كلمة البطريرك بمناسبة السنة الثالثة لحبرية قداسة البابا

كلمة البطريرك بمناسبة السنة الثالثة لحبرية قداسة البابا

قداسة البابا بندكتوس 16 – الكاتدرائية – مدينة نصر – 28 / 6 / 2008
” صرت كلا لكل الناس ، لأخلص بعضَهم بكل وسيلة ”
( 1 كورنثوس 9 : 22 )

+ الأنبا أنطونيوس نجيب
بطريرك الإسكندرية للأقباط الكاثوليك

تحتفل الكنيسة اليوم بعيد الرسولين بطرس وبولس . وفى نفس هذه الساعة ، يفتتح قداسة البابا بندكتوس 16 فى روما السنة اليوبيلية البولسية ، بمناسبة مرور ألفى سنة على ميلاد القديس بولس رسول الأمم . وتخصص الكنيسة سنة كاملة للاحتفال بهذا اليوبيل .

ويسعدنى ويشرفنى أن أحتفل معكم اليوم بالذكرى الثالثة لتجليس قداسة البابا بندكتوس السادس عشر على الكرسى البطرسى . لم تمض إلا ثلاث سنوات على تولـّى قداسته هذه الرسالة ، ومع ذلك من الصعب الكلام فى وقت وجيز عن كل ما أنجزه قداسته ، وعن أعماله وإشعاعه العالمى . فهو متواجد فى كل مناسبة وفى كل مكان ومع كل مجموعة . يقدّم لكل منها الكلمة التى تشجّع وتغذّى وتملأ الفكر والقلب والروح . ويجد الطريق المباشر إلى أعماق النفس . لا أتوقف عند السيرة الشخصية لقداسة البابا ، فقد سبق الكلام عنها فى احتفال السنتين السابقتين .

يتميّز قداسة البابا بندكتوس السادس عشر بفكر لاهوتى يجمع بين العمق الأكاديمى والسمو الروحى والثقافة الموسوعية والواقعية العملية والرعائية … “صرت كلا لكل الناس ، لأخلص بعضهم بكل وسيلة” . إن كلمات القديس بولس هذه تنطبق تماما على ما عرفنا عليه قداسة البابا بندكتوس السادس عشر ، فى أحاديثه وكتاباته ، فى زياراته وسفرياته . فهذه كلها أظهرت شخصيته ، وكم يتمتع بفكر ثاقب ، وتعليم واضح ، وتمسك بالحقيقة ، وفى الوقت نفسه نجده طيب المعشر ، بسيط النفس ، وديعا ومتواضعا .

يخاطب الأكاديميين ورجال السلك الدبلوماسى ، ويتحدث مع أطفال المناولة الأولى والشباب والأزواج والمسنين … يتكلم مع الكرادلة والأساقفة والكهنة والرهبان والراهبات ، ويخاطب أهل العلم والفن والتكنولوجيا والرياضة والطب والسياحة … يزور الكنائس والإيبارشيات والأديرة والمؤسسات الدينية ، ويقطع القارات الخمس ليلتقى المنظمات العالمية والدُولية ، وآخرها زيارة الأمم المتحدة … يستقبل رؤساء الدوائر الفاتيكانية ، ومجامع الأساقفة من كل أنحاء العالم الكاثوليكى . ولا تنقطع زيارات رؤساء الدول لقداسته ، نذكر منها زيارة رئيسنا المحبوب محمد حسنى مبارك ، وزيارة العاهل السعودى، والعاهل الأردنى، والعاهل الإيرانى ، ومؤخرا الرئيس الأمريكى … يتبادل الزيارات مع رؤساء الكنائس الأرثوذكسية والبروتستانتية . ويسعد بالزيارات المتبادلة مع الرؤساء الدينيين المسلمين واليهود وغيرهم من ممثلى الأديان والمعتقدات .

وأودّ أن أذكر بنوع خاص اهتمام قداسته بمنطقة الشرق الأوسط ، ولا سيما دعوته المتكررة للوصول إلى حل عادل ودائم لكل من قضية فلسطين والقدس، والعراق ، ولبنان ، والسودان … فى أول يناير 2007 قال قداسته عن الأراضى المقدّسة : ” كيف نقدر أن لا نتضرع إلى الله بصلوات حارة ، حتى يحل يوم السلام فى هذه البلاد فى أقرب وقت ، وينتهى هذا الصراع الذى دام زمنا طويلا … السلام عطية يجب أن نلتمسها فى الصلاة ، ومهمة يجب أن نتممها بشجاعة وبدون كلل… إن الأمنية التى أعبّر عنها أمام ممثلى الدول الحاضرين هنا، هى أن تتكاتف جهود الجماعة الدُولية ، حتى يمكنَ باسم الله بناءُ عالم يحترم فيه الجميعُ حقوق الإنسان الأساسية “.

