غرس بلا إيمان

غرس بلا إيمان

نشأت في أسرة مكونة من أربع بنات، لأن الله لم يرزق أبي وأمي بالولد، وكان عددنا كأربع بنات ما هو إلا محاولات لإنجاب الولد، وفي كل مره تأتي بنت كانا يشعرا بالضيق والضجر وأنهما لابد أن يكررا المحاولة عسي أن يمنحهم الله بالولد وهكذا… حتى استجاب الله في المحاولة الخامسة وولدت أمي ولدا.
ولن أستطيع وصف حال أبي وأمي والبيت بأكمله عندما ولد أخي الوحيد … فقد راحا يتصرفا بفرحه لم يعهده منهما احد وراح أبي يحضر كل ما يستطيع إحضاره من مأكل وملبس، وكان على استعداد أن يدفع عمره كاملا ثمنا لإسعاد وحيد، فقد سمي أخي وحيد…
ومن اللحظات الأولي في عمر وحيد بدء أبى وأمي يضعا أول مبادئ الأنانية في عقل وقلب هذا الطفل المسكين، نعم اعتبره مسكيناً، بالرغم من كل هذه النعومة التي يلقاها، فالتربية لابد أن تكون متوازنة يتعلم فيها الطفل أن يأخذ وان يعطي، أن يطلب وان يطلب منه، وهذه ليست دروسا يتم تلقينها في حصص دراسية، لكنها نتاج معاملات يوميه بسيطة يسلكها الأب وألام مع أولادهم، هذا الغرس الأخضر فيتغذى عودهم الأخضر بتلك المبادئ التي تجعله يقوي وينتعش…
أما أخي فكان الآمر الناهي في المنزل، حتى معنا نحن أخواته الأكبر، هو الأول ثم نحن بعده، لدرجة أننا سمينا أنفسنا مواطنين الدرجة الثانية، لهذه المعاملة والتفرقة في التعامل وإذا ما عبرت أحدانا عن ضيقها فسر الأمر بأنه غيره منه…
وهكذا مرت بنا الحياة إلي أن دخل أخي المدرسة، والمدرسة التزام وأخي لا يعرف الالتزام ولم يعتاد أن يعمل الواجب تجاه أي شيء، والمدرسة واجبات لذلك كان دائم الشكوى يلقي حقيبته بمجرد دخوله من الباب، ويصرخ أنا اكره المدرسة فتجلس أمي إلى جواره لتهدهده وتسانده وتساعده في عمل الواجبات وتدعمه بالمأكولات الطازجة الساخنة، وكأنه يعبر جسور من الهموم. في الوقت نفسه كنا نحن الأربع نذاكر دروسنا بنجاح ونساعد أمنا في شئون المنزل وننجح بأعلى الدرجات، ودخلت كل واحدة فينا الكلّيّة التي تحلم بها، أما أخي فبالكاد التحق بالتعليم المتوسط. وكلما جلست أحدانا تحاول أن تتناقش مع أبي وآمي في لماذا يدخل أخي، رجاء حياتهم، التعليم المتوسط بالرغم من كل هذه المساندة والعون منهما كانا كليهما يبرر الأمر ويدافعا بقوه انه رجل ويعمل أينما يريد …
وأعود لأقول مره أخري أن الزارع لابد أن يحصد وان المحصول لابد أن يكون علي قدر جودة البذور… فها هو أخي بمجرد أن يتخرج من الدبلوم بدأ يهفو قلبه لإحدى الفتيات فيأت بلا تفكير لأبي وأمي ويفاتحهما بأنه يحب ويريد أن يتزوج من أحبها لم يعتاد أخي أن يحسب أموره ولا أن يفكر في الطريق فقط اعتاد أن يطلب ما يحلو له وقتما أراد وأينما أراد أما الباقي فلا شان له به…
الم يزرع أبي وأمي هذا الشعور بداخله منذ نعومه أظافره وقتما كان يطلب طلبات الأطفال فكانا دائما يلبيا له كل طلباته دون تفكير… ها هو احدي طلباته التي تتناسب مع سنه حتى في هذا القرار المصيري الذي يعرف الكل أن هذا السن يحدث فيه انبهار بالأخر لكنه وقتي وسرعان ما يتغير أو يزول مع الوقت، وانه من غير المنطقي أن نحول مجرد إعجاب إلي زواج لم يكن فكر أخي منطقي والأغرب إن أبي وأمي كانا يضعا العقل والمنطق والخبرة جانبا ما دام الأمر يتعلق بوحيد أخي الوحيد …
وسرعان ما علقت الزينة وأنيرت الأضواء هنا وهناك واجتمع الأهل والأصدقاء في حفل لزواج وحيد ورغم عدم اقتناعنا أنا وأخواتي إلا إننا تمنينا لوحيد التوفيق وأن ينظر الله لأبي وأمي وحبهما له …
لكن احدي قوانين الطبيعة تقول ما يأتي سريعا يمضي سريعا وما نحصل عليه بسهوله نفقده أيضا بسهوله … ها هي ليله العمر تمر وتمر سنه وراء الثانية كان أخي قد ملَّ خلالها من هذه اللعبة الجميله التي حصل عليها بفضل أبي وأمي، ولم يبالي أن الله رزقه طفل وطفله غاية في الجمال، ولم يبالي أن زوجته هذه هي الفتاه الجميله التي طالما حلم بالارتباط بهاأ لم يبالي بشيء فهو كما اعتاد يلعب وبلهو ثم يلقي ما يمله من الألعاب …
الم يكن زواج وحيد لعبه طلبها من أبي فلباها له؟؟؟ …
وفي يوم من الأيام أتي وحيد إلى المنزل وقال: “أبي أريد أن أطلق زوجتي”… كلمه غريبة علي أذاننا سمعناها كصاعقه فلا احد عندنا يطلق، ولا ديننا يسمح به، فان وافقنا له وكسرنا كل قواعد العائلة فهل نجرؤ أن نكسر قواعد الدين؟ وأين يلقي بولده وأبنته؟ ومن سيرعى زوجته الشابة ومن …………؟
أسئلة لا حصرا لها تدور في أذهاننا، أما هو فصافي الفكر خالي البال لا يري إلا انه يريد أن يطلق، هذا قرار ولن يغيره فالزواج أعباء ومسئوليات وأطفال تبكي وتأكل وضيوف وبيت مفتوح مليء بالالتزامات فهل يعقل أن يحمل هذا الكتف المدلل وهذه الأظافر الناعمة كل هذه الأعباء؟
لقد جمع وحيد رحيق الزواج وعبيره أما أشواكه فلا شان له بها. تحايل أخي علي الدين وغير ملته – وأنا أراه بلا مله. وساعده أبي واغضب ربه حتى لا يغضب وحيد. ونال ما يصبوا إليه الطلاق رغم انف العائلة والدين وكل شيء …
ويبدوا أن زوجة أخي كانت قد عرفت في هذه المدة القصيرة التي عاشرته فيها طباعه وخصاله فلم تندم علي الطلاق ولم تبكي إلا علي الزواج وقررت أن تقطع علاقتها لا بأخي فقط بل بالعائلة بأكملها، وان تعمل لتربي أبنائها. وراح أخي يشعر بحريته ويتناسى تماما انه كان زوجاً، ولا يحب أن يذكره احده بهذه الفترة…
أنا وأبي وأمي فقط الذين كنا نحاول أن نتواصل مع أسرته وأولاده أما أبي الذي دفعه حبه لوحيد أن يخالف الله ويغضبه في عمليه الطلاق، والتي كان يعرف جيدا أنها امرا خطأ مائه بالمائة، فقد راح عذاب ضميره يورقه وينظر لابنه وابن أخي علي أنهما ضحاياه هو شخصيا، وكنت أراه في زيارتنا لبيت أخي يذبل ويضيع منه سلامه الداخلي، لدرجه إننا كنا نحاول مواساته بأنها إحداث تتكرر كثيرا يا أبي، فلا ذنب لك بها حتى نخفف آلامه التي كانت تنهش بداخله مهما حاول أن يخفيها وسلم الحزن أبي للمرض وسلم المرض أبي للموت.
