كلمة الله والدعوات

كلمة الله والدعوات

الاب نجيب ابراهيم الفرنسيسكاني

الدعوة العامّة الى القداسة

أراد السينودس إلقاء الضوء على حقيقة إيمانيّة جوهريّة وهي أنّ الحياة بحدّ ذاتها دعوة (كلام الرب ٧٧)، وذلك نسبة إلى العلاقة الشخصيّة مع المسيح. عندما تنمو هذه العلاقة مع الرّبّ يسوع، نشعر بأنّه يدعونا إلى القداسة من خلال اختيارات دائمة، استجابة لمحبّته لنا، فنقبل منه الرسالة والخدمة من أجل بناء الكنيسة. لذلك دعا السينودس إلى اعتبار أهميّة التعمّق في العلاقة مع كلمة الله، من حيث أنّنا معمّدون وفي مختلف الدعوات الخاصّة. نحن هنا أمام تعليم أساسيّ في المجمع الڤاتيكاني الثاني (نور الامم ٣٩ – ٤٢) الّذي شدّد على دعوة كلّ مؤمن إلى القداسة. نجد دعوتنا إلى القداسة في الكتاب المقدّس: «كونوا قِدِّيسين، فإِنِّي أَنا قُدُّوس» (لاويين ١١ : ٤٤). يبيّن بولس الرسول الجذور المسيحانيّة لهذه الدعوة، الدعوة إلى القداسة:

«تَباركَ اللّهُ أَبو رَبِّنا يسوعَ المسيح. فقَد بارَكَنا كلَّ بَرَكَةٍ روحِيَّة في السَّمَواتِ في المَسيح ذلِك بِأَنَّه اختارَنا فيه قَبلَ إِنشاءِ العالَم لِنَكونَ في نَظَرِه قِدِّيسينَ بِلا عَيبٍ في المَحبَّة» (افسس ١ : ٣ – ٤).

كذلك الأمر يستطيع كلّ واحد منّا أن يعتبر كلام بولس إلى المؤمنين في رومة بأنّه موجّه إليه:

«إِلى جَميعِ أَحِبَّاءِ اللهِ الَّذينَ في رُومة، إِلى المَدعُوِّينَ لِيَكونوا قِدِّيسين. علَيكُمُ النِّعمَةُ والسَّلامُ مِن لَدُنِ اللهِ أَبِينا والرَّبِّ يسوعَ المسيح» (رومة ١ : ٦ – ٧).

كلام الله في حياة الاسقف والكاهن والشماس

من الدعوة العامّة الى الدعوات الخاصّة، ابتداءً من الرعاة الّذين نالوا سرّ الرتبة (كلام الرب ٧٨ – ٨٠). يؤكّد السينودس أنّ كلام الله ضروريّ لتكوين قلب الراعي الصالح وهو خادم الكلمة. أساقفة وكهنة وشمامسة لا يستطيعون بأيّ شكل من الأشكال التفكير بأن يحيوا دعوتهم ورسالتهم بدون التزام جاد ومتجدّد في القداسة التي تجد في لقاء الكتاب المقدّس أحد أعمدتها. يذكّر قداسة البابا بتعليم سلفه يوحنا بولس الثاني في الإرشاد الرسولي «رعاة الرعية (Pastores gregis) حول الأسقف، خادم إنجيل يسوع المسيح من أجل رجاء العالم». حتى يكون باستطاعته تنمية الحياة الروحيّة، على الأسقف أن يضع في المرتبة الأولى مطالعة كلمة الله والتأمّل بها. لذلك يجب أن يضع ملء ثقته بالربّ وبكلمة نعمته وهو القادر على أن يشيد البنيان ويجعل الميراث مع جميع القدّيسين (عن اعمال ٢٠ : ٣٢). قبل أن يكون ناقلا للكلمة على الأسقف مع كهنته أن يكون مصغياً للكلمة. لذلك يدعو قداسة البابا كلّ الأساقفة أن يقتدوا بمريم، البتول المصغية وسلطانة الرسل، فيطالعوا شخصيّاً ويثابروا على دراسة الكتاب المقدّس.

في معرض كلامه عن دور كلام الله في حياة الكاهن، يذكر قداسة البابا تعليم سلفه يوحنا بولس الثاني في الإرشاد الرسوليّ “أعطيكم رعاة” عدد ٢٦:

«الكاهن هو قبل كلّ شيء خادم كلمة الله، وهو مكرّس ومرسل للتبشّير بإنجيل ملكوت، داعياً كلّ إنسان لطاعة الإيمان فيسير بالمؤمنين إلى معرفة وشركة أعمق بسرّ الله الّذي كُشِف عنه وأُعلن بالمسيح. لذلك يجب على الكاهن أن يبادر إلى تنمية إلفة شخصيّة مع كلمة الله: لا يكفي أن يعرف الناحية اللغويّة والتفسيريّة ولو كانت هذه ضروريّة. إذ عليه أن يقترب من الكلمة بقلب مطواع ومصليّ، فتلج إلى عمق أفكاره ومشاعره وتخلق فيه عقليّة جديدة – فكر المسيح (١ قورنتس ٢ : ١٦)».

لذلك يجب أن يكون كلامه واختياراته وتصرفاته أكثر شفافيّة وإعلاناً وشهادة للإنجيل. فقط إذا ثبت في الكلمة يصبح الكاهن تلميذاً كاملاً للرب، يعرف الحقيقة التي تجعله بالفعل حرّاً.

في خلاصة القول، تتطلّب الدعوة الكهنوتيّة التكرّيس بالحقيقة. وكان يسوع نفسه قد صاغ هذه الحاجة نسبة لتلاميذه: «كرّسهم بالحقّ. إنّ كلمتك حقّ. كما أرسلتني إلى العالم، فكذلك أنا أرسلتهم إلى العالم» (يوحنا ١٧ : ١٧ – ١٨). يقول بندكتس السادس عشر في عظة قداس الميرون (٩ نيسان ٢٠٠٩): «وكأنّ التلاميذ يُسحبون إلى أعماق الله بواسطة الغوص في كلمة الله. فكلمة الله، إذا صحّ القول، هو الغسل الّذي يطهّر التلاميذ والقوّة الخلاّقة الّتي تحوّلهم إلى كيان الله. وبما أنّ المسيح نفسه هو كلمة الله المتجسّد (يوحنا ١ : ١٤)، وهو الحقّ (يوحنا ١٤ : ٦)، تدلّ صلاة يسوع «كرّسهم بالحق» على الوحدة بالمسيح: «وحّدهم بي. أدخلهم إلى أعماقي. إذ إنّ الكاهن الوحيد في العهد الجديد هو يسوع المسيح نفسه». على الكهنة أن يتعمّقوا أكثر فأكثر في هذه الحقيقة.

تدلّ هذه الكلمات العميقة من الارشاد الرسوليّ على دور كلمة الله في حياة الكاهن. وهو إنسان مدعوّ إلى سبر أعماق الله على متن سفينة الكلمة والكلمة صار جسداً وحلّ بيننا. من جهة أخرى تساهم مطالعة كلمة الله بالإيمان في صقل شخصيّة الكاهن ليصبح أكثر فأكثر مسيحاً آخر. كرّسهم بالحق، قال يسوع، وبقوله يريد أن يتماثل الكاهن به، فيعطيه قلبه وفكره ليقوم بالرسالة. على تلميذ يسوع أن يكتسب أكثر فأكثر عقليّة إنجيليّة، فيرى كلّ ما يحدث في حياته وحوله بعيون الرّبّ.

يشير دليل الشماسية الدائمة إلى أنّ الروحانيّة الخاصّة بالشمّاس تنبع من هويّته اللاهوتيّة. فالمثال المطلق هو المسيح الخادم… لذلك تكون كلمة الله عنصراً أساسيّاً في روحانيّة الشماس وتنشئته للرسالة. فهو مدعوّ للتبشير بكلمة الله. ولكن عليه أن يؤمن بما يبشّر ويعلّم بما يؤمن ويعيش ما سوف يعلّمه. لذلك يدعو قداسة البابا إلى أن يثابر الشمامسة على قراءة الكتاب المقدّس بإيمان وذلك من خلال البحث والصلاة. يجب أن يتعلّموا أصول التفسير والعلاقة بين الكتاب المقدّس والتقليد، خاصّة ما يتعلّق باستعمال الكتاب المقدّس في الوعظ والتعليم المسيحيّ والنشاط الراعويّ.

كلمة الله وطلاب الكهنوت (كلام الرب ٨٢)

أعطى السينودس أهميّة كبرى لدور كلمة الله في الحياة الروحيّة لطلاب الكهنوت: «على طلاب الكهنوت أن يتعلّموا حبّ كلمة الله. ليكن إذاً الكتاب المقدّس روح التنشئة اللاهوتيّة مشدّدين على التواصل بين علم التفسير واللاهوت والروحانيّة والرسالة» (توصية ٣٢). الاكليريكيون مدعوون إلى إقامة علاقة وثيقة وشخصيّة بكلمة الله، خاصّة في القراءة الربّيّة، إذ في هذه العلاقة تنمو الدعوة: في ضوء كلمة الله وقوّتها يتمّ اكتشاف الدعوة الشخصيّة فيفهمها المرء ويحبّها ويعيش الرسالة إذ تسكنه أفكار الله. هكذا يصبح الإيمان، وهو جواب على كلمة الله، مقياس تقييم النّاس والأشياء والأحداث ومشاكل الحياة.

لا يجب بأيّة حال خلق انقسام بين القراءة المصليّة للكتاب المقدّس والدروس التفسيريّة خلال سنوات الدراسة الأكاديميّة. يوصي السينودس بمساعدة الإكليريكيين على فهم العلاقة بين البحث البيبليّ والصلاة مع الكتاب المقدّس. من جهة يكون درس الكتاب المقدّس درباً لإدراك عميق لسرّ الوحي الإلهيّ فيبعث على صلاة تجيب على الربّ الّذي يتكلّم. ومن جهة أخرى لا يمكن للصلاة الحقيقيّة إلا أن تحثّ طالب اللاهوت على معرفة أكثر عمقاً لله الّذي يكشف عن ذاته في كلمته وهي تعبير عن حبّه الأزليّ. لذلك يجب أن نعتني عناية كبرى حتى يتمكّن الإكليريكيّون من تنمية روح الصلاة والبحث جنباً إلى جنب. من أجل تحقيق هذا الهدف يكون من المفيد بمكان تعليم طرق تفسير للكتاب المقدّس تسمح بمقاربة جامعة لا تفصل بين العلم والبعد والإيمانيّ.

كلمة الله والحياة المكرّسة (كلمة الرب ٨٣)

تنبع الحياة المكرّسة من الإصغاء لكلمة الله وقبول الإنجيل قانون حياة. إذ إنّ اتّباع المسيح العفيف والفقير والمطيع هو تفسير حيّ لكلمة الإنجيل. فالروح القدس الواحد ملهم كتابة الأسفار المقدّسة هو نفسه الّذي أنار بنور كلمة الله المؤسّسين والمؤسِّسات في الحياة الرهبانيّة. من كلمة الله تصدر كلّ هبة وكلّ قانون رهبانيّ يهدف إلى أن يكون تفسيراً لها ومسيرة حياة إنجيليّة جذريّة.

يتابع قداسة البابا مذكّراً بحقيقة تاريخيّة، فيقول أنّ التقليد الرهبانيّ الكبير لطالما وضع التأمّل في الكتاب المقدّس، بنوع خاصّ القراءة الربّيّة، عاملاً أساسيّاً في روحانيّته. فالجماعات المكرّسة مدعوة لأن تكون مدارس روحيّة أصيلة مبنيّة على قراءة الكتاب المقدّس بحسب الروح القدس في الكنيسة، وذلك من أجل فائدة الكنيسة بأسرها. لذلك يوصي السينودس بأن لا ينقص أبداً في جماعات الحياة المكرّسة تنشئة متينة على قراءة الكتاب المقدّس بالإيمان.

