختلف المؤرخون على تاريخ استبدال حماية فرنسا بحماية النمسا والمجر وعلى الاسباب التي دعت إلى ذلك .
خلاصة
تم اعتراف من الحكومة المصرية حكومة الخديوي لحكومة الامبراطور والملك بممارسة حماية دينية على الاقباط الكاثوليك تشبه الحماية التي تمارسها فرنسا على الطوائف الكاثوليكية الأخرى في الإمبراطورية العثمانية، ويبقى لأعضاء الأقباط وممتلكات كنيستهم خاضعين للتشريع والولاية المحلية. كما أُعترف رسمياً بالبطريرك كيرلس مقار كرئيساً لطائفة وطنية وبهذا الاعتراف عومل البطريرك معاملة بطريرك الاقباط الارثوذكس الذي له مكانته في بروتوكول الدولة وله الحق في تنقلاته، لتفقد أبناء شعبه وأن يستقبل استقبالاً رسيماً وبكل حفاوة
نوجز القول عن ابرز ما تميز به البطريرك كيرلس مقار:
1- كان البطريرك كيرلس راعياً غيوراً محباً لرعيته .
2- أميناً في خدمته لربه ومعمله يسوع المسيح
3- تميز بالعلم والفصاحة والذكاء الحاد وتعدد اللغات .
4- له الكثير من المؤلفات الادبية والكنيسة الدينية واللاهوتية والروحية نذكر منها مخطوط من ثلاثة اجزاء نُشر اثنان والثالث مخطوط عن تبرئة اوريجانوس الاسكندري.
5- دعا إلى عقد مجمع كنسي لبحث الشؤون الرعوية والقانونية وحقوق وواجبات الرعاة .
6- صحّح تقويم كنيسة الاسكندرية بناءً على مستندات علمية، جعله موافقاً مع الإصلاح الغريغوري.
7- تضلع في القانون المدني وإذ بجدراته هذه استطاع أن ينهي قضية سيداروس الشهيرة التي شغلت البطريركية منذ عهد الانبا أغابيوس بيشاي.
8- ألقي محاضرة عن السيزاريوم أحدثت اهتماماً كبيراً في الاوساط العلمية إذ سرد بمهارة عالية تاريخ الهيكل القيصري المعروف بالسيزاريوم، وكيف تحّول في عهد قسطنطين الملك إلى معبد مسيحي صار فيما مقراً لبطاركة الإسكندرية. وعلى إثر هذه المحاضرة طلبت الجمعية الخديوية منه محاضرة حول رسالة القديس مرقس في الديار المصرية .
9- شيد المعهد الاكليريكي في مدينة طهطا –سوهاج جنوب القاهر، وهو اليوم الاكليريكية الصغرى .
10- شيد كاتدرائية القيامة مكان السيزاريوم والعديد من الكنائس التي رممها بمساعدة البابا لاون الثالث عشر .
11- قام بشراء مطبعة بحروف قبطية وعربية وطبع فيها الكتب الطقسية ولاسيما كتاب القداسات وكتاب اسبوع الالام وخدمة الاسرار وقطمارس الرسائل بالعربي .
12- اشترك في العديد من الندوات واللقاءات والجمعيات العلمية وكان عضواً بارزاً في المجمع العلمي المصري وعضواً في الجمعية الجغرافية الخديوية ورئيساً فخرياً لجمعية شيكاغو الاميريكية العلمية .
13- أسس صحيفة الاسد المرقس والتي كانت الغاية منها تقرير الحقائق بالأدلة الواضحة والبراهين الراجحة. كما أسس العديد من الجمعيات التي تُعنى بشؤون الكنيسة .
لقد ظل الانبا كيرلس بعد انتخابه بطريركاً سنيناً قلائل موصلاً فيها أعماله الجليلة ولاسيما فيما يتعلق بالعلوم الكتابية والابحاث الدقيقة عن الآثار التاريخية إلا أن تلك الأيام لم تدم طويلاً فإن روح الخلاف أخذ يدب بين الاقباط واستحكمت حلقاته حتى أضطر البطريرك إلى تقديم استقالته في 30 مايو ايار سنة 1908 وفي ذلك العهد تلبدت الغيوم في سماء الكنيسة القبطية الكاثوليكية وتبلبلت الأفكار فأنحجبت شمس الحقائق وخيم على نورها الظلام الحالك .
وياللاسف فأن الانبا كيرلس مقار قد سار في هذا الظلام ردحاً من الزمان فزلت قدماه وسقط متعثراً في دياجيره فبكت الأمة بأسرها لسقطته، ولكن إيمانه الرسخ في قلبه عاد فتغلب عليها فهتك بنوره الحجب الكثيفة، إذ اعلن انتماءه للكنيسة الارثوذكسية، ثم عاد سريعا تائباً ونادماً وسرعان ما قصد عاصمة الكثلكة مبدياً ما يكنه صدره من عواطف الولاء نحو الكنيسة الرومانية وتعلقه بكرسيها الرسولي .
ولما بلغه أن الاضطربات لا تزال ضاربة في بلده، قَبِلَ شاكراً نصيحة المشير العالي الذي أوعز إليه أن يبقى في لبنان فبقي في المنفي مقتدياً بالعلامة اوريجانوي الاسكندري وعاش هناك مدة الحرب العالمية الأولى، والله عليم بما قد عانى هذا البطريرك من مشاق وكم قاسى من صنوف الفتك ولكنه كان ثابت الجنان رابطه الجأش واسع الصدر كبير الصبر.
رغم هذه المحن كلها، لم ينس الأنبا مقار بلده مصر وكنيسته ففي عز ما كان يقاسي منه من متاعب واحزان لم يتوقف لحظة واحدة عن ذكر كنيسته وعزها الشامخ، بالرغم ما قيل عنه أنه انضم إلى الكنيسة اليونانية ولكن قبله وفكره وصلاته لم ينفصل عن كنيسته بنت يديه ناطقاً كلمته الأخيرة: “اذكروا كنيسة الإسكندرية ولا تنسوا مجدها”. توفي وفي نفسه أنين وحنين على اسباب الخلاف والشقاق التي مزقت أحشاؤه، في عزلة عن الأهل ووحشة الاصدقاء ولكنه كان مشمولاً برعاية ومحبة وعناية ربه.

هذا المقال مأخوذ من كتاب تاريخ الانبا كيرلس مقار بطريرك الاسكندرية للاقباط الكاثوليك
1899-1921م بقلم الأنبا يوحنا كابس.

الشماس اسحق مقار ابراهيم