قراءة في الرسالة البابويَّة العامّة: نُور الإيمان

قراءة في الرسالة البابويَّة العامّة: نُور الإيمان

حاضرة المطران بطرس مراياتي رئيس أساقفة حلب وتوابعها للأرمن الكاثوليك في إطار محاضرات التنشئة المسيحيَّة في جمعيَّة التعليم المسيحيّ بحلب، 8 تشرين الأوّل 2013

حلب, 18 اكتوبر 2013 (زينيت) – أصدر قداسة البابا فرنسيس رسالة عامّة بعنوان: “نُور الإيمان LUMEN FIDEI“، بتاريخ 29 حزيران 2013، في ذِكرى عيد هامتَي الرُسُل بطرس وبولس، وفي إطار “سنة الإيمان” التي يحتفل بها العالَم الكاثوليكيّ (11 تشرين الأوّل 2012 – 24 تشرين الثاني 2013).

1- نظرة عامّة إلى الرسالة

إليكم بعض المعطيات الهامّة التي تشدّ الانتباه، قبل التوغّل في قراءة نصّ الرسالة البابويَّة:

1. هي “رسالة عامّة” (LETTRE ENCYCLIQUE) وليست “إرشاداً رسوليّاً” (EXHORTATION APOSTOLIQUE). والفرق بينهما أنّ “الرسالة العامّة” توجَّه إلى الأساقفة الكاثوليك والإكليرُس والمؤمنين العلمانيّين وتحمل طابع التعليم. أمّا “الإرشاد الرسوليّ” فهو، وإن كان موجَّهاً إلى الأشخاص المذكورين أنفسهم، إلاّ أنّه يحمل طابع التوجيه في أمور نوقشت في أثناء انعقاد مجمع عامّ أو سينودُس، فيأتي تتويجاً لهذه الأعمال. كما هو الحال في الإرشاد الرسوليّ “الكنيسة في الشرق الأوسط” الصادر في 14 أيلول 2012، الذي جاء ثمرةً للسينودُس حول: “الكنيسة في الشرق الأوسط: شركة وشهادة“، الذي عُقد في روما في تشرين الأوّل 2010. فالرسالة العامّة أعلى مرتبة من الإرشاد.

ورسالة “نُور الإيمان” هي أُولى رسائل البابا فرنسيس، أي هي أوّل وثيقة بابويَّة في عهد حَبْريّته.

2. جاءت الرسالة “نُور الإيمان” مكمّلةً لرسالتَي البابا بندكتُس السادس عشر حول الفضيلتين الإلهيّتين المحبّة والرجاء: “الله محبّة” (DEUS CARITAS EST) و”مخلَّصون بالرجاء” (SPE SALVI). فكانت السلسلة عكس ما هو معروف. فبدلاً من تدرّج الإيمان والرجاء والمحبّة، بدأت الرسائل بالمحبّة، ثمّ الرجاء، وآخِرها الإيمان.

3. وتحدّث المُنسنيور فولّو (FOLLO) عن ثلاثة مفاتيح (الإيمان والرجاء والمحبّة) لباب واحد. هذا الباب يقود إلى ملكوت السموات. ومَن يحمل المفاتيح هو الله والإنسان معاً. فلا الإنسان وحده يستطيع أن يلج من الباب بدون عون الله، ولا الله يريد أن يفتح الباب بدون مساهمة الإنسان الحرّة، أو قُل الطاعة لمشيئة الله ومخطّطه الخلاصيّ. الله واقف على باب الإنسان، يقرع بانتظار مَن يفتح له، ولكنّ الإنسان حُرّ في قراره.

4. لقد بدأ البابا بندكتُس السادس عشر بكتابة هذه الرسالة “وكان أوشك على إنهاء المسوّدة العامّة”. وقد أضاف البابا فرنسيس لمسته إلى النصّ من خلال “بعض المساهمات الإضافيَّة”. وهذا دليل على التواصل في الكنيسة، فلا قطيعة بين الأحبار، بل تكامل وتناغم وشركة في الإيمان الرسوليّ. كما هو الحال في سباق التتابع في حلبة الجري. وقد شبّه الكَردينال ويليت (OUELLET) هذه الرسالة المشتركة بين بابوين بتعبير موسيقيّ، فقال: “هي معزوفة على البيانو بأربع أَيْدٍ”.

