في الذكرى الخامسة لكارثة سيدة النجاة

في الذكرى الخامسة لكارثة سيدة النجاة

حقيقتنا في ذكرى شهدائنا

المونسنيور بيوس قاشا

في البدء نعم، إن عالم اليوم وبعد إرهاب داعش، يغرق في مادية الدنيا والعولمة، مساءً أكثر منه صباحاً، والمحسوبية والطائفية تغزو الأفكار والنيّات، وبخطى حثيثة لم يسبق لها مثيل وكأن عجلتها تدور بسرعة البرق، حاملة رعوداً وصواعق تملأ النفوس خوفاً وفزعاً، في اتّهام الأبرياء بحقائق مزيفة. وباتت مسيرة الإيمان مناسباتية، وكلٌّ منا يؤلّه مَن يشاء ومتى يشاء ليكون له وثناً كما كان لسارة زوجة أبينا إبراهيم. وحقيقة التقوى أمست عاطفية واحترامية وانتقائية، والصراع في النفس داخلها وخارجها وفي كل ساعة من ساعات نهارنا وليلنا، ولا زال يحتدم لغايات دنيوية زائلة، ولمصالح أنانية مسروقة، ولصداقات احترامية مميتة، فيضيع الوقت في الحديث الفارغ بكذبة نعتبرها صادقة بل واجبة، كما يفقد الحاكي رسالته وحقيقته أمام أشخاص نضيرهم ولا يربط بينهم إلا المصلحة والضحكة المزيفة والمقولة التافهة في لسانٍ مزيف ومملِّق ولاعن للحقيقة بوزنها وكبرها عبر صداقات العصر والمساء، وأمسينا نحن وإيماننا ربما من الذين يخجلون في إعلانه كما هو شأن بشارة المسيح، وخائفين أن تُعلن الحقيقة أمام الجالس والمسامر كي لا نخسر دنيانا، فتضيع الحقيقة التي نشأت في قلب عالم يشهد لتحولات تدميرية في طرد واضطهاد الإنسان، وتبقى الرسالة تنتظر حاملها والوفي إلى إيصالها، وفي هذا تُدفن الإنسانية وتفوز المصلحة والمادية والمحسوبية… وهذا ما تريده عولمة الدنيا في أن ننظف ثوب الرئيس من أدران الزمن، ونمسح غباره من ذراتٍ كي يكون طاهراً أمام أنظار العولمة، والحقيقة هي غير ذلك! الشهادة وفاء         أمام هذا كله مَن منا لا يستذكر شهداء الحياة بمسيرتهم وعطائهم، الشهداء الذين خطفتهم العصابات، شهداء كنيسة سيدة النجاة، والحياة لا تبخل اليوم بإعلان ذكراهم، وهذا فخر لنا أن نكون أمناء في أن التضحيات ما هي إلا شهادة للإيمان ولحقيقة الحياة وحب الوطن وتربته، وفي ذلك نخلّد لحظة عماذهم وصبغتهم، ونرسمها في ضمائرنا رسالة وكلمة وأبدية، لتكون لنا سبيلاً في الحقيقة، وطريقاً في الحياة، ومنارةً نقتبس منها ضوء الخالق، سبحانه وتعالى الذي أحبّ حقيقتنا فأوصلنا إلى هذا الدرب الأمين. فالشهادة هنا أسمى معاني الوفاء لتحرير الذات من أنانية الفكر في لقاء المحب الأسمى والحياة في الأبدية الموعودة. البابا فرنسيس         قال البابا فرنسيس:”إن اضطهاد المسيحيين اليوم أشدّ مما كان عليه في القرن الأول للكنيسة. والكنيسة اليوم تشهد عدد شهداء يتجاوز كثيراً فترتها الأولى، وإننا نرى إخواننا يُضطَهدون وتُقطَع رؤوسهم ويُصلَبون بسبب دينهم أمام أعين الجميع وكثيراً مع صمتنا المتواطئ، وهم لا يخجلون من الصليب وما هم إلا أمثلة رائعة. إن العنف في الشرق الأوسط يُرتَكَب باسم الله، وهو الأمر الذي لم يعد يتّفق مع عصرنا الحالي”، وأضاف:”أنه لا يتصور استمرار هذا الفكر حتى يومنا هذا حيث وصلنا إلى تناقضات خطيرة جداً” (14 حزيران 2014؛ دار القديسة مرتا)… ودعا إلى صحوة الضمائر بشكل واسع لدى جميع الذين يتحملون مسؤوليات على المستوى المحلي والدولي (نوفمبر 2014؛ ديسمبر 2014). حقائق وشواهد              ما يقوم به داعش، الحامل للتعصب التنظيمي والمنهج القاتل والفكر المميت والهدّام والذي لم يستثنِ أحداً، وحتى حرمة القبور ونبشها وكسر الصلبان وهدم الكنائس، فقد دنّسوا وسكبوا حقدهم على المسيحيين حتى النهاية دون أي رادع، وهدموا الآثار حاملة الحضارة الإنسانية والتاريخية بمسيرة سنيها وأجيالها والعائدة للبدايات الأولى لظهور إيماننا المسيحي وحمل عقيدتها… وما هذه الحقائق إلا شواهد أمينة في رسالة حملها إلينا شهداؤنا الذين صبغوا جدران أديرتنا بمسيرة حبّهم ولون دمائهم. والأحياء اليوم يسيرون على النهج نفسه، فهم يصبغون حياتهم بصبرٍ يفوق صبر أيوب، ويخلطون عرق جبينهم بخبزتهم وهم خائفين، وهم لا زالوا ثابتين على إيمانهم، وحامين لجدران كنائسهم وأديرتهم. سلعة رخيصة في كل ساعة من ساعات نهاراتنا وحتى ليالينا نشهد مشهداً مؤسفاً ومؤلماً، مشهداً مخيفاً يحملنا إلى حالة نفسية غريبة لا توصَف، لا بصراعها ولا بعبئها، أو نسمع أخباراً تقصف مسيرة إعمارنا في خطف وسلب ونهب وتفجير، وأصبحنا في حالة غريبة ومريبة، فكلها إهانات واحتقارات وعدم مبالاة، فلا حقوق ولا وجود، وأصبحنا في مسيرة مليئة بمتفجرات الدنيا وألغام الطرق وعبوات المفترقات، وبقنابل عمياء تقتل الأبرياء وتجعلهم في زنزانات ظلماء لا نسمة فيها ولا هواء. وما يحصل ما هو إلا طغيان واستبداد وإجرام… إنه واقع مُرّ نعيشه رغم أنفنا _ شئنا أم أبينا _ فأصبحنا بذلك سلعة رخيصة بسعرها، وحقيرة بوجودها، وضياعاً بل مشردين في شوارع المدينة ونسينا كتابة ملفاتنا، فدفاتر مدارسنا قد بيعت وأقلامُنا انكسرت ولم يبقَ لنا إلا التأوّه والسؤال. ولم نعد نجد اتجاهنا وطاعتنا وإلى أين نحن ماضون _ بل سائرون _ على مدار الزمن القاسي. أنقبل المجازفة أم نخاف الموت أم نسعى للبقاء أم نخشى الفناء؟… أنحمل الصليب أم نرفض الصلب؟… كل شيء نراه موتاً وفناءً وصلباً، وحتى مسيرة الأيام كلها رعب وسؤال لماذا ولماذا ولماذا… إنها كلمات وفقرات وألفاظ تقودنا إلى هدم حائط رجائنا وكسر معنويات إيماننا، إنها محطات تقتلنا قبل قتلنا. حوار وحوارات         قالوا عنّا كفّار، وإننا سنرث جهنم يوماً ما، والنار تنتظرنا لتميتنا لأننا من الذين كفروا وليس من الذين هادوا، وفي ذلك نحن أعداء الله وأعداء الإسلام، ولا يجوز الكلام عن الجنة فقد سُلبت من أيادينا فأصبحنا بلا مساحة الحقيقة، ولم نعد نعرف حدود التفكير، وختموا الكلمة بلعننا (لعنة) وأية لعنة، لعنة بتاكيدها، فضاع الحق والحقيقة، ولا يجوز السؤال والمناقشة، ولا التحليل والمجازفة. وإنْ كانت مبادرات عدة وندوات ولقاءات عُقدت، وبيانات صُدّرت ضمن برامج حوار الأديان، أو الحوار وقبول الآخر المختلف… نعم، حوار وحوارات، ولكن كل شيء انتهى إلى لا شيء، وفي ذلك كان الفشل مطلقاً. سؤال ولاجواب       نسأل ونحن ننتظر جواباً: لماذا كُتب علينا الاضطهاد؟، ولماذا حتى الساعة نخاف فنهرب والإعلام يُعلمنا إنها مؤامرةٌ إقليميةٌ بل دوليةٌ، فمن أجل شعب تموت شعوب وما سيحل وحتى ما. ما يخيفنا ما حلّ فينا، هل حققت المؤامرة أهدافها؟، هل اكتمل مخططها أم لا زالت هناك زوايا مظلمة في مسيرة نعتبرها حقوقيةً للإنسان وحياتيةً للشعوب، فالجيران الاشرار لا زالوا بداعشهم وإرهابهم يجولون في ديارنا وحاراتها، في مخادعنا ومنازلنا، في الأزقّة وحنايا المعابد، يسرقون ويستبيحون كل شيء، يدنّسون كنائسنا، يكسرون صلباننا، باسم الله يحلّلون غزواتهم ويحطّمون تماثيل رموزنا، إنها أملاكُ النصارى والكفار، ويعلنون أنفسهم حماةً لسابع جار، فبئسهم، فأولُ جار لهم سرقوه ثم قتلوه دون أن يدركوا أنهم هم الكفّار. ما أراه إن صمودنا وثباتنا بإيماننا _ وفي قيد الحياة بعد المآسي التي ارتُكبت بحقنا، وجحافل الشهداء التي سارت أمام أنظارنا، وهدم كنائسنا، وبيع أوطاننا وأراضينا _ مرهونٌ بثباتنا في المسيح الحي، المسيح الكرمة، وفيها نحن الأغصان، وبغيره لا يمكن أن نحيا أو نحمل ثمراً كي نكون أغصاناً تحمل الخير ولا شيء غير الخير، كي نكون أملاً في الرجاء ومسيرة الإيمان. نرفض الموت         إننا أصلاء وها نحن اليوم شهداء بلا قضية، فالقضية دارت في أروقةِ الكبار والانتظارُ مرضٌ لنا ودمار. ما أُدركه حتى الساعة، إننا عنوان الحياة في وطن نرفض فيه أن نموت، فنحن أبناء القيامة، وإن الرب لا زال ينادينا لا تخافوا، ثقوا بالمسيح الحي وبالصليب كُتب لنا النصر بل هو انتصر بالصليب وأرادني أن أشاركه الانتصار بالقيامة ومهما كان النهار قاسياً والظلام مخيفاً ستكون القيامة فرحاً ونوراً مضيئاً وما علينا إلا أن نكون صوتاً للإيمان. فإن كان الصليب صلبَ الموت فنحن بإلهنا المسيح الحي أبناءُ القيامة، أبناء الحي بين الأموات. ومأساتُنا دعوةٌ لنا للتوبة، لكبار كنائسنا وصغار معابدنا وخدّام أديرتنا ومؤمني رعايانا    الخاتمة         نعم، الرب يعلم بحالنا، وهو يعلم أن صليب الحياة لا زال ثقيلاً كما لا زال الألم يتنهد فينا. فيا رب بحرُنا هائج وأنفسنا ترتعد خوفاً من الغرق وإيماننا يقول أنك أنت خلاصنا وما يدك إلا القدرة بالذات… فشرقنا يموت معذَّباً ولكن رجاؤنا أننا سنقوم من جديد. فيا رب، ألا تكفي سنة من الهجرة والنزوح، ألستَ أنت الذي زرتَ أرضنا بعد تسعة أشهر في مغارة هي الكون بأكمله، فلتكن مشيئتك، وما الدماء التي سفكت في أرض وطن الشهادة، وفي صحن سيدة النجاة، إلا رسالة سامية نحملها زاداً للطريق وخبزاً للجياع إلى الإيمان، وينبوعاً يروي العطاشى إليك، فاقبل أرواح شهدائنا التي انتقلت إليك واجعل من وجودنا رسالة محبة سامية نحملها إلى مبغضينا، وتلك حقيقتنا وفي ذكرى شهدائنا نصرخ إليك قائلين: نعم، تعال أيها الرب يسوع فنحن بحاجة إلى زيارتك، لتجدد عقولنا وأفكارنا بكلمة الحقيقة وقلوبنا بدماء القداسة، كي نبقى شهداءَ أُمناء، وشهوداً أوفياء، وما تلك إلا حقيقتنا، في أقدس ذكرى لشهدائنا، نعم وآمين.