كتابُ ميلاد يسوع المسيح، ابنُ داود، ابنُ ابراهيم

كتابُ ميلاد يسوع المسيح، ابنُ داود، ابنُ ابراهيم

عظة البطريرك الكردينال مار بشاره بطرس الراعي

بكركي، الأحد 20 ديسمبر / كانون الاول 2015

في هذا الأحد السابق لعيد الميلاد، تذكر الكنيسة نسب يسوع المسيح، ابن الله، إلى العائلة البشرية. فهو من سلالة داود الملكيّة، بل هو الملك الأبدي الذي لن يكون لملكه انقضاء؛ وهو ابن ابراهيم لكون مواعيد الله الخلاصية تحقّقت كاملةً فيه. من داود ورث يسوع الملوكيّة كإنسان، ومن ابراهيم ورث البركة الموعودة بها البشرية. ولهذا استهلّ القدِّيس متى إنجيله بكلمة: “كتابُ ميلاد يسوع المسيح، ابنُ داود، ابنُ ابراهيم” (متى1:11

2. يسعدنا أن نحتفل معًا بهذه الليتورجيا الإلهيّة، ونحن على مشارف عيد ميلاد الربّ يسوع الذي “صار إنسانًا ليؤلِّه الإنسان”، كما كان يردّد آباءُ الكنيسة القدِّيسون. في الميلاد كانت مبادرة انحدارية من الله إلينا، متّخذًا طبيعتنا البشرية لتقديسها، فينبغي أن يقابلها كلّ واحد وواحدة منّا بمبادرة تصاعدية ننفتح بها للنعمة الإلهية التي ترفعنا إلى قمم الروح. المبادرة الإلهية مستمرّة في سرّ القربان، حيث المسيح حاضر في جوهر الخبز والخمر المحوَّلَين إلى جسده ودمه لحياة العالم. فلا بدّ من مبادرتنا إليه.

3. إنّني، إذ أرحّب بكم جميعًا، أعرب لكم عن أخلص التهاني والتمنيات بالميلاد المجيد، راجيًا أن يكون ميلادُ المسيح الإله هذه المرّة في قلوبنا حبًّا ورحمة، وفي عقولنا حقيقةً تحرّر وتجمع، وفي إراداتنا التزامًا دائمًا بكلّ ما هو حقّ وعدل وصلاح. يتزامن في هذه السنة مع عيد ميلاد المسيح الربّ عيدُ المولد الشريف، وهي مناسبةٌ لنقدّم التهاني للإخوة المسلمين في لبنان وعالمنا العربي، ولاسيّما للسادة الحاضرين معنا اليوم، ومن بينهم رئيس وأعضاء حركة “عدالة وإنماء” الطرابلسية. هذا التزامن يذكّرنا بالرسالة المشتركة، رسالة العيش المشترك، مسيحيّين ومسلمين، بالتعاون والتكامل، على أساس من المواطنة، والمساواة في الحقوق والواجبات، والمشاركة في الحكم والإدارة.

وفيما السعي الآتي من سياسات خارجية بهدف ترويج الصراع بين الأديان والثقافات والحضارات وافتعاله، فإنّنا في لبنان وبلدان الشَّرق الأوسط مدعوّون لمواجهة هذا التحدّي بالعيش الواحد، وبمواصلة تكوين هوية وثقافة مشتركة وحضارة خاصّة ومصير واحد، بالرغم من مصاعب الحياة اليوميّة، علمًا أنّ الصعوبات والمحن تصقل الشخصيّة الخاصّة والشخصيّة الجماعيّة، بفضل حوار الحياة والثقافة والمصير الذي نعيشه بشكل طبيعي. وعلينا أن نحرص كلّ الحرص على حفظ الاعتدال، ونبذ التطرّف والتعصّب، ومكافحة التنظيمات الإرهابية التي تهدم وتقتل باسم الدِّين.

4. إنّ ما تعيشه بلدان الشَّرق الأوسط، في هذه السنوات، من حرب ودمار وانقسام وحقد، ومن قتل ونزوح وتهجير، لدعوةٌ ملحّة إلى وعي ما يُحاك لهذه البلدان من مشاريعَ هدّامة. فلا بدّ من إرادة داخليّة تقرّر التفاهم والمصالحة، وتعملُ جاهدةً، مع الأسرتين العربية والدولية، من أجل إيقاف الحرب في سوريا والعراق واليمن، ومن أجل حلّ القضية الفلسطينية، وتسعى إلى إحلال سلام عادل وشامل ودائم، وتبذل كلّ جهدها لإعادة المواطنين النازحين والمهجّرين والمخطوفين إلى بيوتهم وأراضيهم. آن الأوان لكي يقرّر أبناء هذه البلدان ما يريدون هم لأوطانهم، لا أن يفرضه عليهم الآخرون، الذين لا يبغون سوى مصالحهم الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية على حساب شعوب هذه البلدان.