أتمنّى، يقول قداسة البابا، أن أكون لسان حال السينودس الّذي لفت الأنظار إلى الرهبانيّات التي تعيش الحياة التأمليّة وشكر الله من أجلها، وهذه بصميم روحانيّتها تكرّس وقتاً طويلاً للإقتداء بوالدة الله الّتي كانت تتأمّل باسمترار كلمات وأحداث ابنها (عن لوقا ٢ : ١٩ و٥١)، وبمريم من بيت عنيا التي كانت تجلس عند قدمي الرّب وتصغي إلى كلامه (عن لوقا ١٠ : ٣٨). يتوجّه بالفكر قداسة البابا إلى الرهبان والراهبات الّذين يعيشون في الأديرة المحصّنة، ينفصلون عن العالم فيعيشون بوحدة حميمة مع المسيح، قلب العالم. تحتاج الكنيسة أكثر من أي وقت مضى إلى شهادة من «لا يفضّل أي شيء على المسيح» (القدّيس مبارك، قانون ٤، ٢١). عالمنا اليوم مأخود بكل نوع من النشاط الخارجي لذلك هو في خطر الضياع. يذكّرنا المكرّسون والمكرّسات في الحياة التأمليّة بأن ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان بل بكلّ كلمة تخرج من فم الله (ر. متى ٤ : ٤). ليكن المؤمنون على يقين إذاً إنّ هذا النوع من الحياة «يدلّ عالم اليوم على الشيء الأهم والنهائيّ: هناك سبب أخير يحسن العيش من أجله وهو الله ومحبّته الخفيّة» (بندكتس السادس عشر، عظة في دير الصليب المقدّس، ٩ ايلول ٢٠٠٧).

كلمة الله والمؤمنون العلمانيون (٨٤)

شكر السينودس العلمانيين الّذين يعملون على نشر الإنجيل في مختلف حالات الحياة اليوميّة، في العمل والمدرسة والعائلة والتربية. فالمعموديّة تدفع المؤمنين على أن يعطوا دليلاً على ما هم عليه من رجاء (راجع ١ بطرس ٣ : ١٥). يذكر قداسة البابا الإرشاد الرسوليّ حول المؤمنين العلمانيين لسلفه البابا يوحنا بولس الثاني (١٩٨٨)، ويشدّد على ضرورة تنشئة هؤلاء المؤمنين العلمانيين على دراسة الكتاب المقدّس في الكنيسة. لذلك على الأبرشيات أن تقدّم فرص تنشئة بيبليّة للعلمانيين، وهذا من مسؤولية الرعاة الشرعيين.

كلمة الله والزواج والعائلة (٨٥)

يقول قداسة البابا يوحنا بولس الثاني في الإرشاد حول العائلة (Familiaris consortio, 22 novembre 1981, 49): «تكشف الكنيسة للعائلة المسيحيّة هويّتها الحقيقيّة، ما يجب أن تكون عليه حسب مخطّط الرّبّ وذلك بواسطة التبشّير بكلمة الله». كلمة الله هي في أصل الزواج، كما نقرأ في سفر التكوين (٢ : ٢٤)، ويسوع يفسه أقام الزواج بين مؤسّسات ملكوت الله (ر. متى ١٩ : ٤ – ٨)، فرفعه إلى مرتبة السّرّ (ر. افسس ٥ : ٣١ – ٣٢). لذلك يجب الرجوع إلى كلمة الله لإلقاء الضوء على الصعوبات التي تواجه سرّ الزواج والحياة العائليّة، من ابتذال للجنس واختلاف بين الجنسين. فكلمة الله تؤكّد على طيبة الإنسان في أصله وقد خُلق ذكراً وأنثى ودُعي لحبّ أمين ومتبادل وخصب.

من هذا السّرّ العظيم، سرّ الزواج، تنبع مسؤولية الوالدين في تربية أبنائهم من خلال شهادتهم لمعنى الحياة في المسيح. من خلال الأمانة والوحدة في العائلة يكونون المعلنين الأولين لكلمة الله. على الجماعة الكنسيّة مساعدة الأهل على تنمية الصلاة في الأسرة والأصغاء لكلمة الله ومعرفة الكتاب المقدّس. لذلك يتمنّى السينودس أن يكون الكتاب المقدّس في كلّ بيت حيث يحفظ بشكل لائق، ويُستعمل للمطالعة والصلاة. تتمّ هذه المساعدة بواسطة الكاهن والشّماس أو علمانيين مهيّئين. كما أوصى السينودس بإقامة جماعات مؤلفة من عدة عائلات تجتمع للصلاة والتأمّل معاً بنصوص معيّنة ومناسبة من الكتاب المقدّس. وليتذكّر الزوجان أنّ كلمة الله هي معين ثمين في مصاعب الحياة الزوجيّة والعائليّة.