5. الرسالة البابويَّة “نُور الإيمان” ليست طويلة، كما هي العادة في كتابة الرسائل السابقة. وهي مشبَّعة بالآيات الكتابيَّة، وحتّى عناوين الفصول جاءت في صيغة آيات كتابيَّة. وهنا، تجدر الإشارة إلى أنّ هذه الآيات لا تأتي لدعم الفكر اللاهوتيّ، بل هو الفكر اللاهوتيّ الذي يستقي من نبع الكتاب المقدَّس ويستنير بنُور المسيح.

6. وهي رسالة غنيَّة بالصُوَر (الشمس، نجمة الصبح، الشعلة، النوافذ الخزفيَّة الملوّنة…)، وبكتابات الأقدمين (أوغسطينُس، يوستينُس، توما الأكوينيّ، دانتي…) والمعاصرين (روسّو، دوستويفسكي، نيتشِه، غوارديني…). وإذا كانت الرسالة تحمل أفكار البابا بندكتُس اللاهوتيَّة، إلاّ أنّ الأسلوب الإنشائيّ هو خاصّ بالبابا فرنسيس، بعفويّته وخطابه المباشر وهمّه الرعويّ. ولعل ّالأفعال الثلاثة التي طُبعت بها هذه الرسالة هي الأفعال القريبة إلى قلبه، وقد ذكرها في عظته الأُولى: “أن نسير إلى الأمام، وأن نبني معاً، وأن نعترف أمام الله”. إنّ البابا فرنسيس يترجم المعطيات اللاهوتيَّة إلى موضوعات رعويَّة تساعد في التفكير والتعليم والتطبيق.

7. تقسم الرسالة إلى مقدّمة، وأربعة فصول، وخاتمة.

2- مضمون الرسالة العامّة

دعونا الآن نغوص في عُمق الرسالة بكلّ أقسامها وأبعادها:

أ- المقدّمة

تقدّم لنا الكنيسة شخصيَّة يسوع، كما قال عن نفسه في يوحنّا: “جئتُ أنا إلى العالَم نُوراً، فكلّ مَن آمن بي لا يبقى في الظلام” (12/46). ويعبّر بولس الرسول عن هذه الحقيقة بقوله: “فإنّ الله الذي قال: “ليشرقْ من الظلمة نُور” هو الذي أشرق في قلوبنا” (2قورنتُس 4/6). إذا كانت الشمس هي التي تُنير الكون وتُشرق في كلّ صباح، إلاّ أنّها لا تستطيع أن تُنير عُمق الإنسان وظلام الموت. فالمسيح هو شمسنا الحقيقيَّة التي تُعطي أشعّتُها الحياة. وبإيماننا نستطيع أن نرى نُوراً يضيء دربنا. وهذا النُور يأتينا من المسيح القائم من بين الأموات، “نجمة الصبح” التي لا تغيب.

نحن نتحدّث عن شعلة نُور الإيمان كي تنمو فينا وتُنير حياتنا في زمن نحن بأشدّ الحاجة إلى النُور. ولذلك أكّد الربّ يسوع لبطرس: “صلّيتُ من أجلك كي لا تفقد إيمانك” (لوقا 22/32). وأضاف “وأنتَ ثبّتْ إخوانك” في هذا الإيمان.

ومن هذا المنطلق تهدف الرسالة إلى إعادة اكتشاف “خاصّيَّة نُور الإيمان” لأنّه “عندما تنطفئ شعلة الإيمان، تفقد كلّ الأنوار الأُخرى حيويّتها. فنُور الإيمان يملك، في الحقيقة، خاصّيَّة فريدة، لأنّه قادر على إنارة كلّ وجود الإنسان”. مَن نحن؟ وإلى أين المصير؟ لماذا الخير والشرّ؟ ولماذا الموت؟ وماذا بعد الحياة؟… كلّها أسئلة في حاجة إلى جواب. وجوابنا بأتي في ضوء نُور الإيمان.

