عثرة إعادة المعمودية بقلم الاب توما ملاك

عثرة إعادة المعمودية بقلم الاب توما ملاك

نّ سرّ المعمودية، هو أوّل أسرار التنشئة المسيحية الثلاثة، لذا فهو في علاقة عضوية مع سرّي التثبيت والافخارستيا. إنّه الخطوة الأولى التي تؤدي إلى الدخول في سرّ المسيح الخلاصي، وتؤهّل المؤمن إلى الاعتراف بسرّ المسيح بقوة الروح القدس التي يستمدّها من سرّ التثبيت، وإلى الاشتراك في سرّ الافخارستيا الذي فيه يطعمه المسيح جسده ويسقيه دمه ويصل به إلى ” مقدار قامة ملء المسيح ( اف 4 / 13 ) بواسطة هذه الأسرار الثلاثة يصبح المؤمن عضواً في جسد المسيح الذي هو الكنيسة:” فتكون جسداً واحداً وروحاً واحداً كما دعيتم إلى رجاء دعوتكم الواحد: فلكم رب واحد وإيمان واحد ومعمودية واحدة، إله واحد آب للجميع” ( اف 4 /4 –6 )
واكب نمو الكنيسة بطابعها البشري الإلهي، المتجسّد الصاعد، الجسداني الروحاني، النظامي المواهبي، ظهور الانشقاقات والهرطقات. وظهرت على ساحة الكنيسة قضية جديدة : هل يجب إعادة معمودية الهراطقة العائدين إلى حضن الكنيسة؟ وأيٍ منها ينبغي أن تُعاد معمودية أتباعها؟ هل من علاقة بين ما حدث في القرون الأولى وما يحدث الآن في مصر؟ لقد سئل البابا شنودة الثالث :” هل نعمد الأقباط الكاثوليك؟” أجاب قداسته:” نعم، لأن بيننا وبين الكاثوليك خلافات في العقيدة مثل انبثاق الروح، والحبل بلا دنس، وخلاص غير المؤمنين”( قرارات مجمعية، بتاريخ 3/ 6/ 1990).
لنستعرض معاً موقف الكنيسة من إعادة المعمودية في القرون الأولى. مع تدعيم ذلك بموقف بعض الشخصيات الكنسية في تلك القرون، ثم نتناول الموقف في مصر اليوم بالتحليل والتفنيد.

أولاً موقف الكنيسة في القرون الأولى
بدعة الغنوصية
ظهرت في القرن الثاني بدعة الغنوصية، التي آمنت بوجود إلهين: إله الخير وإله الشرّ، وأقرّت بثنائية الجسد والروح، وتعلّم تعاليم منافية للثالوث والتجسّد والفداء ومنح الروح القدس. فلم تعترف العديد من الكنائس بمعموديتهم ؛ لأنّ معموديتهم لا تُمنح بسم الثالوث القدوس ( كليمنس الإسكندري وإيريناوس)
بدعة المونتانية
تشدّد أتباعها أخلاقيّاً، استعداداً منهم لنهاية العالم، وكانوا يجدفون على البارقليط. لم يُعترف بمعموديتهم، لأنّهم لم يؤمنوا بالثالوث، فتمّ إعادة معمودية التائبين منهم.

أتباع بولس الساموسوطي (ق 4)
مسّت بدعتهم الإيمان بالثالوث، فأقرّ مجمع نيقية إعادة معموديتهم، وكذلك مجمع اللاذقية (343م).
النوفاسيين (ق 3 –6)
مجموعة متشدّدة تجاه المسيحيين المرتدين عن دينهم، أو مقترفي الخطايا الثقيلة. اعترفت كنائس الاسكندرية وروما بمعموديتهم، فقد كانوا يعمدون بسم الثالوث القدوس.

خلاصة
اكتفت الكنائس بمسح المنشقين عنها والعائدين إليها، بزيت الميرون تعبيراً عن إعادة الشركة الكنسية، بتوبتهم عن انشقاقهم مثل: الأريوسيين و والأبوليناريين والنوفاسيين.