5. بالعودة إلى سلسلة الأسماء في نسب يسوع، ندرك أنّ جميع الأجيال منذ بدء الخليقة والخطيئة الأولى، كانت تتّجه بالوحي الإلهي نحو المسيح، كلمة الله الذي صار إنسانًا في ملء الزمن، فتكلّمت عنه التوراة والأنبياء والمزامير بالشكل المباشر وبالرموز. كلُّها تهيّأت له وهيّأت مجيئه إلى المجتمعات البشرية وثقافات الشعوب، عبر العهد القديم السابق لميلاده. أمّا نحن، الذين أتينا إلى الوجود من بعد دخول الإله عمّانوئيل في حياة البشر وتاريخهم، فدعوتنا ورسالتنا أن نستقبله في نفوسنا، كما وفي العائلة والمجتمع والوطن، وأن نكون شهودًا له، نهيِّئ طريقه إلى العقول والقلوب، وإلى ثقافات أوطاننا.

6. لقد أعطى المسيح، الإلهُ والإنسان بكامل طبيعتَيه ووحدة شخصه الإلهي، كرامة وقدسيّة للحياة البشريّة المكوَّنة أصلًا من صورة الله؛ كما أعطى قيمةً لكلّ شخص بشري، بتعاونه معه في بناء مجتمع أفضل، يستمدّ قيمه من المسيح الذي شابهنا في كلّ شيء ما عدا الخطيئة: فلقد فكّر بعقل إنسان، وصنع الخير بإرادة إنسان، وأحبّ حتى النهاية بقلب إنسان.

إنّه الرحمة الإلهيّة التي تجسّدت فيه، واتّخذت اسمه في التاريخ. لقد عبرنا بابه المقدّس في افتتاح يوبيل سنة الرحمة مع قداسة البابا فرنسيس في 8 كانون الأوّل الجاري، لكي ننفتح لرحمة الله التي تغفر خطايانا في سرّ التوبة، ولنعمة المسيح التي تشفي جراحنا الروحية والخلقية والحسّية. هذا الباب الرمزي، الذي نعبره طيلة سنة اليوبيل، يذكّرنا بمعانيه ومقتضياته.

7. بابُ الرحمة هذا مفتوحٌ للجميع من أجل تجدّدهم الروحي، وإصلاح الأفكار والمواقف والأفعال في حياتهم ومسؤوليَّاتهم:

مفتوح لكلّ مؤمن ومؤمنة، ولكلّ جماعة. مفتوح للإكليروس الذين لبّوا الدعوة إلى الحياة الكهنوتية وإلى الحياة المكرّسة في الأديار أو في العالم، لكي يلتزموا بقرار اليوم الأوّل وفقًا لإرادة المسيح الذي دعاهم.

باب الرحمة مفتوح للأزواج والوالدين وعائلاتهم، لكي يعودوا إلى قُدسيّة الحياة الزوجيّة وتحقيق السعادة فيها، ويحافظوا على عائلاتهم “خليّةً حيّة” للمجتمع، “ومدرسةً طبيعية” للتربية على القيم الإنسانية والأخلاقية، “وكنيسةً منزلية” تنقل الإيمان وتعلّم الصلاة.

باب الرحمة مفتوح لرجال السياسة وكتلهم النيابية وأحزابهم، لكي يتصالحوا مع السياسة كفنٍّ شريف لخدمة الإنسان المواطن والخير العام، ويتصالحوا مع الوطن اللبناني ومؤسّساته الدستورية وشعبه، ويتصالحوا مع أنفسهم، فيتجرّدون من مصالحهم الخاصة المنافية للصالح العام، ويسارعون إلى التشاور بشأن المبادرة الجدية الجديدة الخاصّة بانتخاب رئيس للجمهورية، وبالتالي إلى كشف أوراقهم، والإقلاع عن مماطلات لا جدوى منها سوى المزيد من الشلل والضرر والفوضى، وإلى اتّخاذ القرار الوطني الشامل والمشرِّف، والحضور إلى المجلس النيابي، وإجراء عمليّة الإنتخاب وفقًا للدستور والممارسة الديموقراطيّة. فانتخابُ الرئيس الكفوء، الحاصل على الثقة والدعم من الجميع، هو المدخل إلى إصلاح المؤسّسات، ومعالجة الأزمة الاقتصادية والاجتماعية والمعيشية والأمنية، والذهاب من حالة اللادولة إلى دولة منتظمة في مؤسّساتها الدستورية العامة.

8. أيّها الإخوة والأخوات الأحبّاء، إذا واصلنا كتابة الأسماء لبلغْنا إلى اسم كلّ واحد وواحدة منّا. ما يعني أنّ لكلّ إنسان مكانه ودوره الخاص في تاريخ الخلاص وتصميم الله. فمن الواجب أن يحقّق كلٌّ منّا ذاته، وأن نتعاون على تمكين الجميع من ذلك، في العائلة والمدرسة، وفي الكنيسة والمجتمع والدولة، حمدًا لله الذي يتمجّد في الإنسان الحيّ، وتسبيحًا للآب والابن والروح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين.