عيد الرحمة الالهية

عيد الرحمة الالهية

للاب هاني باخوم

يُحتفل بعيد الرحمة الالهية في الاحد الثاني بعد الفصح ويطلق عليه ايضاً الاحد الجديد، أو احد توما. عيد الرحمة الالهية هو احدى رغبات المسيح التي اظهرها بنفسه عند ظهوره للقديسة فوستينا عام 1931، فطلب منها أن يؤسس هذا العيد ويحتفل به. قداسة البابا يوحنا بولس الثاني اعترف به كعيد رسمي للكنيسة بواسطة مجمع الليتورجيات ونظام الاسرار في 5 ايار- مايو 2000.

ليست صدفة ان يحتفل بهذا العيد في هذا الاحد، اذ ان معظم الطقوس الشرقية الكاثوليكية تَعلن فيه انجيل ظهور المسيح للرسل ولتوما (يو 20: 19- 31).

فالانجيل في هذا الاحد هو بالفعل احتفال برحمة الرب، ليس فقط لان الرب لم يتشكك من عدم ايمان توما فظهر له من جديد كي يجعله يؤمن به، او لان الرب رحم توما ولم يحاسبه على عدم ايمانه، بل لان يسوع المسيح في هذا الانجيل يرحم بالفعل الجميع. كيف؟

فالرحمة، وكما ذكرنا في مقالات اخرى[1]، ليست فقط نسيان ما حدث، أو التغاضي عن شىء تم وعدم ذكره من جديد اوعدم المعاقبة عليه، انما الرحمة بالعبرية كما بالعربية من اصل “رَحِم” اي احشاء الأمّ، حيث يتكون الجنين؛ خليقة جديدة. فالرّحمة هي امكانية ولادة جديدة، خلق جديد. خلق جديد يسمح للشّخص بأن يحيا بطريقة جديدة ومختلفة عمّا كان من قبل. خلق جديد وليس تعديل في الانسان. خلق جديد وليس ببساطة تحسين سلوك او تصرفات او طبع الانسان. خلق جديد بروح جديد وطبيعة جديدة.

يسوع المسيح عند ظهوره لتلاميذه نفخ فيهم وقال: “خذوا الروح القدس. من غفرتم لهم خطاياهم تغفر لهم، ومن امسكتم عليهم الغفران يمسك عليهم” (يو 20: 22- 23). تلك النفخة هي نفس الفعل الذي فعله الله الاب عندما خلق الانسان: “وجبل الرب الاله الانسان تراباً من الارض ونفخ في أنفِه نسمة حياة، فصار الانسان نفساً حيَّة” (تك 2: 7). اي ان نفخة الله هي التي جعلت من هذا التراب انساناً، جعلت منه نفساً حية. وهنا المسيح ينفخ في تلاميذه. يخلقهم من جديد. لا يخلقهم لكي يصبحوا انفساً حية، لانهم بالفعل كذلك بل يخلقهم كي يصبحوا شركاء للطبيعة الالهية، شركاء للقيامة، ابناء الله. المسيح ينفخ فيهم روحه، روح قيامته. وهذا الروح سيجعل منهم ابناء الله، شركاء للمسيح في الميراث؛ في القيامة، في هذه الطبيعة الالهية. يجعل منهم كنيسة لها سلطان لمغفرة الخطايا؛ مغفرة لكل انسان يعترف بخطيئته ويقبل تلك الرحمة، تلك الخليقة الجديدة.

هذه المغفرة بلا شك تُنال في سر الاعتراف المقدس على ايدي من نالوا سر الكهنوت. هذه المغفرة يحصل عليها التائب كي تُمحى له خطيئته، وايضاً كي تجعله قادرا ان يأخذ على نفسه خطايا الاخرين اي ان لا يقاوم الشر بالشر فتجعل من الانسان مسيح أخر.

وبعد ذلك يقول المسيح لتوما:”هَاتَ اصبعك الى هنا فانظر يدي، وهات يدك فضعها في جنبي، ولا تكن غير مؤمن بل كن مومناً” (يو 20: 27). يسوع المسيح يستمر في الرحمة، في الخلق الجديد. والآن يخلق الايمان؛ يجعل من توما مؤمنا. يقول له:”كن مومناً”. هذا الامر هو امر خلق للايمان في توما. كما قال الله في البدء:”فليكن نور”، فكان نور.

الايمان هو عطية مجانية من الله يتقبلها الانسان بحرية. هو عطية الهية، خليقة جديدة، والانسان اما ان يقبلها او يرفضها. مثلها مثل المغفرة، مثل الرحمة. فيقول المسيح لتوما “كن مومناً” فيؤمن توما ويرد على منحة الخليقة الجديدة المعروضة عليه من الرب ويقول: “ربي والهي”.

تلك هي الرحمة الحقيقية، لا تغفر فقط عدم الايمان، بل تخلق في الانسان، الذي يرغب، الايمان؛ الايمان بقيامة المسيح وبالتالي بقيامته هو ايضاً.

هذا هو الاحد الجديد فيه يخلق المسيح الانسان من جديد. انسان مشارك في طبيعة الله. هذا هو الاحد الجديد فيه يخلق المسيح، اي يرحم بمعنى الكلمة، فلا يمحي فقط الخطايا لابناء كنيسته بل يعطي سلطانا للكنيسة لتمحي خطايا الاخرين وترحمهم من جديد.

هذا هو الاحد الجديد عيد الرحمة الالهية، هذه الرحمة التي لا تتوقف عن الخلق الجديد.

عيد مبارك.

 

[1] الهي الهي لماذا تركتني؟ 9.