ثانياً موقف بعض الشخصيات الكنسية

1- كبريانوس اسقف قرطاجة 200 – 258 متشدّد
انتشرت البدع والهرطقات في قرطاجة، مما دفعه إلى اتخاذ موقف متشدّد، أساسه الحالة الرعوية في إيبارشيته.
شدّد على أنّ صلاحية سرّ المعمودية لتوصيل النعمة من المسيح إلى المؤمن، تتم عن طريق الخلافة الرسولية. فالرب أعطى الرسل سلطان غفران الخطايا، أمّا الهراطقة فعمادهم يخلو من السلطان والتكليف. ويقول :” إنّ المعمودية واحدة، غير أنّ الكنيسة وحدها تعمّد؛ لأنّها وحدها عروس المسيح، التي بوسعها أن تلد لله أبناءً، وتقدسهم. وبالتالي إن لم يكن خادم السرّ من الكنيسة، فهو لا يستطيع أن يقوم بما تقوم به الكنيسة، فيجب إعادة معمودية الهراطقة”. ونلاحظ هنا، أنّه شدّد على الخلافة الرسولية، كطريق وحيد لمنع العماد. وقد تبع موقفه هذا كنيسة أنطاكيا وشمال سوريا.وجدير بالملاحظة، أنّ كبريانوس لم يفرض رأيه على الآخرين، فقد احترم موقف كنيسة الإسكندرية، وكنيسة روما، وكنيسة فلسطين، الذين خالفوه الرأي واكتفوا بوضع الأيدي على التائبين.
2- البابا اسطفانوس الأوّل 254 –257
كتب البابا اسطفانوس الأوّل إلى كبريانوس وأساقفة شمال أفريقيا لتشدّدهم آنف الذكر، يقول:” إذا عاد إليكم أحد من هرطقة كانت، فلا تبدعوا شيئاً جديدًا، بل اتبعوا ما سُلِّم إليكم، وهو أن تضعوا الأيدي فقط للتوبة”. كما هدد البابا اسطفانوس الأول المتشددين بالقطع من الشركة الكنسية، إذا تمادوا في هذا العمل.
3- باسيليوس أسقف قيصرية (مات 379)
تبع موقف كبريانوس، من الهراطقة. إلاّ أنه رفض إعادة معمودية المنشقين ( أي لم تمس أفكارهم الإيمان بالثالوث).
4- القديس أوغسطينوس
قال في هذا الشأن:” الكاهن لا يفعل شيئاً من ذاته، ولكن بقوة المسيح، فهو مجرّد وسيلة. ليس المهم إذا كانت القناة التي يمرّ بها الماء من فضة أو من نحاس. فليس بطرس ولا بولس ولا يهوذا الذين يعمدون، بل المسيح نفسه مؤسّس السرّ”. ويضيف في مناسبة أخرى :” إن ربط المعمودية بصفات الكاهن تعني أنّ المواهب الروحية من الإنسان وليست من الله”. وكان ذلك ردّاً من على بدعة الدوناتيّة التي تقول ببطلان العماد إذا كان الكاهن في حالة الخطيئة المميتة.
5- القديس يوحنا فم الذهب ق 4
يقول :” قد دفنّا معه بالمعمودية للموت، وكما أنّه من غير الممكن أن يصلب المسيح مرّة ثانية، كذلك لا يقدر من تعمّد مرّة واحدة، أن يقبل المعمودية مرّة ثانية”. وكان لمار افرام السرياني نفس الرأي كذلك للعلامة ترتليانوس.
6- امبروزيوس أسقف ميلانو
قال: ” نحن خدام، والأسرار تأتي منك يا ربّ. إنها عطيّة من أن تمنح المواهب الإلهيّة، التي لا تأتي من القدرات البشريّة.
7- مجمع القسطنطينيّة 381
قانون رقم (7)ورد في :” إن الهراطقة المقبلين على البيعة قسمان، منهم من يجب مسحه فقط بالميرون، ومنهم من وجبت إعادة معموديتهم”.

خلاصة
نخلُص مما سبق بالنقاط الآتية:
– علينا التفريق بين موقف الشخصيات الكنسية، وموقف الكنائس. فلقد شهد تاريخ الآباء تشدّد واضح من بعض الشخصيات، ولمس أيضاً مرونة وانفتاح من بعض الكنائس الكبرى مثل الاسكندرية وروما.
– بروح القسطنطينية الأول نرفض التعميم، ونذب إلى تقييم الحالات.
– تأكد في القرون الأولى أن الكنيسة وحدها تمنح سرّ العماد باسم الثالوث.
– لا يدخل المؤمن المعمّد، بالعمودية في طائفة معينة، بل في جسد المسيح.
– احترام الموقف المختلف، مقدمين الشركة والوحدة التي هي رغبة الله من أبنائه ” أن يكونوا وحدًا”.

ثالثاً أسباب إعادة المعمودية في الكنيسة القبطية الأرثوذكسية.

