علمنة المسيحية .. مقال لنيافة الانبا يوحنا قلته

علمنة المسيحية .. مقال لنيافة الانبا يوحنا قلته

خاص بالموقع – بتصريح خاص من نيافة الانبا يوحنا قلته- هذا المقال نشر بجريدة حامل الرسالة  الأحد 19 يوليو 2015

– ما معنى العلمنة ؟ ببساطة شديدة نقول أن العلمنة هي الثقة في العقل ، واعتماد المنطق ، وبناء مستقبل أساسه العلوم ، وبمعنى آخر العلمنة هي الفصل بين دائرة الإيمان والميتافيزيقا ( ما وراء المادة أو عالم الروح ) وبين القوانين العلمية المتطورة والمتغيرة فليس في الدنيا قانون ثابت وليست هناك نظرية علمية لا تتبدل ، ويمكن القول أن العلمنة في معنى آخر ليس مجالها القيم الأخلاقية أو العقائد الدينية وإذا قرأنا نظريات العلمنة عند أصحاب الدعوة لها نجدها لا ترفض الأديان ولا تنكر حقائق الروح ووجود الله والدينونة ولا تسقط الخبرة الروحية في مسيرة البشرية أي أنها لا ترفض وجود قديسين أو معجزات ، إن مجالها وهدفها وغايتها أن تقيم حضارة إنسانية أساسها العلوم والأخلاق الإنسانية التي تشترك في ممارستها الأمم والشعوب على اختلاف أجناسها وأديانهم وثقافتهم .
العلمانية تيار فكري يريد إنسانية بغير تعصب أو عنصرية أو حروب ، وأصحابها يرون أن الأديان برغم ضرورتها كعنصر جوهري في مسيرة الإنسان وهي حقيقة لا يستطيع إغفالها أو محوها أو محاربتها فإن العلمانية لا تريد أن تكون الأديان شريكة في السياسة أو الاقتصاد ، وإنما يرون أن الأديان هي هبة إلهية للإنسان ، له ملء الحرية في قبولها أو رفضها ، كما له الإرادة الشخصية لممارسة مبادئها أو تجنبها فليس هناك عداء بين العلمانية وبين الأديان والعقيدة وإنما هناك فصل بين الحياة الدينية وقوانينها وتطورها وبين الحياة الروحية وشرائعها .
* * * * *
2 – وأغلب الظن أن أصحاب الدعوة إلى العلمانية يتهمون الأديان بأنها سبب للحروب والتعصب وسحق الإنسان ، بينما يرى المتمسكون بأديانهم في العلمانية نوعاً من الإلحاد والكفر ، وكلا الرأيان خطأ ومسرف في حكمه ، فليست العلمانية حرباً على الأديان وليست الأديان سبب تعاسة الإنسان ، إن الصراع بين العلمانية وبين الروح الديني ، محتدم ومشتعل في أعماق كل إنسان من أبسط رجل عامل أو فلاح أو أمي وبين عالم ورأسمالي وفيلسوف ، هذا الصراع وجد منذ وجدت الأديان ، وأرسلت الوصايا العشر ، وتجسد الله الكلمة عبر عنه بولس الرسول بقوله : الروح يشتهي ما هو ضد الجسد ، والجسد يشتهي ما هو ضد الروح ، أي أن الإنسان ممزق بين رغبة روحية في السمو والقداسة ورغبة جسده في الانفلات والاستغراق في اللذات .
وتفجر الصراع بشكل عالمي واضح منذ الثورة الفرنسية سنة 1798 واشتعلت حرب شعواء على الأديان والقيم الروحية ، والمعنى الإلهي للحياة وللألم وللموت ، وانتشرت دعوة الحياة للحياة ، وسخرت كل وسائل الإعلام والإبداع والمخترعات لخدمة “المتعة” والسعي للثراء ، واستغلال المناصب ، وتوارت كثير من القيم السامية ومعاني الفداء والأمومة ، وكرامة الزواج ، والتمسك بالهدية الدينية والوطنية .
* * * * *
3 – ومنذ ذلك القرن ( 18 ) الذي دعي قرن الأنوار والمسيحية صامدة ، ثابتة ، تزخر بالقديسين والشهداء وتعتز بأنها الإيمان بسر التجسد ، وعقيدة الفداء ، لم تحارب العلمانية ، لم ترفض تيار العقل والمنطق ، لم تقاطع العلوم والفنون وإنما سعت “لروحنة” الحضارة الحديثة كما قال البابا القديس يوحنا بولس الثاني ، فالمسيحية هي المسيح ، والمسيح هو نور العالم ، والطريق والحق والحياة ، وهو القيامة والحياة ، وهو مؤسس حضارة المحبة التي بناها على أساس حبه للإنسان ، فالمسيحية لا ترفض تياراً ينادي بالعقلانية ، لكنها تريد أن يحترم العقل خبرة الحياة الروحية ، والمسيحية لا تفرق بين مذهب سياسي وآخر ولا بين مذهب اقتصادي وآخر ، بل تريد العدالة والمساواة عند أي حكم ، أو اقتصاد أو سياسة ، المسيحية ليست مجموعة من الشرائع والفروض والطقوس بل المسيحية هي حياة جديدة متحدة بالله الكلمة ، المسيح المخلص الذي قال : أثبتوا فيّ لتأتوا بالثمر . بعضهم يريد أن يعلمن المسيحية ، بينما تسعى المسيحية إلى روحنة العالم .
د. الأنبا يوحنا قلته