ينتقل قداسة البابا إلى دور النساء في معرفة الكتاب المقدّس. ويصف مساهمتهنّ بعبارة سلفه قداسة البابا يوحنا بولس الثاني: الإبداع أو النبوغ النسائي. فهنّ يعرفن كيفيّة المساعدة على الإصغاء للكلمة والعلاقة الشخصيّة مع الله وإيصال معنى التسامح والمشاركة الإنجيليّة. وما يميّزهن بلا شك هو القدرة على المحبّة والرحمة وبناء السّلام من خلال الدفء الإنساني في عالم يحسب النّاس بمقاييس الاستغلال والربح الباردة.

القراءة المصليّة للكتاب المقدّس، القراءة الربّيّة

نأتي إلى الميزة الكبرى في هذا الإرشاد الرسوليّ وقد بانت معالمها في كلّ فصوله: البعد الروحيّ. فالكتاب المقدّس هو عنصر أساسيّ في الحياة الروحيّة لكلّ مؤمن، وذلك من خلال القراءة الربّيّة. فقد استعاد آباء السينودس تعليم الدستور العقائدي في الوحي الإلهي، ٢٥:

يُحرّض المجمعُ المقدس تحريضاً ملحاحاً جميع المسيحيّن… أن يدركوا «معرفة المسيح السّامية» (فيليبي ٣ : ٨)، بالمواظبة على قراءة الكتب الإلهيّة، لأنّ «من جهل الكتب المقدّسة، جهل المسيح» (القدّيس إيرونيموس). فليرتاحوا إذن الى مباشرة النصوص المقدّسة ذاتها، إمّا في الخدمة الطقسيّة المتشّعبة من كلام الله، وإما في القراءة الخاشعة، وإمّا في المحاضرات العلميّة الملائمة، وإمّا في أحد الأساليب الأخرى التي تعمّمت في أيامنا الحاضرة بشكلٍ يستجلب المديح، بعد أن نالتِ الرّضى من رعاة الكنيسة واستقطبت اهتمامهم. وليفطنوا أن يقرنوا الصلاة بقراءة الكتب المقدّسة، لأن بهما ينشأ الحوارُ بين الله والإنسان، «لأنّنا نتحدّثُ الى الله عندما نصلّي، ولكننا نستمع إليه عندما نقرأُ آيات الوحي الإلهيّ» (القدّيس أمبروسيوس).»

يعلّق الإرشاد على النّصّ المجمعيّ قائلاً أنّه يستعيد التقليد الآبائي وفيه حثٌّ على الاقتراب من الكتاب المقدّس في حوار مع الله. على قول القدّيس أغسطينوس: «عندما تقرأ يتكلّم الله معك وعندما تصلّي تكون أنت من يتكلّم مع الله».

أوريجنوس، أحد معلمّي هذه القراءة الروحيّة، يؤكّد أن فهم الكتاب المقدّس يتطلّب علاقة حميمة مع المسيح والصلاة أكثر من البحث. وكان مقتنعاً بأنّ الطريق الأفضل لمعرفة الله هو الحبّ، وأنّ المرء لا يستطيع اكتساب “علم المسيح” (scientia Christi) إن لم يهوى المسيح. في رسالته إلى غريغوريوس، اللاهوتي الإسكندرانيّ الكبير، يقول: «ثابر على مطالعة الاسفار المقدّسة. التزم بالقراءة بقصد إرضاء الله والإيمان به. وإذا وجدت نفسك وأنت تطالع أمام باب مغلق، اقرع الباب يفتح لك الحارس على قول يسوع. وأنت تعكف على القراءة الربّيّة إبحث بصدق وثقة بالله عن معنى الكتب المقدّسة. ولكن لا يجب أن تكتفي بقرع الباب والبحث: أنت بحاجة مطلقة إلى الصلاة.ولمّا أراد المخلّص حثّنا على الصلاة لم يقل فقط: “ابحثوا تجدوا” و”اقرعوا يُفتح لكم” وحسب، بل أضاف: “اسألوا يُعطى لكم”.

بحثٌ وإيمانٌ وحبٌّ وصلاة. بهذه يلج المؤمن إلى قلب الله الّذي يختبئ وراء كلمات الكتاب المقدّس. وفي كلّ هذا علينا الابتعاد عن خطر القراءة الفردانيّة (individualistico) بعيداً عن روح الشركة في الكنيسة. لا ننسى أن الكتاب المقدّس هو قبل كلّ شيء كتاب الكنيسة. لذلك علينا أن نقرأه في شركة مع الكنيسة ومع كلّ شهود الكلمة، ابتداءً من الآباء حتى قدّيسي أيامنا وتعليم الكنيسة المعاصر.

لذلك تكون الليتورجية المكان المميّز للقيام بالقراءة المصليّة للكتاب المقدّس، خاصّة الافخارستية، حيث تصبح كلمة الله واقعاً في جسد الرّبّ ودمه. إذاً يجب أن تبقى المطالعة المصليّة، الفرديّة منها والجماعيّة، على علاقة مع الاحتفال بالافخارستية. هكذا تُعِدُّ القراءةُ الروحيّة وترافق وتتعمّق بما تحتفل به الكنيسة عندما تعلن كلمة الله في الليتورجية.

مراحل القراءة الربّيّة

أولاً قراءة النصّ (lectio): ماذا يقول النّصّ بحدّ ذاته؟ بدون هذه الخطوة الأولى يكون هناك خطر الإنزلاق نحو القراءة الفردانيّة فلا نخرج من أفكارنا ولا نلتقي بالآخر. فالإصغاء إلى كلام الله شرط البدء بحوار الحياة مع الرّبّ. عليّ أن ألقي بذاتي في النّصّ لأفهم قصد الكاتب الملهم، لا بل قصد النّصّ بحدّ ذاته. هكذا فقط أصل إلى فهم ما يريد الله أن يقول لي اليوم في حياتي.

ثانياً ننتقل إلى التأمّل (meditatio): ماذا يقول لنا النّصّ؟ يجب أن ندع النّصّ يساءلنا لينير حياتنا: هل أعيش اليوم هذه الكلمة؟ كيف يمكن أن تصبح هذه الكلمة قصد حياة؟ كم اكتشفت أنّي بعيد عن كمال الكلمة أو على الأقلّ أجدُني صغيراً أمام عظمة الإنجيل. لذلك لا يسع الإنسان سوى الانتقال إلى الصلاة.

ثالثاً نتابع التأمّل بالصلاة (oratio): ماذا نقول للرّبّ جواباً على كلمته؟ الصلاة من حيث انّها طلب وشفاعة وشكر وحمد، هي الأرض الخصبة التي تسمح للكلمة أن تثمر في حياتنا.

وأخيراً تنتهي القراءة الربيّة بالمشاهدة (contemplatio) التي تدخلنا إلى نظر الرّبّ فنرى كلّ شيء في حياتنا على ضوء كلمته. نتساءل: كيف أتوب فيتحوّل عقلي وقلبي وحياتي استجابةً لكلمة الله؟ يستشهد قداسة البابا هن برسالة القدّيس بولس إلى أهل رومة: «هذه هي عبادتكم الرّوحيّة. ولا تتشبّهوا بهذه الدّنيا، بل تحوّلوا بتجدّد عقولكم لتتبيّنوا ما هي مشيئة الله، أي ما هو صالحٌ وما هو مرضيٌّ وما هو كامل» (١٢ : ٢). فالمشاهدة تحملنا على خلق رؤية حكيمة للواقع وتكوين فكر المسيح فينا (١ قورنتس ٢ : ١٦). هكذا تكون كلمة الله مقياس التمييز في حياتنا على قول كاتب الرسالة إلى العبرانيين: «إنّ كلام الله حيٌّ ناجع، أمضى من كلّ سيفٍ ذي حدّين، ينفذُ إلى ما بين النّفس والرّوح، وما بين الأوصال والمخاخ، وبوسعه أن يحكمََ على خواطر القلب وأفكاره، وما من خلقٍ يخفى عليه، بل كلُّ شيءٍ عارٍ مكشوفٌ لعينيه، وله يجب علينا أن نؤدّي الحساب» (٤ : ١٢ -١٢). كما يجب أن نذكر أنّ القراءة الرّبّيّة لا يمكن أن تنتهي إذا لم تصل إلى العمل (actio) فينتقل المؤمن إلى بذل ذاته من أجل الآخرين بالمحبّة.

