كفى البشرية قتالاً

كفى البشرية قتالاً

مايكل عادل أمين- بودابست
كم مِنْ…
كم من حروبٍ أُريقت فيها الدماء، و معاركِ قُتِلَ فيها الأبرياء. وكم من أراضٍ طفح بها الكيل من كثرة الدماء الّتي تشربت بها وعانت من الارتواء.

كم مِنْ…
كم من دروعٍ سقطت بعد طوال عناءِ، وسيوف استاءت من كثرة إراقة الدماءِ، وبنادق تعّجبت من جرّاء كلّ شخصٍ يقتل إنسانًا. كم من طائراتٍ حلّقت في السماءِ لتمضي وتقذف بيوتاً بداخلها أحبّاء، ودبابات هرع أمامها أبرياء خوفًا من الفتكِ، وأجساد دُهست وتمّزقت من جرّاءِ عنف الألباب وعمى الأذهانِ.

كم مِنْ…
كم من آمالٍ دُفنت داخل القبور باختناق أنفاس أصحابها، ونفوس غادرت البشريّة قبل التمّتع بأبسط الأشياء.
وكم من أحلامٍ لم ترَ النور بسبب قتلها في بوتقة الأحلامِ داخل الإنسان قبل الأوانِ. ورؤوس قُطعت بالرغم من الرغبة في البقاء.

كم مِنْ…
كم من النفوس المتوحشة الّتي كانت ظمأى لرؤية الدماء، فساعدت على هدم وتخريب كلّ ما كان شامخًا في العلاء. وأُناسٍ لم يستطيعوا الوقوف أمام غباء بعض الرؤساء وكبريائهم.

كم مِنْ…
وكم من أشخاصٍ نسوا معنى الحياة وقيمتها بقتل ريعِان الشباب.
كم من بشرٍ مضوا دون أن يؤثّروا ويفيدوا أرجاء المسكونة من العلمِ والبهاءِ.

كم مِنْ…
كم من العيون شاهدت حروبًا فما استطاعت أن تُغلق للنعاسِ، وعقولٍ لم تستطع نسيان هذه المشاهد من الحروب. وكم وكم التاريخ الّذي أكثر ما كتب في ذاكرته أحداث الرعب من الحروبِ والأوبئة.

كم مِنْ…
كم من الدموعِ انهمرت حسرة على كلّ غالٍ من الأقرباء. كم من النفوسِ حزنت على ضياع أغلى الأحباءِ. كم وكم من الأمهاتِ التهبت أحشاؤهن لسماع موت فلذة أكبادهن، موتهم من جراء ما تلقوه من بطشٍ فأسلموا الحياة من كثرة الإعياء.

كم مِنْ…
كم من الشّيوخِ كُسروا بعد زمان بسبب ما حل عليهم من حِـمل لم يستطيعوا احتماله بسبب موت أعز الأحفاد. وألسنة لم تنطق نتيجة صدمة فراق أعز الأبناء.

كم مِنْ…
كم من العقول صُدمت أمام ما يحدث من قتل هؤلاء الأشخاصِ، ومن أشخاص يهرعون وراء الحروب وما يستفيدون منه سياسيّاً أو اقتصاديّاً في أغلب الأوقات.

كثيرون لا يدركون مرارة قتل نفس بشرية، كثيرون لا يتذوقون ما بداخل أعماق الإنسان من عطش إلى الحياة. كثيرون لا يشاهدون بسبب تزايد الغباء. الحرب بكلّ المقاييس هي قطع جزء من قلب ينبض في البشرية، الحرب تجعل البشرية في حالة إعياء شديدٍ. كلُّ البشرية ترفض الحروب ولكن كم من الأشخاص يعون هذا، ويعملون من أجل السلام. ما من كوكبٍ أكثر من الأرضِ تصاعدت منه صرخات الأمهات على أعز الأحباء، ما من كوكبٍ مثل الأرض استاء ممّا يحدث عليه و ما يفعله البُلهاء.