أما عن تعليمه فهو يتـّسم بالسمو اللاهوتى والتفتـّح على الحضارة والثقافة ، فى تناغم وتكامل يرتفع بالعقل إلى آفاق الإيمان السامية ، ويصحّح المفاهيم البشرية والمادية المتغيّرة ، بمعطيات الوحي الإلهى الثابتة والهادية … ويتمسّك قداسته بتعليم مجمع الفاتيكان الثانى ، فقد كان له نصيب كبير فيه . وفى غداة انتخابه أعلن : ” إن تطبيق ما جاء فى مجمع الفاتيكان الثانى من أولوياتى الأساسية ” . وفى لقائه مع الكهنة فى يوليو 2005 يتذكّر فترة المجمع قائلا : ” لقد عايشت المجمع فى كاتدرائية القديس بطرس بكل حماس ، وعايشت الفترة الصعبة التى تلته ” .

ويعطى قداسته أهمية خاصة للأسرة ، وقد حملت رسالته ليوم السلام العالمى فى أول يناير 2008 عنوان : ” العائلة جماعة ُ سلام ” . ويقول فيها : “فى الحياة العائلية السويّة نختبر المقوّمات الأساسية للسلام ، كالمساواةِ والحب بين الأخ والأخت ، ودورِ السلطة السليمة التى يمارسها الوالدون ، والخدمةِ الحنونة نحو أضعف الأعضاء ، لأنهم صغار أو مرضى أو مسنون ، والمساعدةِ المتبادلة أمام احتياجات الحياة ، والاستعدادِ لقبول الآخر ، وإذا تطلب الأمر الصفحَ والمغفرة . لذلك فالأسرة هى المربّية الأولى على السلام … إن القاموس العائلى هو قاموس سلام . ويلزم الرجوع إليه باستمرار ، فالطفل يتعلمه من لفتات ونظرات والديه ، قبل أن يتعلمه من كلامهم ” .

ويشغل الشباب مكانة خاصة فى رعاية قداسة البابا بندكتوس السادس عشر . فى خطابه للشباب يوم 18 مايو 2008 فى جينوا بإيطاليا ، يقول لهم : “انطلقوا ايها الشباب الأعزاء إلى كل طرق الحياة ، احملوا الرجاء للعالم . كلما ابتعد الإنسان عن الله ، ينبوع ِ كيانه ، كلما فقد ذاته ، وكلما أصبح التعايش بين الناس صعبا والمجتمعُ ممزقا . كونوا متحدين فيما بينكم . انموا فى الإيمان وفى الحياة الروحية ، لتصيروا شهودا غيّورين . كونوا متحدين ولكن غيرَ منغلقين ، متواضعين ولكن غيرَ جبناء ، بسطاء ولكن غيرَ سُذّج ، متبصّرين ولكن غيرَ معقـَّدين . كونوا متفتحين للحوار مع الجميع ، ولكن عارفين ومتمسكين بهويتكم . كونوا فى شركة مع رعاتكم ، فهم فى خدمة الإنجيل وفى خدمتكم ” .

ويتجلى فكر وروح بندكتوس السادس عشر فى كتاباته . هناك الخطابات التى لا حصر لها ، التى يوجّهها لزائريه ، وفى الاجتماعات العامة والخاصة ، وفى المراسيم الدينية العديدة … وإنما أريد أن أخصّ بالذكر رسالتيه العامتين : الرسالة الأولى : ” الله محبة ” ( 25 يناير 2006 ) ، وفيها يشرح المعنى الحقيقى للمحبة ، وواجبَ الكنيسة فى أن تحمل محبة الله لجميع الناس . وقد نالت استقبالا حارا وانتشارا واسعا ، حتى أن توزيعها بلغ مليونَ وخمسمائة ألف نسخة . ومحبة الله هى محور شخصية وتعليم قداسة البابا بندكتوس 16 … وجاءت الرسالة الثانية تحت عنوان : ” فى الرجاء مخلـَّصون ” ( 30 نوفمبر 2007 ) ، وهى تأمل فى الرجاء وينابيعه ومواضع إحيائه وتنميته … وقد تم الإعلان عن قرب صدور الرسالة الثالثة عن الشئون الاجتماعية ، تحت عنوان : ” المحبة فى الحق ” .

وفى مطلع 2007 أصدر قداسته الإرشاد الرسولى : ” سر المحبة ” عن مركزية وسمو سر القربان المقدس فى الحياة والطقوس … وفى مايو 2007 نشر قداسته كتابه الأول كبابا ، وهو الجزء الأول من كتاب ” يسوع الناصرى ” ، ويتضمن تأملاته الشخصية فى أحداث حياة يسوع وفى أقوال السيد المسيح . وصرّح قداسته أنه يعمل فى تأليف الجزء الثانى من الكتاب .