قراءة، تأمل، صلاة، مشاهدة وحياة، مراحل نجدها في أبهى صورها في مريم، أمّ الكلمة المتجسّد. مريم مثال المؤمن الّذي يقبل عطيّة الكلمة بالطاعة. «وكانت مريم تحفظ جميع هذه الأمور، وتتأمّلها في قلبها» (لوقا ٢ : ٢٠). هكذا كانت أمّ يسوع تعرف كيف تجمع في مخطّط الله الواحد بين الأحداث والأعمال والأقوال التي تبدو وكأنّها بعيدة الواحدة عن الأخرى.

أودّ أن أذكر ما كان السينودس قد أوصى به، يقول قداسة البابا، حول أهميّة القراءة الشخصيّة للكتاب المقدّس، وهي عمل تقويٌّ يسمح للمؤمن أن ينال الغفران لنفسه أو للمنتقلين إلى الحياة الأبديّة، وذلك حسب تنظيم الكنيسة. […] هكذا تقوّينا كلمة الله في مسيرة التوبة وتعمّق فينا حسّ الانتماء للكنيسة وتفتح أمامنا باب الإلفة مع الله. وكان القدّيس أمبروسيوس قد قال: عندما نحمل الكتاب المقدّس بأيدينا ونطالعه مع الكنيسة، يرجع الانسان إلى التنزّه مع الله في الجنّة (رسالة ٤٩، ٣).

كلمة الله والصلاة المريمية (كلمة الرب ٨٨)

هناك علاقة بين كلمة الله ومريم العذراء لا يمكن فصلها، لذلك يدعو قداسة البابا مع آباء السينودس الى حثّ المؤمنين على صلاة المسبحة الورديّة في العائلة. ولا ننسى أنّ هذه الصلاة المريميّة تساعد المؤمن على التأمّل بأسرار المسيح برفقة مريم. والجديد في الأمر أنّ الإرشاد يدعو إلى مرافقة كلّ سرّ من أسرار المسبحة بنصوص قصيرة من الكتاب المقدّس وذلك للمساعدة على حفظ بعض الآيات المهمّة في علاقتها مع أسرار حياة المسيح.

كذلك الأمر أوصى السينودس بالحثّ على صلاة «ملاك الرب» لتساعد المؤمنين على ذكر الكلمة المتجسّد كل يوم، صباحاً وظهراً ومساءً. عسى أن يمنحنا الله قبول كلمته مثل مريم ويملأ قلوبنا بمحبة سرّ التجسد.

وأخيراً يدعو قداسة البابا إلى تثمّين الاناشيد المريمية في الكنيسة الشرقيّة. خاصّة نشيد أكاتيستوس – نشيد يُرنم وقوقاً – الّذي ينشرح القلب له ويساعد المؤمن على قبول السلام الّذي يأتي من علُ وهذا السلام هو المسيح الّذي وُلد من مريم البتول لخلاصنا.

كلمة الله والأرض المقدّسة

نحن وإذ نذكر كلمة الله الّذي صار بشراً في أحشاء مريم، بنت الناصرة، يتحوّل قلبنا الآن إلى تلك الأرض التي تمّ فيها سرّ خلاصنا ومنها انتشرت كلمة الله في أنحاء المسكونة. فالحجارة التي مشى عليها المخلّص ما زالت تحمل الذكرى وتصرخ معلنةً البشرى السّارة. لذلك ذكر آباء السينودس تلك العبارة السعيدة التي تصف الأرض المقدّسة بالإنجيل الخامس. كم هو مهمّ أن تتواجد جماعات مسيحيّة في هذه الأماكن رغم الصعوبات. فالمسيحيّون مدعوون لا إلى أن يكونوا منارة إيمان للكنيسة الجامعة وحسب، بل أن يصيروا خميرة تآلف وحكمة واتّزان في حياة مجتمع لطالما كان متعدّد العرق والدّين.

تبقى الأرض المقدّسة هدف حجّ الشعب المسيحيّ، والحجّ صلاة وتوبة على شهادة كتّاب أقدمين مثل إيرونيموس. ينتهي الحديث بإلقاء الضوء على البعد الروحيّ للاماكن المقدّسة وفيها يمنح الله المؤمنين نعمه. بقدر ما نوجّه القلب نحو أورشليم الأرضيّة يضطرم فينا الشوق لأورشليم السّماويّة، وهي الهدف الأخير لحجّنا، ونزداد غيرة حتى يعرف كلّ البشر اسم يسوع وفيه وحده الخلاص (راجع اعمال ٤ : ١٢).