قبل أن نبحث أسباب تلك العثرة، علينا أن نسعى لإدراك مفهوم المعمودية عند الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، وعند الكنيسة الكاثوليكية.
أولا: من حيث مفاعيل السر :-
بالنسبة للكنيسة الكاثوليكية :
يدخل المعمّد في سر المسيح الخلاصي ويكسبه عضويّة في جسد المسيح.
بالنسبة للكنيسة القبطية الإرثوذوكسية :
يدخل في طائفة بطقسها وتعاليمها، باعتبارها كنيسة المسيح.
ثانيا : من حيث خادم السر:
بالنسبة للكنيسة الكاثوليكية :-
الأسقف أو من ينوب عنه ( كاهن / شماس) وكل علماني في حالة الضرورة القصوى.
بالنسبة للكنيسة القبطية الإرثوذوكسية :
الأسقف والكاهن فقط، مع التشديد على شرعية الكاهن ( أي ألاّ يكون محروماً).
ثالثا : من حيث شكل السر.
بالنسبة للكنيسة الكاثوليكية :-
بسكب الماء 3 مرات والدعاء باسم الآب والابن والروح القدس. وبعد المجمع الفاتيكاني الثاني سمحت بالتغطيس.
بالنسبة للكنيسة القبطية الإرثوذوكسية :
فقط بالتغطيس 3 مرات، وإتمام الصلوات حسب الطقس القبطي، مع الدعاء باسم الآب والابن والروح القدس.

وتشترط الكنيسة القبطية الأرثوذكسية ثلاثة شروط، للاعتراف بصحة التعميد:
1- صحة الإيمان
2- شرعيّة الكاهن
3- إتمام السر حسب الطقس الكنسي.

وبعد هذه المقابلة بين نظرتي الكنيستين، يمكنا أن نعرض بعض الأسباب التي دفعت الكنيسة القبطية الأرثوذكسية إلى إعادة تعميد الأقباط الكاثوليك.

أولاً أسباب تاريخية:
1. الخوف من فقدان الهوية.
2. مقاومة التبشير اللاتيني الغربي.
3. وجود الحرومات بين الكنيستين.
4. قرار البطريرك كيرلس الخامس 1775م، بغعادة تعميد الغربيين الذين غيروا أرثوذكسيتهم. مع أن هذا القرار لم يطبق إلاّ على الأرمن الأرثوذكس الخلقيدونيين.
5. امتزاج العقيدة بالقانون بالطقوس في الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، فإذا اعترفت الآن بصحة الأسرار التي تمنح خارجها، تدهورت عقيدتها الكنسية.
6. الانشقاق وغياب الوحدة.

ثانياُ أسباب رعوية طقسية.
1. العماد الصحيح في اعتقاد الكنيسة القبطية الأرثوذكسية بالتغطيس فقط، وبالتالي ما تفعله الكنيسة الجامعة من سكب مرفوض ويبطل العماد، لغياب رمز الدفن الذي أشار إليه القديس بولس.
2. تفشي الأميّة اللاهوتية والتاريخية بين أبناء الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، فأضحوا يستقون معرفتهم من المنبر المعاصر( من العظات).
3. تعتيم إعلامي من الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، لكل مساعي الوحدة والحوار المسكوني، على سبيل المثال ما تمّ من اتفاق حول الكريستولوجيا.
4. اختلاط الأمر على عامة الشعب، بين سر الميرون المقدس وسر العماد. فهناك اتهام للكاثوليك بأنهم لا يمسحون المعمد بالزيت. ويرجع ذلك لتأخير منح سر التثبيت في الغرب.
خاتمة
نختم بقول الأنبا ميخائيل أسقف أتريب و مليج:” أمّا من علّم الروح القدس بأنّ إيمانهم مستقيم أو قريب من الاستقامة، وقد فرقوا نفوسهم، إمّا بعوائد وسنن، أو بأقوال التزموا بها، وإمّا بجهلهم، فلم يأمرنا الآباء بمعموديتهم، لأن أصل المعمودية باسم الآب والابن والروح القدس، الثالوث القدوس المساوي في الجوهر والأزلية. ثم الإيمان بتجسّد الابن ولآمه وصلبه، وموته، وقيامته لأجل البشرية، في اليوم الثالث. ثم الإيمان بقيامة الأجساد والمجازاة (…) فهذه أصول المعمودية. ومن لم يؤمن بما قلنا، فليس له إيمان. ومن آمن بهذا فهو مؤمن أرثوذكسي لا ينقصه شيء من جهة الإيمان. بل من جهة ما تخصص وانفرد به من عوائد وسنن ونقص في الأقوال أو في شرحها أو خالف بعض الأصوام، أو استنقص قدر بعض الآباء (…) فلا يجب علينا معموديته، ولا لعنه، ولا لعن دينه، ولا اعتقاده (…) بل يجب علينا أن نقبل من ياتي منهم، كما نقبل المؤمن الذي أخطأ وطلب التوبة، حسب ما أمرنا به القانون 25 و القانون 36 من قوانين نيقية.”