لأنها ادخرت حبا

لأنها ادخرت حبا

صوت ضحكات وهمس كلمات يمينا وشمالا وجو ملئ بالفرح وأعداد كثيرة من المدعوين تجول هنا وهناك وقلبا ملئ بالحيرة وعدم السعادة. الحيرة التي بداخله لا تدع مكانا للسعادة أنة قلبي أنا. فرغم أن اليوم عيد ميلادي وان هذه الحفلة الضخمة لي ولاختى التوءم ألا أن يقينا يملاني بالفشل فانا وأختي توأمتين متماثلتين في الشكل الخارجي تماما لكننا مختلفتين في الطباع.

منذ آن بدأنا نتبلور وتصبح لنا هوية في الرابعة من العمر، وأنا اشعر أننا مختلفتين، بل ويشعر كل من حولنا بهذا، ولا شك أني كنت أؤمن لحد اليقين أني الأفضل والأحسن والأنجح، أحاول آن أغير سلوكها لتصبح مثلي بلا جدوى. فأسرتنا أسرة غنية لها اسمها ومركزها، وأنا دائما أضع حدودا بيني وبين الآخرين وهى دائما بسيطة ودودة تتعامل بتلقائية غريبة، وأتذكر إن لها بعض التصرفات التي لا تندرج إلا تحت الأفعال الغريبة، ففي احد الأعياد كنا لا نتجاوز السادسة عشر من العمر اشترى أبى لنا ملابس العيد الجديدة وعندما طلب منا ارتدائها للذهاب إلي الكنيسة فإذا بأختي ترتدي ملابس قديمة وعندما سألها أبي أين ملابسك الجديدة قالت انسكب عليها كوبا من اللبن دون أن ادري يا أبى واسمح لي آن ارتدى هذه الملابس وتحملت توبيخ أبى لها دون كلمة وإذا بنا نفاجأ إن ابنة الخادمة ترتدي ملابس أختي صباح العيد ويفيض وجهها بالسعادة والفرح وعندما سألها أبى أنت تعرفي أن ملابسك كلفتني الكثير فلماذا منحتي إياها لأخرى؟ قالت أبي أن خزانة ملابسي مليئة، بل ولي أب يستطيع أن يشترى لي الجديد لكن سامية ابنة الخادمة لا في خزانتها ملابس ولا عند أمها ما تشترى لها به.

فقال ولماذا لم تعطيها آيا من ملابسك القديمة أذا كان الأمر كذلك ؟؟؟؟؟

أبي لم اشعر أن الملابس الجديدة ستهبني كل هذه السعادة التي وهبتها لسامية وإذا أردنا أن نعطى لابد أن نعطي الأفضل لا أن نعطى الفائض.

وما آن دخلنا غرفتنا حتى بدأت اسألها عن سر أفعالها الغريبة وهل من المفروض لأننا أثرياء أن نبذر أموالنا على الآخرين؟ لكنها كانت ترد على ثورتي وأسئلتي بهدوء: “أن طيور السماء لا تزرع ولا تحصد لكنها لا تنام يوما جائعة لا تخافي إن أموالنا لن تنفذ إن ساعدنا منها فقير”.

وان أحببت أن اسرد ما كانت تفعله أختي من غرائب من هذا القبيل لن يكفيني ألاف الصفحات فلم يكن يمر يوم إلا وتفاجئنا رانيا بإحدى تصرفاتها الغريبة. فحصالة نقودها والتي كان أبي يعطينا مصروفا كبيرا لندخره فيها كانت دائما فارغة، وإذا سألتها أين ما أعطاه لكِ أبي؟ ولماذا حصالتك دائما فارغة؟ تقول لا تخافي إنني ادخرت مصروفي في مكان أكثر أمان من الحصالة وإذا بى أجدها تضعه في مظروف وتعطيه لإحدى الراهبات في المدرسة حيث كانت هذه الراهبة مسئولة عن دار للأيتام.

بل أنه في يوم كان السائق الذي يعمل لدينا، له ابن في مثل سننا، وإثناء قيامة بتوصيلنا ألي المدرسة كانت تبدو علية علامات حزن وهمّ، فإذا برانيا تسال عما به فيقول إن ابنة صدمته سيارة فتسببت له في جرح كبير بيده مما جعله ينزف دم كثير ولان فصيلة دمه نادرة ولم يجد الأطباء في العينات التي فحصوها مني ومن امة وكافة الأقارب نفس الفصيلة قرروا انه لا يوجد إمامهم طريق إلا شراء أكياس دم من الخارج وهذا أمر يحتاج وقت ومال وأنا……

وقبل أن يكمل الأسطي نادر كلامه تسأله رانيا وبكل حماس: “ما هي فصيلة دمه؟” ولما أجابها قالت له|: “يا ليحسن الحظ… لا تخف يا عم نادر، أنها نفس فصيلة دمي أنا ورنا، لا تذهب إلي المدرسة بل إلى المستشفى لنعطى أنا ورنا ابنك ما يحتاجه”.

وقبل إن تكمل جملتها نظرت إليها في استعجاب واستهجان، وقلتُ لها: “كيف تأخذي قراراً كهذا لي ولكي وكيف تفعلي هذا دون مشورة أبي وأمي؟؟؟ أنا لا أوافقك ولن أعطي دمي لأحد وسأذهب لمدرستي ولن أهدر دمي من اجل ابن سائق جاء ليخدمنا لا لنخدمه ونعطيه دماءنا. قلت كل هذا دون إن أراعي إنني اجرح هذا الرجل وأنة إنسان يملك قلبا مثله مثلي لكني لم اعتاد أن أعامل هۏلاء إلا كعمال وأجرة لدينا، لا تربطني بهم إي مشاعر.

أما رانيا فتأثرت من كلماتي أكثر من الاسطي نادر وقالت: “انزلي يا رنا، ها هي المدرسة أما إنا فذاهبة مع عمي نادر للمستشفى لأرى ابنه واطمئن عليه وأساعده بما في استطاعتي ولا تحملي هم أبي، انا سأخبره بكل شيء”.

وذهبت مع السائق ودخلت انا المدرسة وكلّي حيرة من هذه المتسرعة التي تتعامل بهذه الطريقة مرة مع الخادمة ومرة مع السائق… وكأنهم أهلها وعشيرتها ولا تعرف أبدا وضع حدود ولا نقاط، ولا تفرق بين من يعمل لدينا وبين، أقاربنا وأندادنا.

وعندما عدت إلى المنزل وجدتها نائمة شاحبة اللون وإلي جوارها أمي، ومعها كوب لبن، واسألها ما الأخبار فترد رانيا: “الحمد لله كان ماجد يعاني من نقص شديد في الدم وذهابي إليه يكاد يكون أعاده إلى الحياة. وكما قال الأطباء لم افقد الا بعض الوقت وقليل من الدماء لكن ساعدت إنسان، وهذا آمر لا يقدر بمال. آه لو رايتي يا رنا كم السعادة علي وجه عمي نادر وزوجته سعادة تفوق الوصف”.

ولكن لم تنسى رنيا أن توبخني علي الطريقة الجافة التي تكلمت بها في العربية وكيف جرحت عمي نادر لدرجة أنه أجهش بالبكاء بعد أن نزلت إلى المدرسة. وقالت: “بدلا من أن توبخيني على مساعدة الآخرين، وبخي نفسك علي جفاءك لكل الناس. ما استحق أن يولد من عاش لنفسه فقط”.

هكذا مرت حياتي أنا ورانيا، نقيضين في كل شيء، لا أرى فيما تفعله ألا إفراط، ولا ترى فيما أفعله إلا قنوط.

والآن وقد وصلنا لسن الشباب والنضوج وتخرجنا من الجامعة وحتى قبل تخرجي بدأت أدير بعض المشروعات التي بدأت صغيرة وأخذت في النمو، وكان يوفر لي رأسمالها أبى. وأخذت في النجاح وبدأت تحقق إرباحا مالية كبيرة. وكم حاولت أن تنضم لي توءمي وتشاركني مشروعاتي لكنها كما قلتُ لا تبالي بالمشروعات المادية وإنما تهب وقتها للمشروعات الخيرية، وبعض الأنشطة الدينية.

كلا منا له طريق ولم تستطع واحدة أن تجذب الأخرى لطريقها. هي تعمل في مجالها بحب وإخلاص، ودون أي مقابل مادي. لكنها تعتبر كل دقيقة ضاعت في ملجأ أو مستشفى هي وقت استثمار غير عادى. وأنا انفق وقتي كله في مشروعاتي وأحقق أرباحا وافرة ويزداد رصيدي في البنوك.