نعم كانت أحزان أبي علي وحيد هي أكفانه الحقيقية التي لفت جسده أما شريكه عمره وحلمه أمي فلم تحتمل كلا الأمرين لا فشل وحيد واستهتاره بكل أمور الحياة ولا فراق أبي فما هي إلا سنوات قلائل بعد رحيل أبي حتى رحلت أمي أيضاً…
رحالا الاثنان وتركا هذا المدلل، ليجد نفسه في مواجهه حياه قاسيه لا تلبي طلبات الإنسان بسهوله، فبدأ الحزن يعرف طريقه لقلب وحيد الذي رأى أن الحياة كما هي وليست تلك الحياة التي اعتاد أن يراه في حياة أبويه، اللذان جاهدا أن يجعلاه لا يرى من الحياة إلا طيبها متناسيين أن الإنسان لا بد أن يري كل وجوه الحياة …
أكيد لم يقصدا كل هذا رحمهما الله
الأصعب أن وحيد بدا يلوم الحياة ويضع يده علي كل ما تركه أبي من أموال متناسي أن له أخوات يشاركونه هذه الأموال وعلي الرغم من ضيقنا إلا أننا قررنا أن نترك له كل ما تركه أبي، لأن موقفه المالي سيء فهو لا يستقر في إي عمل لأنه ما زال يكره الالتزامات… كان هذا موقفنا كلنا حتى أختينا الكبيرتين الأتي كن قد قاطعتاه منذ أن طلق زوجته لأنهما يستطيعا أن يجارياه في كل شيء إلا أن يخالف الله… فقد رايتا انه أمر لا يقبل قبلا أن يأخذ نصيبهما بلا ضجر
وكنت أنا الوحيدة التي تحافظ علي وصل العلاقة مع زوجة أخي التي أراها عظيمة وملتزمة عكس أخي تماما، وكنت أعرف إخبار أبنائه وهما ينجحا سنة وراء الأخرى… فأذهب لهما بالهدايا والملابس وأتابع إخبارهما وأتواصل مع أمهما فقد ثابرت وكافحت ووهبت حياتها لهما فلم تحاول الزواج بأخر رغم صغر سنها وجمالها…
وإذا ما اتصلت بأخي لأخبره أن ابنته نجحت أو أن ابنه كبر وأصبح شديد الشبه بيه يقول “وصلي لهما سلامي”… لم يطلب مني مرة واحدة أن يأخذ العنوان لكي يزورهم ولا حتى رقم الهاتف ليتواصل معهما بالصوت فقط!!!…
اعتاد أن يأخذ لا أن يعطي، وها هي الدنيا وحياة الإنسان كبخار يظهر قليلا ثم يضمحل… وها هو يمرض بمرض خطير، برغم حبه الشديد للدنيا، وحرصه أن يستمتع بها… فقط أحب أن يمتع نفسه فكان يقبل علي المشروبات الكحولية والمسكرات فيبدوا انه أهلكها وأحب أن يعززها بان يحيا لأجلها فقط فأضاعها ….