هل الحرب جزء من حياة الإنسان للبقاء؟ هل الدمار والقتل غريزة داخل الإنسان، وإن لم يجد آخر يقتله هل سيقتل نفسه من جراء شحنات الانتقام الكامنة في أحشائه؟ هل الإنسان لا يعرف أن الله لا يحب الدماء؟ هل الإنسان لا يشعر بحزن قلب الله على ما يفعله الإنسان في أخيه الإنسان؟ هل الإنسان يُدرك ما معنى كلمة إنسانية وإنسان؟

ليتنا نكون أُناسًا، نكون أُناسًا نعمل على عدم احتقار الإنسان، نكون أُناسًا نسعى بقلوبنا إلى ما يُسمّى بالسلام، ولا نحصر السلام في الشّعارات والأقوال، نكون أُناسًا لا تريد سوى العدل والصلاح. باتت البشرية مهددة بالاندثار من جراء قصر النظر لكلّ فرد لا يدرك معنى قيمة الإنسانيّة وأهمية الكيان البشريّ الإنسانيّ. والآن لم تعد الحروب بسيطة مثلما مضت، بل أصبح الإنسان قادرًا على إنـهاء الحياة على هذا الكوكب. فهل نحوّل هذه الطاقات القابعة في داخلنا من انتقام إلى مزيدٍ من التطور المفيد، نمضي من الفناء إلى العلاء. كلّ من يقتل إنسانًا يقتل بداخله جزءاً من كيان الله، وإن كان القتل باسم الله. كلُّ من يقتل نفساً حية يقتل إشارة كانت من الممكن أن توصلنا إلى معرفةٍ أعمق عن الله.لأن كلّ شخص علامة تشير إلى وجود لله.

الله لا يريد القتل، الله لا يريد عبارات، الله لا يريد أجسادًا، الله لا يريد أديانًا، الله لا يريد فناء وعدمًا، الله لا يريد الموت، بل يريد الإنسان وكلّ إنسان وكلّ الإنسان. الله يحزن عندما يسمع أصوات البشر تصرخ في الحروب والقتال، الله يريد أن يكتمل مجده في كلّ إنسان حي، والحي لابد أن يكون فعّالا واعيًا، والشخص الفعّال الواعي لابد من أن يقود إلى السلام والأمـــان، لا إلى الدمار والفناء والعدم. لأن الحرب ليست بشيء، بل هي فقدان كلّ شيء، وهدم أجمل شيء.

فهل نعمل من أجل إعلاء شأن الإنسان، ومن يعمل في محيطه الصغير، في الأسرة بالمنزل بأن يربّي طفلاً على معرفة قيمة السلام ومخاطر الانتقام، فلا يكبر الطفل على حب القتال. ومن يُعلِّم شابّاً أو فتاة معنى الحبّ و العطاء والأمان، يأمل ألاّ يشب الشّباب على الدمار والهلاك.

من يعظ رجلاً أو امرأة بالحبّ والتسامح والإحساس بالمساواة، يأمل ألاّ يؤيد قرار حرب أو قتال في يوم من الأيام، وكلّ هذا يؤثر في المجتمع ومن ثم في العالم الكبير المحيط بنا. كم من الأشخاص ينتظرون العدل والسلام والأمان من جميع الأعمار وفي كثير من البلاد، فهل نساعدهم بما في أيدينا على نشر مبدأ السلام حتى وإن كان في نظرنا بسيطًا؟ إن العالم محتاج إلى هذا البسيط. دور كلّ واحد منا حتى وإن بدأ صغيراً بسيطاً سينقذ في المستقبل الكثير والكثير.

يا الله، يا إله السلام والأمان والحب والعطاء, امنحنا أن نشعر بفظاعة الحروب والقتال، لكي لا نخوضها يوماً ما. بل نحاول إخمادها في كلّ الأيام والأجيال.

يا الله امنحنا عقولاً مليئة بالآمال والرجاء والأحلام، ولا تسمح بأن ما نراه من قتل ودمار يهدم أحلامنا ورجاءنا.