وها هي الحياة ترمي بنا في إحدى أزماتها ففي يوم أخذت رانيا وركبنا سيارتي قاصدين قضاء نهاية الأسبوع في الشاليه مع أبي وأمي، حيث كانا يسبقانا في الصباح ونذهب إليهما نحن بعد الظهر، بعد قضاء أعمالنا. ولا اعرف لماذا انحرفت عجلة القيادة من يدي واصطدمت سيارتي بسيارة أخرى ولم أفق إلا وأنا في المستشفي؟ وأعداد لا حصره لها من الناس مذعورة حولنا.

ولأننا تعرضنا لجروح كثيرة فقدنا على إثرها كميات كبيرة من الدم كان لابد أن ينقل لنا الأطباء دما ويبدو أن حالة رانيا كانت أكثر سوء مني فهي في شبة غيبوبة ولا تشعر بكل الذي يدور حولنا وما أن قرر الأطباء ضرورة نقل الدم أولا وان فصيلة دماءنا نادرة، ولا يعرفوا كيف يوفروها لنا، فهي غير موجودة بالمستشفي على الرغم من أنها كبرى مستشفيات القاهرة. وإذ ونفاجأ بماجد، ابن السائق، يقف ويقول: “يا دكتور أنا نفس الفصيلة خذ ما تحتاجه أرجوك، حياتي كلها ملك الآنسة رانيا”. ولكن لان القانون يلزم الأطباء بأخذ قدر معين من المتبرع في اليوم الواحد حتى لا تتعرض حياته للخطر. فلا شك أن ماجد كان يريد أن يعطي هذا القدر لرانيا، صاحبة الفضل عليه. إما أنا التي انتهرت أباه وأبكته عندما كان محتاج لدمها، فلا شك إنني لا استحق أن أضع نقطة من دمه في جسمي.

المهم إني لجاءت لنجاحي المادي وقلت للأطباء مهما كلفنا كيس الدم ومن أي مكان في العالم اشتروه أنا لدي ثروتي التي لا تجعلني احتاج لأحد لكن هذه كانت صفات ثروتي الجمود كصاحبتها. فلكي تصرف المستشفي أي مبلغ من رصيدي كان لابد أن امضي شيكا بيدي، ولأني كنت أعاني كسر في أحد أصابع يدي اليمنة لم أتمكن من إمضاء الشيك. فقاموا بنقل دم من ماجد لأختي وما هي إلا ساعات أصبح ماجد قادر بعدها علي التبرع بكمية أخرى حتى جاء وطلب أن يأخذوا منه لي…

ولا أنكر إنني كنت أموت خجلا من موقفه وموقف عائلته لكن كبريائي جعلني اضني حتى بكلمة شكر.

المهم أن الإعداد التي جاءت تبكي رانيا وعلي استعداد ان تدفع أرواحها ثمنا لان ترى شفاءها كانت تضيق المستشفي بتحملها. وشعرتُ ان هذا هو الرصيد الذي ادخرته رانيا: “كم غير طبيعي من المحبين الذين يدعو الله أن يأخذ أرواحهم ويهب الشفاء لها”.

هذا يقول إنها صاحبة أفضال علي وعلي أسرتي كلها. وذاك يقول أنها من راعتني في أزمتي… الكل يدين لها بالكثير. رصيد غير عادي ادخرته رانيا في بنك مختلف عن الذي ادخرت أنا فيه بنك لا يطلب أن يضاهي الإمضاء أولا قبل العطاء انه بنك الحب الذي يزداد الرصيد فيه بالعطاء

الآن بعد أن خرجنا من محنتنا وأقام أبي حفلة عيد ميلادنا هذه لتصبح عيد ميلاد جديد لي ولأختي وجعلتها رانيا حفلة مفتوحة لكل من يريد أن يقول لنا حمد لله على السلامه.

وبينما أنا جالسه أنظر كم البشر الذين جاءوا ليقولوا لمعشوقتهم “مبروك عودتك لنا” أدركتُ تماما أنه ميلاد جديد لي، لأني لن ابحث بعد الآن عن مشروعاتي وأرصدتي في البنوك التي تجمدت تماما وقت أزمتي بل سأبحث عن الغنى الحقيقي الذي رأيت آن رانيا تتمتع به… أموال تتحرك لها لحم ودم… أدركت إنها ادخرت حباً…

بقلم الأستاذة سناء لحظي جيد