وبرغم كل شيء واعتراضنا علي كل أفعاله ألا أن دم واحد يجري في عروقنا، نحن نتألم كما كان يتألم وحيد… وذهبنا بلا تفكير مسرعين إلى بيتنا القديم بيت آبي، الذي كن قد قطعنا صلتهن به، منذ قضيه طلاقه، ذهبنا كلنا مهرولين إلي أخينا… فمهما كان الخلاف فنحن نرجوه من الله، نحب أن نسمع اسمه أن نحدثه، حتى وان اختلفنا ذهبنا واتفقنا أن تقضي كل واحده ليله معه تعطيه الأدوية، وتعتني به ثم نقضي النهار إلى جواره مجتمعين…
وما رايته في أخي ومرضه انه لم يكن يلتزم حتى تجاه نفسه فقد منعه الأطباء عن المشروبات الكحولية التي كان يحبها لكنه لم يقوي علي تقويم نفسه ومنعها عما تحبه، هو ضعيف أمام رغبات نفسه يلبيها لها دون تفكير، فما زال أخي يتصرف كما كان في طفولته وصباه وعندما نبعد عنه زجاجه المشروب يصرخ بأعلى صوته “فين الويسكي”… غريبا، لم يكن يطلب الدواء ولا الأكل…
وفي يوم همست في أذنه هل تريد أن تري أبنائك؟؟ فأجابني باستهجان شديد “آنت شايفه ده وقت مناسب أشوف فيه حد”؟ متى إذا سيكون الوقت المناسب لتري أبنائك متي إذا تستطيع أن تمنع نفسك من الكحوليات متى ومتى ومتى؟؟؟
ما زالت كل الأسئلة حائرة إمام أخي حتى وهو يتهاوى كريشه ضعيفة أمام المرض لا يستطيع أن يلتزم بأمر واحد للأطباء … لقد كان هو حلم أبي وأمي ها هو وحيدهما يموت أمام أعيننا ونحن نقف عاجزين بكل الادويه وبكل الحب الذي يقابله ضعف منه واستسلام تام لرغباته …
مات أخي وصرخت بأعلى صوتي… وحاولت أن اجمع أحباء عمره ليقفا معنا في وداعه، في جنازته، لكني اكتشفت ان عمره لم يجمع أحباء… حتى زوجته وأبنائه أخبرتهم بموته فراحوا يقدموا لي عزائهم الشديد في موت أخي… وقالت زوجته أما زوجي أنا فمات منذ زمن بعيد… وانتظرت كلمت ابنته التي أحبها بلا حدود فزادت مرارتي وألمي لم يكن حيا يوما في حياتي أنا وأخي ولم يكن قريبا حتى يمزقنا بعده وموته… فكم من أحياء معنا لكنهم موتي لا وجود لهم… لكي كل العزاء يا عمتي والصبر علي فراق أخيك، حتى لم تقل علي فراق أبي، فقد ضنت بالكلمة ولن أستطيع أن ألومها.
ألومك أنت يا أبي وأنت يا أمي في مرقدكما .
ولا أري إلا أن أخي كان أول ضحايا نفسه وضحاياكم
فرفقا بأبنائنا وكل أحبائنا وكل من تقيمنا الأقدار مسئولون عنهم فكلما زاد حبنا لهم كلما علمناهم العطاء والمسئولية وبذل الذات…. غرس أبي وأمي في أخي حبه لذاته وعلماه انه أهم من فلحياة فضعف أمام ذاته علماه أن الكل تحته والكل لابد أن يخدمه فهو السيد فأصبح ذليل بلا أحباء…
فليكن دستوركم ودليلكم تلك الكلمات الذهبية التي وضعها رب البشرية. والتي اعتقد ان أخي لو كان سمعها وتعلمها لكان تغير مصيره ومجري حياته
وهذا ما تؤكده هذه الكلمات الذهبية، التي قالها المخلص والفادي: “من أراد أن يخلص حياته يهلكها ومن أراد أن يهلك حياته من اجلي واجل الإنجيل يخلصها… من أراد أن يكون فيكم الأول فليكن خادما للجميع لان ابن الإنسان لم يأتي ليخدم بل ليخدم”…
كانت حياه أخي آيات حيه من الإنجيل حيث أبعده ونحاه جانبا فعاشها طولا وعرضا أراد أن يخلص حياته من كل التزام فأهلكها… وكان موته أيضا أيه حية من الإنجيل ينطقها حاله ذاته:
ماذا ينفع الإنسان لو ربح العلم كله وخسر نفسه.
فليكن الإيمان هو أول ما نطعم به غرسنا الغالي
بقلم الأستاذة سناء لحظي جيد
sanaagaid@hotmail.com