وجودنا اليوم يختلف عن وجود المؤمنين في ما مضى. فنحن نمرّ في زمن متغيّر تبدّلت فيه المراجع الأخلاقيَّة وانحسرت الثوابت الروحيَّة، وتعاظمت قدرات الإنسان العِلْميَّة والتكنولوجيَّة.

فلا يمكننا أن نبقى في برجنا العاجيّ، بل علينا أن نخرج للقاء العالَم في آلامه وآماله، وأن نعطي جواباً لما يعيشه إنسان اليوم بروح الخدمة والأمل. “فالإيمان ليس فضيلة فرديَّة أنانيَّة، بل هو فضيلة انفتاح نحو الآخَر لملاقاته والحِوار معه والسَير معه نحو ملكوت الله”.

ب- الفصل الأوّل: “نحن آمنّا بالمحبّة” (1يوحنّا 4/16)

لهذا الفصل أبعاد ثالوثيَّة:

– هو الله الآب الذي دعا إبراهيم إلى الإيمان، فاستجاب وأصبح “أباً لنا في الإيمان” بحسب العهد القديم. واتّخذت كلمة “الإيمان” معنى: “الأمان” و”الأمانة”. وهذا الإيمان يرتكز على كلمة الله. ومن هنا دُعي موسى النبيّ “كليم الله” لأنّه رأى نُوره وآمن، في حين أنّ الشعب ترك الله وعاد إلى عبادة العجل والأوثان. ولكنّ الله لا يتخلّى عن الإنسان، لأنّ الإيمان عطيَّة مجّانيَّة، وهي تتطلّب التواضع والثقة والتسليم. ولا ينفكّ الله الآب، خلال تاريخ الخلاص، عن إنارة بصيرة الإنسان وقلبه ودربه. الإيمان هو علاقة شخصيَّة بين الله والإنسان، فهو “يدعونا باسمنا”.

– هو الله الابن، يسوع المسيح، الذي يحقّق كمال الإيمان، فيصبح “آمين”، ويحقّق جميع الوعود والنبوءات. فهو “الشاهد الأمين”، الذي بموته وقيامته نلنا الخلاص. إنّ الإيمان المسيحيّ هو إيمان بالمحبّة التي تستطيع أن تغيّر العالَم وتُنير الزمان، كما يؤكّد يوحنّا الرسول: “نحن عرفنا المحبّة التي يُظهرها الله بيننا وآمنّا بها” (1يوحنّا 4/16). فإيمان المسيحيّ هو إيمان تجسّديّ. إيمان بالله الذي سكن بيننا بجسد ابنه يسوع، ولذلك أحبّنا حتّى بذل ابنه من أجلنا ووجّه العالَم إليه، ومن هنا، علينا أن نلتزم ونتابع مسيرتنا على هذه الأرض. وللإيمان بيسوع بُعدان: الاعتراف به كابن الله (CROIRE EN LUI)، والثقة به لأنّه يقودنا إلى الخلاص (CROIRE A LUI).

– هو الله الروح القُدُس الذي يعمل فينا اليوم ويغذّي شعلة الإيمان، ويجعلنا ننادي الله “يا أبتِ!”، فنصبح أبناء له بالإيمان بالمسيح يسوع. فإنّنا جميعاً، وقد اعتمدنا في المسيح، قد لبسنا المسيح، وأصبحنا واحداً في المسيح يسوع (راجع غلاطية 3/23–4/7). فبدون فيض الروح القُدُس في قلوبنا لا نستطيع أن نتجاوب مع محبّة الله لنا ولا نستطيع أن نعترف بيسوع ربّاً (راجع روما 5/5 و1قورنتُس 12/3).

وبعد هذا البُعد الثالوثيّ تُشير الرسالة أيضاً إلى البُعد الكنسيّ للإيمان. فلا يوجد إيمان منعزل، أو مؤمن منفرد أو خصوصيَّة عقائديَّة، بل إنّ كلّ المؤمنين يكوّنون جسد المسيح الواحد، وهو الرأس. ومن هنا، كان إيماننا كنسيّاً، جَماعيّاً، يظهر كشركة بين جماعة المؤمنين الذين يشاركون في مسيرة الكنيسة على الأرض، كحُجّاج في التاريخ نحو كماله. هي نظرة جديدة إلى العالَم يعطينا إيّاها نُور الإيمان.

ج- الفصل الثاني: “إذا لم تؤمنوا لن تفهموا” (أشعيا 7/9)

يتحدّث البابا عن الرباط الوثيق بين الإيمان والحقيقة، حقيقة الله الموثوقة وحضوره الأمين في التاريخ.

ويقول البابا: “إنّ الإيمان بلا حقيقة، لا يُخلِّص، ولا يجعل خطواتنا ثابتة. بل يبقى مجرّد قصّة جميلة، انعكاساً لرغباتنا في السعادة، أمراً يفرّحنا بمقدار حاجتنا في أن نخدع أنفسنا، أو ينحصر في مجرّد شعور طيّب، يعزّي ويدفئ، ولكنّه يبقى موضوعاً لتذبذبات أمزجتنا، ولتقلّبات التاريخ، ومن ثمّ يصبح عاجزاً عن دعم مسيرة دائمة في الحياة”. إنّ إيماناً من هذا النوع لا يستحقّ أن نكرّس له حياتنا. ولذا، لا بدّ أن يكون هناك رباط حميم وأساسيّ بين الإيمان والحقيقة. وفي ظلّ “أزمة الحقيقة” التي نعيشها، إنّه لمن الضروريّ أن نذكّر بأهمّيَّة هذا الرباط.

وينوّه البابا بالعلاقة بين السمع والإيمان: “الإيمان من السمع”، كما يقول بولس، وبالعلاقة بين البصر والإيمان: “رأى وآمن” بحسب قول يوحنّا، “رأيتُ الربّ”. إنّ الحقيقة التي يدعونا إليها الإيمان ليست حقيقة نسبيَّة نظريَّة، بل هي حقيقة مرتكزة على لقاء المسيح والتأمّل في حياته وإدراك حضوره.

ويفتح قداسة البابا بالتالي باباً للحِوار بين الإيمان والعقل حول الحقيقة في عالَم اليوم، لافتاً إلى أنّ الحقيقة لا يمكن أن تُختزل بالحقائق المخبريَّة والعِلْميَّة، كما أنّها لا يمكن أن تضحي مجرّد “أصالة فرديَّة”، بل يجب أن تنفتح على بُعد موضوعيّ وتسمح بفتح أبواب تواصل بين البَشَر.

الإيمان يتطلّب أحياناً البحث عن الله. ولنا في المجوس، الذين تبعوا النجم، مثال لمَن يجدّ في البحث عن الله الحيّ.

ويأتي عِلْم اللاهوت لا كسائر العلوم الأكاديميَّة، بل هو “عِلْم الإيمان”، أي لقاء مع الله والبحث في أسراره بنُور الروح القُدُس. فاللاهوت ليس كلاماً عن الله وحسب، بل قبل كلّ شيء، هو قبول كلمة الله الموجَّهة إلينا والسعي لفهم هذه الكلمة على نحو أعمق. هذا ما أراد قوله القدِّيس أوغسطينُس بكلامه المأثور: “أؤمن كي أفهم، أفهم كي أؤمن” (CREDO UT INTELLIGAM, INTELLIGO UT CREDAM).

د- الفصل الثالث: “أنقل لكم ما تلقّيته” (1قورنتُس 15/3)

في هذا الفصل يتوقّف قداسة البابا عند أهمّيَّة نقل البُشرى وإعلان الإنجيل. فمَن تلقّى عطيَّة الإيمان لا يمكن أن يحتفظ بها لنَفْسه. فكما سمع الصوت ونال النُور، كذلك عليه أن ينقل بدَوْره هذه الكلمة وهذا النُور لغيره.

يشعّ نُور المسيح على وجه المؤمن وينتشر شعلةً تستنير وتُنير شعلاً أُخرى، وتمرّ من جيل إلى جيل آخَر. (مثل الشعلة الأولمبيَّة التي تمضي من بلد إلى بلد، وتنتقل من شخص إلى آخَر).

وشدّد البابا على أنّه من المستحيل أن نؤمن وحدنا، لأنّ الإيمان ليس خياراً فرديّاً. الإيمان يُعاش في صلب الشركة الكنسيَّة. وهذه الشركة تعني التسلّم والتسليم، كما يقول بولس الرسول: “فإنّيتسلّمتُمنالربّماسلّمتهإليكم” (1 قورنتُس 11/23). وما تسلّمناه ونسلّمه لمَن يأتون بعدنا هو “قانون الإيمان: نؤمن”، والليتُرجيّا، والأسرار، وبخاصّة المعموديَّة والإفخارستيّا.

ويشير البابا إلى أمرين هامّين في النقل الأمين لذاكرة الكنيسة، وهما: “الصلاة الربّيَّة” و”وصايا الله العشر”.

هكذا تحافظ الكنيسة على كنوز الإيمان التي تسلّمتها وتعمل على توزيعها على المؤمنين، ونقلها إلى العالَم، من أقاصي الأرض إلى أقاصيها، حتّى انقضاء الدهر.

ومن هنا، يؤكّد البابا أنّ الإيمان “واحد” لأنّ الله واحد، وعلينا أن نعترف بهذا الإيمان بكلّ نقاوته واستقامته. ويأتي الروح القُدُس لتأييد الكنيسة الجامعة فتصبح ضمانة للحفاظ على الإيمان القويم.

هـ- الفصل الرابع: “يُعدّ الله لهم مدينة” (إلى العبرانيّين 11/16)

يتوقّف الفصل الرابع عند الرباط بين الإيمان والخير العامّ، لافتاً إلى أبعاد الإيمان الاجتماعيَّة والترابط بين الإيمان والعدالة والسلام.

إنّ الإيمان ليس فكراً مجرّداً، بل هو واقع محوِّل. والإيمان في ارتكازه على المحبّة يُحدث الرابط الأعمق بين البَشَر، الذي ليس هو المصلحة بل المحبّة والشركة. فالإنسان مسؤول عن العالَم الذي يعيش فيه.

وتتوقّف الرسالة العامّة بالتالي عند مختلف الوقائع البَشَريَّة المستنيرة بنُور الإيمان، ويذكر منها:

– العائلة: هي منبت الإيمان، حيث ينشأ الأولاد على محبّة الله والقريب.

– الشبيبة: نتعلّم منها النموّ في الإيمان، وفرح الإيمان، والالتزام بعيش الإيمان بثبات وسخاء.

– الطبيعة: إنّ الإيمان بالله الخالق يحثّنا على احترام الحياة، وحِماية الطبيعة وقوانينها التي وضعها هو نَفْسه، والمحافظة على البيئة.

– الألم: إنّ نُور الإيمان يجعلنا نشعر بآلام الفقراء، مثل القدِّيس فرنسيس والأُمّ تيريزا، ويدفعنا لتخفيف معاناتهم.

إنّ الإيمان يوطّد العلاقات بين البَشَر. فأيادي الإيمان ترتفع إلى السماء، ولكنّها، في الوقت نَفْسه، تمتدّ بالمحبّة لبناء مدينة ترتكز على علاقات أساسها محبّة الله.

فالإيمان لا يبحث عن المدينة الفاضلة الطُوباويَّة، أو عن المدينة السماويَّة “أورشليم الجديد” وحسب، بل يسعى لبناء مدينة الأرض يعيش فيها البَشَر بروح الأخوّة الشاملة.

ح- الخاتمة: “طُوبى لمَن آمنتْ” (لوقا 1/45)

يختم البابا رسالته بتقديم مريم العذراء “كإيقونة كاملة للإيمان“. فهي كانت تسمع الكلمة، وتحفظها في قلبها، وتعمل بها، وترى بنُورها جميع الأمور، فهي مثال وقدوة لكلّ مؤمن.

عندما تلقّت مريم العذراء بشارة الملاك حملت في أحشائها “الإيمان والفرح“. بإيمانها أعطتنا ثمراً. وحين يأتي الثمر ينمو معه الفرح.

وتابعت مريم مسيرتها باتّباع يسوع. وهي تساعدنا اليوم كي نبقى ثابتين في إيماننا، وتذكّرنا بأنّ المؤمن ليس وحده أبداً، وتعلّمنا بأن ننظر بعين المسيح كي يصبح نُوراً لدربنا، حينئذٍ، يتوهّج فينا نُور الإيمان إلى اليوم الذي نصل فيه إلى “ملء قامة المسيح” (أفسُس 4/13).

3- رسالة البابا والشرق

إنّ رسالة البابا “نُور الإيمان” موجَّهة إلى جميع الكاثوليك أينما وجدوا، وإلى ذوي الإرادة الحسنة من مسيحيّين وغيرهم. وهي ولا تخصّ بالذِكر مسيحيّي الشرق، وإلاّ لأصبحت إرشاداً رسوليّاً. وهذا ما قام به البابا بندكتُس السادس عشر بإرشاده الرسوليّ “الكنيسة في الشرق الأوسط: شركة وشهادة“، كما أسلفنا.

ولكنْ، لا بدّ لنا أن نتلمّس في الرسالة العامّة “نُور الإيمان” إشارات ومحطّات تفيدنا في رؤيتنا تجاه الأحداث التي نعيشها.

إليكم بعض العلامات من خلال عبارات قصيرة نجدها في الرسالة:

أ- “المؤمن لا يكون متعجرفاً”. بل على العكس، إنّ الحقيقة تجعله متواضعاً. فليس هو الذي يملك الحقيقة، بل هي الحقيقة التي تكتنفه وتتملّكه. إنّ ثباته في الإيمان لا يجعله متحجّراً، بل يدفعه للمضيّ قُدُماً ليشهد ويتحاور مع الجميع.

إنّ نُور الإيمان محاط بهالة من المحبّة. ولذلك، لا تستطيع أن تفرضه على الآخَر. الإيمان مبنيّ على حقيقة المحبّة، وما من حقيقة تُفرَض بالعنف وتسحق الآخَر. وهو متسامح، يتعايش مع الآخَر، في احترام وبحث مشترك عن الحقّ.

كلّ التيّارات الأصوليَّة والتوتاليتاريَّة لا تحترم حرّيَّة الإنسان، وتفرض مبادئها بالقوّة، وينتج عنها التعصّب والتطرّف.

ربّما هذا ما نعيشه اليوم من قتل وعنف وحقد ورفض الآخَر، لأنّ الدِين أصبح مُلْكاً خاصّاً نتحكّم به كما نريد، بعيدين عن روح المحبّة.

الإيمان يُعرَض ولا يُفرَض: PROPOSER ET NON IMPOSER. ومن هنا، رسالة المسيحيّ للحِوار مع الديانات الأُخرى، حتّى مع الوثنيّين والملحِدين.

ب- “إنّ مَن يؤمن يرى”. هذه العبارة هي خلاصة تعليم البابا فرنسيس في “نُور الإيمان“. فالمؤمن يرى ما هو جوهريّ: سرّ تجسّد ابن الله، الذي بموته وقيامته، كشف عن الحُبّ بكلّ كماله وعُمقه.

نحن أيضاً مدعوّون لكي ننظر بعينَي المسيح. ولأنّنا مؤمنون نرى في ما نعيشه اليوم سرّ حضور الله بيننا “عمّانوئيل”، وسرّ صمته وغيابه، وسرّ الصليب والألم، وسرّ القيامة والخلود.

قال يسوع لمرتا التي كانت تبكي موت أخيها: “ألم أقلْ لكِ إنّك إن آمنتِ تَرَينَ مجدَ الله؟” (يوحنّا 11/40).

إنّ ما نعانيه اليوم من الآلام لا يعادل المجد الذي سيتجلّى فينا لأنّنا، إذا شاركناه آلامه، نشاركه في مجده أيضاً (راجع روما 8/17-18).

ج- “لا تتركوا الرجاء يُسرَق منكم”. أي بتعبير آخَر: لا تفقدوا الرجاء! فكما أنّ هناك علاقة عضويَّة بين الإيمان والمحبّة، أيّ الحقيقة المستنيرة بالمحبّة، كما ذكرنا، كذلك ثمّة علاقة عضويَّة بين الإيمان والرجاء.

إنّ الرجاء يدفعنا إلى المستقبل الأكيد الذي لا يُبنى على أوهام تحملها إلينا أوثان العالَم المعاصر، بل بالعكس يعطينا قوّة واندفاعاً لنواجه الحياة اليوميَّة.

أليس هذا ما نحن في حاجة إليه اليوم؟

الإيمان ليس نظريّات وعقائد ومماحكات، بل نَفَسٌ يُحيي حياتنا اليوميَّة ويغذّيها لأنّه يزرع فينا الرجاء بعالَم أفضل يجد كماله في ملكوت السموات.

لا نظنّنّ أنّ الإيمان يلغي كلّ الظلمات التي تحيط بنا، بل هو نُور يقود خطانا في الليل. وهذا يكفي لمتابعة الطريق.

الرجاء لا يخيّب أبداً” (روما 5/5).

الخاتمة

في الظروف التي نعيشها يوضَع إيماننا على المحكّ. ورسالة البابا تدعونا لكي نعترف بهذا الإيمان الذي ورثناه، وأن نعلنه بجرأة، ونشهد له بالمحبّة بعضنا تجاه بعض وتجاه الآخَر، ونحمله في “آنية من خزف” لنسير في نُوره نحو مستقبل مليء بالرجاء.

ما قدّمتُه لكم ما هو سوى مقدّمة لرسالة البابا “نُور الإيمان”. ولكنْ لا بدّ من قراءة الرسالة بكاملها لنتذوّق كامل محتواها. فهل يمكن اختزال ستّين صفحة في بعض من صفحات؟

لقد تُرجمتْ هذه الرسالة، منذ يوم صدورها، إلى اللغة العربيَّة. فأتمنّى أن تُطبع وتُنسخ وتُوزّع على المؤمنين، وتصبح مادّةً للدراسة والحِوار والتعمّق بين الإكليرُس وبين أعضاء الأخويّات.

إنّ الإيمان ليس “قفزة في الفراغ” وليس “شعوراً أعمى”، بل هو “حرّيَّة متنوّرة لا ظلام فيها”. فهنيئاً لمَن “يبحث عن الله” و”يسير في هديه لعمل الخير”، لأنّ “الحياة عظيمة وجميلة”.

وفي الختام أعرض لكم هذه الحادثة التي ذكرها قداسة البابا في رسالته: “عندما سأل الحاكم الرومانيّ (روستيكوس RUSTICUS) أحد المسيحيّين (هييراكس HIERAX) المتأهّبين للاستشهاد: “أين هم أهلك؟”. أجاب الشهيد: “أبونا الحقيقيّ هو المسيح، وأُمّنا هي الإيمان به”. ما أجمل هذا الجواب! فبالإيمان نولد لحياة إلهيَّة ويشرق النُور في وجودنا لنصبح شهوداً للمسيح.

وهذا الجواب يحاكي ما كتبه في العام 451م القدِّيس وارطان ورفقاؤه الشهداء للمَلِك الفارسيّ “يا زكيرد” الذي كان يهدّدهم بالموت إن لم يجحدوا إيمانهم بالمسيح ويعبدوا الأوثان. وقد سطّروا هذه العبارة معلنين اعترافهم بإيمانهم الذي لا يتزعزع: “نحن نعترف بالإنجيل أباً لنا، وبالكنيسة أُمّاً لنا”.

علّنا نجدّد اليوم إيماننا قائلين مع الرُسُل: نحن نؤمن، يا ربّ، “فَزِدْنا إيماناً” (لوقا 17/5).

لجنة سنة الإيمان

محاضرات التنشئة المسيحيَّة

جمعيَّة التعليم المسيحيّ بحلب، 8 ت1 2013

المطران بطرس مراياتي

رئيس أساقفة حلب وتوابعها

للأرمن الكاثوليك