ويعطى قداسته مكانة أساسية للحوار الدينى . ففى لقائه مع ممثلى الإسلام واليهودية وباقى الأديان ، فى المركز الثقافى يوحنا بولس الثانى فى واشنجتون ، فى 17 أبريل 2008 ، يقول قداسته : ” فليتحد أتباع كل الأديان فى الدفاع عن الحياة والحرية الدينية فى العالم كله . فلنكرّس جهودنا لهذه المهمة المقدسة ، عن طريق الحوار ، وأفعال المحبة ، والتفاهم والمودّة ، وبذلك نصير صانعى سلام للأسرة البشرية كلها ” .

كما يهتم قداسته بتدعيم الحوار المسكونى مع سائر الكنائس المسيحية . ويشدّد على دور الصلاة فى السعى إلى الوحدة . يقول فى اللقاء المسكونى بالولايات المتحدة الأمريكية فى 18 ابريل 2008 : ” فلتـُلهـِمْنا كلمة الله الرجاء على طريق الوحدة . وليكن لقاء الصلاة هذا مثالا للمكانة المركزية للصلاة فى المسيرة المسكونية . لأنه بدون الصلاة ، تفقد التنظيمات والمؤسسات والبرامج المسكونية قلبها وروحها . وإننا نشكر الله من أجل كل ما يحققه بعمل روحه القدوس ” .

وكذلك يهتم قداسته بكنائسنا الشرقية ، ويدعو دائما إلى التلاقى فى المحبة والمشاركة الرعائية ، وإلى الحوار الدينى من أجل بناء مجتمعات تقوم على الإخاء والمودّة ، والعدل والسلام ، والمواطنة والمشاركة .

ويدعو قداسته المكرسين والمكرسات إلى التركيز على القداسة . يقول فى القداس الذى أقامه لهم فى الولايات المتحدة فى 19 أبريل 2008 : ” فلنرفع أنظارنا إلى أعلى . وبتواضع كبير وبثقة عميقة ، فلنطلب من الروح القدس أن يمنحنا كل يوم وسائل النمو فى القداسة ، ليجعل منا حجارة حية فى الهيكل الروحى الذى يشيّده فى قلب العالم . كونوا أيضا أولَ أصدقاء الفقير والمهاجر والغريب ، والمريض وكل إنسان متألم . كونوا كمنارات رجاء ، ناشرين نور الحق والخير والحب فى العالم ، ومشجّعين الشباب على أن يكتشفوا جمال الحياة ، عندما نضعُها بين يدي الله تعالى ” . ويقول فى موضع آخر : ” الحب لا العلم هو الذى يخلـّص الإنسان ” .

وعلى الصعيد الدبلوماسى ، يتخـّذ قداسته من لقائه مع السلك الدبلوماسى فى مطلع كل عام ، فرصة لتجديد النداء إلى العدالة ، والتضامن، والسلام فى العالم … وعلى مثال سابقيه ، يوجّه فى أول يناير من كل سنة رسالة بمناسبة يوم السلام العالمى … يقول قداسته فى خطابه للسلك الدبلوماسى فى 7 يناير 2008 : ” ليس السلام مجردَ كلمة أو أمنية وهمية . السلام التزام وأسلوب حياة ، يتطلب تحقيق التطلعات المشروعة ، مثل توفير الغذاء والماء والطاقة ، والطب والتكنولوجيا والبيئة . هكذا فقط يمكن بناء مستقبل البشرية ، وتحقيقُ التنمية المتكاملة لليوم وللغد ” .

ويعطى بندكتوس السسادس عشر مكانة خاصة للسيدة العذراء مريم . يقول فى رسالته ” الله محبة ” (رقم 41) : ” مريم العذراء هى أعظم القديسين ، هى أم الرب ومرآة كل قداسة . يذكر القديس لوقا أنها ذهبت مسرعة عند نسيبتها أليصابات لتخدمها مدة ثلاثة اشهر . وعندما لاقتها هتفت : ” تعظم نفسى الرب وتبتهج روحى بالله مخلصى ” ( لوقا 1 : 46 ) . وفى هذا أعلنت كل برنامج حياتها : أن تضع الله فى مركز كل شىء ، وأن تلتقيه فى الصلاة وفى خدمة القريب . على هذا المثال فقط يصبح العالم جيدا ” .

” صرت كلا لكل الناس ، لأخلص بعضَهم بكل وسيلة ” . هذا ما يسعى قداسة البابا بندكتوس السادس عشر أن يعيشه . ولهذا أصبح قداسته بابا الجميع . لأن رسالته تصل بوضوح لكل القلوب ، حتى عندما تتضمن حقائقَ متطلبة . فهى دائما صادرة عن أب لا يقبل أن يترك أبناءه بلا هداية .

فلنرفع صلواتنا إلى الله ، بشفاعة أمنا العذراء مريم ، التى نحتفل فى هذه السنة المريمية بمرور مائةٍ وخمسين عاما على ظهورها فى مدينة لورد بفرنسا . ولنطلب لقداسته الصحة ، وفيضَ مواهب الروح القدس ، ليتمم رسالته السامية لخير النفوس والعالم كله . آمين .